الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة الخلق في النص القرآني

علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)

2024 / 6 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يُبرِزُ النَّصُّ القُرآنيُّ رؤيةً متكاملةً وعميقةً لخلقِ الإنسانِ وتطوُّرِه عبرَ مراحلَ متعدِّدةٍ. هٰذه الرُّؤيةُ تُظهِرُ حكمةً إلهيَّةً في كيفيَّةِ تشكُّلِ الإنسانِ، وتدعُو إلىٰ التَّفكُّرِ في المعاني الباطنيَّةِ لهٰذه المراحلِ.
في البدايةِ، يوجَّهُ السُّؤالُ الإقراريُّ (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطّارق: ٥) ليكونَ الجوابُ مرَّةً عن مصدرِ الخلقِ (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرضِ) (هود: ٦١)، و(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) (طه: ٥٥)، ومرَّةً عن كيفيَّةِ الخلقِ (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ أَطْوَارًا) (نوح: ١٤)، ومرَّةً ثالثةً عن مادَّةِ الخلقِ فهي ترابٌ (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ) (الحج: ٥) أو طينٌ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا) (الأنعام: ٢)، وقد يُوصَفُ الطينُ (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لازِبٍ) (الصافات: ١١) أو (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلصَالٍ مِّن حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) (الحجر: ٢٦) أو (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (الرحمن: ١٤)، ومرَّةً تكون مادَّةُ الخلقِ الماءَ أو النُّطفةَ أو العلقةَ أو المُضغةَ (خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطفَةٍ) (النحل: ٤)، و(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا) (الفرقان: ٥٤)، وقد يُوصَفُ الماءُ مرَّةً بالدافقِ ومرَّةً بالمَهينِ.
بعد ذلك يصفُ القرآنُ مراحلَ تكوينِ الإنسانِ من المادَّةِ الأولى. يقولُ اللهُ تعالىٰ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ) (المؤمنون: ١٢). هٰذه المرحلةُ تشيرُ إلى الأصلِ المادِّيِّ البسيطِ للإنسانِ، ممَّا يعكسُ فكرةَ التواضعِ والارتباطِ بالأرضِ كجزءٍ من الطَّبيعةِ الكونيَّةِ. من هٰذا المُنطلَقِ، يُمكننا رؤيةُ الإنسانِ ككائنٍ ينبثِقُ من التُّرابِ، لكنَّهُ يحملُ في طيَّاتِهِ إمكانيَّاتٍ غيرَ محدودةٍ.
ثمَّ تأتي المرحلةُ التَّاليةُ، حيثُ يتطوَّرُ هٰذا الكيانُ المادِّيُّ إلى نطفةٍ. يقولُ اللهُ تعالىٰ: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ) (المؤمنون: ١٣). هٰذه النطفةُ هي الخليةُ الأولىٰ التي تحتوي علىٰ كُلِّ المعلوماتِ الوراثيَّةِ اللازمةِ لتطوُّرِ الإنسانِ. النُّطفةُ في هٰذا السِّياقِ تمثِّلُ بذرةَ الحياةِ الأولى التي تنطوي علىٰ سرِّ الوجودِ والإبداعِ الإلهيِّ.
تتحوَّلُ النُّطفةُ بعد ذلك إلى علقةٍ، كما يقولُ اللهُ تعالىٰ: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطفَةَ عَلَقَةً) (المؤمنون: ١٤). العلقةُ هي مرحلةٌ تحوُّليَّةٌ تظهرُ بدايةَ التمايزِ والتعقيدِ في الكيانِ الإنسانيِّ. العلقةُ تتعلَّقُ بجدارِ الرَّحِمِ وتبدأُ في الحصولِ علىٰ المُغذِّياتِ، ممَّا يرمُزُ إلى الاعتمادِ المتبادلِ والتطوُّرِ المُستمرِّ.
بعد العلقةِ، تتشكَّلُ المُضغةُ، كما يقولُ اللهُ تعالىٰ: (فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً) (المؤمنون: ١٤). المُضغةُ هي قطعةٌ صغيرةٌ من اللَّحمِ تبدأُ في تشكيلِ الأعضاءِ والأنسجةِ. هٰذه المرحلةُ تشيرُ إلى البنيةِ المادِّيَّةِ التي تتَّخذُ شكلًا أكثرَ تميُّزًا وتخصُّصًا، ممَّا يعكسُ فكرةَ التشكيلِ والابتكارِ الإلهيِّ.
ثمَّ تتحوَّلُ المُضغةُ إلىٰ عظامٍ تكسوها اللحومُ، كما في قولِهِ تعالىٰ: (فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا) (المؤمنون: ١٤). هنا نرى الهيكلَ العظميَّ الذي يمنحُ الإنسانَ قوَّتَهُ وشكلَهُ المادِّيَّ، واللَّحمَ الذي يغطي العظامَ ويُكملُ هٰذا البناءَ المُعقَّدَ. هٰذا التطوُّرُ يُعبِّرُ عن دقَّةِ وتوازنِ الخلقِ الإلهيِّ في بناءِ الإنسانِ.
ثمَّ ينفُخُ اللهُ في هٰذا الكيانِ روحاً، ليُصبحَ إنسانًا كاملًا، كما يقولُ اللهُ تعالىٰ: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ) (المؤمنون: ١٤). هٰذه المرحلةُ تكونُ بإضافةِ السِّمةِ الإلهيَّةِ، الرُّوحِ (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) (ص: ٧٢) ليُعبِّرَ عن البُعدِ الرُّوحانيِّ للإنسانِ، الذي يُميِّزُهُ عن باقي المخلوقاتِ ويمنحُهُ القدرةَ علىٰ التَّفكيرِ والإبداعِ والتَّأمُّلِ في وجودِهِ وعلاقتِهِ باللهِ، فالرُّوحُ شأنٌ إلهيٌّ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء: ٨٥).
ثمَّ تأتي مرحلةُ التَّمكينِ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ...)(الأعراف: ١٠).
وأخيراً مرحلةُ تحميلِهِ المسؤوليَّةِ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) (الصافات: ٢٤).
وقد تُختَصَرُ هٰذِهِ المَراحِلُ في آيةٍ واحدةٍ (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنۢ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـًٔاۚ) (الحج: ٥).
و(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًاۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر: ٦٧).
مِن خِلالِ هٰذِهِ المَراحِلِ، يُقَدِّمُ القُرآنُ الكَريمُ رُؤيةً فَلسَفيَّةً عَميقةً لِتَطوُّرِ الإنسانِ، تَبدأُ مِنَ المادَّةِ البَسيطَةِ وتَنتَهي بالكِيانِ الرّوحانيِّ المُعَقَّدِ. هٰذا التَّسَلسُلُ يَعكِسُ الحِكمَةَ الإلهيَّةَ في الخَلقِ ويَدعُو الإنسانَ لِلتَّفَكُّرِ في أَصلِهِ ومَكانَتِهِ في الكونِ. هٰذِهِ الرِّحلَةُ مِنَ الطِّينِ إلى الرُّوحِ تُظهِرُ التَّوازُنَ بَينَ الجَوانِبِ المادِّيَّةِ والرّوحانيَّةِ لِلوُجودِ الإنسانيِّ، مِمَّا يُعَزِّزُ فَهمَنا لأَهمِّيَّةِ التَّكامُلِ بَينَهُما في تَحقيقِ الكَمالِ الإنسانيِّ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نشرة خاصة على فرانس24 حول نتائج الجولة الأولى من الانتخابات


.. فيضانات تضرب بلدة نواسكا الإيطالية وتتسبب بانهيارات ارضية




.. اتفاقية جنيف: لا يجوز استغلال وجود الأسير لجعل بعض المواقع أ


.. نتائج الانتخابات الأولية: فوز المرشح الغزواني في انتخابات ال




.. صورة لـ-بوتين مع قلب أحمر-.. تقطع خطاب زعيم حزب الإصلاح البر