الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جمهورية إيران أول دولة عِلمادينية في تاريخ المسلمين!

محمد علي صاحب الكراس

2024 / 6 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ماذا تعرف عن ديمقراطية ومدنية دولة "الإمامة والعِمَامَة الدستورية"؟
ما هو سر تفوق "جمهورية إيران الإسلامية" على كثير من الدول العربية (العلمانية) من جهة وما هو سر تفردها ولأول مرة، في تاريخ المسلمين، في صناعة دولة مدنية حديثة خارج أشكال "أنظمة الخلافة والإمامة" التي تميز بها العالم الإسلامي منذ أكثر من أربعة عشر قرنا ولحد الآن؟
هل تعلم بأن الدستور الإيراني (المدني) ينص على منع وعدم جواز محاسبة الناس على عقائدهم، ولا يسمح بالتعرض لأحد أو مؤاخذته لمجرد اعتناقه عقيدة معينة. بمعنى أنه يشرع ضد "حد الردة" كما سنأتي ببيان ذلك في هذا المقال؟
فيما يلي حقائق لكل من يجهل سر حكم "العِمامَة والإمامة الدستورية" أو لكل من يتساءل: كيف يستطيع أصحاب العَمَائم المنشغلون بفقه أحكام "الطهارة والنجاسة" و"الحيض والنفاس" وحلِّية أو حُرمَة "بيع الدم والعذرة"، والمتدثرون في عباءة الفكر السالف، والقابعون في زوايا "الحوزات الدينية"، أن ينهضوا بدولة مدنية وحداثية، أصلها دستور منتخب من الشعب وللشعب وفرعها مطرز بثياب وعمائم وعباءات وتقاليد إسلامية؟ فما هو سر هذه(الجمهورية) التي يظن أكثرنا خطأً أنها "دولة دينية"؟
لعل واحدا من أهم وأعظم أسرار إيران (الغامضة)، ليس على خصومها وأعدائها، فحسب، بل وعلى كثير من محبيها أيضا، هو ما أود تسميته او وصفه بـ "عِلمادينية" هذه الجمهورية المصطبغة بصبغة الدين الإسلامي. وهذا هو "السر المكنون".
فـــ"جمهورية إيران"، التي لها من إسمها هذا أكبر الأنصبة وأعمق الدلالات على جوهرها المدني (العلماني) المطرز بألوان وقيم ومباديء و"شعارات" الإسلام. فثورة إيران قد طعَّمَت تجربتها الديمقراطية بمفردات الثقافة الذاتية. إذ توشحت بتمظهرات إسلامية نابعة من صميم تاريخ الشعب الإيراني وعراقة "تراثه وتقاليده الشيعية" المتمحورة واللصيقة بفكرة "الإمامة والمرجعية". لذلك أتت المخرجات بظهور دولة ديمقراطية عصرية ولكنها مطرزة بنقوش محلية وثيباب ملونة تشبه ألوان "السِجّاد الإيراني". فعكست بذلك أصالة التدين والإيمان خارج نطاق "الطقوس والمظاهر التقليدية"، وقدمته لنفسها ولحياتها بأحلى وأزهى صوره العصرية. فكانت "التجربة الحداثية" ممزوجة بنكهة وطعم "إسلامي" يستجيب لدواخل وتطلعات الذات المجتمعية من جهة، ومن جهة أخرى يسعى ويحقق آمال الحداثة بكل ما تحمل من أنوار عصر العلم والنور وانجازاته الباهرة التي تجلت أول ما تجلت في ولادة دستور حداثي عصري رسم وأسس لدولة مدنية ديمقراطية متمسكة بأصالتها وقيمها الإسلامية. فكان التصويت الشعبي لدستور "الجمهورية" هو أول علامة بارزة على "مدنية الدولة الإيرانية" وإذا شئت فقل أول دليل على"علمادينيتها". ونعني بهذا المصطلح(*)، هنا، امتزاج التجربة الدينية بالعِلم الحديث. فإيران، لو كانت "دولة دينية"، لما قررت أن تتمأسس على حق الشعب(الجمهور) وليس على أساس "الحق أو الشرعية الدينية". فأضحت "جمهورية". أي أنها جعلت "الجمهور" مصدر سلطاتها وتشريعاتها. ولو لم تكن إيران مدنية حداثية في صلب تكوينها وبنائها، لأصبحت نسخة مماثلة لــ"دولة الإمامة" أو "الخلافة الدينية" التي تأخذ شرعيتها من الحاكم بإسم الإله. بل فإن إيران قامت باستنساخ أحدث التجارب الديمقراطية الغربية وطعمتها بثيباب إسلامية. ولم تأخذ من أحكام الشريعة الإسلامية إلا ما يلائم أو يتوائم مع العرف والعصر الراهن. على عكس "التجربة الداعشية" أو تجربة افغانستان والسعودية وبقية "حركات الإسلام السياسي المتشددة"، المحسوبة على المذهب السني، التي ما زالت تحلم بنهج الخلافة القديم الذي لا يعرف سوى أساليب الحكم الموغلة في القدم، والتي هي عبارة عن "إمارة" أو "خلافة" يحكمها زعيم مستبد له حاشية موالية من مشايخ الفتوى وقادة الجند الذين يسوق بهم القبائل(الرعية) كما يسوق الرعاة ماشيتهم وأغنامهم في الوديان والبراري. والويل كل الويل لمن يعترض أو يخرج عن طاعة هذا الزعيم المسىمى بـ "ولي الأمر" أو الخليفة الحاكم بإسم الإله. إذ لا يعرف (هذا الزعيم الديني) معنى "الديمقراطية" ناهيك عن معرفة مفرداتها مثل إقرار دستور منتخب أو تداول السلطة أو فصل السلطات أو حريات عامة وانتخابات. فكل هذه الأمور المستحدثة، في نظره، إنما هي "بدع كفرية". لكن وخلافا لمثل هذا "الحكم الديني" الذي عرفته أزمنة الخلافة الإسلامية(الشيعية والسنية منها)، فإن إيران قد أسست لدولة مدنية حديثة.
"الشعب الإيراني" هو مصدر السلطات والتشريعات وليست "الشريعة الإسلامية"
وفي قراءة لبعض مواد الدستور الإيراني الذي صوت له الشعب الإيراني وبغالبية 98,2% في استفتاء عام أُجري في العام 1979، والذي جرى تعديله لاحقا في العام 1989، يتضح جليا خطأ من يظن، بناء على تصورات ذهنية مسبقة، بأن إيران دولة دينية(ثيوقراطية) يحكمها نظام ديكتاتوري يستمد شرعيته من الإله ومن أحكام الشريعة الإسلامية. فـ "جمهورية إيران" ذات الطابع والصبغة الإسلامية هي دولة يحكمها "دستور منتخب". والجمهور(أي الشعب) هو مصدر سلطاتها التنفيذية والتشريعية. فإيران دولة مدنية دستورية مع وجود بعض التسميات والتمظهرات "الإسلامية" التي تعكس ثقافة المجتمع ومبادئه وقيمه العامة. وقد يتفاجأ البعض بأن المادة(23) من الدستور تنص على حرية الاعتقاد الديني وتمنع "حد الردة" السيء الصيت. وتعطي الحق للإنسان في اختيار عقيدته. إذ تقول هذه المادة:"تمنع محاسبة الناس على عقائدهم، ولا يجوز التعرض لأحد أو مؤاخذته لمجرد اعتناقه عقيدة معينة".
وتنص المادة(6) من الدستور الإيراني على أن: "تدار شؤون البلاد في جمهورية إيران الإسلامية بالاعتماد على رأي الأمة الذي يتجسد في الانتخابات، بما فيها انتخاب رئيس الجمهورية، وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء سائر مجالس الشورى ونظائرها، أو عن طريق الاستفتاء العام في الحالات التي ينص عليها الدستور".
وأما موضوع منصب "الولي الفقيه" أو القائد (المرشد) للثورة الاسلامية في إيران، الذي نصت عليه المادة(5) من الدستور المعدل في العام 1989، فهو يستعير ويقتبس بعضاً من "تقاليد الإمامة" في المذهب الشيعي. ولكن بشكل دستوري هذه المرة. فمنصب "ولي الفقيه" وصلاحياته، وإن اتخذ صبغة دينية من ناحية الشكل والمظهر وبعض المواصفات والصلاحيات، فإنه يبقى في جوهره، مَنصِباً مدنيا، طالما أنه قد جاء وحصل على شرعيته من الشعب وضمن إطار الدستور. فالمرشد أو ولي الفقيه في إيران "المنتخب عبر مجلس الخبراء المنتخب إنما هو بمثابة "رئيس الجمهورية" في أي دولة من دول العالم. وأما "الرئيس الإيراني" فهو بمثابة المعاون الأول أو رئيس الوزراء. وإذا كان ملك بريطانيا، مثلا، ملكا دستوريا، يأتي بالوراثة، فإن "ولي الفقيه" في إيران إنما هو يأتي عن طريق الانتخاب ولا يحق له توريث الحكم لأبنائه او لأحد أفراد أسرته. فالمادة 107 من الدستور الإيراني تقول:
"بعد وفاة مرجع التقليد...مؤسس جمهورية إيران الإسلامية الإمام الخميني الذي اعترفت الأكثرية الساحقة للناس بمرجعيته وقيادته، توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من الشعب...ويتمتع القائد المنتخب من مجلس الخبراء بولاية الأمر ويتحمل كل المسؤوليات الناشئة عن ذلك.ويتساوى القائد مع كل أفراد الشعب أمام القانون".
وقد بينت لنا هذه المادة، وهي المادة الوحيدة ذات "الصبغة الدينية" الأكثر جدلا في الدستور الإيراني، بأن مرجعيتها الشرعية متأتية من الشعب وليست متأتية من اعتبارات دينية. فالشعب، ومن خلال مؤسساته المنتخبة، هو الذي يعين الإمام(المرشد) أو المرجع الديني(ولي الفقيه). علما إن صلاحيات الأخير محددة ومبينة وفقا للمادة 110 من الدستور ولا يجوز له تخطيها. وهذا يعني، بكل وضوح، أن الشعب الإيراني، ومن خلال المؤسسات الدستورية المنتخبة، يعتبر هو مصدر السلطات التي تمنح "ولي الفقيه" صلاحياته وليس العكس. والأمر هنا يشبه الصلاحيات المحددة للملوك في "الأنظمة الملكية الدستورية" المدنية والديمقراطية(العلمانية) في بريطانيا وهولندا واسبانيا وغيرها من الممالك المحكومة بدستور منتخب.
إذن..فكل شيء يخص وظائف القائد الأعلى(الإمام) منصوص عليها دستوريا، حتى موضوع فقدانه للأهلية بسبب عجزه. إذ نجد أن المادة 111 من الدستور الإيراني تنص على ما يلي: "عند عجز القائد عن أداء وظائفه الدستورية أو فقده أحد الشروط المذكورة في المادتين 5 و109 أو علم أنه لا يمتلك بعضها بالأساس، فإنه يُعزل عن منصبه. وتعود صلاحية القرار بهذا الأمر إلى مجلس الخبراء المذكور في المادة 108".
وإذن فدستور إيران، المكتسبة مشروعيته من الشعب من خلال الاستفتاء الشعبي العام والذي يؤكد على أن الدولة تدار من قبل الشعب ومن خلال مجالسه التمثيلية وقياداته المنتخبة، يجعل "جمهورية إيران الإسلامية" دولة مدنية(علمانية) بامتياز. في حين أن دول مستبدة كثيرة ذات طابع علماني، هي أقرب للحكم الديني منها إلى الحكم المدني. وذلك حين تستند هذه الدول إلى "فتاوى وتشريعات مشايخ الدين" الذين يفتون بوجوب مبايعة وإطاعة الملك أو الأمير (ولي الأمر) في العسر واليسر والمنشط والمكره. إذ أن الحاكم، في هذه الدول، هو بمثابة "خليفة" أو حاكم مستبد يأمر شعبه فيطاع. فهو الذي يضع الدستور وينصب الوزراء والقضاة والمحافظين. ولو وجد مجلس منتخب للأمة، كما هو الحال في دولة الكويت، فالأمير، وبجرة قلم منه يحل البرلمان المنتخب ويوقف العمل بالدستور كما حدث مؤخرا. وأما الحال في دول مثل السعودية والإمارات والبحرين فحدث ولا حرج. حيث لا دستور ولا انتخابات ولا حريات عامة ولا فصل بين السلطات ولا هم يحزنون ومع ذلك لا يتم تصنيف هذه الدول باعتبارها "دول دينية" بلباس مدني.
هل تطبيق بعض "أحكام الشريعة الإسلامية" في إيران يسلب عنها صفة الدولة المدنية؟
لا يمكن اعتبار جمهورية إيران الإسلامية "دولة دينية" في حال قيام البرلمان الإيراني المنتخب بتشريع بعض القوانين استنادا إلى "أحكام الشريعة الإسلامية" أو وفقا لمباديء وقيم الدين الإسلامي. إذ لا تعتبر الدولة المدنيةُ "دولةً دينية" إن اختارت قانونا أو تشريعاً دينياً، طالما كان الشعب هو مصدر سلطاتها وتشريعاتها وليس "الدين" أو الحاكم باسم الدين او باسم الإله. فالحـُكم المدني يبقى حُكماً مدنيا وإن لجأ أو اختار الأخذ بتشريع "ديني سماوي" معين. فالشعب، هنا، هو الذي يختار على عكس الدول الدينية التي يكون الدين او الحاكم باسم الدين هو الذي يختار ويقرر للشعب. وللعلم فإن كثيرا من أحكام الشريعة الإسلامية لا يتم تطبيقها في إيران، كحكم جلد الزاني والزانية او قطع يد السارق او الامتناع عن المعاملات الربوية البنكية والقروض العقارية. كما لا يتم أخذ الجزية من الأقليات الدينية كاليهود والمسيحيين والزرادشت وغيرهم. وتتم معاملة جميع المواطنين الإيرانيين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، بشكل متساو دون تمييز على اساس من الدين. إذ تنص المادة (3) الفقرة (14) من المادة الثالثة على:" ضمان الحقوق الشاملة لجميع المواطنين، نساءً ورجالاً، وتوفير الحماية القضائية العادلة لهم، ومساواتهم أمام القانون". وأما الفقرة (9) فتنص على: "إلغاء جميع أشكال التمييز غير المبرر، وإتاحة تكافؤ الفرص للجميع في المجالات المادية والمعنوية كلها". وأما الفقرة (13) من نفس المادة فتقرر التالي:"الإيرانيون الزرادشت واليهود والمسيحيون هم وحدهم الأقليات الدينية المعترف بها، وتتمتع بالحرية في أداء مراسمها الدينية ضمن نطاق القانون، ولها أن تعمل وفق قواعدها في الأحوال الشخصية والتعليم الديني".
وأما المادة (19) فتقرر التالي:"يتمتع أفراد الشعب الإيراني، من أية قومية أو قبيلة كانوا، بالمساواة في الحقوق؛ ولا يمنح اللون أو العنصر أو اللغة أو ما شابه ذلك أي امتياز".
وكما أوضحنا، فحتى لو أخذت برلمانات الدولة المدنية بعض من أحكام الشريعة الإسلامية أو طبقت بعضا من التعاليم الاسلامية العامة كإقامة العدل ومحاربة الاحتكار والحرية والاستقلال عن الاجنبي وبناء الأسرة واشاعة النظم الأخلاقية الأخرى، فإن مثل هذا الأمر لا يضير ولا يطعن في مدنية الدولة أيا كانت. فكثير من تعاليم الإسلام تعتبر بمثابة ركائز قوية ساعدت ايران في تحقيق استقلالها ومن ثم بناء قوتها الذاتية وتطورها في الميادين كافة. وذلك على عكس "النظم العلمانية العربية" كمصر مثلا، التي ضيعت مشيتها فلا هي قد رجعت إلى اصالتها وبناء ذاتها واقتصادها وثقافتها ولا هي تحررت من الأجنبي في قراراتها السيادية. فلا هي أصبحت "علمانية" خالصة، ولا هي أصبحت "خلافة دينية" واضحة.
ملاحظة هامة: وفي الختام، أحب التنويه إلى أنني، وفي هذا المقال، وددت تسليط الضوء على "مدنية" ودستورية جمهورية إيران الإسلامية، خلافا لمن يعتقد أو يظن خطأ بأنها "دولة دينية". ولم يكن هذا المقال بقصد تلميع السياسات الإجرائية للحكومات الإيرانية المتعاقبة. فإيران، مثلها مثل بقية دول العالم، لها أخطاؤها وعيوبها الكثيرة في مجال التضييق على الحريات العامة خلافا لمواد الدستور. كما تجدر الإشارة هنا إلى أنني شخصيا أعترض على كثير من مواد الدستور الإيراني وأدعو إلى "ثورة إصلاحية" في الفقه الإسلامي وضرورة تخليص "المجتمع المسلم" من التبعية لهذا الفقه(البشري) الذي أدخل في الدين زوائد أضرت به وبالمسلمين كثيرا.
(*) أود الإشارة إلى أنني هو أول من ابتكر وتحدث عن مصطلح "العلمادينية" وذلك في كتابي الموسوم:"الكراس كتاب ما بعد القرآن". وأعني به المزج والمواءمة بين "العلمانية والدين" والإفادة من تجربة وجوهر المنظومة القيمية والأخلاقية لكليهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #شاهد بعد تدمير الاحتلال مساجد غزة.. طفل يرفع الأذان من شرفة


.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تفاجئ الاحتلال بعمل




.. لبنان: نازحون مسيحيون من القرى الجنوبية يأملون بالعودة سريعا


.. 124-Al-Aanaam




.. المقاومة الإسلامية في العراق: إطلاق طيران مسير باتجاه شمال ا