الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأسيس الجامعات

هاني عبيد

2024 / 6 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


بداية تأسيس الجامعات
إن تطور العلوم والتكنولوجيا هو دوماً في إتجاه تصاعدي وإلى الأمام، بينما البحث في تاريخ العلوم والمؤسسات العلمية والتعليمية لا بد أن يأخذ إتجاه إرتدادي إلى الخلف لبيان جذور هذا التطور والعوامل الإجتماعية والإقتصادية التي دفعت الرواد لخوض غمار مجالات كانت في حينها مجهولة وربما تُشكل خطورة على من يحاول اقتحامها. وهذا العمل يقودنا لا مفر إلى البدايات الأولى أو المهد إذا شئتَ لنستنطق فكر وممارسات الشعوب لنحفر عميقاً في تاريخها الشفهي والمكتوب.
ولو عُدنا إلى الألف الأولى قبل الميلاد لوجدنا أن نُظم التعليم في كل دولة قد انبثقت من المبادئ الرئيسية التي تحكم وجودها والمُحددة بالأطر الدينية والفلسفية لتلك الدولة. ومنذ البدء لم تكن هناك مؤسسات مستقلة للتعليم ولكنها كانت تمتلك وسائل تعليمية في الأسرة ومحيطها والمجتمع المدني الذي تعيش فيه حيث لعبت الشعائر الدينية والممارسات الدنيوية دوراً مهماً في ترسيخ القيم التي يؤمن بها المجتمع ويدافع عنها، وبالتالي أوجدت هذه الشعائر والممارسات أسساً لغرسها في المواطنين ومن ثم تأطرت مجموعة القيم في هذا المجتمع أو ذاك والتي أصبحت مع الزمن ثوابت تحيط بها هالة من القداسة.
لقد لعب الدين دوراً مهماً في تدريب وتعليم الإنسان منذ الطفولة ليتوائم مع المعتقدات السائدة والتي في النهاية تتلاقى مع مصالح الدولة حيث تعززت هذا الثنائية -الدين والمعتقدات – بإعتماد قوانين تحميها وتُدافع عنها.
وكلما انتقلت البشرية من مستوى حضاري إلى مستوى حضاري آخر متقدم عن السابق في خط لولبي صاعد إلى الأعلى كلما تطلب الأمر تطوير البنى الفوقية للمجتمع بحيث تتلائم ومستوى الحضارة المادية وتكنولوجياتها المستخدمة. إن أساس التطوير يكمن في مراجعة نُظم التعليم وأهدافه والمنبثق في الأساس عن المؤسسات الدينية.
وضمن هذا الإطار الديني كان الأب يربي ابنه بحيث يكون قوياً جسمانياً، إضافة إلى فضيلة طاعة الوالدين والتي انبثق عنها طاعة الحاكم والولاء له، ومن هنا كان تعليم رمي الرمح واحترام الآلهة تطبيقاً مباشراً للقيم السائدة في المجتمع، أما المرأة فواجبها أن تربي ابنتها وتعلمها كيفية القيام بالواجبات المنزلية والتحلي بالفضيلة، وفي بعض الحضارات كانت اجمل الفتيات يكرسن أنفسهن لخدمة الآلهة في المعابد.
تراكمت لدى الإنسان عن طريق الممارسة اليومية خبرات تم تمريرها من الأب إلى الأبن عن طريق المشافهة والتقليد، وتم تبادل هذه الخبرات بين أفراد القبيلة الواحدة التي تعيش في حيز جغرافي محدود، وشكلت هذه الخبرات مع الزمن معرفة كان لا بد من تسجيلها وحفظها، وتم ذلك عن طريق اختراع الكتابة باستخدام ما هو متوفر من امكانيات ووسائل مثل عظام الحيوانات والرُقم الطينية وورق البردى.
إن تمرير المعرفة المتراكمة في المجتمع من جيل إلى جيل أدت إلى ظهور بدايات عملية ما يمكن أن نطلق عليه التعليم لإعداد الأفراد للقيام بدور في مجتمعهم وأدركت دول الحضارات القديمة أهمية إعداد مجموعة مختارة من أبنائها لتولي المناصب الحكومية عن طريق التحاقهم بمعاهد خاصة يُشرف عليها مدرسون يتمتعون بمهارات معينة.
كانت المعرفة في البداية تُبنى على الملاحظات والمشاهدات والخبرة حيث تحولت على مر السنين إلى كتب ومكتبات، واقترنت بداياتها بالسحر والعرافة والتنجيم ومن هنا برز دور الكاهن (العراّف والمُنجم) كفرد يمتلك قدرات مبنية على خبرات توارثها من جيل إلى جيل.
يُجمع كثير من الباحثين في تاريخ الجامعات بأنها اختراع أوروبي من العصور الوسطى، وهذا ما يؤكد عليه المقدسي أن الجامعة هي نتاج للغرب المسيحي في القرن الثاني عشر. وبدون شك فإن حضارات أخرى سابقة للعصور الوسطى مثل الصينيين والهنود والإغريق والرومان والمسلمين وغيرهم كان معروف لديهم نوع من أنواع التعليم العالي ويمكن مجازاً أن نُطلق عليه مفهوم الجامعة أو مؤسسة تعليم عالٍ. وفي هذا الصدد يقول غروندمان Grundmann في محاضرة له في ليبزغ عام 1956م أن ظهور الجامعات كان نتيجة اجتماعية لتطور المواصلات ونمو التجارة التي تم تبنيها من قبل الصليبيين، وهذا أدى إلى ولادة النقود ونمو المُدن في بداية الرأسمالية وخاصة في إيطاليا وفرنسا مع التحسينات التي طرأت على التجارة.
أما الماركسيون فيقولون أن الجامعات قد ظهرت نتيجة طبيعية لحاجة الرأسماليين إلى أشخاص متعلمين ومؤهلين لإدامة سيطرة الطبقة الحاكمة، وينطلقون من المفهوم الطبقي للظواهر الإجتماعية.
اهتم الأوروبيون بالتأريخ لظهور الجامعات حيث كان ظهورها علامة بارزة في التحول من العصر الوسيط إلى عصور التنوير وبدايات النهضة الأوروبية الحديثة، فظهرت الدراسات والأبحاث في هذا المجال وطبعت الكتب المتخصصة. من أهم الكتب في هذا المجال دراسات هاستينجز راشدال Hastings rashdall في مؤلفه الذي صدر في جزءين بعنوان "الجامعات الأوروبية في القرون الوسطى" والذي صدر في عام 1895م، كما صدر عمل ضخم بعنوان "تاريخ الجامعات" في عام 1991م في أربعة أجزاء بإشراف والتر رويج W-alter-Ruegg. وفي هذين المؤلفين تم استعراض تاريخ الجامعات الأوروبية من حيث التأسيس والبرامج والأساتذة والحياة الجامعية والكتب والبرامج والتفاعل مع المجتمع المحلي بحيث قدمت هذه الكتب بانوراما شاملة للحياة بكافة جوانبها.
وصدر في اللغة العربية كتابان حول الجامعات في العصور الوسطى وهما: الجامعات الأوروبية في العصور الوسطى للأستاذ الدكتور علي عاشور، والثاني كتاب نشأة الجامعات في العصور الوسطى للدكتور جوزيف نسيم حيث احتوى هذا الكتاب على ترجمة لكتاب هاسكنز G.H. Haskins بعنوان نشأة الجامعات.
تاريخياً، هناك ثلاث جامعات أوروبية كانت البداية لتأسيس الجامعات الحديثة في العالم، وقد ظهرت هذه الجامعات إلى الوجود نتيجة لتوفر البيئة المناسبة والتطور الإقتصادي والإجتماعي.
كانت جامعة سالرنو أول جامعة طبية وكانت امتداداً للطب الإغريقي حيث ساعدت الظروف الإجتماعية والسياسية والدينية في مدينة سالرنو إضافة للموقع الجغرافي في تحضير البيئة المناسبة لإنشاء مثل هذه الجامعة. كانت هذه أول جامعة تُنظم مهنة التعليم الطبي للجامعات وفق قواعد لا زالت مُستخدمة لغاية الآن، كما أنها أول من أصدر كتاب طبي للتعليم. كما يعود السبق لهذه الجامعة بفتح المجال للمرأة للدراسة الطبية حيث برزت طبيبات ألفن كتباُ في الطب ومارسن التعليم في نفس الوقت.
أما جامعة بولونيا فقد كانت مركزاُ لإحياء القانون الروماني حيث لعِبت دوراً رائداً في ظهور التعليم القانوني ويعود الفضل في ذلك إلى أستاذين في هذه الجامعة وهما: ارنيروس والذي أحيا دراسة القانون الروماني والثاني الراهب جراشيان والذي جمع ونسّق القانون الكنسي.
اشتهرت جامعة باريس بأنها كانت مركزاً لتعليم الفنون واللاهوت بسبب وجود مدارس مُلحقة بالكاتدرائيات تُدرس الفنون الحرة السبعة إضافة إلى المواد اللاهوتية، فقد كانت باريس مركزاً لثلاث مدارس شهيرة وهي مدرسة كنيسة نوتردام والتي اشتهرت بعلم اللاهوت ومدرسة دير القديسة جنيفياف والتي اشتهرت بتدريس الفنون والآداب ومدرسة دير القديس فيكتور والتي اشتهرت بتدريس علم اللاهوت الصوفي. ومن هنا أصبحت باريس مركزاً فكرياً ريادياً في أوروبا. ونُشير إلى أن 13 جامعة انبثقت عن جامعة باريس وذلك بعد الأضطرابات الطلابية التي حدثت في عام 1970م.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التوتر بين روسيا وإسرائيل يتصاعد.. هل يخرق نتنياهو خطوط بوتي


.. إيران تؤكد أنها ستدعم حزب الله في حال تعرضه لهجوم إسرائيلي




.. شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي لسوق بحي الزيتون


.. الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف خلية في مخيم نور شمس بطولكرم أ




.. الدفاع الروسية تعلن استهداف 5 مقاتلات أوكرانية بصواريخ إسكند