الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المؤرخ وتبعات انبهاره بالتاريخ

ثامر عباس

2024 / 7 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لم يصنع التاريخ لمجرد استذكار الماضي واستعراض الأحداث والوقائع التي تخللت محطات تحوله وسيرورات تطوره ، وإنما للاستفادة من دروسه واستخلاص العبر من عضاته ، التي من دون استخلاص مضامينها واستلهام دلالاتها ، سيبقى الإنسان / المجتمع يكرر أخطاء مواقفه ويقع في محظورات أفعاله . ولعل مظاهر التخلف الاجتماعي والعنف السياسي والتطرف الإيديولوجي الضاربة أطنابها في بلدان العالم الثالث ، قمينة بتقديم البراهين الدامغة على تبعات ارتكاب مثل تلك الأخطاء والمحظورات .
ولعل من الضرورة بمكان الإشارة الى انه ليس من الغريب أو الشاذ أن يظهر الإنسان – كما سائر الناس - اعتزازه بتاريخ بلاده ، والتغني بأمجاد ماضيه ، مثلما إبداء حرصه على تراثه ، والحفاظ على أرشيف ذاكرته . وإنما ما يعد غريبا"أو شاذا"- ان لم نقل مستهجنا"ومرذولا"- في الأعراف الإنسانية والأخلاقية والمعرفية ، هو أن يتعصب ذلك الإنسان لأحداث تاريخه الآفل وكأنها الوحيدة في مضمارها ، ويغالي في وقائع ماضيه الزائل وكأنها الفريدة في مجالها . للحدّ الذي يحول دونه ومراعاة الأدوار والوظائف التي اضطلعت بها أحداث تاريخية لمجتمعات مختلفة ، ووقائع اجتماعية لثقافات مغايرة . لا بل ان مغلاة البعض بهذا الخصوص قد تصل - في بعض الأحيان - لحد التضحية بالتاريخ (الوطني) الشامل وطمس قواسمه الحضارية المشتركة ، لصالح تواريخ الجماعات السوسيولوجية والانثروبولوجية المكونة للمجتمع ؛ الأجناس والأقوام والقبائل والطوائف . بحيث تستحيل سرديات هذه التواريخ التحتية الى مقاييس صارمة ومعايير قاطعة ، لا تعتمد فقط في تبني المواقف التي على أساسها يتم الاختيار وتجري المفاضلة بين (الأنا) و(الآخر) في مضمار بناء العلاقات وتعايش الثقافات فحسب ، وإنما يحرّم المساس بها والتقليل من شانها ، ناهيك عن التطاول عليها والحط من قيمتها .
وإذا ما قارنا بين تبعات وتداعيات هذه الظاهرة بين عامة المجتمع وخاصته ، سنلمس على الفور حجم الأضرار وطبيعة المخاطر المتوقع حصولها جراء مواقف هذه الأخيرة (الخاصة – النخبة) حين تصيبها (لوثة) الانبهار العاطفي بالتاريخ ، بالمقارنة مع مواقف نظيرتها المتموقعة على الطرف الثاني (العامة – الجمهور) ، على خلفية انخراطها في مثل هذا الضرب من المواقف الشاذة والسلوكيات المنحرفة . فبينما تؤطر الثقافات الفرعية (الفولكلورية) وما يعبّر عنها ويرتبط بها من تصورات ساذجة واعتقادات عفوية ، نمط وعي الجمهور الذي غالبا"ما تكون خليط منوع من حكايات خرافية ومرويات أسطورية وتمثلات مخيالية . فان ما يؤطر وعي النخبة (المتولهة) بالتاريخ خليط هجين من النوازع العنصرية والدوافع الإيديولوجية والمنافع الاقتصادية والمطامع السياسية ، بحيث تحيل هذه النوازع بينه وبين النظرة الواقعية - الموضوعية الى ماهية التاريخ من جهة ، والاستدلال على سيرورات حراكه ومسارات تفاعله وديناميات تطوره من جهة أخرى .
ولعل من جملة العواقب التي تترتب على هذا الموقف الاختزالي - الانتقائي نختار محورين اثنتين ؛ المحظور الأول وهو (التعامي) أو (التغاضي) عن رؤية الانحرافات والارتدادات ، التي قلما أفلت من قبضتها تاريخ ما من تواريخ المجتمعات البشرية ، سواء على مستوى التاريخ المحلي / الوطني وما ينطوي عليه من أحداث ووقائع ، أو على صعيد التاريخ الأجنبي / العالمي وما يشتمل عليه من تجارب وممارسات . وإذا ما أجبر المؤرخ المعني (صاحب ذلك الموقف) على مراعاة تلك الانحرافات والارتدات والقباحات ، فانه سرعان ما يلجأ الى تبريرها كمحطات منعزلة أو كمنعطفات طارئة حدثت ضمن مسار تطوري صاعد لتاريخ قومي لم يشهد سوى الفتوحات المبهرة والانتصارات المدوية ! . وهنا يقع في المحظور الثاني وهو الانزلاق الى مهاوي (التعصب) لتأريخ جلّه ملتبس و(التمذهب) لسرديات معظمها ملفقة . إذ لا مفر ل(مؤرخ) يتعاطى مع ثراء وتنوع السيرورات الجدلية للتاريخ بهذه الطريقة الاختزالية والانتقائية ، من الوقوع في هوس (الأنا) الجماعاتي المفارقة للحقيقة والمتعالية على الواقع ، بحيث لا يعود يرى في سيرورات التاريخ وديناميات الحضارة ، إلاّ ما توسوس به نفسه من هلاوس وتشبيحات ؛ تارة باسم التعصب العنصري لقوميته / جماعته ، وتارة ثانية باسم التطرف الديني لمذهبه / طائفته ، وتارة ثالثة باسم التفوق الحضاري لثقافته / لغته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاملات منزليات مهجورات في شوارع بيروت | الأخبار


.. استمرار القتال والقصف بين حزب الله وإسرائيل • فرانس 24




.. -وُلدت خلال الحرب وقُتلت بعد أشهر-.. جدة تنعى حفيدتها بعد غا


.. ضربة قاصمة لحزب الله.. هل تعيد تشكيل مستقبل لبنان؟




.. عادل شديد: استمرار المواجهة سينعكس سلبا على المجتمع الإسرائي