الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاقتصاد والإدارة في مصر في مستهل القرن التاسع عشر

عطا درغام

2024 / 7 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تأليف: هيلين آن ريفلين
في مستهل القرن الثامن عشر بدات الإمبراطورية العثمانية في التدهور، وأصبحت تمر بأزمة تسبب فيها الأعداء الداخليون والخارجيون علي السواء كانوا يقوِّضون الدعائم التي تقوم عليها الدولة ذاتها.
وأصبحت الحاجة ماسة إلي إصلاح النظم العثمانية من أساسها.وقد أدرك السلطان سليم الثالث هذه الحاجة بوضوح، ولهذا أدخل "النظام الجديد" في عام 1792 علي أمل أن سيُنشيء بها جيشًا حديثًا يستطيع أن يصد عن الإمبراطورية هجمات أعدائها. وفي نهاية الأمر- راح السلطان- الذي كان أكثر تقدمًا بكثير من الرأي العام العثماني- شهيدًا لقضية الإصلاح، إذ قتله أنصار أشد الأحزاب رجعية، وهو الحزب الذي لم يستطع أن يُدرك مغزي برنامجه الإصلاحي، واعتبره مجرد تهديد لامتيازاته.
ومات سليم ،ولكن بقيت أفكاره- إذ إنه كان قبل موته قد غرس في محمود ابن أخيه الاقتناع بأن الإمبراطورية إما أن يُصيبها التغيير أو أن تنمحي من الوجود. ولهذا فحين تولي محمود الحكم نجده يعتلي العرش العثماني بصفته نصيرًا غيورًا للإصلاح،كما حاول تطبيق هذا البرنامج الإصلاحي طيلة حكمه، وأن يُحافظ علي سلامة ووحدة أملاك الإمبراطورية، ورغم أن أهداف محمود الثاني كانت واضحة منذ بداية عهده. فقد كان عليه ألا يسير بحذر؛ لأن العقبات التي كانت تعترض طريقه كانت تبدو كأنما لا يمكن التغلب عليها. علي أن هذا السبب لم يكن يحوله عن طريقه، فراح يتحرك ببطء، ولكن بثبات نحو هدفه ،مرحبًا في تلك الأثناء بأية مساعدة يمكنه الحصول عليها لتحقيق الأهداف التي كان يصبو إليها.
وفي بداية الأمر، بدأ محمد علي ذلك الضابط الألباني المغمور الذي أقحم نفسه علي منصب باشا مصر، أداة طيعة لتحقيق الأهداف الكبري التي كان يسعي إليها السلطان، فخلَّص مصر من المماليك تلك الطائفة العسكرية المتمردة التي طال تجاهلها لالتزاماتها نحو الحكومة المحلية في الآستانة، التي كان عدم اكتراثها بسلطة السلطان قد قوي تلك الاتجاهات الانفصالية التي كانت تمزق الإمبراطورية من الداخل، في الوقت الذي كانت تتعرض فيه لهجوم لا هوادة فيه من الخارج. كما ساعد محمد علي السلطان في إخضاع الوهابيين في شبه الجزيرة العربية بعد أن تحدوا سلطة السلطان باعتباره حاميًا للحرمين.
وأخيرًا نجده يلعب دورًا له أهميته في صف السلطان أثناء حرب الاستقلال اليونانية، وبالإضافة إلي هذا كان محمد علي قد استقي من هزيمة المماليك المتغطرسين علي يد جيش نايليون نفس النتائج التي استقاها السلطان سليم من هزيمة الجيوش العثمانية علي أيدي قوات كاترين العظمي الروسية. فقد أدرك أولًا وقبل كل شيء أن الجيوش العثمانية التي كانت يومًا ما فوق مستوي الهزيمة قد أصبحت عاجزة أمام جيوش أوربا الحديثة التي استفادت من التقدم الفني الذي أحرزه الغرب خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، بينما بقيت الإمبراطورية العثمانية قائمة بأحوالها- كما اتضح للباشا أن قدرة الإمبراطورية العثمانية علي مجابهة تحدي الغرب تتوقف علي قابلية تركيا لاستيعاب الأفكار الجديدة ،وعلي السرعة التي يتم بها طبع الجيوش العثمانية بالطابع العصري.
ونتيجة لهذه النتائج أصبح محمد علي نصيرًا غيورًا للإصلاح، وكان في الواقع أول موظف عثماني يُدخل"النظام الجديد" في ولايته بقدر معين من النجاح.
ولو كان محمد علي مجرد ضابط عثماني محب لبلده واكتفي بأن يؤدي دور أكبر مؤيدي البرنامج الإصلاحي الذي وضعه عاهله، لربما استعادت الإمبراطورية العثمانية مركزها السابق باعتبارها دولة كبري. لكن باشا مصر الذي استغرقته أطماعه الخاصة استغل الشعورالوطني العثماني باعتباره وسيلة لتحقيق أغراضه الخاصة واستغل برنامجه الإصلاحي لتحقيق أهدافه. والواقع أن محمد علي بدلًا من أن يحمي الإمبراطورية العثمانية، نجده يجعل انهيارها أمرًا مؤكًا. ومن المحتمل أن انهيار الإمبراطورية كان أمرًا حتميًا، وربما كانت العوامل المؤدية إلي انهيارها قد امتدت جذورها بالفعل بصلابة بحيث لا يمكن تغيير الاتجاه. وربما أيضًا كان محمد علي نبيًا من أنبياء الوطنية يميل إلي وضع حد للإمبراطورية العثمانية التي كانت تعلو علي الشعور القومي والتي كان قد عفي عليها الزمن.
ولكنه إذا كان نبيًا من هذا النوع فلا شك أن تحوله إلي المثل العليا لم يتم بصورة واعية- إذ أن محمد علي لم يكن وطنيًّا بالمعني العصري- وقبل كل شيء لم يكن وطنيًّا مصريًّا، فقد كان يعتبر نفسه تركيًّا قبل كل شيء، وكان يفكر في مصر باعتبارها مجرد متاع خاص يستغله لصالحه ولصالح أسرته، وبالتالي فإن نضاله من أجل الاستقلال لم يكن نضالًا من أجل استقلال مصر،وإنما محاولة لأن يترك لأبنائه إرثًا مضمونًا.
ولقد حقَّق هدفه، وبذلك وضع مصر- دون أن يدري- علي طريق الاستقلال الوطني، وفي نفس الوقت وجَّه إلي الإمبراطورية العثمانية ضربة قاضية لم تفق منها علي الإطلاق.
ويمكن تقسيم تاريخ محمد علي إلي أربع مراحل: صراعه للوصول إلي السلطة، واستحواذه علي السلطة وتوسيع سلطانه، ونقل سلطانه إلي ورثته. وفي كل من هذه المراحل كانت بحاجة إلي جيش قوي وإلي مَعين من الموارد لا ينضب،ومن ثَّم وضع سياسة عسكرية وسياسة مالية كان الهدف منها إمداده بكلا العنصرين.
وقد عنيت هذه الدراسة في أساسها بسياسته المالية علي اعتبار أنها كانت وثيقة الصلة بالزراعة،مصدر الثروة.والواقع أنه إذا كانت لمحمد علي سياسة زراعية علي الإطلاق؛ فإنها كانت مجرد مظهر من مظاهر سياسته المالية لا يمكن أن ينفصل عنها.
وفي نفس الوقت وضعت سياسة محمد علي العسكرية في عين الاعتبار لأنها اصطدمت بسياسته المالية بحكم استنزافها لموارد البلاد وإجهاها لقوة البلاد البشرية اللازمة للزراعة بسبب اللجوء إلي التجنيد علي أوسع نطاق. ولهذا فإن مشكلة سياسة محمد علي الزراعية الأضيق نطاقًا يتطلب تحليلًا للسياسة المالية الأوسع نطاقًا وتقديرًا لآثار السياسة علي اقتصاد البلاد.
وقد ترَّكزت سياسة محمد علي المالية حول مشكلة زيادة موارده وذلك مطالب الجيش التي لا تنتهي، وحتي يتسني له ذلك قام بإعادة تنظيم حيازة الأرض وزيادة الضراائب،وحسن نظام جبايتها،ونظم إدارة مدنية باستطاعتها تنفيذ أوامره بكفاءة.
وبالإضافة إلي ذلك أدخل محصولًا جديدًا هامًا هو القطن الطويل التيلة ، وحاول تحسين كل الأساليب الزراعية، وقام بتحسين الري، فأدخل الترع الصيفية، واستصلح الأراضي واشتغل بالتجارة التي كانت تعتمد أساًسًا علي الإنتاج الزراعي، وأخيرًا الصناعة بقصد الاستفادة من الخامات الزراعية التي تنتجها البلاد وتزويد جيشه ببعض العتاد الذي يحتاج إليه.
وكانت لهذه الإجراءات نتائجها الإيجابية والسلبية معًا. فمن الناحية الإيجابية نجد محمد علي يوَّفر رأس المال اللازم لزراعة المحاصيل النقدية، فنقل بلك الزراعة المصرية من الاقتصاد الغذائي إلي اقتصاد المحاصيل النقدية، واستحدث الترع الصيفية ممهدًا بذلك الطريق للري الدائم الذي يقوم عليه رخاء مصر الحديثة.وحقَّق مركزية وسائل التسويق فمكن لكميات كبيرة من من الإنتاج الزراعي المصري الدخول إلي السوق الأوربي المربح وفتح آفاقًا جديدة للتجارة المصرية.
وزود البلاد بمصدر كبير للثروة وجذب أعدادًا كبيرة من التجار الأوربيين الذين حملوا معهم كثيرًا من الأساليب الفنية الغربية والزبائن الغربيين. وقد عدَّلت هذه التجديدات الطابع العام للتجارة المصرية،فمنذ ذلك الوقت ارتبطت التجارة المصرية بالتجارة الأوربية، كان لا بد لمحمد علي أن يُدخل البلاد في إطار الحضارة الأوربية، وإن يكن ذلك لسوء الحظ قد تم علي مستوي سطحي جدًا.ويفتح أبواب مصر للمؤثرات الأوربية، وبتدعيم التجارة وتشجيع نمو المدن المصرية، وبإيجاد بيروقراطية مصرية وطبقة عسكرية مصرية،وبإقامة حكم وراثي أرسي محمد علي أسس الدولة المصرية.وهذه إنجازات لا يمكن أن تُنكر، وقد ثبت أنها كانت ذات أهمية قصوي في تطور مصر الحديثة.
ومن ناحية أخري ضعضع محمد علي الإمبراطورية العثمانية ،وفتح الباب للتغلغل الاستعماري الغربي.وقد أدي توجيهه للتجارة المصرية صوب الغرب إلي اعتماد البلاد علي الأسواق الأوربية وتعرضها للتأثر بتقلبات الاقتصاد الأوربي. وقد أدي تدفق التجار الأوربيين إلي جعل مصرأكثر تعرضًا للتدخل الأوربي في شئون البلاد الداخلية،وذلك بمقتضي الحجة التي ابتدعتها الحكومات الأوربية التي ذهبت إلي أن من واجبها أن تحمي تجارها ومصالحها التجارية طبقًا لمعاهدات الامتيازات الأجنبية، يُضاف إلي هذا أن حرمان محمد علي لطبقة رجال الدين من استقلالها، قد أدي إلي شل الطبقة الوحيدة القادرة علي ممارسة نفوذ من شأنه أن يخفف من غلواء الطبقة الحكمة، وفي نفس الوقت حطم النظم التي ظلت قرونًا تحمي الشعب من الطغيان الذي لا يحده شيء.
وهكذا أضعف قادة الشعب،وحطَّم النظم التي كانت تحمي الناس دون أن يعمل في نفس الوقت علي نشوء قيادة جديدة ونظم جديدة من الممكن أن يقوم عليها مجتمع سليم في مصر، وقد ادي موقفه من طبقة رجال الدين وقطعه الموارد عن المؤسسات الدينية إلي الإضرار بالتعليم المصري، فرغم ضيق نطاق نظام التعليم التقليدي، إلا أنه كان يوفر للأطفال المصريين بعض التدريب الذهني.
ولم تستطع مدارس محمد علي الحكومية وبعثاته الأجنبية أن تحل محل نظام المدارس الأولية ،وهو أمر لم يحتط له الباشا علي الإطلاق. والواقع أنه كاد يتخلي تمامًا عن مدارس الحكومة بعد عام 1841. ومن المستحيل أن نُقيم الارتباك الثقافي الناتج عن سياسة محمد علي التعليمية المبتورة، ولكن مما لا جدال فيه أن آثارها لا تزال ملموسة في مصر حتي الوقت الحاضر.
كما حطَّم محمد علي طبقة التجار وطبقة الحرفيين ، فعرقل بذلك نمو طبقة وسطي مصرية ، وأعاق النمو الصناعي المصري. أما تجاربه الصناعية فقد مُنيت بفشل مقيت؛ فهجرت مصانعه، وأُعيد العمال إلي حقولهم، وتأجل ظهور بروليتاريا صناعية ماهرة إلي أجل غير مسمي، يُضاف إلي هذا أن الباشا خلق طبقة أفراد أسرته، وحاشيته ومحاسيبه. وذلك بعد أن حصره التدخل العسكري الأوربي داخل حدود مصر ، وأرغمه الضغط الدبلوماسي الأوربي علي التخلي عن احتكاراته.
وبهذا أقام محمد علي نمطًا من الملكية الزراعية الكبيرة التي حالت دون ظهور طبقة مستقلة ومسؤولة من صغار المزارعين. وفي عهد محمد علي زاد الدخل القومي،ولكنه فشل في تحسين أحوال الفلاحين.
حقيقة إنه كان يتحدث كثيرًا عن اهتمامه برفاهية الشعب الذي يحكمه. لكن عندما كان هذا الوعي الاجتماعي يترجم إلي أعمال، كان دائمًا يأخذ شكل أعباء جديدة وأعمال ابتزاز ينوء تحتها السكان.
فبينما كان محمد علي يُرسي أسس الدولة الوطنية من ناحية، كان من ناحية أخري يُرسي أساس كثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي مازالت مصر تصارعها.
وبالاختصار، مما لاشك أن أداء محمد علي لمصر كان يمكن أن يكون أكثر قيمة لو أنه كبح جماح أطماعه الخاصة، ولو أنه بدلًا من ذلك، وجه جهوده لتحسين أحوال الشعب الذي كان يحكمه ولإقامة نظم صالحة تحل محل تلك التي حطمها دون هوادة.
وتري الكاتبة أن خير له أن يُساعد السلطان العثماني صراحة ضد العدوان الغربي بدلًا أن يخونه ويُتيح الفرصة للدول الأوربية لكي تقرر مصير الإمبراطورية العثمانية. لقد كانت هذه السابقة من أكثر السوابق خطورة- وقد وفرت نمطًا بالنسبة إلي المستقبل.
وتري أنه من المؤكد أن محمد علي قد حقق هدفه حين جعل أسرة محمد علي تحكم مصر وراثيًّا، ولكنه فتح المجال للتدخل الأوربي قبل أن تكون قد قامت بمصر نظم من شأنها أن تساعد المصريين علي مجابهة تحدي عصر جديد- وبذلك يمكنهم الدفاع عن استقلالهم في وجه هجمات الدول الأوربية المتربصة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طارق متري: هذه هي قصة القرار 1701 بشأن لبنان • فرانس 24


.. حزب المحافظين في المملكة المتحدة يختار زعيما جديدا: هل يكون




.. الرئيس الفرنسي يدعو إلى وقف الأسلحة نحو إسرائيل ويأسف لخيارا


.. ماكرون يؤيد وقف توريد السلاح لإسرائيل.. ونتنياهو يرد -عار عل




.. باسكال مونان : نتنياهو يستفيد من الفترة الضبابية في الولايات