الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوقائع المزورة والام الحلاج

مهدي النجار

2006 / 12 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


أيةُ نعمة هو هذا الخطاب النبوي التأسيسي حين تفجر كالنور أو الضياء أو كالشعلة المقدسة وألهب صدور الناس بالإيمان الطوعي، إيمان من القلب وبمحض الإرادة، خاليا من الاكراهات والقيود وليس مفروضا من السلطة، إيمان يركز على مطلق الله وتعاليه ولا يهتم إطلاقا بالاعتبارات الدنيوية والتوسع على حساب الآخرين، كان محط أنظار المقهورين والمعذبين الذين همشتهم حياة الاستبداد الوثني وأذلتهم طموحات وشراهات أهل الملأ المكي فالتفوا بقوة حول النبي حامل ذاك النداء المتوهج وتلك الشعلة السماوية التي أنارت للعباد طريقا جديدا، مدهشا لم يألفوه من قبل، لذا قالت قريش للرسول عليه الصلاة والسلام: أتباعكَ من هؤلاء الموالي، كبلال وعَمارٍ وصُهَيب، خيرٌ من ُقصي بن كلاب وعبد مناف وهاشم وعبِد شمس؟! فقال: "نعم والله لئن كانوا قليلاً ليكثُرنَّ، ولئن كانوا وضعاءَ ليَشرُفُنَّ حتى يصيروا نجوماً يُهتدى بهم ويُقتدى" السيرة لابن هشام/ج1 ص284 .
ليس غريباً ذاك الجواب المذهل، الصاعق بوجه كتلة استبدادية أرادت أن تكون البلاد والعباد دائماً تحت هيمنتها وبيد سلطانها، وليس عجيباً أيضاً أن تتفجر تلك الإجابة من فيه ذاك النبي الذي قال هو عن نفسه: "لقد رَعْيتُ غُنيماتِ أهل مكَّةَ لهم بالقراريط" السيرة /ج1 . هذا ما يميز الخطاب النبوي، الخطاب التأسيسي الأول الذي لا هدف له إلا فتح الروح على مطلق الله وتحريرها من الاغتصابات والهوان، تحريرها دون قيود ودون حدود، لذا كان خوف الله الشرط الأول لإسلام أولئك الأوائل الأجلاء وهو المستوى الروحي ألتنزيهي الذي لا يلوث نفسه أبداً بأعراض الحياة الدنيا ومآربها وشهواتها.
اندفع الشيخ الحلاج( الحسين بن منصور) باتجاه ذاك المستوى، باتجاه ذاك الوهج، دفع بكل روحه لان تسبح هنيئاً مريئاً في بحر الإسلام ألتنزيهي في اندفاعه حرة خلاقة جسد من خلالها صورة القلق الإنساني، صورة البحث، وكان عقله مشوشا دائما بتشابك المسائل فانطلق في طرق غير مرسومة، لا يعلم ما هو ذلك السحر الذي يشده، كان يعرف إن هناك محطة وحيدة حسب: هي الله. وقد عبر عن الإله بشكل أفضل حين قال: إن ابتداءه لا ينتهي أبداً،يقول عنه عبد الرحمن بدوي في كتابه تاريخ التصوف: "إن الحلاج مثل جانبا من أخصب جوانب الحياة الروحية في الإسلام لان آلامه كانت تعميقا للعقيدة وانتصارا للروح على الحرف" أو كما يرى د.أبو العلا عفيفي (وهو من أشهر الكاتبين المعاصرين في التصوف) : كان الحلاج من أروع الصفحات التي تتجلى فيها روحانية الإسلام، كان بحد ذاته ثورة روحانية في الإسلام. هذا المؤمن المتصوف حقاً كان حالة فريدة في التاريخ ( وخاصة تاريخ التصوف) لم تكن حالة انزوائية، بعيدة عن الدائرة الاجتماعية وصراعاتها، بل كانت في لب هذه الدائرة وبمواجهة حادة وصارمة مع رموز الطغيان والاستبداد التي انتهكت مضامين الروح التأسيسي للإسلام، الرموز التي اقتنصت السلطة عنوة وتحولت إلى أنظمة استعبادية قاهرة، من لحظة الاقتناص هذه بدأت تشعر (الأنظمة) بحاجة ماسة إلى مشروعية تبرر ما حصل فجاءت بفئة من الفقهاء وجندتهم لكي يبلورا منظومة تشريعية كاملة للتبرير والتسويغ وإضفاء الشرعية على ضعاف الشرعية أو من لا شرعية لهم، هذه الفئة التي استأثرت بحق التصرف في المقدس وزاغت عن وظيفتها الأصلية نحو سلوك مرذول شنَّع به الفيلسوف الكندي حين وصف رجال دين عصره في كتاب كتبه إلى المعتصم بالله بأنهم :" أهل الغربة عن الحقِّ، وان تتوّجوا بتيجان الحقّ من غير استحقاق…ذبّاً عن كراسيهم المزوّرة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤّس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لانّ مَن تجر بشئ باعه، ومن باع شيئاً لم يكن له. فمن تجر بالدين لم يكن له دين".
انتفضت روح الشيخ الحلاج وهاجت، بدأ يؤسس لعودة حقيقية للدين الإسلامي، ، أو بالأحرى تيارا روحيا صافيا ينبع من ذاك الدين الإسلامي في لحظات توهجه النبوية الأولى، لحظات نقاءه وابتعاده عن الشوائب و المآرب الدنيوية، بعثر الشيخ أوراق الفقه الإمبراطوري وقلب البساط على رؤوسهم، أراد أن يُطهر الروح من التزوير والتزييف والارتهانات النفعية، أراد أن يحل الحق، المطلق، الله في أفئدة الناس وبين ضلوعهم، وقد تصور الشيح: "أن العارفَ من الله بمنزلة شُعاع الشمس، فيها بدأ واليها يعودُ، ومنها يستمدُّ ضوءَه".
اعتقد الشيخ بعدم قدرته على الإفلات من ألمتاه الأرضي، رأى إن الأمر يتعلق بالنفس، هذه الأمارة بالسوء، تكمن فيها الخطيئة ويصدر عنها الإثم فراح يستجير ويستغيث: "خلصوني منها…خلصوني منها!" وعن طريق المجاهدة وتصفية الذات صنع له أجنحة روحانية أتاحت له أن يحلق، كان يرى أن لا مخرج له إلا عبر السماء، على أساس إن جميع الدروب الأرضية مسدودة في وجهه، أراد أن يحلق عاليا جدا نحو التلبس بالحقيقة المطلقة، معولا كثيرا على قواه، بدا هذا التحليق الصوفي يُقلق الدولة ويرعبها، يزعج راحتها ويزعزع أركانها وأنظمتها الفكرية وتقاليدها السلالية الشمولية، عندئذ سارعت لرأب المأزق فهيأت له محكمة فقهية أخرجت قُضاتها من جلبابها الواسع، قضاة لا رحمة في قلوبهم ولا شفقة فأفتوا بإعدامه، وعندما احضروا الحلاج إلى باب الطاق ببغداد لتنفيذ الإعدام به تجمع الناس هناك فصار يقرأ الآيات القرآنية، كما يذكر ابن كثير في البداية والنهايةج11 : وجعل لا يزيد على الشهادتين والتوحيد ويتحدث بجمل بليغة. فأوثقوه ثم ضربوه ألف سوط ثم قطعت يداه وقطعت رجلاه ويقال انه كان يردد مع كل سوط أحدٌ أحدْ. ثم قطعوا رأسه واحرقوا جثته والقوا رمادها في دجلة، أما رأسه فقد نصب يومين على الجسر ببغداد ثم حمل إلى خراسان وطيف به هناك ليراه الناس، ونودي في بغداد بان لا تُشترى كتب الحلاج ولا تُباع وكان ذلك في آخر سنة309 هجرية/922 ميلادية.
لقد كانت آلام الحلاج تعبيراً مأساوياً عن فترة هشة، رديئة،زاخرة بالانتهاكات والفواجع المفزعة من فترات التاريخ الإسلامي، وظاهرة من ظواهر مجتمع راكد يعاني من الإنجراح السياسي، مجتمع مُنغلق ومستسلم لمشاعر العجز والانقهار أمام الطبيعة واللقمة والسلطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جهود إيجاد -بديل- لحماس في غزة.. إلى أين وصلت؟| المسائية


.. السباق الرئاسي الأميركي.. تاريخ المناظرات منذ عام 1960




.. مع اشتعال جبهة الشمال.. إلى أين سيصل التصعيد بين حزب الله وإ


.. سرايا القدس: استهداف التمركزات الإسرائيلية في محيط معبر رفح




.. اندلاع حريق قرب قاعدة عوفريت الإسرائيلية في القدس