الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
هل التعايش ممكناً بين الديمقراطية والدين؟
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2024 / 8 / 20الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إذا كان الدين يُبنى على التراتبية القِيَمْيِّة للبشر بتقسيمهم حسب القيمة إلى درجات ومنازل يعلو بعضها بعضاً من منظور مستوى الاصطفاء والعلم بالمشيئة الإلهية التي لا دخل للبشر فيها إطلاقاً، الديمقراطية تساوي بين الناس مساواة تامة من حيث القيمة وفق مشيئة بشرية خالصة (دستور) تعطي لكل شخص صوتاً واحداً والصوت نفسه الذي تعطيه لأي شخص آخر مهما كان، حتى لو كان نبياً مرسلاً من السماء؛ وإذا كان الدين يعطي البعض مكانة ومنزلة خاصة وسط بقية الناس دون اختيار أو إرادة تُذكر من هؤلاء (وهم الأكثرية دائماً) كأن نُخبهم الهزيلة تلك قدراً مقضياً قد حَط فوق رؤوسهم من السماء، غير قابل للتعديل أو المساس، ومحفوظاً بالوراثة من جيل لآخر، الديمقراطية تعطي الناس الحق الحر والكامل في اختيار ومحاسبة واستبدال وتجديد قادتهم. حين يبلغ التناقض والعكسية هذا الحد القاطع، كيف لا يزال الدين قادر على التكيف والتعايش، بل وحتى الازدهار، وسط الديمقراطيات المستقرة المعاصرة؟
الدين والسياسة كليهما ساقين مفرودتين في شجرة ضخمة واحدة ونفس الشجرة- السلطة. يسعى كل من الدين والسياسة، بوسائل مختلفة، إلى فرض وجهتي نظرهما على الآخرين. ولما كانت زاوية أو وجهة النظر تنطوي غالباً على مصالح لأصحابها، لذلك يسعى رجال السياسة والدين غالباً، إذا كانوا هم الغالبون، إلى المحافظة على سيادة وهيمنة وجهة نظرهم بمقاومة التغيير وإبقاء الوضع القائم كما هو. إذا كان الدين والسياسة يمثلان السلطة كل منهما بوسائله المختلفة، كليهما أيضاً ذو نزعة محافظة تقاوم التغيير وتعمل بكل قوتها للحفاظ على الوضع القائم، أو ما تُسمياه النظام والاستقرار من جهة ودرأ الفتنة من جهة أخرى.
منذ دولة الفراعنة، التي ربما تُجسد أقدم دولة في تاريخ البشرية على الإطلاق، كانت السلطة دائماً وأبداً محط تنافس وصراع بين قطبين- الملوك والكهنوت. لا شك أن الملوك كانت لهم اليد الطولي غالباً، لكن في أحيان كثيرة كانت شوكة الكهنوت تقوى وتتعاظم لدرجة التلاعب بالحكام الفراعنة كعرائس الدمى من وراء ستار. الأهم من ذلك، وبغض النظر عن الضعف والقوة المرحليين لهذا الطرف أو ذاك، كانت لعبة السلطة لا تَدور، ولا يستتب نظام أو استقرار، ولا يَعُم رخاء عبر عموم البلاد إلا بتضافر وتنسيق وتعاون طرفي السلطة- الحكم والدين- معاً بدرجة أو بأخرى. رغم التنافس المميت أحياناً على السلطة بين الملوك والكهنوت الفراعنة، لكنهما كانا يكتشفان في نهاية المطاف أن لا غنى لأحدهما عن الآخر من أجل البقاء، ومن أجل بقاء دولتهم كلها فيهم ومن أجلهم.
وقد بقي الحال على هذا الوضع تقريباً من الشد والجذب بين أهل الحكم وأهل الدين في كل الدنيا آلاف السنين الثقيلة حتى طرأ حادثٌ نَسف قواعد لعبة السلطة القديمة من الجذور وأدخل العالم إلى العصر الحديث. في عام 1789، أطاح العامة الفرنسيون بملكهم وكهنوتهم بضربة واحدة. هكذا، لأول مرة في التاريخ البشري، أصبحت السلطة بالأعلى خالية من الركيزتين الأساسيتين الأزليتين معاً وبالتزامن. وقد استغرق الأمر بعض الزمن المرير والدموي حتى استتبت الأمور واستقرت السلطة في موطن جديد بالكلية- الفرنسيين بعمومهم. بعد الثورة الفرنسية لم تَعد لعبة السلطة كما كانت في السابق وعلى الدوام حكراً على فئتي الملوك والكهنوت وحدهم. لقد التحق بها الآن كلاعب أساسي ورئيسي عموم الشعب الفرنسي بكل طوائفه وأطيافه، ومن ضمنهم رجال الحكم والدين أنفسهم، على أُسس المساواة التامة ووفق قواعد المنافسة الشفافة والعادلة. لقد تحررت السلطة من قبضة، ومصلحة، النخب السياسية والدينية لتستقر في أصوات المواطنين الفرنسيين كافة، وبالتالي في مصلحتهم كافة.
أمام إعصار الإرادة والعاطفة الوطنية الشعبية المدمر ذلك، كان على بقية دول العالم أن تتعلم الدرس الفرنسي. إذا أصر الملوك والكهنوت كسابق عهدهم على التمسك باحتكار السلطة واستبعاد كل الباقين، عندئذٍ لا مفر أمامهم عاجلاً أو آجلاً من مصير نظرائهم الفرنسيين. كان الخيار واضحاً وجلياً بين سكين المِقْصلة إذا تمسكوا بسلطتهم، وبين النجاة إذا ارتضوا التنازل عنها واكتفوا بمجرد المشاركة فيها مثلهم مثل أي مواطن آخر على قدم المساواة. من أخذته العزة ورفض منهم، تمت إزاحته وأُلغيت ملكيته وأُممت وصودرت كنيسته؛ ومن قَبِلَ، احتفظ بعرشه وأبرشيته كآثار تاريخية مُقَدَّرة لكن منزوعة السلطة. بهذه الصورة المدنية السلمية لا يزال الملوك والكهنوت موجودون، ومزدهرون، في أعتى الديمقراطيات المعاصرة، لكن داخل أسوار قصورهم وكنائسهم دون أي سلطة خاصة في المجال العام الذي تحكمه إرادة المواطنون كافة، لا رجال الحكم والدين وحدهم.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. كيف تتابع إيران الجدل المتعلق بها وبالرد عليها؟
.. أم فلسطينية تنزح مع بناتها وسط القصف الإسرائيلي شمال غزة
.. هل يمكن لإيران أن تصل إلى صنع سلاح نووي فعال خلال الفترة الق
.. خسارة مؤقتة ونتائج عكسية.. ماذا يعني استهداف إسرائيل لمنشآت
.. 14 ولاية أميركية تتهم تيك توك بالاضرار بالصحة العقلية