الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثامن عشر)

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2024 / 8 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بعد عرض كلمته التمهيدية، انتقل روبنس بيليدور إلى الجزء الأول الذي أفرده لتقديم التعريفات المختلفة للحقيقة عند هايدجر، والذي بدأه بالإشارة إلى أن ما يهمه هنا بالدرجة الأولى مسألة جوهر الحقيقة وحرية الإنسان عند هايدجر، أي الحقيقة والحرية في وجودهما ذاته. من أجل شرح واضح للفكر الهيدجري، سيتم تعريف هذين المفهومين في كل جزء على حدة. في الجزء الأول سيبين الكاتب النهج الذي اتبعه هايدجر ليجعلنا نفهم ما هي الحقيقة في جوهرها، فيما سوف يتضمن الجزء الثاني دراسة الحرية. وعلى عتبة هذا الحزء، هناك توجه نحو الحقيقة وتساؤل حولها. وباقتفاء أثر هايدجر، سوف تكون البداية من التعريف التقليدي أو المفهوم الحالي للحقيقة.
يطرح النهج الهايدجري نفسه تحت بعد مثلث من الأبعاد: (1) بعد حملي أو بعد خبري، (2) بعد قبل حملي أو بعد كينوني، و(3) البعد الوجودي. لتفسير هذا النهج الثلاثي، بدأ الكاتب أولاً بالبعد الحملي منطلقا من حقيقة العبارة إلى الحقيقة الجوهرية وصولا إلى الحقيقة الحملية.
يتساءل هايدجر: ماذا نقصد عادة بكلمة "الحقيقة"؟ هناك، بحسبه، ثلاث أطروحات تميز التصور التقليدي لماهية الحقيقة والرأي الذي لدينا عن تعريفها الأساسي، وهي: (1) "مكان" الحقيقة هو العبارة، أي الحكم؛ (2) جوهر الحقيقة يكمن في "توافق" الحكم مع موضوعه؛ (3) أرسطو، أب المنطق، كان أول من نسب الحقيقة للحكم كما لو نسبها إلى مكانها الأصلي؛ وهو من روج لتعريف الحقيقة على أنها "اتفاق". وهكذا، بحسب التصور المتداول، فإن "الصادق"، سواء كان شيئا أو حكمًا صادقا، هو ما وافق، ما توافق. ولكن مهما كان مكان الحقيقة، فإن طبيعتها واحدة. العبارة الصادقة والحقيقة يعنيان الاتفاق، ويكون ذلك على وجهين: أولا كاتفاق بين الشيء وما يفترض فيه، ثم كتوافق أومطابقة بين المقصود بالعبارة والشيء. لكن هذين الشكلين من الاتفاق ليسا منفصلين: فالثاني يفترض الأول؛ لأن العبارة الصادقة من المفترض أن تعبر عن الشيء كما هو، في حقيقته الخاصة. إن هذا التصور للحقيقة هو ما تم إيداعه في تاريخ الفلسفة، وتناولته طوال تاريخها. نجده مكثفا وموضحا في التعريف الكلاسيكي: "الحقيقة هي تطابق الشيء مع المعرفة" (Veritas est adœquatio rei et intellectus). مكثف أولاً، لأن الصيغة التي تقول (في كلمة تطابق) الطبيعة الفريدة للحقيقة، يمكن تحليلها بمعنيين يتوافقان مع "المكانين" اللذين تم تمييزهما سابقا: يمكن أن تفهم إما على أنها تطابق الشيء مع المعرفة، وإما على أنها تطابق المعرفة مع الشيء. عادة، يتم التعبير عن التعريف المذكور فقط في الصيغة: "مطابقة الفكر لموضوعه في الواقع الحسي" (veritas est adœquatio intellectus ad rem).
ومع ذلك، فالحقيقة مفهومة على هذا النحو، أو حقيقة الحكم، ليست ممكنة إلا على أساس حقيقة الشيء، على أساس تطابق الشيء مع المعرفة. وبعبارة أخرى، أيا كانت الطريقة التي نفسر بها الشيء، فيتعين علبه أن يكون اولا في حد ذاته معقولا، وهذا يعني أن يكون صادقا.
بطريقة واضحة، يستهدف هذان المفهومان جوهر الحقيقة التوافق مع... التفكير بالتالي في الحقيقة باعتبارها مطابقة. مع ذلك، أحد هذين التصورين لا ينتج ببساطة عن تحول الآخر. على العكس من ذلك، يتم التفكير في المعرفة (intellectus) والأشياء (res) بشكل مختلف في الحالتين. لمعرفة ذلك، علينا أن نبحث عن أصل هذا التعريف ومشروعيته. لذلك يجب علينا إرجاع التعبير الدارج عن المفهوم العادي للحقيقة إلى أصله المباشر، في القرون الوسطى. الحقيقة المفسرة كتطابق بين الأشياء والمعرفة (Adœquatio rei intellectum)، لم تعبر بعد عن الفكر الترسندنتالي الكانطي، الذي جاء لاحقا ولم يعد ممكنا إلاىانطلاقا من الجوهر الإنساني باعتباره ذاتية، (رغم أن كانط هو الٱخر تناول الصيغة في "نقد العقل الخالص")، الفكرة الذدتي بموجبها "تتوافق الأشياء مع معرفتنا". لكنها تعود إلى الإيمان المسيحي والفكرة اللاهوتية التي بموجبها لا تكون الأشياء، في جوهرها ووجودها، إلا لكي تتوافق مع الفكرة المُتصورة سابقًا في الفهم الإلهي، أي في روح الله.
الأشياء منظمة وفقا للفكرة، متطابقة، وهي، بهذا المعنى، "صحيحة". الفهم البشري هو أيضا كائن مخلوق. تلك ملكة وهبها الله للإنسان، يحب أن يكون الفهم البشري موافقا لفكرته. ولكن الفهم البشري لا يتوافق مع فكرته إلا إذا حققىفي أحكامه تطابقا بين التصور والشيء، ويجب أن يكون الأخير، من جانبه، مطابقا للفكرة. هذه، في نهاية المطاف، مجرد نسخة لاهوتية من التصور الأفلاطوني للحقيقة الذي سيتم النظر فيه لاحقا. إذا كان كل موجود "مخلوقا"، فإمكان حقيقة المعرفة الإنسانية يتأسس على أن الشيء والحكم كلاهما مطابق للفكرة وهنا قادمان من وحدة خطة الخلق الإلهية، فهما بالتالي متناسقان مع بعضها البعض.
(يتبع)
المرجع: RUBENS BÉLIDOR
DÉPARTEMENT DE SCIENCES HUMAINES
Faculté des lettres et sciences humaines
Université de Sherbrooke








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لهذا السبب قد تختار إسرائيل اجتياح جنوب لبنان من البحر


.. فلسطينيات يودعن أبناءهن الشهداء إثر غارة إسرائيلية على غزة




.. اشتباكات قرب السفارة الإسرائيلية في اليونان تزامنا مع ذكرى 7


.. وقفات داخل محطات المترو بمدن هولندية لإحياء ذكرى طوفان الأقص




.. رائد فضاء من -ناسا- يلتقط مشهداً مذهلاً لظاهرة الشفق القطبي