الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء التاسع عشر)

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2024 / 8 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


استمرارا لما قاله بيليدور في بداية الجزء الأول، أكد على أن الحقيقة كتطابق الشيء (المخلوق) مع العقل (الإلهي) تضمن الحقيقة كتطابق الفهم (البشري) مع الاشياء (المخلوقة). الحقيقة تعني في كل مكان وفي الأساس المطابقة، اتسجام المخلوقات مع الخالق، "تناغما" محددا إذن بنظام الخلق. لكن هذا النظام، المنفصل عن أي فكرة عن الخلق، يمكن أيضا تمثيله بطريقة عامة وغير محددة كنظام للعالم. ماذا يحدث بمجرد التخلي عن فكرة الخلق؟ منطقيا، التعريف، من حيث التطابق، وحقيقة القضية، ينبغي الاعتراف من الآن فصاعدا بأنهما بدون أساس. وبدلاً من نظام الخلق المتصور لاهوتياً، ينشأ تنظيم ممكن لجميع الأشياء بواسطة العقل الذي، باعتباره مادة كونية، يمنح لذاته قانونه وهكذا يسلم بالمعقولية المباشرة للخطوات التي تشكل مساره (ما نعتبره "منطق الفكرة"). من خلال التفكير بهذه الطريقة، يلمح هايدجر إلى "فينومينولوجيا الروح" لهيجل الذي رفض أيضا صراحةً التطابق، رفضا يعني بوضوح إلغاء التعريف التقليدي للحقيقة، وجاء هايدجر ليحذو حذوه. من ثمة لم يعد من الضروري أن نبرر على وجه التحديد أن جوهر حقيقة الحكم يكمن في تطابق العبارة.
إن استبدال نظام العالم بالنظام الإلهي يقدم ميزة مزدوجة: يسمح، من ناحية، بالتخلي عن ضرورة وجود أساس لحقيقة القضية في حقيقة الشيء، بتقليص "مكان" الحقيقة (أي قصر الأخيرة على مجال القضية وحده)، وتخليصه من كل تدخل لاهوتي؛ ويسمح، من ناحية أخرى، من خلال الاحتفاظ بفوائد هذا الأساس طي الكتمان، بعدم المساس بسلامة "طبيعة" الحقيقة. ومتى سعينا جاهدين مع فشل ملحوظ في شرح كيفية إثبات المطابقة، إلا ونقوم بافتراضها مسبقا باعتبارها جوهر الحقيقة. بالمثل، تعني حقيقة الشيء دائما مطابقة الشيء المعطى لمفهومه الأساسي كما يتصوره "العقل". ما يسعى هايدجر إلى جعله مفهوما هنا هي هذه الحركة المزدوجة التي من خلالها أضفى تقليد معين المشروعية على تعريف الحقيقة كتطابق (من خلال تأسيس هذه التطابق في النظام الإلهي) ومنح لهذا الأخير بداهته؛ ليتلاشى بعد ذلك لصالح هذه البداهة بالذات، التي تم منذ ذلك الحين الاحتفاظ بها وحدها، على أعتبار أنها تأسست مع ذلك بطريقة سرية على أرضية لاهوتية تدعي أنها تخلصت منها.
هذا هو التحديد، الخالص ظاهريا، غير المؤسس مع ذلك، لماهية الحقيقة الذي راج في تاريخ الفلسفة من أقصاه إلى أقصاه، من أفلاطون إلى نيتشه. تمت صياغته أيضا بوضوح منذ بداية هذا التاريخ كما يلي: "تتمثل الحقيقة في تطابق (omoiosis) العبارة (logos) مع الشيء (pragma). لهذا السبب جاز ل"الوجود والزمان"، دون الدخول في تحليلات "في ماهية الحقيقة"، محاضرة ألقيت في بريمن عام 1930، أي بعد ثلاث سنوات من "الوجود والزمان"، أن يقتصر على تلخيص التعريف التقليدي للحقيقة من خلال الأطروحتين التاليتين:[(1) "مكان" الحقيقة هو العبارة (الحكم)؛ (2) ماهية الحقيقة تكمن في "توافق" الحكم مع موضوعه]. هذا النص (في ماهية الحقيقة) الذي جرى تنقيحه عدة مرات حتى عام 1943م تاريخ طبعته الأولى، احتفظ المؤلف دائمًا بنسخة منه منفصلة. يمكننا أن نقول إن هذه الصفحات العشرين تشكل الخيط الناظم لجميع كتابات هايدجر اللاحقة. ما يميزها، يتابع هو نفسه، هو أن الفتح الحاسم ل"الوجود والزمان"، أي تأويل الوجود تحت أفق الزمان، لم يحدث فيها بشكل مقصود. هذا لا يعني أن هايدجر تراجع منذ عام 1930 عن "الوجود والزمان"، لكن ما يقوله لا يعني أنه بكل بساطة تتمة كتلك التي نتوقعها في رواية مسلسلة. تحت سطوة بداهة هذا المفهوم عن الحقيقة، وما أن يتم بالكاد النظر إليه في أسسه، حتى نسلم بأنه من البديهي كذلك أن يكون للحقيقة نقيضها وأن توجد اللاحقيقة. لاحقيقة الحكم (عدم المطابقة) هي عدم توافق العبارة مع الشيء.
لاحقيقة (لاأصالة) الشيء تعني عدم توافق الموجود مع ماهيته. لذلك جرى فهم اللاحقيقة في كل مرة على أنها لااتفاق. هكذا إذن يسقط الأخير خارج ماهية الحقيقة. لهذا السبب يمكن إهمال اللاحقيقة، باعتبارها نقيضا للحقيقة، عندما يتعلق الأمر بإدراك الجوهر الخالص لهذه الأخيرة. أمام ذلك كله، كيف يمكننا تحديد الموقف الهايدجري بشكل صحيح؟ لم يسبق له أبدا أن أكد أن تصور الحقيقة الذي تم التذكير به للتو كان خاطئا: لكنه مشتق. لهذا ما تعلق الأمر إطلاقا عنده برفصه ولا حتى بتجاوزه، بل بتأسيسه. هذا العزم وحده يسمح لنا بفهم الأسئلة التي طرحها على التعريف التقليدي للحقيقة، والتي تتعلق كلها بشروط الإمكان عنده. الشرط الرئيسي والأول هو هذا: ما أن يصبح فعلا اللاهوت، الذي أسس سرا "التطابق"، مهجورا، يحق لنا أن نتساءل: ماذا تعني "المطابقة"؟، وبأي شيء هي ممكنة؟ سوف نرى أن مثل هذا التساؤل يوفر قوة دافعة حاسمة لرجوع متدرج، سوف يقود الحقيقة، خارج النظام الحملي، نحو النظام الكينوني، ثم خارج النظام الأخير، نحو النظام الوجودي (الأونطولوجي) الذي سيتعين علينا تحديده لاحقا.
(يتبع)
المرجع: RUBENS BÉLIDOR
propos de la problématique de l Être: L ESSENCE DE LA VÉRITÉ ET DE LA LIBERTÉ
HUMAINE CHEZ HEIDEGGER








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لهذا السبب قد تختار إسرائيل اجتياح جنوب لبنان من البحر


.. فلسطينيات يودعن أبناءهن الشهداء إثر غارة إسرائيلية على غزة




.. اشتباكات قرب السفارة الإسرائيلية في اليونان تزامنا مع ذكرى 7


.. وقفات داخل محطات المترو بمدن هولندية لإحياء ذكرى طوفان الأقص




.. رائد فضاء من -ناسا- يلتقط مشهداً مذهلاً لظاهرة الشفق القطبي