الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الذاكرة وتراثية المجتمع أساس الانقسام والصراع*
محمد رياض اسماعيل
باحث
(Mohammed Reyadh Ismail Sabir)
2024 / 8 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سأعرج اعتمادا على قصة الحضارة، على بداية ضهور كلمة الإله والتدين، او لنقل بداية تسمية كلمة الله، وتفسير الخَلقْ والتدين. فبعد ان استقر الانسان القديم بنظام اقتصادي زراعي ارتزاقي، قل مطارداته العبثية بحثا عن لقمة عيشه، سواء في صيد الحيوانات او البحث عن ثمار الأشجار والأعشاب الجاهزة، وكان لا يفكر في وجوده بقدر تركيزه على تطوير قوته التي تؤمن معيشته، وتبقيه حياً كأي حيوان. لكن دواعي الاستقرار الاقتصادي الزراعي، جعل الانسان يفكر في تطوير آلته، فبدلاً من ان يحرث الأرض بيده، اخترع المحراث الخشبي وبدأ يجره بنفسه لحرث الارض، وحين أصبح ذلك عبئاً يحتاج الى جهد كبير، استعاض بالحيوانات لتجر المحاريث، ثم توالت الاختراعات لتطوير الالة، في كل مرحلة لاحقة، عظم الانسان دور عقله وخفض من قيمة الايدي. ومع تزايد عدد البشر، جعلت الحاجة داعيةً للإدارة والتشريع. أصبح قوة التشريع الاجتماعي اقوى من قوة الانسان العضلية والبدنية، في إيقاع القصاص على مرتكبي المعاصي التي تضر بالاقتصاد وامن المجتمع، ثم بدأ الصراع بين المُلاك والجمهور المستضعف، ومن رحم هذا الصراع والمعاناة ولدت الأديان. وخَرَجَت لنا (انبياء) ودعاة للعدالة الاجتماعية وردع قوة المُلاك بقوة الآلهة، الذي يمتلك قدرة الموت والبعث في حياة ثانية... فابتدعت فكرة الآلهات، كإله البحر، واله الشمس(النار)، واله الرياح والعواصف، واله التراب. وخلقت لها رموزاً وطقوساً لعباداتها كوسيلة لإيقاف الظلم الاجتماعي... فكانت هذه الآلهات تنقسم الى اختصاصات، لتمثل الخير والشر، وكان الانسان عاجزا امام القدرة الهائلة للآلهات، فالنار يأكل كل شيء دون قدرة الانسان على مقاومته، والماء الاله الوحيد القادر على اخماد قدرة النار. والأرض مصدر العطاء والنعمة والثراء، وفي نفس الوقت لها القوة على ابتلاع الكائنات. والرياح والعواصف التي تأتي بالسحب والرعد والبرق تجرف كل شيء امامها وتحرق صواعقها الأشرار! ولعل استخدام اللغز الأشد ضراوة للأقناع والردع في آنٍ واحد هو كلمة الموت، واعطت صلاحيتها للآلهة. وكانت تلك جل اقتدار الفكر البشري في حدود مَنطِقه لتفسير الظواهر، مستهدفاً ردع ظلم المقتدر. وجاءت العصور اللاحقة لتجمع شمل الآلهات المختلفة الصفات والتخصصات، وتجعل منها الهاً واحداً يجمع كل صفات الألوهية، متواري في الغيب، لكنه يسيطر على هؤلاء الآلهات. واستقرار الانسان جعله يفكر في الخَلقْ والحياة والموت، فولدت الفلسفة. الانسان منذ بداية التاريخ والى يومنا، يختلق الكلمات بالمفاهيم التي يعاصرها، ثم يتوارثها دون تحسين او تحديث، والمتوارث لايعير الأهمية لاعتبارات عصره الحديث المتطور، أي تَطَورَ العصر وبقيت التسميات بشكل او اخر كما كانت في السابق، تلعب دورها في حياة البشر. الانسان منذ التاريخ اليوناني القديم، ومنذ العهد السومري القديم، حمل فكرة الله. وهذه الأفكار خزنت في المعين الاجتماعي للبشر وتوارثتها الأجيال الى يومنا حتى أصبحت جزءا من ذاكرتها تعتمد عليها الفكر في اتخاذ قراراتها. فلو لم تكن لدى البشر الذاكرة، لم يكن أحدا قادرا على التفكير، وعاش كالحيوان بذاكرة الغرائز فحسب.
الخبرة تعطي المعرفة، هذه المعرفة تخزن في ذاكرة العقل، وكلما فكرت كلما اضفت معارف جديدة وتوسعت رقعة الذاكرة عندك، من هذه العملية تأتي القرار او رد الفعل او التصرف. بمعنى ان الخبرة تعطي المعرفة ثم تخزن كأفكار في الذاكرة ثم تحول الى أفعال مستقبلا، وبإعادة العملية تتعلم أكثر فأكثر. هذه ميكانيكية عمل الفكر. فنحن نعتمد في هذه الميكانيكية على المعرفة، او بعبارة أخرى الفكر يعتمد على المعرفة. وبما ان المعرفة محدودة (لان العملية مستمرة وتعيد نفسها وتتوسع طوال حياة الانسان) لذلك فان الفكر محدود دائما. ان المعرفة تتبع حركة الزمن، أي انها تأتي تباعا عبر الزمن، مثل تعلم الرياضيات او الجغرافيا او الفيزياء، فهي لا تأتي انيا او في لحظة واحدة بل بحاجة الى زمن معين للتعلم، على سبيل المثال سنة او عدة سنوات، لذلك أصبحت المعادلة كما يأتي:
نحن بحاجة الى زمن لنتعلم ونزيد حجم المعرفة في مخزون الذاكرة، والمعرفة بحاجة الى أفكار التي تأتي من التفكير المستمر، لتاتي في النهاية تصرفاتنا وافعالنا بموجبه، فنحن نعيش في هذه الحلقة.
الان لنفترض ان الله خلقنا، فنحن جزء من صورته، اي جزء منه، أي نحمل جزءا من اسماءه الحسنى، كرماء ومحبين ورحماء وخيرين، وابديين باقين (لا نموت). هل نحن كذلك ام نعتقد اننا كذلك؟ اليس هذا مدعاة للفرح والبهجة والسرور والحيوية! فان خلقك الله فهو شريكك، لأنه يريدك ان تخوض حياة متعبة، فهل نحن كذلك؟ كلا، هل نحن خلقنا الله الذي في عقولنا؟ ام هناك خلق بطريقة مغايرة لما تصوره عقولنا؟ إذا تفحصنا وتأملنا الامر في ضوء كل المعطيات والبيانات العلمية وفلسفة المنطق العلمي لجميع تصوراتنا في هذا المجال، يبدو باننا خلقنا الله في عقولنا وهي ليست الحقيقية. لكل دين تعليمات وثوابت الهية صادرة من رب ذلك الدين. هناك الالاف من الأديان والالاف من الآلهات عبر حقب التاريخ، كل الهة او رب أعطى التعليمات حسب متطلبات ذلك العصر! وخلق الانقسام البشري ثم التقاتل بين البشر، كلٌ يدعي احقية ربه وبطلان الاخر. انتبه لهذه السخرية، الفِكر يخلق ربه، ثم يبدأ بعبادة الصورة التي خلقه والقتال في سبيله!! أي بمعنى اخر كل قوم يعبد ما خلقه في فكره، أي يعبدون أنفسهم ويسمونه الله. لم يكتفي البشر بالله الذي خلقه في فكره ليعبده، بل تعدى لتقديس الكهنة والدعاة واضرحتهم، وكل الوسائل الذي دعت في سبيل الله بالنفس والنفيس. أصبح هناك إله في السماء واضرحة للقديسين والانبياء والانساب الشريفة تشفع للبشر عند إله السماء! كلها من صنع البشر. ان المتلقي لهذه الكلمات سيكرر عبارة (استغفر الله) عشرات المرات، لأنه مرعوب ومرهوب وفزع امام الصورة الفكرية لله المغروسة في عقله، من سطوة وقدرة عليه، بسبب امتلاك الله شتى وسائل وادوات التعذيب في الجحيم! الانسان في هكذا جدال يندفع بعصبية وعنف، لأنه يشعر بان هناك خطراً يهاجمه، خطر يهاجم معتقداته الشخصية المتكيفة عبر الزمن لمفاهيم كاللغة، والوطن، والقومية، والعائلة، والدين، التي تمنحه الامن والأمان، الطمأنينة، السلام، والنجاح الاجتماعي، يريد ان يشعر بان أحدهم في الغيب (الله) قادر ان يساعده، إذا دعاه يستجيب له، في حل مصاعب الحياة والمعاناة والمصائب، خائف من عقاب الله، وهذا الخوف يجعله ان يعبد شيئاً خُلِق في فكره ككلمة وتوارثه. اما إذا توصل الانسان الى حقيقة الكلمة بالتأمل، وانه هو الذي خلق فكرة الله، فان هكذا انسان يفكر خارج الخوف، خارج ما ترسخ في فكره من الفزع، خارج مخزون الصور الفكرية في عقله، أي في المنطقة الحرة من عقله، اذاك يمكنه ان يطلق العنان لذكائه ليرى الحقيقة. الذكاء يأتي من المنطقة الحرة في العقل حصراً.
انت خلقت فكرة الله بشكلها الراهن، وانت تعبد ما خلقه فكرك. انا لا انفي وجود خالق لهذا الكون، انني احلل الله الذي خلقه الفكر البشري. انظر الى ظاهرة الحج مثلاً، الناس تجمع الأموال لحج (بيت الله)، هل تظن ان الله بحاجة الى اموالك؟ انظر لكل ذلك، ليس لديك شيئا لتقدمه الا المال، خرفان، اضحية، سجود، طقوس، ليس عندك شيء اخر لتقدمه! انظر الى ما تفعله! لماذا تفعل ذلك؟ هل لأنك تحب الله؟ لو كنت تحب فتاةً، وفعلت لها ما تفعل لله، تستدرجها بالمال، والاضحية، هل لهكذا حب اية معنى؟ هذه مأساة، حب الله سهل، لأنه مقدس، لا يحتاج لهذا التظاهر. الله ليس شيئا كما خلقه الانسان، ولا تبحث عنه خارجك، في السماء! انه موجود خارج الزمن، سرمدي. وانت تغوص في الزمن، انت تمشي في غابة لوحدك، انت مبرمج بإحكام ولديك كل القدرة والمنعة والعقل والحيوية والتحمل لتمضي دون مساعدة أحد، ولكي تكمل المسيرة يجب ان تفكر وتستخدم عقلك، وقلبك المتحرر من عبئ الحياة، والانانية والغرور، وحين تعترف بفشلك وعدم قدرتك على المضي، وتطلب مساعدة أحدهم، فإنك تعود للمربع الأول، ليملي عليك أحدهم ما يراه!! لا تؤمن بان الله يصلحك، الايمان ليس له مكان عندما تبحث عن الحقيقة والشيء الصحيح. ما قيمة الايمان دون عناء، ما قيمة ذلك؟ افترض انني أؤمن بالروح مثلاً، ما قيمة ذلك في حياتنا اليومية؟ ما الدور الذي يلعبه في حياتنا؟ ان كنت تعيسا، منزعجا، محبطا، عصبيا، ما قيمة ان أؤمن بالروح؟ إذا تحررت من كل ذلك تماما، أستطيع الاستقصاء لأجد حلاً. اما إذا انفعلتَ وتحمَستَ ضد هذا الطرح، لاعتقادك انه هجوم على معتقدك، فسوف تقاوم ذلك بضراوة، تظن ان في داخلك شيء ثابت ودائمي. الذي هو نور الله، روح الله، سمه ما تشاء.. الله، نور، روح، كل ما تحب ان تسميه. تظن انه داخلك في الوعي، في دماغك، شيء لا يعبر بالكلمة، ليس كمثله شيء، وهي ليست من الفكر. انت تؤمن بذلك، اليس كذلك؟ هل يجوز الايمان دائما؟ ما نوع الدماغ الذي يؤمن دون استقصاء وتأمل الحقائق؟ ما قيمة الايمان دون عناء؟
ما قيمة حياة المصلحين والانبياء بالنسبة لك؟ لك حياتك يجب ان تعيشها، ليست حياتهم! كيف تعرف انهم وصلوا الى الحقيقة وجعلوك خالداً لا تموت؟ اما إذا قلت ان هناك خلود بعد الموت، فلا تصدق ذلك، الصدق والحقيقة هو شيء لا يمكن تجربته او اختباره، أي لا يأتي بالخبرة، أستطيع وصف الخلود او السرمدية، لكن الكلمة ليست ذلك الوصف، مشكلتنا هو اننا مقتنعين بالكلمة، كما ذكرت ذلك في البداية. على سبيل المثال ان كنت تحب شخصاً بقلبك وعقلك، بكل شيء تملكه، ثم تشرح لي ذلك الحب، انا اقبل ذلك الحب ككلمة، ولكنني لا اشعر او املك جمال نمو زهرة ذلك الحب في داخلي، وعطر الإحساس به..
تأمل وانتبه، التأمل شيءٌ نمر خلاله يوميا لننور أنفسنا به. ضرورة التقصي اولا بما نتنور به؟ إذا قبلت التفويض من الاخرين (قس، شيخ، الناس الذي تعرفهم من اصحاب المعرفة، المحبين) فالتفويض يعني الامتثال، اي يعطى لهؤلاء الصلاحية للهيمنة عليك. تأمل بنفسك، ماذا يعني التأمل؟ سريان التأمل الفاعل هو ردع التفويض والصلاحية من الاخرين. لا حرية في نطاق تفويض الاخرين عليك، مثل الذي يستجدي شيئا والاخرين يتبعونه. يجب ان تعي للتفويض وان تفهم نظرية ومغزى التفويض. التأمل هو التفكير في طلب الاشياء التي لم نصنع منه. حين تجري في الحياة وراء زعماء دينيين او سياسيين، ماذا يعني الامتثال للشيوخ، والزعماء السياسيين، القدوات الواحدة تلو الاخرى؟ هذه البلاد مملؤة بهم عبر التاريخ، لماذا تتبعهم؟ هل تفهم؟ تيقن بانك مسؤول بشكل تام عن نفسك، بانك في غابة، تصنع قرارك بنفسك لتجد طريقك للمضي والخروج منها. لا أحد يقودك، أنسى كل هؤلاء، كل الأمثلة والكتب، كل شيء، لأنك حر تملك الحيوية والقدرة لكي تمضي خلال الغابة، وفي اللحظة التي تعتمد على الزعماء ستضعف، إذا أدركت ذلك مرة، في قلبك وبالذكاء (أي التفكير خارج مخزون ذكريات الصور الفكرية في العقل)، آنذاك تكون انسانا حرا وتمضي بلا خوف. فلفكر محدود، كما أسلفنا ذلك، والمعرفة تتبع حركة الزمن، أي انها تأتي تباعا عبر الزمن وتتغير، اذن الفعل او التصرف الناجم عنه محدود أيضا، وهذا يخلق التناقضات والأزمات او الاختلافات والانقسامات والصراعات. فهذا مسلم وذاك مسيحي والأخر يهودي او بوذي وهكذا.. لو لم يكن الفكر محدودا لما نجم عنه الاختلاف والتناقض والأزمات، وإذا أردنا التخلص من هذه الازمة والاختلاف وقعنا في المزيد من الاختلافات.. ان جذور الخلافات هي الفكر، لان الفكر محدود وممتثل لمخزون الذاكرة المعرفية..
في النهاية انا موروث لكل هذه التراثية الإنسانية. الفكر والتصرف تأتي بالمساجد والكنائس وغيرها، وهذه تخلق الخلافات لأنها محدودة وممتثلة لمرحلة فكرية إنسانية معينة، يفترض عدم التحمس لإعارة الفكر كل هذه الأهمية، لأنها ممتثلة لزمن لم يعد قائما.. الاجدر اعارة الأهمية لوجود الورود وعطرها وتتأملها، لكن بمجرد ان تؤمن بفكر فلن تفلح في إيجاد الحقيقة. ان الحياة هي عملية عيش مستمرة، تتغير على الدوام لتُحدِث نفسها، وتتطور وفق الخبرة التراكمية والمعرفة الكمية، ان هذه العملية متحركة باستمرار وليست ثابتة، اما الأديان فهي ثابتة لا تتغير عبر الزمن! وهذا مناقض لعملية العيش.
من المهم ان نفهم أنفسنا أولا، الاستماع الى الموسيقى يحرك فكر الحس الفني في عقلك، العقل ممتثل للمعرفة المخزونة ونحن نعيش في هذا الامتثال. هل بإمكان العقل ان يتغير جذريا؟ هل المجتمع مختلف عنك ام انت المجتمع؟ نظم البيت النفسي لديك لتغير المجتمع..
*ملاحظة: المقال مستمد من سلسلة مقالاتي السابقة بهذا الخصوص
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. لهذا السبب قد تختار إسرائيل اجتياح جنوب لبنان من البحر
.. فلسطينيات يودعن أبناءهن الشهداء إثر غارة إسرائيلية على غزة
.. اشتباكات قرب السفارة الإسرائيلية في اليونان تزامنا مع ذكرى 7
.. وقفات داخل محطات المترو بمدن هولندية لإحياء ذكرى طوفان الأقص
.. رائد فضاء من -ناسا- يلتقط مشهداً مذهلاً لظاهرة الشفق القطبي