الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجدة: من مشروع مدينة عصرية إلى قرية كبيرة

زكرياء مزواري

2024 / 8 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يشفع الموقع الجغرافي لمدينة وجدة من تبوؤها لمكانة رمزية كبيرة في تاريخ المغرب، خاصة في عصره الوسيط، ويكفي أنّها كانت في زمن عنفوان قبيلة زناتة، التي وقفت سدّاً منيعاً في وجه أطماع الخلافة الفاطمية بعد دعم الخلافة الأموية الأندلسية لها، مركز حكم المغرب وعاصمته على يد زيري بن عطية.
يعود اختيار مدينة وجدة عاصمة للملك من طرف القائد المغراوي زيري بن عطية لعدة أسباب، منها الموقع الاستراتيجي الذي يخوّل له مراقبة ما يجري في المغرب الأوسط وما يقع في الشمال وما يدور في الجنوب. ومنها الجانب الطبيعي بحيث تتوفر المدينة على كل الأساسيات كوفرة المياه وخصوبة الأراضي، علاوة على كونها قريبة من موطن الأمير الأصلي (قبيلة مغراوة)، وما يعنيه من تسمك بالعصبية وذود عن الملك من جهة، وترسيخ لنفوذه السياسي واستقلاله بحكم المغرب من جهة أخرى.
ثم مع بداية الدولة المركزية القوية في تاريخ المغرب في القرن 11م، عمل المرابطون في إطار توسيع دائرة ملكهم على سحق مناوئيهم، والذي كان يأتي من جهة الشرق حيث موطن التكتل الزناتي. وبعد أن كانت مدينة وجدة مستعصية على الدولة المرابطية، جهّز الأمير يوسف بن تاشفين سنة 1081م بنفسه حملة كبيرة، والتي بلغ صداها بني يزناسن والمغرب الأوسط من مدينة وهران إلى مدينة الجزائر، وبذلك صارت تلمسان قاعدة للدولة المرابطية شرقاً، وحصناً حصيناً يحمي ظهر المغرب الأقصى من الهجمات الشرقية، وفقدت معها وجدة زعامتها السياسية، وأمست من أحواز تلمسان وتابعة لواليها.
وبعد ذلك، ظلت مدينة وجدة دائماً موطن القلاقل، ومسرحاً للصراعات الكبرى للدول المتعاقبة على تاريخ المغرب، بدءاً مع الموحدين ومروراً بالمرينيين والسعديين، ثم وصولاً إلى العلويين. إلاّ أنّ أكبر خطر واجه المدينة في القرن التاسع العشر، هو ترسيم الحدود الجغرافية، جرّاء هزيمة المغرب في معركة إسلي سنة 1844م، ومعاهدة لالة مغنية سنة 1845م، التي ستصير بموجبها مغنية تابعة للإدارة الفرنسية، وما يعنيه ذلك من حرمان القبائل الموجودة على سهل أنكاد من الرعي والانتجاع، بل وتفريق أواصرهم العرقية. وهكذا، صارت مدينة وجدة، وبحكم كونها باباً يربط المغرب بالمشرق، ونوعية موقعها الاستراتيجي بالنسبة للغازي الفرنسي، أول مدينة استعمرت في تاريخ المغرب المعاصر سنة 1907م.
عرفت مدينة وجدة في عهد الحماية دينامية ديموغرافية، نتيجة الجالية الأجنبية التي رافقت المستعمر، وكان من ضمنها الفرنسيون والإسبان والإيطاليون والألمان، زيادة على الجالية الجزائرية والطائفة اليهودية اللتين لعبتا دوراً مهماً في عملية التجارة والربط بين الساكنة الأصلية والأوربية. وعلى هذا النحو، وبعد استقرار الحياة في المدينة مع الحماية الفرنسية، تطورت التجارة والصناعة وتوسعت الإدارة، وتدفقت نسبة أعداد الجالية الأجنبية، ونشأت في مرحلة مبكرة من تاريخ المغرب المعاصر أول مدينة كولونيالية عصرية، يقول الباحث "ناجم مهلة" في هذا الصدد: "في سنة 1921 حطمت الأسوار الغربية والشمالية للمدينة من أجل توسيع المدينة الأوروبية التي سيصبح مركزها الشارع المؤدي الى الجزائر (محمد الخامس حاليا) والشارع المؤدي إلى محطة القطار القديمة (الدرفوفي حاليا)، ثم أنشئت محطة القطار (1928) أصبحت بمثابة الحدود الغربية للمدينة الأوروبية كما أنشئ حي صناعي في شمال المدينة وبنايات عمومية على طول الشارع الرئيسي (البريد والبلدية والخزينة).
كانت الفئة الراقية من الجالية الأوروبية تسكن وسط المدينة في فيلات واسعة ومسيجة وكانت هذه الفئة تتكون من موظفين كبار وتجار وأصحاب المهن الحرة. أما ذووا الدخل المحدود وأغلبهم من الاسبان فقد كانوا يسكنون حي الطوبة في الشمال والحي المجاور للثكنة في الجنوب وكانت دورهم متواضعة" (مجلة كلية الآداب وجدة ص174).
على هذا النحو، بدأت تلوح في الأفق بوادر تشكّل مدينة عصرية في شرق المملكة، بتركيبة إثنية متنوعة، وبمؤسسات حديثة، وبذهنيات متحضرة، ونمط عيش متمدن، ولكن سرعان ما أجهضت هذه الروح اليافعة بعد نيل الاستقلال، إذ حلّت البداوة مكان الحضارة نتيجة الهجرة القروية، وغابت الثقافة المدنية التي ورثها الوجديون عن الجالية الأوروبية، كاللّغة المهذّبة، واللّباس النّظيف والأنيق، وارتياد المقاهي ودور السينما، وتقلّصت الموسيقى الراقية من طرب غرناطي وأندلسي جميل، بعد أن كانت وجدة رائدة في هذا المجال، ويكفي أن أول جمعية مغربية أسست لهذا النوع من الطرب كانت بالمدينة سنة 1921، هذا بالإضافة إلى انتفاء الأسر الموسيقية الوجدية (مثال عائلة بوشناق)، وغياب الأجواق العصرية، واختفاء المسارح ودور الرياضة والشباب.
لقد صارت وجدة، بعد مسلسل التهميش والإقصاء، نموذجاً واضحاً لبَدْوَنَةِ المدينة ورَيْفَنَتِهَا، ومرتعاً خصباً لانتعاش كلّ أشكل البداوة بدءاً بالفكر والسلوك، وانتهاء بالذوق والعمران. وباتت بموجب ذلك قرية كبيرة، بعد توالي مسلسل الهجرات القروية من أحواز وجدة المهمّشة، وفتح الحدود بشكل عشوائي، وامتهان فئة من المجتمع التهريب/طراباندو، واغتناء أخرى بالتجارة في المحظورات، وما وازى ذلك من شراء العقارات، وبناء العمارات، ولو على حساب المساحات الخضراء، هذا بالإضافة إلى وجود سياسيين منتخبين لا همّ ولا غيرة لهم عن المدينة ومستقبلها. ويبقى السؤال المؤرق دائماً مطروحاً: من المسؤول إلى ما آلت إليه أحوال مدينة وجدة؟










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لهذا السبب قد تختار إسرائيل اجتياح جنوب لبنان من البحر


.. فلسطينيات يودعن أبناءهن الشهداء إثر غارة إسرائيلية على غزة




.. اشتباكات قرب السفارة الإسرائيلية في اليونان تزامنا مع ذكرى 7


.. وقفات داخل محطات المترو بمدن هولندية لإحياء ذكرى طوفان الأقص




.. رائد فضاء من -ناسا- يلتقط مشهداً مذهلاً لظاهرة الشفق القطبي