الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الشاعر المغدور أبن مدينة بعقوبة ” خليل المعاضيدي”.
محمد السعدي
2024 / 8 / 26اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
في منتصف السبعينات وفي بدايات دخولي عالم السياسة والمنظمات المهنية الشيوعية في قرية الهويدر ، وترددي على مدينة بعقوبة للقاء برفاق وأصدقاء جدد، كانت تجمعنا تلك اللقاءات مقهى الشبيبة على نهر خريسان ، والتي تعود ملكيتها الى عائلة مجيد محسن السعدي ، وفي تلك المقهى تعرفت على رفاق جدد ونسيج من العلاقات والأراء الجديدة والمواقف المعارضة ، أحدهم كان الشاعر خليل المعاضيدي !.
مقهى الشبيبة ، كان أغلب روادها من الشيوعيين ، وكانت بمشابة مقر ثاني للشيوعيين في لقاءاتهم وتبادل الاخبار وتوزيع جريدة الحزب الشيوعي العلنية طريق الشعب وتحديد المواعيد الحزبية ، وكان بيت خليل لايبعد عن مقهى الشبيبة الا بعض الامتار يفصل بينهم شارع فرعي . قدحت في ذاكرتي فكرة الكتابة أو تقديم محاضرة عن حياة الشاعر خليل المعاضيدي أثناء سفرتي الآخيرة الى بلدي العراق وتجوالي في شوارع مدينة بعقوبة والمرور أمام عتبة دارهم القديمة والأماكن التي جمعتنا في ذلك الزمن العصيب . كانت رحلة ممتلئة بالذكريات المؤلمة عن رفاق غيبوا في أقبية سجون نظام صدام ، ورغم تغيبهم الطويل ، لكن عبق رائحتهم تعط في كل زوايا من زوايا مدينة بعقوبة .
خليل إبراهيم العاني المعاضيدي ، هكذا تقول بطاقته الشخصية ، أختطف عام ١٩٨١ من شوارع بعقوبة ، بعد أن توجس نظام صدام من قوة حضوره وتأثيرة وسط الناس وألتفاف حوله شبيبة ومثقفين وكسبة وتأثرهم بأرائه الفكرية والسياسية حول سياسة النظام والموقف من الحرب العراقية الإيرانية والخوف من تداعياتها المحتملة ، مما دعا النظام من جديد على شن حملة إعتقلات واسعة طالت شيوعيي ديالى ، غيبوا جميعا في أقبية البعث مصطفى الدوه ، حجي كامل ، هشام هاتف ، محمود عيسى ، كريم عيسى . ومنذ يوم إعتقاله زاد الهمس بين رفاقه في حارات ومقاهي بعقوبة حول مصيره ، والذي غيب تماماً الى عام ١٩٨٤ ، بعد أن أبلغوا أهله عبر أقصوصة من ورق بإعدامه مع توصية خاصة شديدة اللهجة بعدم إقامة سرادق العزاء على روحه وعدم الحديث عنه ولا حزن ظاهر عليه . خليل المعاضيدي من مواليد مدينة بعقوبة عام ١٩٤٦ ، خريج آداب قسم اللغة الانكليزية جامعة بغداد ، وعين بعد التخرج مدرس للغة الانكليزية بعدة مدارس في قرى وأرياف محافظة ديالى ، وعمل أيضاً في جريدة طريق الشعب للحزب الشيوعي العراقي ونشر بعض قصائده فيها . عام ١٩٧٨، في شدة الحملة على الشيوعيين تعرض كغيره من رفاقه الى الملاحقة والإعتقال ، فكان نصيبه طرد من مهنته التدريسية وراح يعمل في مجال البناء ودهان البيوت من أجل سد رمق العيش مع ثمة شبيبة شيوعية المرحوم حميد رحومي ، الشهيد حجي كامل ، علي كرادي . وفي غضون تداعيات إعتقاله ، زار قرية الهويدر سعدون شاكر وزير داخلية النظام السابق عام ١٩٨٢ ، لصلة جذوره بها ، وفي منطقة القلعة تفقد بيوتها ، وكان من بين تلك البيوت بيت الشيوعي التاريخي محمد الدفاعي خال الشاعر المغيب خليل المعاضيدي ، وفي حديث ودي سأله الوزير سعدون شاكر عن متطلباته وحاجاته ، فرد عليه الدفاعي بهدوئه المعهود عن مصير أبن أختي الشاعر خليل المعاضيدي ، فكان رد الوزير : أطلب ما تتمناه ، لكنك لا تدخني بهذه القضايا الحساسة والتي فوق مسؤولياتي وموقعي وليس من حقي أن أفتح هذه الملفات ، وأن فتحها ستجلب عليه الويلات !.
محمد الدفاعي ” أبو قاسم ” . عميد ومرجع للشيوعيين في محافظة ديالى ، وهو من الناجين من مجزرة ٨ شباط عام ١٩٦٣ ، بعد مطاردته من قبل عناصر الحرس القومي والبعثيين تمكن من تسلسل الحدود الى إيران الشاه الجارة اللدودة ، ومنح في طهران حق الإقامة بإعتباره لاجيء سياسي . عاد الى الهويدر من إيران بعد أن أنقلب عبد السلام عارف على البعثيين في ١٨ تشرين الثاني عام ١٩٦٣ . وعندما وقعت الجبهة مع البعثيين في ١٦ تموز ١٩٧٣ ، كان من المعارضين لها والى تفاصيل بنودها ، لكنه ظل متمسكاً بالفكر الشيوعي ومدافعاً عنه في كل المناسبات والأماسي وبيته العامر على نهر ديالى في منطقة القلعة ملتقى دائم للشيوعيين ومرجعاً فكرياً وسياسياً لهم !.
ارتبط الشاعر خليل المعاضيدي منذ بداياته بخاله المناضل محمد الدفاعي ، وكان أحد المشكلين لوعيه السياسي وتوجهاته الفكرية مما كان له كبير الأثر في مسار حياته وتحديد مواقفه . عين مدرساً للغة الانكليزية عام ١٩٧٠ إلى سنة ١٩٧٨ ، بدايات الهجمة الشرسة على الشيوعيين .
تأثر الشاعر خليل المعاضيدي في بداياته الشعرية والثقافية بالشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي ، وكان يحمل ديوانه في حله وترحاله ، لكنه وفي وعي متقدم وضمن تقاطعات عدة شهدها العراق مال أكثر بأهتمامه بالشاعر الشيوعي سعدي يوسف ، لكنه لاهذا ولا ذاك بنى لنفسه جملة شعرية من خلال قصائده العاطفية والانسانية والسياسية ، ولم تبتعد جملته الشعرية عن الواقع السياسي العراقي المتقلب ، وكانت من أول قصائده ” هلا قرأت البيان الشيوعي ” ، وقد قرأها لأول مرة في بساتين قرية الهويدر تحت أشجار الفرتقال والرمان ، وفي أماسي وجلسات نادي نقابة المعلمين في بعقوبة ، ولاقت صدى كبيرا في أوساط الناس كبيان شيوعي ، وظل تداولها بين أوساط الشيوعيين كمنشور سياسي شيوعي ، وفي الجانب الآخر أثارت غضب الحليف الجبهوي البعثيين .
خليل المعاضيدي لوركا العراق . الكاتب حاتم جعفر ، هو من أطلق هذا اللقب على الشاعر خليل المعاضيدي في مقال منشور بعدة مواقع الكترونية وصحف ، لما بينهما من تقارب في الوداعة والشاعرية والعمر والنهاية وفي شكل العدو وشراسته ، وذكر أنهما حتى من مدينتين تتشابهان في جمالهما ونهريهما. فكان التقارب بين الشهيدين قريب . جزء مقتطع من مقالة الكاتب حاتم جعفر : (( …كلما مر بي أو مررت به لسبب ما، يذكرني شاعر اسبانيا الكبير فيدريركو غارسيا لوركا في بعض من مفاصل شخصيته الرئيسية بالشاعر العراقي خليل المعاضيدي، الذي غيبته الاجهزة القمعية، قبل أكثر من ربع قرن من الآن. فكلاهما غادرا الحياة رغما عنهما وهما في منتصف الثلاثينات من عمرهما، وكلاهما كتبا ضد السلطة الفاشية الحاكمة، وكلاهما انتميا الى جبهة اليسار رغم اختلاف التسميات، وكلاهما قارعا ديكتاتورية الحكم والحاكم بأدوات ووسائل بعيدة كل البعد عن عقلية المراوغة والتستر أو المناورة ، فأساليب التعبير عندهما كانت معلنة وواضحة ولا تقبل التأويل ولم تثنيهما عن ذلك او تحد من اندفاعهما أو حماستهما، سياسة البطش والقسوة التي اتبعت وقتذاك ، فكانا من الشجاعة ما لا يمكن لأي متابع أو مراقب، نكرانها أو التغاضي عنها وبأي شكل من الاشكال ))).
إعدم الشاعر خليل المعاضيدي العام ١٩٨٤ ، بعد أن أبلغوا والدته في قصاصة ورق ظناً منهم سوف يخفوا أسمه وشعره وإبداعه ونسيان رفاقه ومحبيه له ، لكنه أزداد شهرتاً وحضوة بين رفاقه وناسه وأهل مدينته ، وأصبح إيقونة لمدينة بعقوبة وحديث الناس وفخر لأهلها ، واعتزازاً بالشهيد المعاضيدي ، بادر إتحاد كتاب وأدباء ديالى في منطقة السراي بنصب تذكار له بقاعته الكبيرة بأسم الشهيد المعاضيدي , وكان لي الشرف أن أقدم على منصتها أمسية ثقافية في مطلع عام ٢٠٢٤ . وقد خصصت تلك القاعة لجملة نشاطات الإتحاد الدورية إعتزازاً بالقيمة الفنية والشعرية والاعتبارية للشهيد خليل المعاضيدي . أبان الحملة الشرسة على الشيوعيين وفرط ميثاق الجبهة نزح شيوعيي ديالى إلى مدينة بغداد هرباً من بطش الأجهزة الامنية في المحافظة ، وقد أزداد الأمر خطورة أثر إعدام الشهيد الشيوعي عدنان الحداد .
يسترجع الصديق علي كرادي أوراقه مع الشهيد المعاضيدي ، ذاكراً : في نهاية عام ١٩٧٨ ، كنت في بغداد هارباً مع الشيوعيين وجمعتني جلسة في أحدى النوادي مع الشهيد خليل المعاضيدي ، وكان بالقرب من طاولتنا يجلس المرحوم الشاعر رشدي العامل مع رفاقه . والتفت خليل له وأشار لي قائلاً : ” شوف هذا الشاب ، وأني كنت بعمر صغير جداً هرب من البعثيين حفاظاً على ماء وجهه ” . ويستطرد علي ذكرياته بعد إنتهاء الجلسة أخذنا خليل الى مكان ما في زاوية ببغداد عبارة عن خان قديم متلل بأكوام بالكتب أتضح لنا مكان عمله الجديد وأختفائه بعيداً عن أعين السلطات !. وفي اليوم التالي طلب مني خليل العودة إلى أهلي في مدينة بعقوبة فقال لي بأسلوبه المعهود : ” علاوي أنت صغير ولا أحد يعتب عليك أو يلومك ”. والشاعر رشدي العامل من الاصدقاء المقربين للشهيد خليل المعاضيدي والمتأثرين به شعراً وموقفاً وتجمعهم رفقة عمل سويةً في جريدة الحزب الشيوعي ” طريق الشعب ”. يذكر عن خليل وفي بداية وعيه السياسي ، عندما كان طالب جامعي في نهاية الستينات ميال الى تنظيمات القيادة المركزية ومشاريعها الثورية ، لكن خروج المرحوم عزيز الحاج أحد رموزها الأساسين على شاشة التلفزة العراقية في إعلانه عن التوبه من التنظيم ، بهذه الصورة التلفزيونية التراجيدية أنطفى الحلم الثوري عند الشهيد خليل فأوقده بإنتمائه الى تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي الى حين عقد الجبهة مع البعثيين تصدعت علاقته مع الحزب بأرائه السياسية المعارضة على مسيرة التحالف والجبهة . في حياته القصيرة العمرية والسياسية تأثر بعدة شخصيات شيوعية بعقوبية إضافة الى خاله الشيوعي محمد الدفاعي وأبنه المرحوم قاسم محمد الدفاعي ، هناك شخصيات تركت أثراً واضحاً في نفسه وعلى مسيرة حياته وأعجابه بخصالهم الاجتماعية والسياسية مثالاً قيس الرحبي ، ماجد الطيار ، ناجي الراوي ، كاظم فرج !.
مرت أكثر من أربعة عقود على تغييب الشاعر الشيوعي خليل المعاضيدي وذكراه تزداد يوماً بعد يوم من خلال الاحتفاء به وبمأثرة الانسانية والإبداعية والسياسية في المهرجانات الوطنية والثقافية على مستوى المحافظة والمدن العراقية الآخرى . وممن أستذكره وكتب عنه وعن سيرته الطيبة وقيمته الشعرية رفاقه من أبناء مدينة بعقوبة المسرحي صباح الانباري ، حاتم جعفر ، أحمد صفر ، سلام كاظم . إضافة الى ذلك في أحدى المهرجانات بعنوان ” إعدام شاعر ”لإستذكار سيرته وشعره ويوم رحيله تحدث عنه الشاعر صلاح زنكنه !. قائلاً :"الشعراء عشاق وان لم يهموا، وحدهم من يبتكر الجمال وسط الخراب، وحدهم من يصنع الوطن في عمق المنافي ، وحدهم من الحنين يموتون مبكرين . هكذا كان خليل يعانق الحياة”.
وقد أقييم المهرجان في مدينة بعقوبة على قاعة ما بين الجسرين في ٢٠ كانون الأول ٢٠١٤ ، تزامناً مع الذكرى ٨٠ لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي ، ولقد ألقى بهذه المناسبة محمد جاسم اللبان ممثلاً عن الحزب الشيوعي كلمته حول الشاعر خليل قائلاً : خليل" ابن بعقوبة النجيب كان لهم بالمرصاد شعراً ونضالاً وتأليباً على الطغاة ، فما كان منهم إلا ان سفحوا دمه كما سفح زملاؤهم دم لوركا في مدريد، ونيرودا في شيلي وايلوار في باريس .أنهم القتلةُ أنفسهُمْ ، وان تعددت الوجوه والأقنعة.
شخصية خليل المعاضيدي ، كونه إنتمائه شيوعي ، لكنه كان مزيج وميال إلى تيار الليبراليين في تطلعه الى الوجود والحياة ونمط الحياة السياسية وتداعياتها ، عندما أعلن عن ميثاق عقد الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في ١٦ تموز ١٩٧٣ بين البعثيين والشيوعيين . هلهل فرحاً بها ، ظناً منه وإنطلاقاً من نظرته إلى الإنسان ووجوده الاجتماعي في التعامل مع الواقع ، ربما ستقلب صفحات الماضي وتفتح صفحات جديدة من الحرية والإبداع والبناء ، لكن الواقع ومسيرة التحالف الجبهوي ، كان بالضد من تطلعات وأحلام الشاعر الشهيد خليل المعاضيدي ، مما تبنى موقفاً مسبقاً معارضاً من طريقة وآلية التحالف والعلاقة مع البعثيين ، دفع حياته ثمناً لذلك !.
غيب الشاعر خليل المعاضيدي وهو في عز شبابه وقمة توهجه الشعري والفكري ، ولم يسعفه لا الزمن ولا الوضع السياسي بزوجة وأولاد . وعندما كان مدرساً للغة الانكليزية في مدارس بعقوبة وأطرافها وفي حقبة الانفراج السياسي في ظل الجبهة الوطنية ، وفي بحبوحة عطل تلك السنوات كحاله من مجايليه يحظون برحلات سفر إلى بلدان ودول وعواصم ، وكان من نصيبه دولة رومانيا الاشتراكية ، ولقد تعرف وأحب فتاة رومانية جميلة ، ودامت بينهم علاقة ومودة ، وكانت تلك الفتاة متمردة على أساسيات النظام السياسي الاشتراكي في بلدها مثلما كان الشاعر خليل رافض وغاضب على نظام البعث في بلاده .
مالمو/آب٢٠٢٤
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخاوف من انهيار الهدنة بين حزب الله واسرائيل| الأخبار
.. الطوارئ في كوريا الجنوبية.. هل تقف كوريا الشمالية خلف التصعي
.. ما أثر عمليات المقاومة ضد جنود الجيش الإسرائيلي داخل غزة؟
.. حرائق وقنابل غاز في اشتباكات للمعارضة مع الشرطة في جورجيا
.. مستشفى المعمداني يستقبل مصابين بعد غارة إسرائيلية على محل تج