الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
انثروبولوجيا المكان بين الأصول الريفية والميول الحضرية : رواسب الايكولوجيا الريفية في سيكولوجية الشخصية العراقية
ثامر عباس
2024 / 8 / 27الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
انثروبولوجيا المكان بين الأصول الريفية والميول الحضرية
رواسب الايكولوجيا الريفية في سيكولوجيا الشخصية العراقية
حين نتحدث عن أنثروبولوجيا المكان ، فننا نقصد بذلك تلك الشبكة المعقدة والمتداخلة من الترسبات الأسطورية والخرافية ، والانتماءات القبلية والعشائرية ، والتضامنيات الأسرية والقرابية ، والتواضعات العرفية والأخلاقية ، والاعتقادات الدينية والمذهبية ، والمرجعيات التاريخية والرمزية ، والأرومات اللغوية واللهجية . وهو الأمر الذي قلما انتبه الى مراعاة أهميته وتقدير ضرورته في البحوث والدراسات من لدن الكتاب والباحثين في الشأن السوسيولوجي العراقي ، لاسيما بعد تداعيات الأحداث الدراماتيكية الناجمة عن الغزو الأمريكي واحتلال العراق عام 2003 ، وما تمخض عنها من إشكاليات بنيوية وأزمات سياسية وصراعات سياسية وانقسامات ثقافية واستقطابات مناطقية .
ورغم كثرة التآليف – الثقافية والأكاديمية – التي تصاعدت كمياتها وتضاعفت نوعياتها في الآونة الأخيرة ، والتي منحت للعوامل الايكولوجية والجغرافية والطوبوغرافية الأهمية التي تستحقها في إطار دراسة التأثيرات التي تمارسها على كينونة الشخصية الاجتماعية ، لجهة تأطير وعيها وتنميط سلوكها وتأثيث مخيالها . إلاّ انه من النادر – رغم ذلك - العثور على بحث أو دراسة استطاع كاتبها التوغل بعيدا"في شعاب الذاكرة التاريخية ومتاهات اللاوعي الجمعي والجماعاتي ، بغية الوصول الى الرواسب القارة والطمى المتراكمة التي خلفتها تلك العوامل ، ليس فقط على تكوين التصورات وتشكيل العلاقات للأجيال التي عاصرتها واندرجت في سياقاتها فحسب ، بل وكذلك للأجيال اللاحقة التي ورّثتها بدورها لمن يأتي بعدها وفقا"لأواليات وديناميات عمليات (المجايلة) بين السابقين واللاحقين .
وربما تجاسر البعض من الباحثين الجدد على الخوض في غمار مثل هذه المغامرات السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية ، من باب إشباع الفضول المعرفي وتحدي الذات في القدرة على تحليل الظواهر وتأويل مآلاتها ، بيد أنه مع ذلك لم يكن بوسع هؤلاء الوصول الى نتائج مرضية أو الحصول على إجابات شافية ، تضيف للقارئ حصيلة ثقافية – معرفية الى ما يتوفر عليه من معلومات جزئية وتصورات مبتسرة حول سيرورات وديناميات الظواهر الاجتماعية المتناقضة والمتصارعة . ذلك لأن المديات المعرفية والمنهجية المتاحة أمام مساعيهم غالبا"ما اقتصرت على احتمالين لا ثالث لهما ؛ أما تناول الظاهرة قيد البحث والدراسة بمعزل عن بيئتها الحاضنة أو بعيدا"عن محيطها المؤثر ، بحيث تبدو كما لو أنها خرجت من رحم العدم بلا تراكمات أو مقدمات من جهة ، وأما لجوئهم الى تقطيع السيرورة التاريخية الى أجزاء متنافرة وأقسام متناثرة ، ليصار من ثم حصر تركيزهم على (مرحلة) تاريخية ما أو صبّ اهتمامهم على (لحظة) زمنية ما ، كان حضور / وجود الظاهرة المعنية ضمن سياقاتها المتحولة والمتبدلة طاغ أو بيّن .
وعلى إيقاع مثل هذه الضروب من البحوث والدراسات المبتسرة ، فقد أضاع الكثير من الكتاب والباحثين العراقيين على أنفسهم العديد من الفرص الذهبية التي كان من المفترض اهتبالها للحصول على نتائج ابستمولوجية ومنهجية قيمة ، لاسيما وان دراماتيكية الانقلابات والتحولات والانزياحات التي شهد وقائعها وتداعياتها المجتمع العراقي بعيد زمن السقوط ، قدمت من وفرة المعطيات السوسيولوجية وغنى الانثيالات الانثروبولوجية ، فيما لو تم الاعتماد على المنهجيات الجدلية والمقاربات التركيبية والمنظورات التفاعلية ، التي من شأنها جعل الباحثين أقرب الى ماهية الظاهرة المقصودة ، وأقدر على استيعاب سيرورتها وتتبع مساراتها وتوقع مآلاتها .
وفي هذا الإطار ، فقد تحيّر الكثير من الكتاب والباحثين في الشأن العراقي إزاء تواتر وشيوع ظاهرة القيم والسلوكيات (القبيلة والعشائرية) في المجتمع العراقي ، الذي اعتقد أن معظم جماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية قطعت شوطا"بعيدا"في مضمار التمدن العمراني والتحضر الإنساني ، على خلفية التوهم أنها قد تجاوزت أصولها الريفية وتخطت مواريثها القروية منذ عدة أجيال . بحيث وقف أولئك (الكتاب والباحثين) عاجزين عن إيجاد تعليل منطقي وتفسير مقنع لاستمرار تلك القيم والسلوكيات فاعلة ، ليس فقط على صعيد مظاهر (الأريفة) العمرانية التي باتت تجتاح المدن الرئيسية ومنها العاصمة بغداد ، كما لو أنها تستعيد حوادث دمارها وخرابها على يد هولاكو وجنكيزخان فحسب ، وإنما على صعيد استشراء مظاهر (البدونة) الحضارية التي استمرأ الانخراط في أتونها أفراد المجتمع وجماعته على حدّ سواء .
ومن هذا المنطلق ، يتبين لنا ان رواسب الايكولوجيا (الريفية) في سيكولوجية الشخصية العراقية من الرسوخ والثبات ، بحيث عجزت كل أنماط الميول (المدنية) والدوافع (الحضرية) اللاحقة – رغم محاولات المجاميع السكانية في المدن العراقية - عن محوها من الذاكرة التاريخية واجتثاثها من السيكولوجيا الجمعية . وبدلا"من أن يتراجع مدّ تلك الرواسب والمخلفات أمام عنفوان المدّ المديني والحضري الذي اجتاح المكونات الديموغرافية للمدن ، فإذا بها تتحول الى ما يشبه الحواضن التي لم تبرح تتناسل في بيئتها كل ما له صلة بالقيم (البدوية) و(الريفية) و(القروية) ، التي توهمنا – كما توهمنا في معظم توقعاتنا وتصوراتنا - في يوم ما أن مظاهر التوسع العمراني الكاسح تكفلت باندثارها وتلاشيها الى الأبد .
وهكذا ، فما أن تحل نازلة – وما أكثرها - على أرض الواقع الاجتماعي ، بحيث تحرك الرواكد وتثير السواكن القارة في قيعان السيكولوجيا وبين طيات المخيال ، حتى تتصدر الأصول (البدوية) و(الريفية) التي كانت مضمرة شتى مجالات الفضاء العمومي للمكونات السوسيولوجية بمختلف مواقعها ومستوياتها ، مقابل تراجع وانحسار الميول (المدينية) و(الحضرية) لهذه الأخيرة ، والتي كانت على الدوام تعاني الهشاشة في بنيتها من جهة ، والرثاثة في قيمها من جهة أخرى . ذلك لأن مواريث الايكولوجيا الريفية / القروية التي عاشت في كنفها وتغذت على قيمها أجيال متوالية من الجماعات العراقية ، حفرت لها أخاديد غائرة داخل بطانة اللاوعي الجمعي وبين تلافيف الذاكرة التاريخية ، بحيث ان الموقف الذي يتبناه والتصرف الذي يمارسه الإنسان العراقي المعاصر حيال الأحداث والوقائع التي تستفزّ حياته وتستثير تفكيره ، لا ينبع فقط من مجرد إدراكه الآني والمباشر المبني على حيثيات المعطى المعيش فحسب ، وإنما هو تمتح من معين لا ينضب من تصورات وتمثلات ورمزيات أنتجتها شبكة واسعة ومعقدة من الانتماءات الجغرافية - المكانية ، التضمانيات القبلية – العشائرية ، والتراكمات الاسطورية – التاريخية ، والتفاعلات القيمية – العرفية ، والولاءات المذهبية – الطائفية .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الشرطة البريطانية تعتقل ناشطتين بعنف خلال مظاهرة أمام مصنع ع
.. نادي بالستينو التشيلي يستذكر غزة بلافتة تدين عاما من الإبادة
.. في الذكرى الأولى لحرب -7 أكتوبر-.. نتنياهو يهدد بتوسيع القتا
.. لهذا السبب قد تختار إسرائيل اجتياح جنوب لبنان من البحر
.. فلسطينيات يودعن أبناءهن الشهداء إثر غارة إسرائيلية على غزة