الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
صور الرثاء في الشعر الجاهلي دراسة أدبية تحليلية
ابراهيم محمد جبريل
الشاعر والكاتب والباحث
(Ibrahim Mahmat)
2024 / 8 / 31
الادب والفن
صور الرثاء في الشعر الجاهلي
التمهيد
يطلق العصر الجاهلي على الفترة التي كانت قبيل بعثة النبي (ص) بمائة وخمسين سنة أو نحوها، حيث كان العرب يتصف حياتهم الاجتماعية في ذلك الوقت بالشجاعة والكرم، والعصبية والتفاخر والقبيلة، ووجود الجواري والعبيد، وشرب الخمر، ويصيدون الوعول أو الماعز الجبلي وكان لاتحادات التي كانت تجمعهم اتحادات الأحلاف، ويظن أن هذه الاتحادات لعبت دورا كبيرا في تكوين القبائل؛ إذ كانت تنضم العشائر الضعيفة إلى العشائر القوية الكبيرة لتحميها وترد العدوان عنها، وبمجرد أن تدخل القبيلة في حِلْف يصبح لها على أحلافها كل الحقوق وقد تنفصل بعض قبائل الحلف لتنضم إلى حلف آخر يحقق مصالحها) (أحمد شوقي : ص 58) و قد كان للجاهليين ممزة حربية ترتكز على سفك الدماء وأصبحت عادة من عاداتهم وعلى سبيل المثال حرب البسوس، فكانت في أواخر القرن الخامس الميلادي. بين قبيلتي بكر وتغلب لأجل ناقة اعتدى كليب سيد تغلب لشدة بغيه على ناقة للبسوس خالة جساس بن مرة سيد بني بكر؛ إذ رمى ضرعها بسهم، فاختلط لبنها بدمها، وكذلك حرب داحس والغبراء، فكانت في أواخر العصر الجاهلي، وكانت القبيلة في العصر الجاهلي تتألف من ثلاث طبقات: طبقة الأبناء وطبقة العبيد وطبقة الموالي ويتميز العصر الجاهلي ببدور وكواكب من الشعراء، لهم قصائدهم طريفة يعلق بعضها على جدران الكعبة ، كأمثال معلقة امرؤ القيس وتميز شعره بالغزل
يضم الأدب الجاهلي في محتواه الشعر والنثر، فالشعر الجاهلي وصل إلينا عبر شعراء يطلق عليهم "الشعراء الرواة" وشكك في مصادر هذا الشعر غير واحد من الأدباء والكتاب وأنكروا وجوده إلا أن وجود الشعراء في الجزيرة العربية في العصر الجاهلي أمر شهد به القرآن) (ضيف ص 407)8
الأدب تطور معناه من البادية إلى أطوار المدنية وفي عصر الأموي، أضيف إلى المعنى التهذيبي معنى التعليمي وفي العصر العباسي، وجد المعنى التهذيبي والتعليمي توافقا في استخدام معنى الأدب ليشمل معارف ثقافية واجتماعية الخ ويتكون عناصر الأدب من أربعة عناصر وهي: العاطفة، والخيال والفكرة، والصورة
وقد أثر في الأدب الجاهلي عوامل عديدة وهي البيئة: لأن الإنسان ابن البيئة فإن إبداعه متعلق بواقه الهادئ والمستقرة أو واقعه المضطرب وهنا يكون يصدر العواطف الصادقة أو الكاذبة
والمكان: يعبر عن الإقليم الذي يعيش فيه الشاعر كانت الأمة العربية في الجاهلية تحيا حياتا بدوية فيها خشونة وعصبية وحروب فكان له تأثير على ألفاظهم وخيالهم.
الزمان الأدبي: فالزمن الأدبي في عصر الجاهلي خلاف الزمن الأدبي في عصر الأموي الخ
الجنس: لكل جنس خواص في التفكير والتصوير ويرجع ذلك إلى عوامل مكانية وزمانية
الاتصالات: عن طريق الاختلاط و المصاهرة والدين له وزنه ودوره في الآداب.
فالشعر الجاهلي شعر غنائي، ولا نبعد حين نزعم أن الشعر الجاهلي جميعه غنائي؛ إذ يماثل الشعر الغنائي الغربي وما يختلجه من عواطف وأحاسيس)( ضيف، ص219)
وفي الأدب الجاهلي خصائص معنوية وهي معان واضحة بسيطة ليس فيها تكلف ولا بعد ولا إغراق في الخيال؛ سواء حين يتحدث عن أحاسيسه أو حين يصور ما حوله في الطبيعة؛ فهو لا يعرف الغلو ولا المغالاة، ولا المبالغة التي قد تخرج به عن الحدود المعقولة
ومن ناحية الخصائص اللفظية: يلاحظ أنها كاملة الصياغة؛ فالتراكيب تامة ولها دائمًا رصيد من المدلولات تعبر عنه، وهي في الأكثر مدلولات حسية)(ضيف ص232)
أما دواوين الشعر في العصر الجاهلي: نشط الرواة والإخباريون في تدوين أشعار الجاهليين للتنافس بين مدرسة الكوفة والبصرة اللغويتين لإحياء الشعر الجاهلي لأغراض لغوية، وبدأ جمع الشعر العربي في عصر الأمويين، وبلغ ذروته في عصر العباسيين)(بروكلمان في تاريخ الأدب العربي) جمع وتصنيف دواوين الشعر الجاهلي:
1. المعلقات: 2.المفضليات: 3.الأصمعيات: 4.جمهرة أشعار العرب 5.مختارات ابن الشجري
6.دواوين الحماسةأسباب اختيار الموضوع :
أسباب اختيار البحث:
1- صور الرثاء في الشعر الجاهلي والتجديد الشعري لم تنل دراسة علمية مستفيضة
2- الصورة الشعرية تستحق مكانة تمتاز بها
3- الشعراء والشواعر الجاهليين لهم ملكة شعرية يمتازون بها عن أقرانهم
4- اتسم الشعر الجاهلي بالألوان الفنية والاساليب الابداعية
أهمية البحث:
1- أن هذا البحث ينوع يضيف علما انسانيا جديدا على الدراسات الجامعية ، وهي الأنواع النادرة التي تجرى فيها الدراسات الأدبية.
2- الاستفادة من خبرات الفنية للشعراء الجاهليين.
3- هذا البحث يكشف عن ظواهر الصور الشعر الجاهلي ولها وقيم الأسلوبية
4- إثراء المكتبة الجامعية بهذه الدراسة
أهداف البحث:
يسعى هذا البحث إلى تحقيق الأهداف التالية :
1- دراسة الصورة الشعرية في الشعر الجاهلي، والوقوف على أساليب معانيها وتراكيبها
2- الوقوف على الذوق الأسلوبي في الشعر الجاهلي من خلال هذه الدراسة العلمية
3- تحليل الصور الشعرية في الشعر الجاهلي وإبراز ظواهرها الأسلوبية
4- كشف صور الرثاء في الشعر الجاهلي والتجديد الشعري
6- الوقوف على مدى جودة الألفاظ والتراكيب في الشعر الجاهلي
مشكلة البحث:
مما سبق ذكره يتمخض هذا السؤال الرئيسي :
ماهي الصور الشعرية في الرثاء الجاهلية والتجديد الشعري ؟
أسئلة البحث :
هذا، ويتفرع من هذا السؤال أسئلة محورية ومهمة وهي :
1- من هم الشعراء الجاهليين؟ وما هي شاعريتهم؟ ما العوامل التي كونت شاعرهم؟
3- ما هي الألفاظ والمعاني في الشعر الجاهلي والتجديد الشعري
؟ وما هو أسلوب الشعر الجاهلي؟ وكيف صاغوا أشعارهم في دواوينهم ؟
5- هل الشعراء الجاهليين أجادوا في استخدام الصور الشعرية ؟ وكيف ذلك؟
6- هل هناك صور شعرية لم يوفقوا فيها في شعرهم؟
حدود البحث :
سيقتصر هذا البحث من حيث مادته العلمية على صور الرثاء في الشعر الجاهلي والتجديد الشعري.
فروض البحث :
هذا البحث يفترض فيه الباحث أن يصل إلى ما يلي :
1- صور الرثاء في الشعر الجاهلي والتجديد الشعري لا يخلو من الجودة والأسلوب
2- نفترض أن الرثاء في الشعر الجاهلي والتجديد الشعري بلغ أي مبلغ
3- نفترض أن الشعراء مرآة شعراء عصره
4- الأسلوب عندهم تنبئ بالنفسية الصادقة
منهج البحث
سوف يسلك الباحث المنهج الوصفي والتحليلي في هذه الدارسة ، كما يستعين بالمنهج الإحصائي في استقراء الظاهرة موضوع صور الرثاء في الشعر الجاهلي والتجديد الشعري .
الدّراسات السّابقة
تناولت الدّراسات السّابقة المواضيع التالية:
- تناول ، ممدوح محمد الحسن الجزولي، صورة العصر في شعر عمر بن أبي ربيعة بحث مقدم لنيل درجة الماجستير في الأدب العربي، جامعة الخرطوم كلية الآداب، قسم اللغة العربية، تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد حسن علي قرينات 2008م/2009
ووجه الاختلاف بين البحثين أن الباحث ممدوح محمد الحسن الجزولي بحث عن صورة العصر في شعر عمر بن أبي ربيعة ولكن الباحث يبحث عن صور الرثاء في الشعر الجاهلي والتجديد الشعري
أدوات البحث:
استخدم الباحث الأدوات التالية في جمع المادة العلمية: المصادر والمراجع ذات الصلة بموضوع البحث
هيكل البحث
يتكون هيكل البحث من أربعة فصول ويندرج تحت كل فصل ثلاث مباحث:
الفصل الأول: تعريف العصر الجاهلي
المبحث الأول: مفهوم العصر الجاهي
المبحث الثاني: نشأة الش
المبحث الثالث: شاعريته
الفصل الثاني: الصورة الشعرية في معلقة زهير بن أبي سلمى
المبحث الأول: تعريف الصورة الشعرية
المبحث الثاني: علاقة الصورة الشعرية بالأسلوب
المبحث الثالث: الصورة الشعرية في معلقة زهير بن أبي سلمى
الفصل الثالث: الصورة الأسلوبية في معلقة زهير بن أبي سلمى
المبحث الأول: مفهوم الصورة الأسلوبية وأنواعه
المبحث الثاني: المعاني والألفاظ في معلقة زهير بن أبي سلمى
المبحث الثالث: الإيقاعات الشعرية في معلقة زهير بن أبي سلمى
الفصل الرابع: الصيغ في معلقة زهير بن أبي سلمى
المبحث الأول: التراكيب في معلقة زهير بن أبي سلمى
المبحث الثاني: التناص في معلقة زهير بن أبي سلمى
المبحث الثالث: الصدق الفني معلقة زهير بن أبي سلمى
الخاتمة
الفصل الأول: تعريف العصر الجاهلي
المبحث الأول: مفهوم الأدب الجاهلي
كلمة أدب من الكلمات التي تطورت معناها بتطور الحياة الأمية العربية وانتقالها من طور البادية إلى طور أطوار المدنية والتحضر حتى صار يقصد بها كل ما عبر عن معنى من معاني الحياة بأسلوب جميل يثير العاطفة
أولى هذه المراحل لفظة الأدب: بمعنى داعي على الطعام فقد جاء على لسان طرفة بن العبد
نحن في المشتاة ندعوا الجفلى لاترى الآدب فينا ينتقر
ثاني مرحلها:
أنها جاءت على لسان النبي ص بمعنى التهذيب قوله: أدبني ربي فأحسن تأديبي
وربما استخدمت الكلمة في عصر الجاهلي بهذا المعنى الخلقي غير أنه لم تصلنا نصوص تأيد هذا الظن
في عصر الأموي: أضافت إلى المعنى التهذيبي معنا جديدا وهو المعنى التعليمي فقد وجدت طائفة من المعلمين تسمى بالمؤدبين كانوا يعلمون أبناء الخلفاء
أما في العصر العباسي: وجدنا المعنيين التهذيبي والتعليمي يتقابلان في استخدام ثم اتسع مفهومها ليشمل كل المعارف من دينية وثقافية واجتماعية ثم صارت تطلق على المعنيين أحدهما الخاص وآخر عام
والعام: هو ما يكتب في اللغة العربية مهما كان موضوعه وأسلوبه
وأما الخاص: فهو الأدب الخالص الذي يؤثر في نفس القارئ والسامع عن طريق الاحساس بالمتعة الفنية والجمالية معتمدا على هذا على العاطفة
سميت اللغة العربية بلغة سامية تمييزا لها من غيرها من اللغات الآرية والحامية
وسامية: نسبة إلى سام بن نوح
وتمييزها من الآرية والحامية مثل: بالعربية سلام سلوم وأرض العبرية: ثور
مميزات اللغة العربية : .اختصارها على كتابة الحروف دون حركاتها فلا يرسمون حروفا التاء على الفتح أو الكسرة، كما هو الشأن في اللغة الآرية ،
و2.تتميز أيضا بزيادة حروفها على غيرها من اللغة الآرية،
3. كثرة الدلالات للمادة الواحدة،
4. كثرة الاشتقاقات
العربية الجنوبية واختلافها عن عربية الشمالية : لغة الجنوب في اليمن حضر موت و غفار وعمان واليمامة والبحرين وقد يتساهلون في التعبير فيسمونها باللغة الحميرية ويعرفون بالعرب العاربة
عرب شمال: الطائف- يثرب -خيبر -وادي قرى - تيماء – حجاز – ويعرف هؤلاء بالعرب المستعربة وهي أحدث من لغة الجنوب، وما روي إلينا من شعر جاهلي فهو بهذه اللغة أي لغة شمال، لأن الشعراء الذين قالوا الشعر من الشمال إما من- مضر- وإما من ربيعة أو من الجنوبيين الذين استقروا في الشمال
والأقرب للغة العربية جزيرة العربية، لأنها لم تتعرض للاحتلال وكانت تتولى أمرها بنفسها ، وشدة تمسكها من حيث العاطفة والقوافي ، ولغة ايقاع وموسيقى ، وأنها منتشرة في الطرفان
العربية الفصحى وسيادة لغة قريش :
اللغة العربية العدنانية وهي لغة شمال تعد أقرب للغات الأصل لأن العرب لم يمتزجوا بغيرهم من الأمم ولم تخضعهم أمم غيرهم لحكمهم لصحراء من غزو الأعداء كما حفظت لغتهم من التأثير
الأسواق العربية وأثرها في حياة الأدبية : من أعظم الاتصالات الداخلية الاسواق الأدبية التي كانت في مختلف شهور السنة ويحضرها سائر العرب ولا سيما الأدباء والشعراء ومن هذه الأسواق : سوق -عكاظ -حجر -دومة جندل -الحجاز -هجر -عمان -المشفر بضم الميم وتشديد الفاء بالبحرين -صنعاء -مجنة بكسر الميم وتشديد النون قرب مكة -ذو المجاز قرب عرفة -عكاظ بين مكة والطائف، وهي من أشهر الأسواق وكان ينشد الشعراء فيه أشعارهم ومنهم الأعشى والخنساء وحسان بن ثابت، وكان من أشهر المحكمين بين الشعراء نابغة الذبياني
العصر الجاهلي في اصطلاح المؤرخين أو المفسرين: يقصد بالعصر الجاهلي في اصطلاح المؤرخين أو المفسرين الفترة التي سبقت بعثة النبيّ (ص) دون تحديد لزمن معيّن فإنّه في اصطلاح الأدباء والنقاد لا يتجاوز المائة وخمسين أو المائتين سنة، وكلمة الجاهلية التي أطلقت على هذا العصر ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضدّ العلم و إنّما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب.
يُقصد بـالعصر الجاهلي» الفترة التي سبقت ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وتعتبر عصر "التقعيد والتأسيس" لمعظم آداب العصور الإسلامية اللاحقة، ونتيجة لبداوة العرب قبل الإسلام وكونهم أمةً أميَّة لا تكتبُ ولا تخط، كانت الشفاهيَّة هي المحرك الرئيسي لرواية معظم مآثر وأخبار الجاهلية، وكان خير ما تناقلته ألسنة الرواة وعوام القبائل وساداتها هو الشعر، وقد ساعد على وصول الشعر الجاهلي لنا في أبهى صوره طائفةٌ من الشعراء يطلق عليهم "الشعراء الرواة" وهم الذين يروون شعر من تقدَّمهم ويحفظونه ويتوارثونه؛ بل ويتخذونه مدرسة يتتلمذون على نهجها ويقلدونها إلى أن تكتمل لهم شخصيتهم الفنية المستقلة، ومن أشهرها المدرسة التي تبدأ بأوْس بن حُجْر وتنتهي بكُثَيِّر؛ فقد كان زُهير بن أبي سُلْمَى راوية أوس وتلميذه؛ ثم صار زهير أستاذًا لابنه كعب وللحطيئة،
هذا إلى جانب العديد من الرواة مختلفي المذاهب والتوجهات: كرواة القبيلة، ورواة الشاعر، والرواة العلماء، والرواة مصلحي الشعر.. بالإضافة إلى الوضَّاعين من الرواة أنفسهم الذين أرادوا ترويج بضاعتهم بنسبتها إلى العصور الأولى لتوكيد أصالتها وبداوتها.
ومن أوائل من شكك في مصادر الشعر الجاهلي في العصر الحديث المستشرق "مرجليوث" في بحث له نُشِرَ في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية - عدد يوليو سنة 1925- عنوانه: "أصول الشعر العربي" وأنكر الوفرة الكمية والإبداعية التي نقلت عن شعراء جاهليين، ومنه انتقل لإنكار أدب العصر الجاهلي ككل، وعلى الرغم من ذلك جاء بداية مقاله متناقضًا غاية التناقض حين يذكر أنَّ وجود شعراء في بلاد العرب قبل الإسلام أمر شهد به القرآن، إذ «أن فيه سورة واحدة باسمهم، ثم يشير إليهم من حين إلى آخر في مواطن أخرى ووصفهم الرسول بالشاعر
وقد ردَّ على "تشكيك" مرجليوث وتلامذته العرب - بدايات القرن العشرين - في صحة الشعر الجاهلي، كثيرٌ من إخوانه المستشرقين حيث أكدوا أن الرواية التاريخية عن بلاد العرب في عصورها الوسيطة "الجاهلية الأخيرة" ليست أوثق، ولا أضعف، من أية رواية أخرى عن أي عصر تاريخي يعوزنا فيه الدليل المباشر كما ذكر جورجيو ليفي
عناصر الأدب الجاهلي:
يرى كثير من النقاد أن الأدب يتكون أربعة عناصر:
1.العاطفة: تخاطب المشاعر والأحاسيس وهي أهم العناصر وأقواها في طبع الأدب بطابعه الفني ولكن يجب أن نلاحظ أن الآثار الأدبية تختلف في درجه ولا يصدر الشعر إلا عنها
2.الخيال : هي قوة عقلية خارقة وبدونه يكون من العسير إيقاظ العواطف في أغلب الأحيان وهو قوة خالقة وملكة من ملكات العقل وهو ضروري للمبدع والابسان
العاطفة والخيال: يقوم الوصف الأدبي المؤثر على الخيال والعاطفة المتأثر بأسلوب تبعث في النفس الشوق والارتياح والاستغناء عن الكلمات السوقية المبتذلة ويمكن أن يصف الأديب المرأة مدى جمال خديها واتساقها وانسجاهما ومشيها ونكهة رمانها وهو وصف حي جذاب تبعث في النفس المتلقي الخيال الذي يشارك فيه الكاتب وهذا لا يتأتى إلا من له قوة العاطفة والانفعال ووصف الدقيق هو الذي يحمل المعاني الجذابة والصور الخيالية من تشبيه ومجاز واستعارة ومبالغة ومقابلة ومحسنات بدبعية
3.الفكرة : وهي تعد أساسا في كل الفنون وتسمى بالمعنى وهي العنصر الرئيسي في الفنون الاقناعية والتعليمية وهي الخاطرة التي تطرأ على المبدع
4.الصورة: وإن لم تكن عابثا في نفسها ولكنهاوسيلة لأداء المعنى والتعبير عن الحقائق والمشاعر فاستحت العناية خاصة وهي تخلق في النفس جمالا، ومع الاخذ في الاعتبار بأن هذه العناصر تعملفي منظومة واحدة متكاملة ولا يمكن أن يغني عنصر عن غيره من هذه العناصر كأنك شمس والملوك كواكب اذا طلعت لم يبق منهن كوكب
العوامل المؤثرة في الأدب: لا شك أن الأدب صورت للحياة فهو أشبه ما يكون بالوعاء التي تعكس على صفحاتها عقائدها الدينية ومظاهر حضارتها السياسية والعلمية والفنية فينمو الأدب ويتطور تبعا للتطور
والعوامل المؤثرة في الأدب مبعثها سبب رئيسي وهي:
البيئة: فكما أن الانسان ابن البيئة فإن إبداعه صدى لواقها فيحكيها هادئة مستقرة أو ثائرة مضطربة ، ومن هذه العوامل المؤثرة في الأدب
1.المكان: وهو الاقليم الذي يعيش فيه الشاعر ومن ثم تختلف العادات باختلاف الأقاليم، فلما كانت الأمة العربية في الجاهلية تحيا حياتا بدوية فيها : شظف وكلها خشونة ، بالاضافة للعصبية القبلية والحروب المضطردة والبداءة الثقافية ، فكان الأدب الجاهلي خشن الألفاظ بدوي الخيال، يتخذ عناصره من الجبال والوعول والدواب والرمال أولى العواطف سطحي الأفكار
أهم فنونه : الفخر والحماسة والهجاء ووصف مشاهد الجزيرة العربية وحوادثها الداخلية
2.الزمان الأدبي : يتغير الزمان بتغير الزمان الأدبية فانتقال الأمة من مرحلة إلى مرحلة أو من طور إلى طور أو تدرجها من البداوة إلى الحضارة فلك يغير نظم الحياة ثم يغير لذلك الأدب ، فالزمن الأدبي في عصر الجاهلي: خلاف الزمن الأدبي في عر الأموي وصدر الاسلام خلاف الزمن في عصر العباسي الذي يتميز بسعة معارفه ومال خياله ورفاهة عيشه وصفاء ذوقه وكثرة معانيه وعمقها واتسعت دائرة فصارت تقال على كل لسان
3.الجنس: ومن الأمور المسلم بها أن لكل جنس خواص في التفكير والتصوير والتعبير فالاختلاف بين الشعوب في المواهب النفسية كان من ثمرة البيئة وعوامل كثيرة متلاحقة ومرجع ذلك إلى العوامل المكانية والزمانية والوراثية
فالعرب في الجاهلية طبعوا على دقة الحس وصفا الطبع ففي القديم كان شعار القبائل العربية:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
فكان لهم حدة الذكاء فبرأو في الشعر وكان مادتها الأدبية القديمة أي الشعر فلما نحصرت ارتقى النثر، ويتأثرون بعضهم ببعض في الأجناس
4.الاتصالات: سواء كان الاتصالات عن طريق الاختلاط كالتجارة أو المصاهرة أو الاتجار أو عن طريق الترجمة إلى العلوم والآداب والفنون والفلسفة فقد استفاد العرب من الفرس والروم وسائر بلاد الذي فتحوها فأثرى الأدب العربي من ذلك كثير
5.الدين: والدين له وزنه ودوره في الآداب والباعث على الابتكار والابداع كالقرآن الكريم معجزة الأدب
6.الحالة السياسة : والحالة السياسية ذات أثر عميق في حياة الأدب وذلك لأن الشعراء يمدون الأمة بالوقود اللازم لإذكائها وبلوغ النفذة الأدبية مداها ولاسيما إذا كان الشعر حماسيا أو وطنيا
7.وهناك أسباب أخرى كالنقد في الخلل العروضي وغيره.
دواوين الشعر في العصر الجاهلي
ما أن انتصف القرن الثاني الهجري حتى نشط الرواة والإخباريون في تدوين أشعار الجاهليين على نطاق واسع، وكان للتنافس بين كل من مدرستي الكوفة والبصرة اللغويتين أثره في إحياء الشعر الجاهلي لأغراض لغوية في المقام الأول، ولم يبدأ جمع الشعر العربي إلا في عصر الأمويين، ولم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا في عصر العباسيين [بروكلمان في "تاريخ الأدب العربي
ونجد "المفضل بن محمد بن يعلى الضبي، الذي عمد إلى جمع مجموعة من قصائد وأشعار العصر الجاهلي سميت بالمفضليات هو من أوائل مصنفي ومهذبي تلك الدواوين، والشائع المعروف أن المفضل جمعها لتلميذه المهدي حينما جعله والده الخليفة العباسي المنصور مؤدبًا له.
وكان المفضل سماها في الأصل "كتاب الاختيارات"، ولكنها بعد ذلك سميت باسمه، وقيل إنها مائة وستًا وعشرين قصيدة، أضيفت إليها أربع قصائد وجدت في بعض النسخ، ويقول ابن النديم: «وهي مائة وثمانية وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص، وتتقدم القصائد وتتأخر، بحسب الرواية عن المفضل، والصحيحة التي رواها ابن الأعرابي تلميذ المفضل وربيبه
وهناك "أبو عمرو الشيباني وقيل 213 هـ يروى عنه أنه جمع أشعار القبائل، وكانت نيفًا وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل قبيلة كتب مصحفًا، ويرى المستشرق "جولدتسيهر" أن صنعة أبى عمرو الشيبانى لدواوين القبائل مجرد "تحرير لمجموع المتاح من الشعر لدى القبيلة"، هذا بالإضافة إلى الدواوين التي عملها وجمعها مثل دواوين: امرئ القيس، والحطيئة، ولبيد، ودريد بن الصمة، والأعشى. في تاريخ الأدب الجاهلي لعلي الجندي
والأصمعي جمع الشعر المبعثر في دواوين ومجموعات، ومنها "الأصمعيات" المشهورة، كما عمل دواوين امرئ القيس، والنابغة، والحطيئة، ولبيد، والأعشى، وبشر بن أبي خازم، والمهلهل، والمسيب بن علس، والمتلمس.
وهناك ابن الأعرابي المتوفى سنة 225 هـ، ذُكرَ عنه: أنه قد أملى على الناس ما يحمل على أجمال، ثم ابن السكيت الذى يقال عنه إنه جمع دواوين امرئ القيس، والحطيئة، ولبيد، والأعشى، وبشر بن أبي خازم، والمهلهل، والخنساء.
وهناك "أبو سعيد السكَّري" المتوفى ، وقد قام بعمل دواوين امرئ القيس، وزهير، والنابغتين، والحطيئة، ولبيد، ودريد بن الصمة، والأعشى، وبشر بن أبي خازم، والمهلهل، والمتلمس، والمسيب وعدي بن زيد، والخنساء، وقيس بن الحطيم، وتميم بن مقبل، وأشعار اللصوص وأشعار هذيل، وهدية بن خشرم، ومزاحم العقيلي، والأخطل، وغيرهم.
ثم "أبو الفرج الأصبهاني"، قد كتب عشرات الكتب، منها كتاب "التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وأنسابها"، وكتاب "الأخبار والنوادر"، وكتاب "مجموع الآثار والأخبار"، وكتاب "أيام العرب"، وكتاب "الأغاني" الذي طبقت شهرته الآفاق وهو كتاب يعتبر موسوعة عربية ضخمة، وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب ثلاثين جملًا، من الكتب، فلما وصل إليه كتاب الأغاني استغنى به عنها.
ونجد أنه برصد هذه المجموعات من الاختيارات والدوواين أنهم اتفقوا على تقسيم شعراء العصر الجاهلي إلى طبقات ومراتب كما فعل ابن سلام الجمحي في كتابه الرائد "طبقات فحول الشعراء" حيث جعلوا على رأسها بصفة عامة شعراء المعلقات، وأغلبهم اتفقوا على ريادة امرؤ القيس والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى ولبيد وحيازتهم قصب السبق في تلك الفترة من الجاهلية، وعُلَمَاء الْبَصْرَة كَانُوا يقدمُونَ امْرأ الْقَيْس بن حجر وَأهل الْكُوفَة كَانُوا يقدمُونَ الْأَعْشَى وَأَن أهل الْحجاز والبادية كَانُوا يقدمُونَ زهيرا والنابغة انظر طبقات فحول الشعراء
ويمكن بإيجاز جمع وتصنيف دواوين الشعر الجاهلي في عدة مصادر إجمالية على النحو التالي:
• المعلقات: وهي اختيارات لعدد من قصائد الشعراء المخضرمين الجاهليين، واختلفوا في عددهم ومرتبتهم بين تقديم وتأخير، وأغلب النقاد يجعلونها سبع معلقات هي: لامرئ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد العبسي، والحارث بن حلزة، وأضاف آخرون الأعشى والنابغة الذبياني وعبيد بن الأبرص.
1.المفضليات: اختيارات "المفضل بن محمد بن يعلى الضبي"، وهي مائة وثمانية وعشرون قصيدة من عيون الأدب الجاهلي، أملاها على كثير من أصحابه وتلامذته، واشتهرت وصح معظمها، والشعراء الذين ذكرهم الضبي سبعة وستون شاعرًا منهم ستة شعراء إسلاميون، وأربعة عشر مخضرمون، والباقون وهم سبعة وأربعون شاعرًا جاهليون لم يدركوا الإسلام.
2.الأصمعيات: اختيارات الأصمعي وهو من أشهر رواة العرب ويأتي في المرتبة الثالثة بعد حمّاد الراوية والمفضل الضبى في جمع أخبار العرب وأشعارهم واستقصائها، واختياراته عبارة عن اثنتين وتسعون قصيدة ومقطعة، لواحد وسبعين شاعرًا؛ والشعراء منهم ستة شعراء إسلاميون، وأربعة عشر شاعرًا مخضرمون، وأربعة وأربعون جاهليون، وسبعة مجهولون ليست لهم في المظان تراجم تكشف عن عصرهم، والأصمعيات تلتقي مع المفضليات في تسع عشر قصيدة.
3.جمهرة أشعار العرب: مجموعة تنسب إلى أبي زيد بن محمد بن أبي الخطاب القرشي، وجاء في نهاية اختياراته نسبتها إلى المفضل بن عبد الله بن محمد بن المجبر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب؛ حيث قال: "قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدة عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وأنفس شعر كل رجل منهم"، وهي تضم سبعة أقسام، وفي كل قسم سبع قصائد على النحو التالي: المعلقات، والمجمهرات، والمنتقيات، وعيون المراثي، والمذهبات، والمشوبات، والملحمات.
4.مختارات ابن الشجري: لصاحبها هبة الله العلوي بن أحمد بن الشجري، المتوفى سنة 542 هـ، وقد جعلها ابن الشجري أقسامًا ثلاثة، وأهم ما في القسم الأول قصائد للشنفرى وطرفة ولقيط الإيادي والمتلمس، والقسم الثاني به مختارات من شعر زهير وبشر بن أبي خازم، وعبيد بن الأبرص، وفي القسم الثالث اختيارات من ديوان الحطيئة.
5.دواوين الحماسة: وهي مختارات تنسب لأصحابها، واكتسبت تلك التسمية من أول ديوان جمعه الشاعر أبو تمام وأطلق عليه "ديوان الحماسة"، وهي من منتقيات عيون الشعر العربي، ومن أبرزها: ديوان الحماسة لأبي تمام المتوفى سنة 231هـ، حماسة البحتري ، حماسة الخالديين وهى مجموعة للأخوين: أبي عثمان سعيد المتوفى سنة 350هـ، وأبي بكر محمد ، الحماسة المغربية لصاحبها يوسف بن محمد البياسي في تونس هـ، الحماسة البصرية جمعها صدر الدين علي بن الفرج البصري، وقدمها إلى الملك الناصر أمير حلب.
6. كتب مختارات الشعر الجاهلى والإسلامى المصنّفة وفق البيئات والموضوعات: ومنها "كتاب أشعار الأعاريب" لمحمد بن عبيد الله بن عمرو العتبى المتوفى 228 هـ، كتاب "أشعار الشراة"، لعمر بن شبّة ، "أشعار (أو: أخبار) اللصوص"، لأبى سعيد السّكّرى المتوفى 275 هـ، كتاب "أشعار الملوك" لعبد الله بن المعتزّ ـ، كتاب "أشعار (تنسب إلى) الجنّ" لمحمد بن عمران المرزبانى ـ، كتاب "سرقات الشعراء وما تواردوا أو: اتفقوا عليه" ليعقوب بن إسحاق بن السّكّيت ـ، "أشعار النساء اللّائى أحببن ثم أبغضن"، لمحمد بن عبيد الله بن عمرو العتبى المتوفى 228 هـ، "كتاب أشعار المعاياة وطرائقها"، لعلى بن حمزة الكسائى "كتاب الأراجيز"، لعبد الملك بن قريب الأصمعى، "شرح أبيات المعاياة"، لسعيد بن مسعدة الأخفش ، هذا إلى مجموعة من كتب الطبقات وهي تمثل نموذج "الكتب الجامعة" أو موسوعات الشعر وتمثل تطور التأليف في الأدب العربي، ومن هذا القبيل "كتاب الأغانى الكبير" لأبى الفرج الأصفهانى
خصائص الشعر الجاهلي
إنّ طه حسين قد طرح موضوعاً في كتابه «الشعر الجاهلي» تحت منهجه الخاص ورفض صحة الشعر من قبل الشعراء الجاهليين، ولم يقبل أنّ الشعر في العصر الجاهلي كان موجوداً و في رأيه كل الشعر في ذلك العصر منحول وموضوع وإنّه قد حُمل على العرب و أنكر من خلاله شخصيات من مثل امرئ القيس، ولكن آرائه أثار له التشاؤم، فهدفنا من هذا البحث، ذكر خصائص الشعر الجاهلي، وأن شعر الجاهلي مثبت بالقرآن الكرم والسنة النبوية، وليس ضروريا أن يكون تابعا لمنهج من المناهج الفكرية، فالشعر الجاهلي شعر غنائي، من المعروف أنه يوجد عند الغربيين منذ اليونان أنواع مختلفة من الشعر، يردها نقادهم إلى أربعة أضرب: شعر قصصي وتعليمي وغنائي وتمثيلي، ويمتاز الضرب الأول بأن قصائده طويلة؛ فالقصيدة منه تمتد إلى آلاف الأبيات، وتتوالى فيه حلقات من الأحداث تنعقد حول بطل كبير، وقد يوجد بجانبه أبطال، ولكن أدوارهم ثانوية. وهي في حقيقتها قصة؛ إلا أنها كتبت شعرًا، فالتسلسل القصصي فيها دقيق والانتقال بين أجزائها منطقي محكم، وهي قصة تفسح للخيال مجالًا واسعًا، ولذلك كانت تكثر فيها الأساطير والأمور الخارقة، وكانت الآلهة تظهر فيها عند اليونان بدون انقطاع. وخير ما يمثلها عندهم الإلياذة لهوميروس وقد نقلها إلى العربية منذ فاتحة هذا القرن سليمان البستاني، ولكثير من الأمم القديمة والحديثة قصائد قصصية تشبهها؛ فللرومان الإلياذة لفرجيل، وللهنود الرامايانا والمهابهاراتا وللفرس الشهنامة للفردوسي وللألمان أنشودة الظلام وللفرنسيين أنشودة رولان)(شوقي ضيف، بدون ت ص189)1
والشاعر في هذا الضرب القصصي لا يتحدث عن عواطفه وأهوائه؛ فهو شاعر موضوعي ينكر نفسه، ويتحدث في قصته عن بطل معتمدًا على خياله، ومستمدًّا في أثناء ذلك من تاريخ قومه، وكل ما له أنه يخلق القصة ويرتب لها الأشخاص والأشياء، ويجمع لها المعلومات، ويكون من ذلك قصيدته، وعادة ينظمها من وزن واحد لا يخرج عنه. ولم تعرف الجاهلية هذا الضرب من الشعر القصصي، وهي كذلك لم تعرف الضرب الثاني من الشعر التعليمي الذي ينظم فيه الشاعر طائفة من المعارف على نحو ما نعرف عند هزيود الشاعر اليوناني وقصيدته "الأعمال والأيام" التي يصور فيها فصول السنة والحياة الريفية، وعند هوراس الشاعر الروماني في قصيدته "فن الشعر" التي نظمها في قواعد الشعر ونقده، وكما هو معروف عن أبان بن عبد الحميد شاعر البرامكة في قصيدته التي نظم فيها أحكام الصوم والزكاة، وكذلك لم يعرف الجاهليون الشعر التمثيلي الذي يعتمد على مسرح وعلى حركة وعمل معقد وحوار طويل بين الأشخاص، تتخلله مشاهد ومناظر مختلفة
فهذه الضروب الثلاثة من الشعر لم يعرفها الجاهليون، فشعرهم منظومات قصيرة فلما تجاوزت مائة بيت، وهو شعر ذاتي يمثل صاحبه وأهواءه، على حين الضروب السابقة جميعًا موضوعية؛ فالشاعر فيها لا يتحدث عن مشاعره وأحاسيسه؛ إنما يتحدث عن أشياء خارجة عنه، سواء حين يقص أو حين يعلم أو حين يمثل؛ فهو في كل ذلك يغفل نفسه ولا يقف عندها؛ إنما يقف عند جانب قصصي تاريخي يحكيه أو علمي تهذيبي يرويه أو تمثيلي مسرحي يؤديه، متجردًا عن شخصه وما يتصل بذاته وأهوائه وعواطفه.
ولكن إذا كان الشعر الجاهلي يختلف عن ضروب الشعر الغربية القصصية والتعليمية والتمثيلية؛ فإنه يقترب من الضرب الرابع الغنائي؛ لأنه يجول مثله في مشاعر الشاعر وعواطفه، ويصوره فرِحًا أو حزينًا. وقد وجد من قديم عند اليونان؛ إذ عرفوا المدح والهجاء والغزل ووصف الطبيعة والرثاء، وكان يصحب عندهم بآلة موسيقية يعزف عليها تسمى Lyre ومن ثم سموه Lyric أي غنائي)(شوقي ضيف، بدون ت ص 18)
وإذن نحن لا نبعد حين نزعم أن الشعر الجاهلي جميعه غنائي؛ إذ يماثل الشعر الغنائي الغربي من حيث إنه ذاتي يصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس؛ سواء حين يتحمس الشاعر ويفخر أو حين يمدح ويهجو أو حين يتغزل أو يرثي أو حين يعتذر ويعاتب، أو حين يصف أي شيء مما ينبثُّ حوله في جزيرته. وليس هذا فحسب، فهو يماثل الأصول اليونانية للشعر الغنائي الغربي من حيث إنه كان يغني غناء، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون، فهم يروون أن المهلهل غنى في قصيدته:
طفلة ما ابنة المحلَّل بيضا ... ء لعوبٌ لذيذة في العناقِ
ومعنى ذلك أن الشعر الجاهلي ارتبط بالغناء عند أقدم شعرائه. ومن حين إلى حين نجد أبا الفرج الأصبهاني يشير إلى أن شاعرًا جاهليًّا تغنى ببعض شعره من مثل السُّلَيْك بن السُّلَكة2 وعلقمة بن عبدة الفحل والأعشى، وكان يوقِّع)(شوقي ضيف، بدون ت ص 18)2
تقسيم الشعر الجاهلي: ولعل أقدم من حاول تقسيم الشعر العربي جاهليا وغير جاهلي إلى موضوعات ألف فيها ديوانًا هو أبو تمام فقد نظمه في عشرة موضوعات، هي الحماسة، والمراثي، والنسب، والهجاء، والأضياف ومعهم المديح، والصفات، والسير، والنعاس، والملح، ومذمة النساء. وهي موضوعات يتداخل بعضها في بعض فالحديث عن الأضياف؛ إما أن يدخل في المديح أو في الحماس والفخر، والسير والنعاس يدخلان في الصفات، كما تدخل مذمة النساء في الهجاء، أما الملح فغير واضحة الدلالة. وجاء في باب الأدب بما يدل على أنه يقصد به المعنى التهذيبي؛ غير أنه أنشد فيه أبياتًا في وصف الخمر، وأغفل إغفالًا تامًّا باب العتاب والاعتذار)(شوقي ضيف، بدون ت ص196)3
ويقول أبو هلال العسكري: "وإنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح والهجاء والوصف والتشبيه والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسمًا سادسًا وهو الاعتذار فأحسن فيه، وهو تقسيم جيد؛ غير أنه نسي باب الحماسة، وهو أكثر موضوعات الشعر دورانًا على لسانهم)(شوقي ضيف، بدون ت ص196)3
ترتيب موضوعات الشعر الجاهلي:
توزيع ابن قدامة للشعر الجاهلي: وزَّع قدامة في كتابة نقد الشعر هذا الفن على ستة موضوعات، هي المديح والهجاء والنسيب والمراثي والوصف والتشيبه وحاول بعقله المنطقي أن يرد الشعر إلى بابين أو موضوعين هما المدح والهجاء؛ فالنسيب مديح، وكذلك المراثي، ومضى يعين المعاني التي يدور حولها المديح، وهي في رأيه الفضائل النفسية، ونجد نفس المحاولة في تضييق موضوعات الشعر واضحة في كتاب نقد النثر؛ فهو مديح وهجاء وحكمة ولهو، ويدخل في المديح المراثي والافتخار والشكر واللطف في المسألة ويدخل في الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء والتأنيب. كما يدخل في الحكمة الأمثال والزهد والمواعظ، أما اللهو فيدخل فيه الغزل والطَّرْد وصنعة الخمر والمجون)(شوقي ضيف، بدون ت ص196)3
موضوعات الشعر عند ابن رشيق: جعل ابن رشيق موضوعات الشعر في كتابه العمدة تسعة، وهي النسيب، والمديح، والافتخار، والرثاء، والاقتضاء والاستنجاز، والعتاب، والوعيد والإنذار، والهجاء، والاعتذار، ومن السهل أن يرد موضوع الاقتضاء والاستنجاز إلى المديح، والوعيد والإنذار إلى الهجاء، وأن يضم العتاب إلى الاعتذار، وأيضًا فإنه نسي موضوع الوصف )(شوقي ضيف، بدون ت ص196)3
تطور الشعر الجاهلي: تطورت من أناشيد دينية كانوا يتجهون بها إلى آلهتهم، يستعينون بها على حياتهم؛ فتارة يطلبون منها القضاء على خصومهم، وتارة يطلبون منها نصرتهم ونصرة أبطالهم، ومن ثم نشأ هجاء أعدائهم ومدح فرسانهم وسادتهم، كما نشأ شعر الرثاء وهو في أصله تعويذات للميت حتي يطمئن في قبره، وفي أثناء ذلك كانوا يمجدون قوى الطبيعة المقدسة التي تكمن فيها آلهتهم والتي تبعث فيهم الخوف
تطور موضوعات الشعر الجاهلي: موضوعات الشعر الجاهلي تطورت من أدعية وتعويذات وابتهالات للآلة إلى موضوعات مستقلة، ويظهر أنه كانت لا تزال في نفوسهم بقية من هذه الصلة القديمة بين الشعر ودعاء الآلهة؛ يدل على ذلك أكبر الدلالة ما جاء في القرآن الكريم من كثرة الربط بين الشعر والسحر وتعاويذ الكهنة؛ فقد كانوا يرمون الرسول في بدء دعوته تارة بأنه شاعر وتارة ثانية بأنه كاهن وتارة ثالثة بأنه ساحر {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ورد عليهم القرآن دعواهم الكاذبة مرارًا في مثل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ومثل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ويقول جل وعز في سورة الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وبعد ذلك: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
وواضح أن القرآن الكريم يحكي على ألسنتهم ما كانوا يؤمنون به من العلاقة بين الشعر والكهانة والسحر، وكانوا يزعمون أن الشياطين تنزل على الشعراء كما تنزل على الكهان، وزعموا أن الأعشى كان له شيطان ينفث في وعيه الشعر يسمى مسحلًا وأن شاعرًا كان يهاجيه يسمى عمرو بن قطن، كانت له تابعة من الجن اسمها جُهُنَّام، وظل بعض الشعراء في الإسلام يزعم أن له تابعًا من الجن، ويؤكد الأسطورة أبو النجم؛ فيزعم أن لكل شاعر شيطانًا إما أنثى وإما ذكرًا، يقول:
إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر وفي أخبارهم أن الشاعر كان إذا أراد الهجاء لبس حلة خاصة، ولعلها كحلل الكهان، وحلق رأسه وترك له ذؤابتين ودهن أحد شقي رأسه وانتعل نعلًا واحدة، ونحن نعرف أن حلق الرأس كان من سننهم في الحج، وكأن شاعر الهجاء كان يتخذ نفس الشعائر التي يصنعها في حجه وأثناء دعائه لربه أو لأربابه، حتى تصيب لعناتُ هجائه خصومه بكل ما يمكن من ألوان الأذى وضروب النحس المستمر.
الهجاء في الجاهلية:
الهجاء في الجاهلية كان لا يزال يُقْرَن بما كانت تقرن به لعناتهم الدينية الأولى من شعائر، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يتطيرون منه ويتشاءمون ويحاولون التخلص من أذاه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ونحن نعرف أن الغزو والنهب كان دائرًا بينهم؛ غير أن المغيرين إن أغاروا ونهبوا إبلًا بينها إبل لشاعر، وتعرض لهم يتوعدهم بالهجاء اضطروا اضطرارًا إلى ردها أو على الأقل يردون ماله هو وإبله. يروي الرواة أن الحارث بن ورقاء الأسدي أغار على عشيرة زهير، واستاق فيما استاق إبلًا له وغلامًا، فنظم زهير أبياتًا يتوعده بالهجاء المقذع، يقول فيها:
ليأتينك مني منطق قذع ... باق كما دنس القبطية الودك
ففزع الحارث ورد عليه ما سلبه منه. وواضح أن زهيرًا يستخدم في وصف هجائه المنتظر كلمة الدنس؛ فهو سيلحق به عن طريق هجائه الرجس والإثم. ويروى أن رجلًا يسمى زرعة بن ثوب من بني عبد الله بن غطفان خدع غلامًا من عشيرة مزرد بن ضرار الشاعر يسمى خالدًا كان يرعى إبلًا لأبويه فاشتراها منه بغنم واستاقها، ورجع الغلام إلى أبويه فأخبرهما بما فعل؛ فقال أبوه: هلكت والله وأهلكتنا، وركب إلى مزرّد وقص عليه القصة؛ فقال مزرّد: أنا ضامن لك أن تُرَدّ علينا بأعيانها، وأنشأ قصيدة طويلة يتوعد فيها زرعة، ويطب إليه أن يرد الإبل، ونراه يعوذها بهجائه؛ فهي إن لم ترد ستكون نارًا تأتي على الأخضر واليابس عند زرعة وقومه وسيصيبها الجرب والأمراض المستعصية، يقول:
فيا آل ثوبٍ إنما ذَوْدِ خالد ... كنار اللظى لا خير في ذود خالد
بهن دُروءٌ من نحاز وغُدَّةٌ ... لها ذربات كالثُّدِيِّ النواهِد
جَرِبْنَ فما يهنأنَ إلا بغَلْقةٍ ... عطين وأبوال النساء القواعدِ
وقد تحولوا يصبون أهاجيهم ولعناتهم على خصومهم هم وعشائرهم؛ فلم يسلم منها أحد من أشرافهم، يقول الجاحظ: "وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته؛ فهجاه، ومن طلب عيبًا وجده فإن لم يجد عيبًا وجد بعض ما إذا ذكره وجد من يغلط فيه ويحمله عنه؛ ولذلك هجي حصن بن حذيفة، وهجى زُرَارة بن عُدَس وهجي عبد الله بن جُدْعان وهجي حاجب بن زُرارة؛ وإنما ذكرت لك هؤلاء لأنهم من سؤددهم وطاعة القبيلة لهم لم يذهبوا فيمن تحت أيديهم من قومهم ومن حلفائهم وجيرانهم مذهب كليب بن ربيعة ولا مذهب حذيفة بن بدر ولا مذهب عيينة بن حصن ولا مذهب لقيط بن زرارة. فإن هؤلاء وإن كانوا سادة قد كانوا يظلمون، وبمقدار ما
الذود: الجماعة القليلة من الإبل.
دروء: جمع درء وهو النتوء. والنحاز: داء يصيب الإبل بالسعال. الغدة: طاعون الإبل. الذربات: جمع ذربة وهي رأس الخراج، النواهد: النواهض.
يهنأن: يطلين. الغلقة: شجر يدبغ به الجرب. عطين يريد أنه لا يدبغ بها إلا بعد العطن، القواعد: العجائز)(شوقي ضيف، بدون ت ص 198)5
معاني الشاعر الجاهلي: أنها معان واضحة بسيطة ليس فيها تكلف ولا بعد ولا إغراق في الخيال؛ سواء حين يتحدث عن أحاسيسه أو حين يصور ما حوله في الطبيعة؛ فهو لا يعرف الغلو ولا المغالاة، ولا المبالغة التي قد تخرج به عن الحدود المعقولة، ومرجع ذلك في رأينا إلى أنه لم يكن يفرض إرادته الفنية على الأحاسيس والأشياء؛ بل كان يحاول نقلها إلى لوحاته نقلًا أمينًا، يُبقي فيه على صورها الحقيقية دون أن يدخل عليها تعديلًا من شأنه أن يمس جواهرها. ومن أجل ذلك كان شعره وثيقة دقيقة لمن يريد أن يعرف حياته وبيئته برملها ووديانها ومنعرجاتها ومراعيها وسباعها وحيوانها وزواحفها وطيرها. وعرف القدماء ذلك فكلما تحدثوا عن عادات الجاهلين وألوان حياتهم استشهدوا بأشعارهم. وحينما كتب الجاحظ كتاب الحيوان وجد في هذه الأشعار مادة لا تكاد تنفد في وصفه ووصف طباعه وكل ما يتصل به من سمات ومشخصات) (شوقي ضيف، بدون ت ص219)6
ومعنى ذلك أن الشاعر الجاهلي لم يغتصب الحيون لنفسه، فيسكب عليه من خياله ما يحيله عن حقيقته، ونستطيع أن نلاحظ ذلك في وصفه للمعارك الدائرة بينهم؛ إذ نراه يعترف بهزيمة قومه إن هُزموا1، وبفراره إن ولَّى الأدبار ونكص على أعقابه، وفي أثناء ذلك لا يبخل على أعدائه بوصف شجاعتهم وبلائهم في الحروب، ولهم في ذلك قصائد تلقب بالمنصفات، مر الحديث عنها وجاءهم ذلك من أنهم لا يبذلون في الحقائق ولا يعدلون في علاقتها ومعانيها، بل يخضعون لها ويضبطون خيالاتهم وانفعالاتهم إزاءها. ونحن بهذا الوصف إنما نقصد إلى جمهور أشعارهم؛ فقد تندّ بعض أبيات تحمل ضربًا من المبالغة؛ ولكن ذلك يأتي شاذًّا ونادرًا. ونظن ظنًّا أن شيوع هذه الروح فيهم هو الذي طبع أفكارهم بنزعة تقريرية؛ إذ تعودوا أن يسندوا أقوالهم بذكر الحقيقة عارية دون خداع يموِّهها أو طلاء يزيفها. ومن هنا كانت معانيهم محددة تحديدًا يبرزها في أتم ما يكون من ضياء، ومن ثم تبدو في كثير من جوانبها كأنها شيء راسخ ثابت. ويتضح ذلك في حكمهم التي تصور أحكامًا سليمة وخبرات صائبة كما يتضح في جوانب كثيرة من تأبينهم ومديحهم وغزلهم وحماستهم؛ إذ يقدم الشاعر المعاني منكشفة كأنها أشياء صلبة محسوسة؛ فهي حقائق تُسْرَدُ سردًا وقلما شابها الخيال، إلا ليزيدها إمعانًا في الوضوح والجلاء)(شوقي ضيف، بدون ت ص219)6
واقرأ في أشعاره فستجد معانية حسية، واضحة، لا يقف بينك وبينها أي غموض أو أشراك ذهنية تضل في ممراتها وشُعبها الفكرية؛ إذ يعرض عليك هذه المعاني دائمًا مجسمة في أشخاص أو في أشياء. وخذ فضائلهم التي طالما أشادوا بها في حماستهم ومراثيهم ومدائحهم، فستجدها دائمًا تساق في مادة الإنسان الحسية، فهم لا يتحولون بها إلى معنى ذهني عام يصور إحساسهم بالبشرية جميعها في هذه الفضيلة أو تلك، فالكرم مثل البخل والوفاء وغيرهما من الفضائل والرذائل لا بد أن يقترن بشخص معين يتحدثون عنه.
وهذه النزعة في الشاعر الجاهلي جعلته لا يحلل خواطره ولا عواطفه إزاء ما يتحدث فيه من حب أو غير حب؛ فهو لا يعرف التغلغل في خفايا النفس الإنسانية ولا في أعماق الأشياء الحسية. وتتضح هذه النزعة في خياله وتشبيهاته فهو ينتزعها من عالمه المادي، ولنرجع مثلا إلى تشبيهاته للمرأة فهو يشبهها بالشمس والبدر والبيضة والدرة! والدمية والرمح والسيف والغمام والبقرة والظبية والقطاة، ويشبه
أسنانها بالأُقحوان وبنانها بالعَنم وثغرها بالبللور وخدها وترائبها بالمرآة وشعرها بالحبال والحيات والعناقيد ووجهها بالدينار وثديها بأنف الظبي ورائحتها بالمسك وبالأترجة وريقها بالخمر وبالعسل وعينها بعين البقرة والغزال وعجزها بالكثيب وساقها بالبُردية أما الرجل فيشبهه بالبحر وبالغيث وبالأسد وبالذئب وبالعقاب وبالبعير وبالبدر والقمر وبالرمح والسيف وبالبقرة والتيس والضبع وبالأفعوان والحية وبالكلب والحمار وبالصخرة وبالصقر وبالفحل)(شوقي ضيف، بدون ت ص220)7
الخصائص اللفظية:
من أهم ما يلاحظ على الشعر الجاهلي أنه كامل الصياغة؛ فالتراكيب تامة ولها دائمًا رصيد من المدلولات تعبر عنه، وهي في الأكثر مدلولات حسية، والعبارة تستوفي أداء مدلولها، فلا قصور فيها ولا عجز. وهذا الجانب في الشعر الجاهلي يصور رقيًّا لغويًّا، وهو رقي لم يحدث عفوًا فقد سبقته تجارب طويلة في غضون العصور الماضية قبل هذا العصر، وما زالت هذه التجارب تنمو وتتكامل حتى أخذت الصياغة الشعرية عندهم هذه الصورة الجاهلية التامة؛ فالألفاظ توضع في مكانها والعبارات تؤدي معانيها بدون اضطراب)(شوقي ضيف، بدون ت ص226)8
وقد يكون من الأسباب التي أعانتهم على ذلك أن الشعراء كما أسلفنا كانوا يرددون معاني بعينها؛ حتى لتتحول قصائدهم إلى ما يشبه طريقًا مرسومًا، يسيرون فيه كما تسير قوافلهم سيرًا رتيبًا، وكانوا هم أنفسهم يشعرون بذلك شعورًا دقيقًا، مما جعل زهيرًا يقول بيته المأثور -إن صح أنه له :
مَا أَرَانَا نَقُوْلُ إلَّا معارًا ... أو مُعادًا من لفظنا مكرورا
فهو يشعر أنهم يبدءون ويعيدون في ألفاظ ومعان واحدة، ويجرون على طراز واحد طراز تداولته مئات الألسنة بالصقل والتهذيب؛ فكل شاعر ينقح فيه ويهذب ويصفي جهده حتى يثبت براعته. ولم تكن هناك براعة في الموضوعات وما يتصل بها من معان إلا ما يأتي نادرًا؛ فاتجهوا إلى قوالب التعبير، وبذلك أصبح المدار على القالب لا على المدلول والمضمون، وبالغوا في ذلك، حتى كان منهم من يخرج قصيدته في عام كامل، يردد نظره في صيغها وعباراتها حتى تصبح تامة مستوية في بنائها، وربما دل ذلك على أن مطولاتهم لم تكن تصنع دفعة واحدة؛ بل كانت تصنع على دفعات، ولعل هذا هو سبب تكرار التصريع في طائفة منها، ولعله أيضًا السبب)(شوقي ضيف، بدون ت ص226)8
وأغلب الظن أنه كان إذا صنع قطعة عرضها على بعض شعراء قبيلته وبعض من يلزمه من رواته؛ فكانوا يروونها بصورة، وما يلبث أن يعيد فيها النظر فيبدِّل في بعض أبياتِها، يبدل كلمة بكلمة، وقد يحذف بيتًا. ومعنى ذلك أن صناعة المطولات أعدت منذ العصر الجاهلي لاختلاف الرواية فيها بسبب ما كان يدخله صاحبها عليها من تعديل وتنقيح. وفي أسماء شعرائهم وألقابهم ما يدل على البراعة في هذا التنقيح وما يطوى فيه من تجويد؛ فقد لقبوا امرأ القيس بن ربيعة التغلبي بالمهلهل لأنه أول من هلهل ألفاظ الشعر وأرقها، ولقبوا عمرو بن سعد شاعر قيس بن ثعلبة بالمرقش الأكبر لتحسينه شعره وتنميقه ولقبوا ابن أخيه ربيعة بن سفيان بالمرقش الأصغر، كما لقبوا طفيلًا بالمحبر لتزيينه شعره3، ولقبوا علقمة بالفحل لجودة أشعاره، ولقبوا غير شاعر بالنابغة في شعره، ومن ألقابهم التي تدل على احتفالهم بتنقيح الشعر المثقِّب والمتنخّل. وقد استطاعوا حقًّا أن يبهروا العصور التالية بما وفروه لأشعارهم من صقل وتجويد في اللفظ والصيغة.
ونحن نعرف أن الصيغة في الشعر صيغة موسيقية، وقد أسلفنا كيف أحكموا هذه الصيغة؛ فقد كان الشاعر يتقيد في قصيدته بالنغمة الأولى، وما زالوا يصفون في نغم القصيدة، حتى استوى استواء كاملًا، سواء من حيث اتحاد النغم أو اتحاد القوافي وحركاتها، وبرعوا في تجزئة الأوزان حتى يودعوا شعرهم كل ما يمكن من عذوبة وحلاوة موسيقية على نحو ما نلاحظ في غزلية المتنخل اليَشْكَري السابقة. وحقًّا هو في جمهوره جزل؛ ولكنها جزالة تستوفي حظوظًا من الجمال الفني؛ ولذلك ظلت ماثلة في شعرنا العربي عند شعرائه الممتازين إلى عصورنا الحديثة. واقرأ في حوليات زهير وقصائده المطولة وفي غيره من المبرزين أمثال النابغة وعلقمة الفحل والمرقشين والأعشى وطرفة والمتلمس وعنترة ودريد بن الصمة وسلامة بن جندل والحادرة والمثقب العبدي فستجدك أمام قصائد باهرة، قد أُحكمت صياغتها وضبطت أدق ضبط، وسنعرض قطعًا منها فِي حديثنا عن الشُّعراء، لنصور براعتهم)(شوقي ضيف، بدون ت ص226)9
في هذا الجانب وكيف حققوا لموسيقاهم مهما جَزُلَتْ وتضخمت كل ما يمكن من بهاء ورونق، وقد استعانوا منذ أقدم أشعارهم؛ لغرض التأثير في سامعيهم، بطائفة من المحسنات اللفظية والمعنوية، وأكثرها دورانًا في أشعارهم التشبيه؛ فلم يصفوا شيئًا إلا قرنوه بما يماثله ويشبهه من واقعهم الحسي، فالفرس مثلًا يشبه من الحيوان بمثل الظبي والأسد والفحل والوعل والذئب والثعلب ويشبه من الطير بالعقاب والصقر والقطاة والباز والحمام، ويشبه بالسيف والقناة والرمح والسهم وبالأفعوان والحبل والهراوة والعيب والجذع وتشبه ضلوعه بالحصير وصدره بمداك العروس وغرته بخمار المرأة والشيب المخضوب ومنخره بالكير وعرفه بالقصبة الرطبة وحافره بقعب الوليد وعنقه بالرمح والصعدة وعينه بالنقرة والقارورة ولونه بسبائك الفضة وارتفاعه بالخباء. وكل هذه الأوصاف والتشبيهات مبثوثة في المفضليات والأصمعيات، ويعرض علينا امرؤ القيس في وصفه لفرسه بمعلقته طائفة طريفة منها. وعلى نحو ما لاحظنا آنفًا كانوا يحاولون الإطراف في التشبيه، حتى يخلبوا ألباب سامعيهم، وقد يقعون على صورة نادرة كتصوير المتنخل اليشكري لغدائر بعض النساء بأنها كالحيات، يقول:
يَعْكُفْنَ مِثْلَ أَساودِ الـ ... ـتَّنُّوم لم تُعْكَفْ لزُورِ
وكانوا يشبهون المرأة بالبدر والشمس، وألم سويد بن أبي كاهل بهذا التشبيه، وحاول أن يخرجه إخراجًا جديدًا فقال:
حرّة تَجْلُو شَتِيتًا واضحًا ... كشعاع الشمس في الغَيْم سَطَعْ
فجعل أسنان صاحبته المفلجة البيضاء كشعاع الشمس يبزغ من خلل الغيم.
وكانوا يشبهون الرمح بالجمر ولهبه، وألمّ عَميرة بن جُعْل بهذا التشبيه فأضاف إليه إضافة جديدة؛ إذ قال:
جمعتُ رُدَيْنِيًّا كأَنَّ سِنَانَهُ ... سَنَا لهب لم يَتَّصِلْ بدُخانِ
معاني المفردات:
يعكفن: يمشطن شعرهن، والأساود: الأفاعي، والتنوم: شجر، ولم تعكف لزور كناية عن عفتهن.
الشتيت: المتفرق يريد أسنانها المفلجة، واضحًا: أبيض.
الرديني: الرمح.
وكان الجاحظ يعجب إعجابًا شديدًا بوصف عنترة لبعض الرياض وتصويره للذباب وحركة جناحيه حين يسقط، إذ يقول:
جادَت عليها كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ حديقةٍ كالدِّرْهَمِ
فترى الذبابَ بِها يُغَنِّي وحده ... هَزِجًا كفعل الشارب المترنم
غَرِدًا يَحُكُّ ذِرَاعَه بذراعهِ ... فعل المُكِبِّ على الزِّنادِ الأَجْذم
فقد شبه قرارات الروضة وحفرها بالدراهم، وشبه صوت الذباب بصوت الشارب المترنم، وما زال يطب صورة نادرة حتى وقع على الصورة الأخيرة؛ إذ شبه الذباب في حركة أجنحته الدائبة حين يسقط برجل مقطوع اليدين يقدح النار من عودين أو زَندين فلا تقتدح، فيستمر في قدحه لا يفتر.
وبجانب التشبيهات الكثيرة التي تلقانا في شعرهم نجد الاستعارة بفرعيها من التصريحية والمكنية، وهي مبثوثة في أقدام أشعارهم. نجدها عند امرئ القيس ومعاصريه كما نجدها عند من جاءوا بعده، ومن أمثلتها الطريفة عند امرئ القيس تصويره طول الليل وفتوره وبطئه ببعير جاثم لا يريم؛ إذ يقول في معلقته مخاطبًا الليل:
فقلتُ له لما تمطَّى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
وأنشد ابن المعتز في كتابه "البديع" كثيرًا من استعاراتهم مثل قول أوس بن حَجر:
وإني امرؤ أعددت للحرب بعدما ... رأيتُ لها نابًا من الشر أَعْصَلا
وقول علقمة بن عبدة:
بل كلُّ قوم وإن عَزُّوا وإن كرموا ... عَريفُهم بأثافي الشرِّ مَرْجُومُ
معاني المفردات:
العين الثرة هنا: السحابة غزيرة المطر، وشبه الحديقة بالدرهم في استدارته.
3 الأجذم: مقطوع اليدين.
الكلكل: الصدر.
الأعصل: المعوج في صلابة.
العريف: الرئيس، والأثافي: الحجارة التي تنصب عليها القدر، استعارها لنوائب الدهر.
(شوقي ضيف، بدون ت ص229)10
خصائص الشعر الجاهلي
1- نشأة الشعر الجاهلي وتفاوته في القبائل: لا ريب في أن المراحل التي قطعها الشعر العربي حتى استوى في صورته الجاهلية غامضة؛ فليس بين أيدينا أشعار تصور أطواره الأولى؛ إنما بين أيدينا هذه الصورة التامة لقصائده بتقاليدها الفنية المعقدة في الوزن والقافية وفي المعاني والموضوعات وفي الأساليب والصياغات المحكمة، وهي تقاليد تلقي ستارًا صفيقًا بيننا وبين طفولة هذا الشعر ونشأته الأولى؛ فلا نكاد نعرف من ذلك شيئًا. وحاول ابن سلام أن يرفع جانبًا من هذا الستار فعقد فصلًا تحدث فيه عن أوائل الشعراء الجاهليين، وتأثر به ابن قتيبة في مقدمة كتابه الشعر والشعراء، فعرض هو الآخر لهؤلاء الأوائل، وهم عندهما جميعًا أوائل الحقبة الجاهلية المكتملة الخلق والبناء في صياغة القصيدة العربية، وكأن الأوائل الذين أنشأوا هذه القصيدة في الزمن الأقدم ونهجوا لها سننها طواهم الزمان. وفي ديوان امرئ القيس
عُوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام
ولا نعرف من أمر ابن خذام هذا شيئًا سوى تلك الإشارة التي قد تدل على أنه أول من بكى الديار ووقف في الأطلال.
وتتراءى لنا مطولات الشعر الجاهلي في نظام معين من المعاني والموضوعات؛ إذ نرى أصحابها يفتتحونها غالبًا بوصف الأطلال وبكاء آثار الديار، ثم يصفون رحلاتهم في الصحراء وما يركبونه من إبل وخيل، وكثيرًا ما يشبهون الناقة في سرعتها ببعض الحيوانات الوحشية، ويمضون في تصويرها، ثم يخرجون إلى الغرض من قصيدتهم مديحًا أو هجاء وفخرًا أو عتابًا واعتذارًا أو رثاء. وللقصيدة مهما طالت تقليد ثابت في أوزانها وقوافيها؛ فهي تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات وتتحد جميع الأبيات في وزنها وقافيتها وما تنتهي به من رَوِيّ.
وتلقانا هذه الصورة التامة الناضجة للقصيدة. الجاهلية منذ أقدم نصوصها، وحقًّا توجد قصائد يضطرب فيها العروض ولكنها قليلة، من ذلك قصيدة عبيد بن الأبرص الأسدي:
أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب
فهي من مخلع البسيط، وقلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعليه أو زيادة على نحو ما نرى في الشطر الأول من هذا المطلع، وعلى غرارها قصيدة تنسب لامرئ القيس مطلعها2:
عيناك دمعهما سجال ... كأن شأنيهما أو شال
ومثلهما في هذا الاضطراب قصيدة المرقش الأكبر3:
هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان رسم ناطقًا كلم
فهي من وزن السريع، وخرجت شطور بعض أبياتها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت:
ما ذنبنا في أن غزا ملك ... من آل جفنة حازم مرغم
فإنه من وزن الكامل. وعلى هذه الشاكلة قصيدة عدي بن زيد العبادي4:
تعرف أمس من لميس الطلل ... مثل الكتاب الدارس الأحول
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص185)
فهي من وزن السريع وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت:
أنعم صباحًا علقم بن عدي ... أثويت اليوم أم ترحل
فإنه من وزن المديد. ويماثل هذه القصيدة في اختلال الوزن قصيدته1:
قد حان أن تصحو أو تقصر ... وقد أتى لما عهدت عصر
ومن هذا الباب نونية سُلميّ بن ربيعة التي أنشدها أبو تمام في الحماسة2:
إن شواء ونشوة ... وخبب البازل الأمون
فقد لاحظ التبريزي والمرزوقي أنها خارجة عن العروض التي وضعها الخليل واضطراب هذه القصائد في أوزانها مما يدل على صحتها وأن أيدي الرواة لم تعبث بها. ومعروف أن الزحافات تكثر في الشعر الجاهلي؛ بل في الشعر العربي بعامة، ومما كان يشيع بينهم الإقواء، وهو اختلاف حركة الروي في القصيدة كقول امرئ القيس في معلقته يصف جبل أبان:
كأَن أبانًا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل
فقد ضم اللام في نهاية البيت، وهي مكسورة في المعلقة جميعها. وفي رأينا أن احتفاظ الشعر الجاهلي بهذه العيوب العروضية مما يؤكد صحته في الجملة وأن الرواة لم يصلحوه إصلاحًا واسعًا، كما يزعم بعض المحدثين.
ومهما يكن فليس بين أيدينا أشعار تصور مرحلة غير ناضجة من نظام الوزن والقافية في الجاهلية؛ فإن نفس هؤلاء الشعراء الذين رويت عنهم تلك القصائد المضطربة في وزنها روي عنهم قصائد كثيرة مستقيمة في وزنها وقوافيها؛ مما يدل على أن ذلك كان يأتي شذوذًا وفي الندرة. وزعم بعض القدماء والمحدثين أن الرجز أقدم أوزان الشعر العربي، وأنه تولد من السجع، مرتبطًا بالحداء ووقع أخفاف الإبل)
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص185)
الرجز كان أكثر أوزان الشعر شيوعًا في الجاهلية؛ إذ كانوا يرتجلونه في كل حركة من حركاتهم وكل عمل من أعمالهم في السلم والحرب، ولكن شيوعه لا يعني قدمه ولا سبقه للأوزان الأخرى؛ إنما يعني أنه كان وزنًا شعبيًّا لا أقل ولا أكثر. وكان الشعراء الممتازون في الجاهلية لا ينظمون منه؛ إنما ينظمون في الطويل والبسيط والكامل والوافر والسريع والمديد والمنسرح والخفيف والوافر والمتقارب والهزج، وإن كان نظمهم في الثلاثة الأولى أكثر وأوسع.
والحق أنه ليس بين أيدينا شيء من وزن أو غير وزن يدل على طفولة الشعر الجاهلي وحقبه الأولى، وكيف تم له تطوره حتى انتهى إلى هذه الصورة النموذجية التي تلقانا منذ أوائل العصر الجاهلي أو بعبارة أخرى منذ أوائل القرن السادس الميلادي. ولم تكن تختص بهذا الشعر في الجاهلية قبيلة دون غيرها من القبائل الشمالية عدنانية أو قحطانية؛ وآية ذلك أننا نجد الشعراء موزعين عليها؛ فمنهم من ينسب إلى القبائل القحطانية مثل امرئ القيس الكندي وعدي بن رعلاء الغساني والحارث بن وعلة الجرمي القضاعي3 ومالك بن حريم الهمداني4 وعبد يغوث الحارثي النجراني5 والشنفري الأزدي وعمرو بن معد يكرب المذحجي
. أما من ينسبون إلى مضر وربيعة فأكثر من أن نسميهم، وعلى شاكلتهم من ينسبون إلى الأوس والخزرج القحطانيين في المدينة. ونحن لا نستطيع أن نحصي من جرى لسانهم بالشعر حينئذ؛ فقد كانوا كثيرين، وكانت تشركهم فيه النساء مثل الخنساء، وكان ينظمه سادتهم وصعاليكهم. ويخيل إلى الإنسان أن الشعر لم يكن يستعصي على أحد منهم، وعدَّ ابن سلام في طبقاته أربعين من فحولهم وفحول المخضرمين وقد جعلهم في عشر طبقات وجعل في كل طبقة أربعة، وأضاف إليهم
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص186)
أربعة من أصحاب المراثي كما أضاف تسعة في مكة وخمسة في المدينة وخمسة في الطائف وثلاثة في البحرين، وعد لليهود ثمانية. ومن يرجع إلى هؤلاء الشعراء يجد بينهم البدوي والحضري كما يجد بين البدو اليمني والربعي والمضري.
وترجم أبو الفرج في الأغاني لكثيرين منهم، وتراجمه هو الآخر إنما تقف عند مقدميهم الذين دوت شهرتهم، ووراءهم كثيرون لم يترجم لهم، يعدون بالمئات على نحو ما يصور لنا ذلك المؤتلف والمختلف للآمدي ومعجم الشعراء للمرزباني. ومن غير شك سقط من ذاكرة الرواة أسماء كثيرين لم يسجلوهم، ويشهد لذلك قول ابن قتيبة: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال، ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه ولا قصيدة إلا رواها"
. ومن يقرأ في كتاب المؤتلف والمختلف للآمدي يجده يقول كثيرًا: إن شاعرًا بعينه لم يجد له شعرًا ولا ذكرًا في ديوان قبيلته2؛ فدواوين القبائل لم تستقص هؤلاء الشعراء استقصاء دقيقًا.
والذي لا ريب فيه أن حظ القبائل المضرية من هذا الشعر الجاهلي كان أوفر من حظ القبائل الرَّبعية والقحطانية. واقرأ في الأغاني والمفضليات والأصمعيات فستجد لمضر الكثرة الكثيرة من الشعر والشعراء، وهي كثرة يؤيدها تاريخها في الإسلام؛ فقد تفوقت القبائل التي نزلت في العراق على قبائل الشام والأخرى التي نزلت في مصر وبلاد العرب والأندلس؛ لأنها كانت في جمهورها مضرية بينما كانت تلك في معظمها قحطانية.
وكان حظ القبائل المضرية من الشعر متفاوتًا، وكذلك كانت القبائل الربعية والقحطانية؛ فقبائل كل مجموعة ليست سواء فيه، ومثلها المدن فمكة كانت قليلة الشعر3 وأقل منها نصيبًا فيه اليمامة4. ووقف الجاحظ في حيوانه عند جانب من حظوظ القبائل وتفاوتها في ذلك فقال: "وبنو حنيفة "سكان اليمامة" مع كثرة
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص187)
عددهم وشدة بأسهم وكثرة وقائعهم وحسَد العرب لهم على دارهم، وتخومهم وسط أعدائهم؛ حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكرًا كلها، ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعرًا منهم. وفي إخوتهم "عِجْل" قصيد ورجز وشعراء ورجازون. وليس ذلك لمكان الخصب وأنهم أهل مدر وأكّالو تمر؛ لأن الأوس والخزرج كذلك، وهم في الشعر كما قد علمت. وكذلك عبد القَيْس النازلة قرى البحرين؛ فقد نعرف أن طعامهم أطيب من طعام أهل اليمامة. وثقيف "سكان الطائف" أهل دار ناهيك بها خصبًا وطيبًا، وهم وإن كان شعرهم أقل؛ فإن ذلك القليل يدل على طبع في الشعر عجيب، وليس ذلك من قبل رداءة الغذاء، ولا من قلة الخصب الشاغل والغنى عن الناس؛ وإنما ذلك على قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز. وبنو الحارث ابن كعب "سكان نجران" قبيل شريف يجرون مجاري ملوك اليمن ومجاري سادات الأعراب أهل نجد، ولم يكن لهم في الجاهلية كبير حظ في الشعر، ولهم في الإسلام شعراء مفلقون، وقد يحظى بالشعر ناس ويخرج آخرون، وإن كانوا مثلهم أو فوقهم، وقد كان في ولد زرارة "جد بطن من تميم لصلبه شعر كثير كشعر لقيط وحاجب وغيرهما من ولده. ولم يكن لحذيفة ولا حصن ولا عيينة بن حصن ولا لحمل بن بدر شعر مذكور"
ومن المحقق أنه فقد كثير من الشعر الجاهلي؛ إذ عدت عليه عوادي الرواية وتلك الرحلة الطويلة التي قطعها من الجاهلية إلى عصور التدوين، ويروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير2". ونحن لا نبالغ مبالغة أبي عمرو؛ فقد بقي منه كثير ألفت فيه مجلدات ضخام؛ إذ حافظت القبائل بكل ما استطاعت على قصائده الطوال ومقطعاته القصار وكثير من أبياته المفردة، وما زالت تحافظ عليه؛ حتى أسلمته إلى أيدي رواة أمناء سلجوه ودونوه.
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص188)
الشعر الجاهلي شعر غنائي
من المعروف أنه يوجد عند الغربيين منذ اليونان أنواع مختلفة من الشعر، يردها نقادهم إلى أربعة أضرب: شعر قصصي وتعليمي وغنائي وتمثيلي، ويمتاز الضرب الأول بأن قصائده طويلة؛ فالقصيدة منه تمتد إلى آلاف الأبيات، وتتوالى فيه حلقات من الأحداث تنعقد حول بطل كبير، وقد يوجد بجانبه أبطال، ولكن أدوارهم ثانوية. وهي في حقيقتها قصة؛ إلا أنها كتبت شعرًا، فالتسلسل القصصي فيها دقيق والانتقال بين أجزائها منطقي محكم، وهي قصة تفسح للخيال مجالًا واسعًا، ولذلك كانت تكثر فيها الأساطير والأمور الخارقة، وكانت الآلهة تظهر فيها عند اليونان بدون انقطاع. وخير ما يمثلها عندهم الإلياذة لهوميروس وقد نقلها إلى العربية منذ فاتحة هذا القرن سليمان البستاني، ولكثير من الأمم القديمة والحديثة قصائد قصصية تشبهها؛ فللرومان الإليادة لفرجيل، وللهنود الرامايانا والمهابهاراتا وللفرس الشهنامة للفردوسي وللألمان أنشودة الظلام وللفرنسيين أنشودة رولان.
والشاعر في هذا الضرب القصصي لا يتحدث عن عواطفه وأهوائه؛ فهو شاعر موضوعي ينكر نفسه، ويتحدث في قصته عن بطل معتمدًا على خياله، ومستمدًّا في أثناء ذلك من تاريخ قومه، وكل ما له أنه يخلق القصة ويرتب لها الأشخاص والأشياء، ويجمع لها المعلومات، ويكون من ذلك قصيدته، وعادة ينظمها من وزن واحد لا يخرج عنه. ولم تعرف الجاهلية هذا الضرب من الشعر القصصي، وهي كذلك لم تعرف الضرب الثاني من الشعر التعليمي الذي ينظم فيه الشاعر طائفة من المعارف على نحو ما نعرف عند هزيود الشاعر اليوناني وقصيدته "الأعمال والأيام" التي يصور فيها فصول السنة والحياة الريفية، وعند هوراس الشاعر الروماني في قصيدته "فن الشعر" التي نظمها في قواعد الشعر ونقده، وكما هو معروف عن أبان بن عبد الحميد شاعر البرامكة في قصيدته التي نظم فيها أحكام الصوم والزكاة. وكذلك لم يعرف الجاهليون الشعر التمثيلي الذي يعتمد على مسرح وعلى حركة وعمل معقد وحوار طويل بين الأشخاص، تتخلله مشاهد ومناظر مختلفة.
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص189)
فهذه الضروب الثلاثة من الشعر لم يعرفها الجاهليون، فشعرهم منظومات قصيرة فلما تجاوزت مائة بيت، وهو شعر ذاتي يمثل صاحبه وأهواءه، على حين الضروب السابقة جميعًا موضوعية؛ فالشاعر فيها لا يتحدث عن مشاعره وأحاسيسه؛ إنما يتحدث عن أشياء خارجة عنه، سواء حين يقص أو حين يعلم أو حين يمثل؛ فهو في كل ذلك يغفل نفسه ولا يقف عندها؛ إنما يقف عند جانب قصصي تاريخي يحكيه أو علمي تهذيبي يرويه أو تمثيلي مسرحي يؤديه، متجردًا عن شخصه وما يتصل بذاته وأهوائه وعواطفه.
ولكن إذا كان الشعر الجاهلي يختلف عن ضروب الشعر الغربية القصصية والتعليمية والتمثيلية؛ فإنه يقترب من الضرب الرابع الغنائي؛ لأنه يجول مثله في مشاعر الشاعر وعواطفه، ويصوره فرِحًا أو حزينًا. وقد وجد من قديم عند اليونان؛ إذ عرفوا المدح والهجاء والغزل ووصف الطبيعة والرثاء، وكان يصحب عندهم بآلة موسيقية يعزف عليها تسمى Lyre ومن ثم سموه Lyric أي غنائي.
وإذن نحن لا نبعد حين نزعم أن الشعر الجاهي جميعه غنائي؛ إذ يماثل الشعر الغنائي الغربي من حيث إنه ذاتي يصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس؛ سواء حين يتحمس الشاعر ويفخر أو حين يمدح ويهجو أو حين يتغزل أو يرثي أو حين يعتذر ويعاتب، أو حين يصف أي شيء مما ينبثُّ حوله في جزيرته. وليس هذا فحسب، فهو يماثل الأصول اليونانية للشعر الغنائي الغربي من حيث إنه كان يغني غناء، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون، فهم يروون أن المهلهل غنى في قصيدته:
طفلة ما ابنة المحلَّل بيضا ... ء لعوبٌ لذيذة في العناقِ
ومعنى ذلك أن الشعر الجاهلي ارتبط بالغناء عند أقدم شعرائه. ومن حين إلى حين نجد أبا الفرج الأصبهاني يشير إلى أن شاعرًا جاهليًّا تغنى ببعض شعره من مثل السُّلَيْك بن السُّلَكة2 وعلقمة بن عبدة الفحل والأعشى، وكان يوقِّع.
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص 18)
شعره على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصنج، ولعله من أجل ذلك سمي صنَّاجة العرب1. ويقول أبو النجم في وصف قينة2:
تَغَنَّى فإن اليوم يومٌ من الصِّبا ... ببعض الذي غَنَّى امرؤ القيس أو عمرو
وهو يقصد بعمرو، عمرو بن قميئة. ويقول حسان بن ثابت3:
تَغَنَّ بالشعر إمَّا كنتَ قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ.
فالغناء كان أساس تعلم الشعر عندهم، ولعلهم من أجل ذلك عبروا عن إلقائه بالإنشاد، ومنه الحداء الذي كانوا يحدون به في أسفارهم وراء إبلهم، وكان غناء شعبيًّا عامًّا.
ويقترن هذا الغناء عندهم بذكر أدوات موسيقية مختلفة كالمزهر والدف وكانا من جلد وكالصنج ولعله هو نفسه الآلة الفارسية المعروفة باسم الجنك، وكالبريط وهو آلة موسيقية وترية شاعت في بلاد الإغريق، ويقص علينا علقمة بن عبدة أنه وفد على بلاط الغساسنة فاستمع عندهم إلى قيان بيزنطيات يضربن على البرابط4 وكانوا كذلك في الحيرة يستمعون إلى القيان وهن يضربن على الآلات الموسيقية الفارسية. وأدخلوا كثيرًا من هؤلاء القيان إلى جزيرتهم من مثل خُلَيْدة وهُرَيْرة في اليمامة5 والأخيرة هي صاحبة الأعشى التي ذكرها في معلقته. ويروي الرواة أنه كان بمكة قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد الفرس وكانتا تغنيان الناس6، وفي أخبار غزوة بدر أنه لما نصح أبو سفيان قريشًا أن تعود قبل أن يوقع الرسول عليه السلام بها قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونُسقى الخمور وتعزف علينا القيانُ وتسمع بنا العرب7. وفي السيرة النبوية أن الرسول أمر يوم فتح مكة بقتل رجل يسمى ابن خطل كان مسلمًا ثم ارتد وهرب إلى مكة، وكان له قينتان تغنيانه بهجاء الرسول، فأمر بقتلهما، فقُتلت
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص191)
ويكثر ذكر هؤلاء القيان في شعر الشعراء كما يكثر ذكر ما كن يضربن عليه من آلات الطرب، كقول علقمة في ميميته3:
قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنم ... والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
ويقول الأعشى في معلقته:
ومستجيب تخال الصنج يسمعه ... إذا تُرجع فيه القينة الفُضُلُ4.
ولطرفة في معلقته وصف طويل لإحدى هؤلاء القيان. ولعل في ذلك كله ما يدل على أن الغناء في الجاهلية تأثر بعناصر أجنبية كثيرة.
وكان نساؤهم يؤلفن ما يشبه الجوقات ويتغنين في حفلاتهم لاعبات على المزاهر5، وفي الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع ذات يوم عزفًا بالدفوف والمزامير، فسأل عنه، فعرف أنه عُرْس6، وأكبر الظن أنهن كن يقرن هذا العزف بأناشيد كأناشيد الزفاف المعروفة عند اليونان والرومان. وكن يؤلفن في الحروب جوقة كبيرة تحمس وتثير؛ ففي الطبري والأغاني أن هندًا بنت عتبة ونسوة من قريش كن يضربن على الدفوف في غزوة أحد وكانت هند تغني في تضاعيف هذا العزف. بمقطوعات على شاكلة قولها :
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق8
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق9
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص192)
وبجانب هذا الغناء العام كان عندهم غناء ديني يرتلونه في أعيادهم الدينية؛ على نحو ما مر بنا من تلبياتهم؛ فكانوا يرددون مثل "أشرق تثبير كيما نُغير" وكانوا في أثناء تقديم ذبائحهم وصب دمائها على الأنصاب المقدسة عندهم يتغنون غناء لعله هو أصل غناء النَّصب الذي شاع بينهم في الجاهلية. وربما كان في اسم الداجنة والمدجنة، وهي القينة تغني في الدجن وحين ظهور الغيم في صفحة السماء1 ما يدل على أنهم كانوا إذا عزهم المطر وغلبهم الجدب توجهوا بالغناء إلى آلهة الغيث والخصب.
ومعنى كل ما قدمنا أن الشعر في الجاهلية كان يصحب بالغناء والموسيقى؛ فهو شعر غنائي تام، ويظهر أن الغناء لم يكن ساذجًا حينذاك؛ فقد عرفوا منه ضروبًا مختلفة، يقول إسحاق الموصلي: "غناء العرب قديمًا على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج؛ فأما النصب فغناء الركبان والقينات وهو الذي يستعمل في المراثي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض، وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات، وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه ويُمشى بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحليم. هذا كان غناء العرب قديمًا؛ حتى جاء الله بالإسلام وفتحت العراق وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم وتغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير"2.
ولعل في اقتران النصب بالمراثي ما يدل على ما قلنا من أنه كان غناء دينيًّا؛ فهم يتغنون به في الموت، أما السناد فلعله الغناء الذي كان يقترن ببعض الآلات الموسيقية، وأما الهزج فغناء خفيف كان يقترن بالرقص والدف والمزامير، وهو غناء حفلاتهم، ولعلهم كانوا يؤثرون فيه الوزن الذي يساعد على الحركة المعروفة باسمه بين أوزان الشعر وهو وزن الهزج، كما كانوا يستخدمون فيه الرمل والرجز ليطابق الشعر ما يريديون من رقص وسرعة في الحركة.
وعلى هذا النحو نظم شعراء الجاهلية شعرهم في جو غنائي مشبه لنفس الجو الذي نظم فيه اليونان شعرهم الغنائي)
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص192)
بعض الآلات الموسيقية. وقد يقوم له بالغناء في شعره قيان وجوقات مختلفة ترقص وتعزف في أثنائه. ويظهر أن الشعر أخذ في أواخر هذا العصر يستقل عن الغناء والموسيقى؛ فكان بعض الشعراء لا يغنيه؛ وإنما ينشده إنشادًا، والإنشاد مرتبة وسطى بين الغناء والقراءة.
ونحن إذا رجعنا إلى هذا الشعر وجدنا بقايا الغناء الموسيقي ظاهرة فيه ظهورًا بينًا، ولعل القافية هي أهم هذه البقايا التي احتفظ بها فهي بقية العزف فيه ورمز ما كان يصحبه من قرع الطبول ونقر الدفوف. ومثلها التصريع في مطالع القصائد وما كان يعمد إليه الشعراء أحيانًا من تقطيع صوتي لأبياتهم كقول امرئ القيس في معلقته يصف الفرس:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ
ويكثر هذا التقطيع في أشعارهم، ومن يرجع إلى معلقة لبيد التي يستهلها بقوله:
عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها ... بِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها
يجده على شاكلة هذا المطلع يلائم كثيرًا بين الكلمتين الأخيرتين، وكأن للبيت قافيتين: داخلية، وخارجية، وكأنه يريد أن يهيئ لنفسه أو لمن يتغنى بقصيدته أن يرتفع بصوته في كلمتين متتاليتين. ولا نشك في أن صور الأوزان المتنوعة التي يمتاز بها الشعر الجاهلي إنما حدثت بتأثير هذا الغناء، وقد نفذوا منه إلى ضروب من التجزئة في بعض الأوزان، كمجزوء الكامل والمديد؛ بل نفذوا إلى أوزان خفيفة كثيرة كالمتقارب والرمل والهزج. وبدون ريب إنما كثرت التجزئة والتعديل في الرجز لأنه كان وزنًا شعبيًّا وكان كثير الدوران في حدائهم وفي كل ما يتصل بهم من حركة وعمل كحفر الآبار والمتح منها ومبارزة الأقران واستصراخ العشائر؛ فكثر فيه الحذف وكثر التحريف والتعديل كثرة مفرطة؛ حتى زعم الخليل أنه ليس من أوزان الشعر، وهو شعر غير أن التغني به نغنيًّا كثيرًا حُدَاءً وغير حداء أحدث فيه تغيرات شتى)(
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص194)
الموضوعات
لعل أقدم من حاول تقسيم الشعر العربي جاهليًّا وغير جاهلي إلى موضوعات ألف فيها ديوانًا هو أبو تمام ؛ فقد نظمه في عشرة موضوعات، هي الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسب، والهجاء، والأضياف ومعهم المديح، والصفات، والسير، والنعاس، والملح، ومذمة النساء. وهي موضوعات يتداخل بعضها في بعض فالحديث عن الأضياف؛ إما أن يدخل في المديح أو في الحماس والفخر، والسير والنعاس يدخلان في الصفات، كما تدخل مذمة النساء في الهجاء، أما الملح فغير واضحة الدلالة. وجاء في باب الأدب بما يدل على أنه يقصد به المعنى التهذيبي؛ غير أنه أنشد فيه أبياتًا في وصف الخمر، وأغفل إغفالًا تامًّا باب العتاب والاعتذار.
ووزَّع قدامة في كتابة نقد الشعر هذا الفن على ستة موضوعات، هي المديح والهجاء والنسيب والمراثي والوصف والتشيبه وحاول بعقله المنطقي أن يرد الشعر إلى بابين أو موضوعين هما المدح والهجاء؛ فالنسيب مديح، وكذلك المراثي، ومضى يعين المعاني التي يدور حولها المديح، وهي في رأيه الفضائل النفسية، ونجد نفس المحاولة في تضييق موضوعات الشعر واضحة في كتاب نقد النثر؛ فهو مديح وهجاء وحكمة ولهو، ويدخل في المديح المراثي والافتخار والشكر واللطف في المسألة ويدخل في الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء والتأنيب. كما يدخل في الحكمة الأمثال والزهد والمواعظ، أما اللهو فيدخل فيه الغزل والطَّرْد وصنعة الخمر والمجون.
وجعل ابن رشيق موضوعات الشعر في كتابه العمدة تسعة، وهي النسيب، والمديح، والافتخار، والرثاء، والاقتضاء والاستنجاز، والعتاب، والوعيد والإنذار، والهجاء، والاعتذار، ومن السهل أن يرد موضوع الاقتضاء والاستنجاز إلى المديح، والوعيد والإنذار إلى الهجاء، وأن يضم العتاب إلى الاعتذار، وأيضًا فإنه نسي موضوع الوصف. ويقول أبو هلال العسكري: "وإنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح والهجاء والوصف والتشبيه والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسمًا سادسًا وهو الاعتذار فأحسن فيه1" وهو تقسيم جيد؛ غير أنه نسي باب الحماسة، وهو أكثر موضوعات الشعر دورانًا على لسانهم.
( أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص196)
ولا نستطيع أن نرتب هذه الموضوعات في الشعر الجاهلي ترتيبًا تاريخيًّا، ولا أن نعرف كيف نشأت وتطورت، فإن الأصول الأولى لهذا الشعر انطمرت كما قدمنا في ثنايا الزمن، وإن كنا نستطيع أن نظن ظنًّا أنها تطورت من أناشيد دينية كانوا يتجهون بها إلى آلهتهم، يستعينون بها على حياتهم؛ فتارة يطلبون منها القضاء على خصومهم، وتارة يطلبون منها نصرتهم ونصرة أبطالهم، ومن ثم نشأ هجاء أعدائهم ومدح فرسانهم وسادتهم، كما نشأ شعر الرثاء وهو في أصله تعويذات للميت حتي يطمئن في قبره، وفي أثناء ذلك كانوا يمجدون قوى الطبيعة المقدسة التي تكمن فيها آلهتهم والتي تبعث فيهم الخوف؛ ومعنى هذا كله أن موضوعات الشعر الجاهلي تطورت من أدعية وتعويذات وابتهالات للآلة إلى موضوعات مستقلة2.
ويظهر أنه كانت لا تزال في نفوسهم بقية من هذه الصلة القديمة بين الشعر ودعاء الآلهة؛ يدل على ذلك أكبر الدلالة ما جاء في القرآن الكريم من كثرة الربط بين الشعر والسحر وتعاويذ الكهنة؛ فقد كانوا يرمون الرسول في بدء دعوته تارة بأنه شاعر وتارة ثانية بأنه كاهن وتارة ثالثة بأنه ساحر {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ورد عليهم القرآن دعواهم الكاذبة مرارًا في مثل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ومثل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ويقول جل وعز في سورة الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وبعد ذلك: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
وواضح أن القرآن الكريم يحكي على ألسنتهم ما كانوا يؤمنون به من العلاقة بين
الشعر والكهانة والسحر، وكانوا يزعمون أن الشياطين تنزل على الشعراء كما تنزل على الكهان، وزعموا أن الأعشى كان له شيطان ينفث في وعيه الشعر يسمى مسحلًا وأن شاعرًا كان يهاجيه يسمى عمرو بن قطن، كانت له تابعة من الجن اسمها جُهُنَّام1.
وظل بعض الشعراء في الإسلام يزعم أن له تابعًا من الجن، ويؤكد الأسطورة أبو النجم؛ فيزعم أن لكل شاعر شيطانًا إما أنثى وإما ذكرًا، يقول :
إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
وفي أخبارهم أن الشاعر كان إذا أراد الهجاء لبس حلة خاصة، ولعلها كحلل الكهان، وحلق رأسه وترك له ذؤابتين ودهن أحد شقي رأسه وانتعل نعلًا واحدة3 ونحن نعرف أن حلق الرأس كان من سننهم في الحج، وكأن شاعر الهجاء كان يتخذ نفس الشعائر التي يصنعها في حجه وأثناء دعائه لربه أو لأربابه، حتى تصيب لعناتُ هجائه خصومه بكل ما يمكن من ألوان الأذى وضروب النحس المستمر.
فالهجاء في الجاهلية كان لا يزال يُقْرَن بما كانت تقرن به لعناتهم الدينية الأولى من شعائر، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يتطيرون منه ويتشاءمون ويحاولون التخلص من أذاه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ونحن نعرف أن الغزو والنهب كان دائرًا بينهم؛ غير أن المغيرين إن أغاروا ونهبوا إبلًا بينها إبل لشاعر، وتعرض لهم يتوعدهم بالهجاء اضطروا اضطرارًا إلى ردها أو على الأقل يردون ماله هو وإبله. يروي الرواة أن الحارث بن ورقاء الأسدي أغار على عشيرة زهير، واستاق فيما استاق إبلًا له وغلامًا، فنظم زهير أبياتًا يتوعده بالهجاء المقذع، يقول فيها4:
ليأتينك مني منطق قذع ... باق كما دنس القبطية الودك
ففزع الحارث ورد عليه ما سلبه منه1. وواضح أن زهيرًا يستخدم في وصف هجائه المنتظر كلمة الدنس؛ فهو سيلحق به عن طريق هجائه الرجس والإثم. ويروى أن رجلًا يسمى زرعة بن ثوب من بني عبد الله بن غطفان خدع غلامًا من عشيرة مزرد بن ضرار الشاعر يسمى خالدًا كان يرعى إبلًا لأبويه فاشتراها منه بغنم واستاقها، ورجع الغلام إلى أبويه فأخبرهما بما فعل؛ فقال أبوه: هلكت والله وأهلكتنا، وركب إلى مزرّد وقص عليه القصة؛ فقال مزرّد: أنا ضامن لك أن تُرَدّ علينا بأعيانها، وأنشأ قصيدة طويلة يتوعد فيها زرعة، ويطب إليه أن يرد الإبل، ونراه يعوذها بهجائه؛ فهي إن لم ترد ستكون نارًا تأتي على الأخضر واليابس عند زرعة وقومه وسيصيبها الجرب والأمراض المستعصية، يقول:
فيا آل ثوبٍ إنما ذَوْدِ خالد ... كنار اللظى لا خير في ذود خالد3
بهن دُروءٌ من نحاز وغُدَّةٌ ... لها ذربات كالثُّدِيِّ النواهِد4
جَرِبْنَ فما يهنأنَ إلا بغَلْقةٍ ... عطين وأبوال النساء القواعدِ5
وقد تحولوا يصبون أهاجيهم ولعناتهم على خصومهم هم وعشائرهم؛ فلم يسلم منها أحد من أشرافهم، يقول الجاحظ: "وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته؛ فهجاه، ومن طلب عيبًا وجده فإن لم يجد عيبًا وجد بعض ما إذا ذكره وجد من يغلط فيه ويحمله عنه؛ ولذلك هجي حصن بن حذيفة، وهجى زُرَارة بن عُدَس وهجي عبد الله بن جُدْعان وهجي حاجب بن زُرارة؛ وإنما ذكرت لك هؤلاء لأنهم من سؤددهم وطاعة القبيلة لهم لم يذهبوا فيمن تحت أيديهم من قومهم ومن حلفائهم وجيرانهم مذهب كليب بن ربيعة ولا مذهب حذيفة بن بدر ولا مذهب عيينة بن حصن ولا مذهب لقيط بن زرارة. فإن هؤلاء وإن كانوا سادة قد كانوا يظلمون وبمقدار ما
3 الذود: الجماعة القليلة من الإبل.
4 دروء: جمع درء وهو النتوء. والنحاز: داء يصيب الإبل بالسعال. الغدة: طاعون الإبل. الذربات: جمع ذربة وهي رأس الخراج، النواهد: النواهض.
5 يهنأن: يطلين. الغلقة: شجر يدبغ به الجرب. عطين يريد أنه لا يدبغ بها إلا بعد العطن، القواعد: العجائز.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص 198
كان في القبيلة من شرف وأشراف كان هجاؤها عندهم؛ إذ كانوا لا يزالون يتعرضون لها ولأشرافها بأقبح الهجاء وأقذعه، يقول الجاحظ أيضًا:
"إذا استوى القبيلان في تقادم الميلاد، ثم كان أحد الأبوين كثير الذرء "النسل" والفرسان والحكماء والأجواد والشعراء، وكثير السادات في العشائر وكثير الرؤساء في الأرحام "القبائل الكبيرة" وكان الآخر قليل الذرء والعدد ولم يكن فيهم خير كثير ولا شر كثير خَملوا أو دخلوا في غمار العرب وغرقوا في معظم الناس وكانوا من المغمورين ومن المنسيين فسلموا من ضروب الهجاء، وسلموا من أن يضرب بهم المثل في قلة ونذالة؛ إذ لم يكن "منهم" شر وكان محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء ولا يحسدهم الأكفاء، وإذا تقادم الميلاد، وكان فيهم خير كثير وشر كثير ومثالب ومناقب لم يسلموا من أن يُهجوا ويضرب بهم المثل. ولعل أيضًا أن تنفق لهم أشعار تتصل بمحبة الرواة وأمثال تسير على ألسنة العلماء. فيصير حينئذ من لا خير فيه ولا شر أمثل حالًا في العامة ممن فيه الفضل الكثير وبعض النقص ولا سيما إذا جاوروا من يأكلهم وحالفوا من لا ينصفهم كما لقيت غَنِيّ أو باهلة؛ فمن القبائل المتقادمة الميلاد التي في شطرها خير كثير وفي الشطر الآخر شرف وضعة مثل قبائل غطفان وقيس عيلان ومثل فزارة ومرة وثعلبة ومثل عبس وعبد الله بن غطفان، ثم غني وباهلة واليعسوب والطفاوة؛ فالشرف والخطر في عبس وذبيان، والمبتلى والملقى والمحروم والمظلوم مثل باهلي وغني مما لقيت من صوائب سهام الشعراء وحتى كأنهم آلة المدارج الأقوام ينكب فيها كل ساع ويعثر بها كل ماش. وربما ذكروا اليعسوب والطفاوة وهاربة البقعاء "من ذبيان" وأشجع الخنثى ببعض الذكر، وجل معظم البلاء لم يقع إلا بغني وباهلة وهم أرفع من هؤلاء وأكثر فضولًا ومناقب؛ حتى صار من لا خير فيه ولا شر عنده أحسن حالًا ممن فيه الخير الكثير وبعض الشر، ومن هذا الضرب تميم بن مر وثور وعُكل وتيم ومزينة؛ ففي عكل وتيم ومزينة من الشرف والفضل ما ليس في ثور، وقد سلمت ثور إلا من الشيء اليسير، مما لا يرويه إلا العلماء، والتحف الهجاء على عكل وتيم. وقد شعثوا بين مزينة شيئًا، وقد نالوا من ضبة مع ما في ضبة من الخصال الشريفة، ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء. كما بكى مخارق بن شهاب (أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص199)
وفي السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب إلى شعراء المدينة أن يعينوه بأهاجيهم في قريش، ويروى أنه قال لحسان بن ثابت، وقد أخذ في هجاء القرشيين: "لشعرك أشد عليهم من وقع النَّبْل" وفي ذلك ما يصور مدى أثر الهجاء في نفوس العرب؛ فقد كان سلاحًا لا يقل عن أسلحتهم في القتال؛ ولذلك قرنه عبد قيَس بن خفاف البرجمي إلى ما يلقى به أعداءه من سيف ورمح ودرع، يقول2:
فأصبحتُ أعددتُ للنائبا ... ت عِرْضًا بريئًا وعضبًا صَقيلا3
ووقع لسان كحد السِّنانِ ... ورُمحًا طويل القناة عَسُولا4
وسابغة من جياد الدروع ... تسمع للسيف فيها صَليلا
كماء الغدير زفته الدبور ... يجر المدحج منها فضولا5
فاللسان كان يَنْكأ بهجائه في الأعداء نكأ السيوف والرماح. ويخيل إلى الإنسان كأنما تراص شعراء القبائل بجانب فرسانها وشجعانها في صفوف، وقد أخذ كل منهم يريش سهام هجائه ويرمي بها أعداءه من الأشراف والقبائل، وكل يحاول أن يكون سهمه أنفذ السهام وأصماها؛ حتى لا تقوم للشريف وقبيلته قائمة. وكانوا ينتهزون فرصة تلاقيهم في الأسواق وخاصة سوق عكاظ، فينشدون أهاجيهم لتذيع، وليلحقوا بخصومهم كل ما يريدون من خزي وعار، وفي ذلك يقول راشد بن شهاب اليشكري لقيس بن مسعود الشيباني:
ولا تُوعِدنِّي إنني إن تُلاقني ... معي مَشْرفِيٌّ في مضاربه قَضَمْ7
وذمٌّ يُغَشَّى المرءَ خِزْيًا ورهطه ... لدى السَّرْحة العَشَّاء في ظلها الأَدَمْ8
وهو يشير إلى سرحة أو شجرة عظيمة كانت بعكاظ؛ حيث تقام السوق
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص200)
ودار هجاؤهم على كل ما يناقض مثلهم التي صورناهم في غير هذا الموضع، وقد قلنا إنه كانت تجمعها كلمة المروءة، وهي تعني عندهم فضائلهم من الشجاعة والكرم وحماية الجار والوفاء والنجدة وطلب الثأر، وما هي إلا أن يدخل الشاعر في الهجاء؛ فإذا هو يخلص القبيلة وأشرافها من كل هذه الفضائل وما يتصل بها فهي لا تكرم الجار ولا تحميه، وهي تفر في الحروب وتقعد عن الأخذ بثأرها. ولا يكتفي الشعراء الهجاءون بذلك؛ بل يتعرضون لمخازي القبيلة في حروبها وأيامها التي ولت على أدبارها فيها منهزمة منكسة الأعلام، واقرأ في المفضليات قصيدة ربيعة بن مقروم رقم 38 فستراه يذكر أمجاد قبيلته في أيام بزاخة والنِّسار وطخفة والكلاب وذات السليم، واقرأ قصائد بشر بن أبي خازم الأسدي في المفضليات أيضًا؛ فستجده يفصل الحديث عن حروب قومه مع بني عامر في يوم النسار ومعهم ومع أحلافهم من تميم في يوم الجفار وما أنزلوا بهم من خسائر في الرجال، وتعرض لانتصاراتهم على كثير من القبائل مثل جرم والرباب وجُذام وبني سليم وبني كلاب وبني أشجع ومرة بن ذبيان. ولم يكونوا يقفون عند ذلك؛ بل كانوا يقذفون في الأعراض ويطعنون في الأنساب، متعرضين للأمهات على نحو ما نرى عند الجُمَيْح الأسدي في هجاء بني عامر وقد غدروا بأسدى منهم وقتلوه فقال يعيرهم بما غدروا، مفديًا أمهم سلمى استهزاء بهم لما ألحقوا بها من العار، ثم عاد فادّعى عليها البغاء:
سائل معدًّا من الفوارس لا ... أوفوا بجيرانهم ولا غنِموا
فِدًى لسَلمى ثوباي إذ دنس الـ ... ـقوم وإذ يدسمون ما دَسِمُوا2
أنتم بنو المرأة التي زعم الناس ... عليها في الغي ما زعموا
واسترسل يصمها أبشع الوصم بأبيات ثلاث لا نستطيع التمثل بها لإمعانه في الفحش. وكثيرًا ما يتعرضون لشخص فيزعمون أنه دعيٌّ في قومه زنيم. وشاع بينهم هذا الضرب من الوقوع في الأعراض، مما نجد آثاره فيما بعد عند جرير والفرزدق
ص201
في العصر الإسلامي، وكأنما أصبح همّ الهاجي أن يضرب عدوه الضربة القاضية؛ حتى لو كان شريفًا معروفًا بكثرة المناقب كما يلاحظ الجاحظ؛ بل لكأن مناقبه كانت تؤذيهم، فكانوا يلطخونه بالعار ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، ومن ثم لا نعجب حين نجد شاعرًا يزعم أن النعمان بن المنذر لم يولد لرشدة؛ فهو ليس سليل المناذرة؛ إنما هو سليل صائغ بالحيرة، يقول فيه عبد قيس بن خفاف البُرْجمي:
لعن الله ثم ثَنَّى بلعن ... ابنَ ذا الصائغ الظلومَ الجهولا
يجمع الجيشَ ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فَتيلا
وكان النعمان كثير الوقائع في قبائل العرب وخاصة عبد القيس فتعرض له شاعرها يزيد بن الخداق بهجاء كثير يتوعده وينذره ويخيفه، يقول في بعضه :
نعمانُ إنك خائن خدع ... يُخْفِي ضميرك غير ما تُبْدي
وقصة هجاء المتلمس وطرفة لعمرو بن هند مشهورة
ولم يكن جمهور هجائهم يفرد بالقصائد؛ بل كانوا يسوقونه غالبًا في تضاعيف حماستهم وإشادتهم بأمجادهم وانتصاراتهم الحربية، ولا نبعد إذا قلنا إن الحماسة أهم موضوع استنفد قصائدهم؛ فقد سعرتهم الحروب، وأمدها شعراؤهم بوقود جزل من التغني ببطولتهم وأنهم لا يرهبون الموت؛ فهم يترامون عليه تحت ظلال السيوف والرماح مدافعين عن شرف قبائلهم وحماها. ويرتفع هذا الغناء بل قل هذا الصياح في كل مكان؛ بحيث يخيل إلينا أنه لم يكن هناك صوت سواه، ولعل ذلك ما دفع أبا تمام إلى أن يسمي مجموعته من أشعارهم وأشعار مَن خلفوهم باسم الحماسة؛ فهي التي تستنفد أشعارهم وقصيدهم، وهي ديوانهم الذي يسطر تاريخهم ومناقبهم ومفاخرهم، وهل هناك فخر أعلى من فخر الشجاعة والتنكيل بالأعداء. واقرأ في المفضليات والأصمعيات فستجد هذا الفخر وما يطوى فيه من حماسة يدور على كل لسان، وستجد الشارع فيه يتحدث دائمًا عما تعتز به قبيلته من الأخذ بأوتارها ومن تضييق الخناق على أعدائها، وهو يعدد أيامها مشيدًا بحسبها ونسبها وصبرها في
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص202
الملمَّات وكرمها في الجدب وحمايتها للجار وإغاثتها للملهوف. وفي أثناء ذلك يصوِّب سهام الهجاء إلى نحور أعدائهم، وكأنه يريد أن يقضي عليهم قضاء مبرمًا.
ونحس في هذه الحماسة أثر الموجدة الشديدة والحقد البالغ على خصومهم؛ فهم دائمًا يتعرضون لهم يهددونهم ويتوعدونهم انتقامًا مروعًا، وكان أشد ما يهيجهم أن يقتل منهم قتيل؛ فحينئذ تهيج القبيلة ويهيج شعراؤها هياجًا لا حد له، فإذا ثأرت لنفسها وشفت غلها وحقدها أخذ شعراؤها ينشدون أناشيد النصر من مثل قصيدة دريد بن الصمة التي يتغنى فيها بأنه ثأر من قتلة أخيه عبد الله، ومع ذلك لا يزال يتوعدهم، يقول1:
ويا راكبًا إما عرضت فبلغن ... أبا غالب أن قد ثأرنا بغالبِ2
قتلتُ بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب3
فلليوم سميتم فزارة فاصبروا ... لوقع القنا تنزون نزو الجنادب4
تكر عليهم رَجْلَتِي وفوارسي ... وأُكرِه فيهم صَعْدَتي غير ناكب5
فإن تدبروا يأخذنكم في ظهوركم ... وإن تقبلوا يأخذنكم في الترائب6
وإن تُسهلوا للخيل تسهل عليكم ... بطعن كإبزاغ المخاض الضوارب7
ومرة قد أخرجنهم فتركنهم ... يروغون بالصلعاء روغ الثعالب8
وأشجعَ قد أدركنهم فتركنهم ... يخافون خطف الطير من كل جانب
وثعلبة الخنثى تركنا شريدهم ... تَعِلَّة لاه في البلاد ولاعب
فليت قبورًا بالمخاضة أخبرت ... فتخبرَ عنا الخضر خضر محارب9
معاني المفردات:
2 عرضت: أتيت العروض، يريد مكة والمدينة وما حولهما.
3 لدات: جمع لدة وهو الترب والكفء.
4 النزو: الوثب، الجنادب: ضرب صغير من الجراد.
5 رجلتي: جمع راجل ضد الفارس الراكب، وهم المشاة. والصعدة: القناة غير ناكب: غير عادل عنهم.
6 الترائب: عظام الصدر.
7 تسهلوا: تنزلوا السهل من الأرض. المخاض: الحوامل من النوق، الضوارب اللواقح، وإيزاغها أن ترمي ببولها شبه رشاش الطعنة من الدم ببولها ورشاشه.
8 يروغون: يذهبون هنا وهناك. الصلعاء موضع هو مكان معركته مع مرة.
9 المخاضة: موضع من ديار ذبيان، وخضر محارب: قبيلة.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص203
رَدَسْناهُم بالخيل حتى تملَّأَتْ ... وافي الضباع والذئاب السَّواغب1
عَذريني أَطوف في البلاد لعلني ... ألاقي بإثرٍ ثُلَّةً من محاربِ2
وواضح أنه يتشفى من قتلة أخيه؛ فقد ظفر مع جمع من قبيلته بأعدائه من فزارة، فأخذتهم سيوفهم من أمام ومن وراء، ومسهلين في الأرض. وبصور ما لقيته مُرَّة في الحرب من بلاء شديد وكيف هربت أشجع وكيف نكلوا ببني ثعلبة وبني محارب، حتى شبعت منهم الضباع. ويتهددهم بأنه سيعيد الكرَّة عليهم. وفي كل مكان يدوِّي مثل هذا النشيد، ومن روائعهم في هذا الباب معلقة عمرو بن كلثوم، وفيها يصيح بانتصارات قومه وأيامهم المعلمة المشهورة من مثل قوله:
متى ننقل إلى قوم رَحانا ... يكونوا في اللِّقاء لها طَحِينا
يكون ثِفالُها شرقيَّ نجدٍ ... ولهوتها قضاعة أجمعينا3
تطاعن ما تراخى الناس عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غُشينا
بِسُمْرٍ من قَنَا الخَطِّيِّ لدن ... ذوابل أو ببيض يعتلينا
نشق بها رءوس القوم شقًّا ... ونخليها الرقاب فتختلينا
كأن جماجم الأبطال فيها ... وسوق بالأماعز يرتمينا5
ورثنا المجد قد علمت معد ... تطاعن دونه حتى يبينا6
ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الأَحفاض نمنع من يلينا7
نجذُّ رءوسهم في غير وتر ... فما يدرون ماذا يتقونا8
1 ردسناهم: رميناهم، العوافي: الجائعة، وكذلك السواغب.
2 الثلة: الجماعة من الناس.
3 الثفال: خرقة توضع تحت الرحى لاستقبال ما يطحن، اللهوة: القبضة من الحب.
4 توصف الرماح بالسمرة لذبولها، وقنا الخطى: نسبة إلى الخط وهي بلدة كانت على ساحل البحرين تشتهر بصناعة القنا، اللدن: المرنة. البيض: السيوف.
5 الأماعز: الأراضي الصلبة، الوسوق: جمع وسق وهو الحمل.
6 يبين: يتضح.
7 العماد: جمع عمود، خرت: سقطت، الأحفاض: متاع البيت، يقصد بذلك رحلة الحي للحرب.
7 الوتر: الثأر، ونجذ: نقطع.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص204
كأن سيوفنا فينا وفيهم ... مخاريق بأيدي لاعبينا1
كأن ثيابنا منا ومنهم ... خضبن بأرجوان أو طلينا2
والمعلقة جميعها صياح شديد على هذا النحو الذي يرفع فيه قبيلته تغلب على كل من حولها في نجد شرقيها وغربيها؛ فكل من حدثته نفسه منهم بقتالها كان مصيره الهلاك والدمار، ويقول إن حياتهم سلسلة من الحروب، ويصف أسلحتهم الذي يذيقون بها أعداءهم كئوس الموت المرة. ومدَّ فخره إلى قبائل معد كلها بما يجذون من رءوس شجعانها، واعترف لأعدائه بشجاعتهم؛ فالسيوف في أيديهم وأيدي أعدائهم كأنها مخاريق بأيدي لاعبين، وهم يقتلون فيهم، كما يُقتل من قومه، فثيابهم جميعًا ملطخة بالدماء. وليس عمرو وحده الذي يصف خصومه بالشجاعة؛ فهناك كثيرون اشتهروا بهذا الإنصاف، وتسمى قصائدهم المنصفة وفي الأصمعيات أمثلة منها طريفة، من مثل قول المفضل النكري يصف موقعة بين عشيرته من بني نكرة بن عبد القيس وعشيرة عمرو بن عوف، يقول3:
كأن هزيزنا يوم التقينا ... هزيز أباءة فيها حريقُ4
وكم من سيد منا ومنهم ... بذي الطرفاء منطقه شهيقُ5
فأَشبعنا السباع وأشبعوها ... فراحت كلها تَئِقُ يَفُوقُ6
فأبكينا نساءهم وأبكوا ... نساءٌ ما يسوغُ لهن رِيق
يجاوبنَ النياحَ بكل فَجْرٍ ... فقد صَحِلَتْ من النَّوْح الحُلوق7
وطبيعي وهم يصورون هذه الملاحم أن يصفوا أسلحتهم على نحو ما تقدم عند عمرو بن كلثوم، وهناك كثيرون يطيلون في وصفها ووصف الخيل التي يركبونها في اللقاء. وممن اشتهر بينهم بوصف الأسلحة أوس بن حَجر في لامية له مشهورة أطال بها في تصوير سيفه ورمحه ودرعه وقوسه، ويلقانا هذا الوصف كثيرًا في المفضليات
معاني المفردات
1 المخاريق: المناديل تلف ويلعب بها، لعبة كانت عندهم.
2 الأرجوان: صبغ أحمر.
3 الأصمعيات: ص 233 وما بعدها.
4 الهزيز: الصوت، الأباءة: أجمة الغاب.
5 ذو الطرفاء: موضع المعركة
6 تئق: ممتلئ، يفوق: يأخذه البهر.
7 صحلت: بحت.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص105
والأصمعيات1، كما يلقانا معه وصفهم للخيل وكانوا يلقبونها بالأسماء، وممن اشتهر في هذا الوصف أبو دُؤاد الإيادي وزيد الخيل وعمرو بن معد يكرب وغيرهم من فرسانهم المعدودين، وتزخر المفضليات والأصمعيات بهذا الوصف عند من سميناهم وغيرهم.
وفي الحق أن هذا اللون من شعرهم ليس شعر قوة وبطولة فحسب؛ فقد تغنوا فيه بكريم الشيم وكل ما اتخذوه مثلًا رفيعًا لهم في حياتهم وسلوكهم، من كرم ووفاء وغير كرم ووفاء؛ فعلى نحو ما صوروا فيه بطولة وشجاعة نادرة صوروا كثيرًا من الفضائل الحميدة على شاكلة ما نقرأ في ميمية ربيعة بن مقروم إذ يقول2:
وإن تسأليني فإني امرؤ ... أُهين اللئيم وأحبو الكريما
وأَبني المعالي بالمكرمات ... وأُرضي الخليل وأُرْوِي النديما
ويحمد بَذْلي له معتف ... إذا ذمَّ من يعتفيه اللئيما3
وأَجْزي القروض وفاءً بها ... ببؤسي بئيسي ونعمى نعيما4
وقومي فإن أنت كذَّبتني ... بقولي فاسئلْ بقومي عليما
يهينون في الحق أموالهم ... إذا اللزبات انتحين المُسِيما5
طوال الرماح غداة الصباح ... ذوو نَجْدَة يمنعون الحريما
وهو يذكر في البيت الثاني أن من شيمه أن يروي نديمه بالخمر، ويكثر في حماستهم تمدحهم بأنهم يسقون ندماءهم الخمر وأنهم يأخذون حظهم من الغناء وسماع القيان ولعب الميسر6، وكأن في ذلك إعلانًا عن كرمهم وبذلهم على نحو ما تقدم في غير هذا الموضع عن طرفة وفتوته. وربما كان ذلك هو أصل ذكر الخمر ووصفها في الشعر الجاهلي على نحو ما هو معروف عن الأعشى وعدي بن زيد.
3 المعتفي: السائل في غير طلب.
4 البؤس والبئيسي بمعنى، يقول يجزي بالسيئة مثلها وكذلك الحسنة.
5 اللزبات: الشدائد، انتحى: قصد، المسيم: الكثير الإبل والغنم، اشتقه من السائمة.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص207
العبادي؛ فقد تحولا بها من هذا الباب إلى وصفها في ذاتها وصفًا طريفًا.
ومن الموضوعات التي تتصل اتصالًا واضحًا بالحماسة الرثاء؛ فقد كانوا يرثون أبطالهم في قصائد حماسية يريدون بها أن يثيروا قبائلهم لتأخذ بثأرهم1، فكانوا يمجدون خلالهم ويصفون مناقبهم التي فقدتها القبيلة فيهم؛ حتى تنفر إلى حرب من قتلوهم. وكان يشرك الرجال في ذلك النساء؛ فقد كن ما يزلن يَنُحْنَ على القتيل حتى تثأر القبيلة له. ويظهر أنه كان يشيع عندهم ضرب من "التعديد" الذي نعرفه في مصر، فما تزال امرأة تنوح ويرد عليها صواحبها، وقد حدثنا الرواة أن الخنساء كانت تخرج إلى عكاظ فتندب أخويها صخرًا ومعاوية، وكانت هذه بنت عتبة أم معاوية تحكيها نائحة أباها2. وفي هذا الخبر ما يدل على أن النساء لم يكن يندبن موتاهن يومًا أو أيامًا؛ بل كن يطلن ذلك إلى سنين معدودات، ويقال: إنهن كن يحلقن شعورهن ويلطمن خدودهن بأيديهن وبالنعال والجلود، وكن يصنعن ذلك على القبر وفي مجالس القبيلة والمواسم العظام. ولعل في حلق رءوسهن ما يجمع بينهن وبين الهجائين كما قدمنا وما يشهد بأن هذا الرثاء إنما هو تطور عن تعويذات كانت تقال للميت وعلى قبره حتى يطمئن في لحده. وبمر الزمن تطور الرثاء عندهم إلى تصوير حزنهم العميق إزاء ما أصابهم به الزمن في فقيدهم؛ فتلك التعويذات أصبحت وخاصة عند نسائهم بكاء ونواحًا وندبًا حارًّا. ونجد بجانب هذا الندب ضربًا من الرثاء يقوم على تأبين الميت والإشادة بخصاله وصفاته، وما نشك في أن الصورة القديمة لهذا التأبين هي تلك النقوش التي عثروا عليها في أنحاء مختلفة من الجزيرة، وقد تحدثنا عنها فيما أسلفنا، وكانوا يكتبون فيها أسماءهم وألقابهم وبعض أعمالهم تمجيدًا لذكراهم وتخليدًا لها، وتحولت هذه الصورة الساذجة إلى هذا التأبين الواسع الذي نجده عند الجاهليين. وقد ذهبوا يضمون إليه صورة من العزاء والدعوة إلى الصبر على الشدائد؛ فالموت كأس دائرة على الجميع، ولا مردّ لحكم القضاء.
وقام بالقسط الأكبر من ندب الميت وبكائه النساء؛ فكن يشققن جيبوبهن عليه ويلطمن وجوههن ويقرعن صدورهن ويعقدن عليه مأتمًا من العويل والبكاء، ومن خير ما يصور ذلك كتاب "مراثي شواعر العرب" للويس شيخو، وسابقتهن
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص207
التي لا تنازَعُ هي الخنساء؛ فقد قُتل أخوها معاوية في بعض المعارك، فارتفع نشيجها وبكاؤها عليه، وقتل أيضًا أخوها صخر فاتسع الجرح والتاعت لوعة شديدة، ومن رائع ما ندبت به صخرًا:
قَذى بعينك أم بالعين عُوَّارُ ... أم ذرفت أن خلت من أهلها الدار1
كأن عيني لذكراهُ إذا خطرت ... فيضٌ يسيل على الخدين مدرار2
فالعين تبكي على صخر وحق لها ... ودونه من جديد الأرض أستار3
تبكي خناس وما تنفك ما عمرت ... لها عليه رنين وهي مقتار4
بكاءَ والهةٍ ضلت أليفتَها ... لها حنينان: إصغار وإكبار5
ترعَى إذا نسيت حتى إذا ذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار6
ولعل من الطريف أن بعض شعرائهم كان إذا أحس داعي الموت ندب نفسه ووصف ما يصنعه به أهله بعد الموت من ترجيل شعره ووضعه في مدارج الكفن، ثم لحده ودفنه، وتنسَبُ للممزق العبدي أو ليزيد بن الخذاق قطعة يصور فيها هذا المصير الذي ينتظره، يقول فيها7:
هل للفتى من بنات الدهر من واقِ ... أم هل له من حمام الموت من راقِ8
قد رجَّلوني وما رجلت من شعث ... وألبسوني ثيابًا غير أخلاق9
وأرسلوا فتية من خيرهم حسبًا ... ليسندوا في ضريح الترب أطباقي10
1 العوار: الرمد، ذرفت: قطرت قطرًا متتابعًا.
2 مدرار: كثير.
3 الأستار: الأحجار، وكنت بجديد الأرض عن أنه مات حديثًا.
4 خناس: الخنساء، مقتار: ضعيفة.
5 الإصغار: خفض الصوت بالحنين، والإكبار: رفعه.
6 العلم: الجبل.
8 بنات الدهر: أحداثه، حمام الموت: دنوه.
9 الترجيل: تسريح الشعر، الأخلاق: الممزقة.
10 الأطباق: المفاصل.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص208
وكانوا يكثرون من تأبين من يموتون منهم في ميادين الحرب، وقد يضمنون هذا التأبين هجاء لاذعًا لخصومهم وفخرًا بعشيرتهم ومآثرها وأيامها، على نحو ما نجد في قصيدة المرقش1:
هل بالديار أن تجيب صَمَمْ ... لو كان رسم ناطقًا كلَّم
فقد بدأها بالغزل وخرج منه إلى الرثاء؛ فمديح بعض ملوك الغساسنة، ثم فخر بقومه، وهجا أعداءهم. وقد يجعلون القصيدة خالصة للتأبين، على نحو ما صنع دريد بن الصِّمَّة في مرثية أخيه عبد الله2.
أرث جديدُ الحبل من أم معبد ... بعاقبةٍ وأخلفت كل موعد
وقد استهلها على هذه الشاكلة بالغزل، ثم مضى يرثي أخاه مصورًا مصرعه وولهه به وجزعه ومتحدثًا عن خلاله الحميدة من الشجاعة والجود والمضاء والصبر والحزم.
ولم يؤبنوا أبطالهم من القتلى فحسب؛ بل فسحوا في مراثيهم لتأبين أشرافهم وإن ماتوا حتف أنوفهم، فخرًا بهم واعتزازًا بمناقبهم وأعمالهم ومآثرهم، وقد نجدهم يستنزلون لهم الغيث من السماء حتى تصبح قبورهم رياضًا عطرة، ومن رائع تأبينهم مرثية أوس بن حجر لفضالة بن كَلَدة الأسدي، وفيها يقول3:
أَيَّتُها النفسُ أَجْمِلي جَزَعَا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع السماحة والنَّـ ... ـجدةَ والحزمَ والقوى جُمَعا
الألمعيّ الذي يظن لك الـ ... ـظن كأن قد رأى وقد سمعا4
المخلفَ المتلفَ المرزَّأ لم ... يُمتع بضعف ولم يمت طِبعَا5
أودى وهل تنفع الإشاحةُ من ... شيء لمن قد يحاول البِدَعَا6
معاني المفردات
4 الألمعي: حاد الذكاء، يريد أنه يحدس الأمور فلا يخطئ وأنه فطن صادق الظن جيد الفراسة.
5 المرزأ: الذي تصيبه الرزايا في ماله لكرمه، يمتع: يصاب، الطِبع: اللئيم.
6 أودى: مات، الإشاحة: الجد في طلب الشيء، البدع: الأمور الغريبة.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص209
كانوا أحيانًا حين يذكرون المَوتَ يتأسون ويتعزون عنه بأنه حوض لا بد من وروده وقد سبقتهم إليه الأجيال الماضية من ملوك وغير ملوك1:
وعلى هذا النحو ألمَّ الشاعر الجاهلي بجوانب الرثاء الثلاثة من الندب والتأبين والعزاء، وكان رثاؤه غالبًا يتعلق بأفراد وقلما تعلق بمجموعة من الفرسان، ومن هذا القبيل قصيدة أصمعية لأبي دؤاد الإيادي يرثي فيها من أوْدَى من شباب قبيلته وكهولهم، ونراه يقول في مطلع رثائهم2:
لا أَعدُّ الإقتارَ عُدْمًا ولكن ... فقد من قد رُزِئْتُهُ الإعدامُ
ويستمر يبكي فيهم الرءوس العظام وخلالهم من التأني والرفق والكرم وطيب الأرومة وشجاعة الأسد وما يخلط فرط حدتهم من أحلام وعقول راجحة، ويقول: إنهم أصبحوا هامًا وصدَى؛ إذ كانوا يعتقدون أن عظام الميت تتحول هامة تطير وصدى ما يزال يقول اسقوني:
سُلِّطَ الدهرُ والمَنُونُ عليهم ... فلهم في صَدَى المقابر هامُ
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسراتٍ وذكرهم لي سَقام
وبجانب هذا الرثاء كان عندهم مديح واسع يتمدحون فيه بمناقب قبائلهم وسادتها. وكانوا كثيرًا ما يمدحون القبيلة التي يجدون فيها كرم الجوار متحدثين عن عزتها وإبائها وشجاعة أبنائها وما فيهم من فتك بأعدائهم وإكرام لضيوفهم ورعاية لحقوق جيرانهم3.
وكان بعض السادة تمتد مآثرهم إلى من حولهم من القبائل فكان يتصدى لهم شعراؤها يمدحونهم لمكرماتهم التي أدوها، كأن يفتكوا أسيرًا، على نحو ما صنع خالد بن أنمار بابن أخت المثقب العبدي؛ فكان جزاؤه منه مدحة جيدة، يقول فيها:
المفردات
مترع: ملآن. ربعي الندى: نسب نداه إلى الربيعة كناية عن كثرته وإمراعه، والندى: الكرم. ويقول إن مجلسه غير لطم فهو لا يتلاطم فيه، إنما هو مجلس سكون وحلم.
مُتْرَعُ الجَفْنَةِ رِبْعِيُّ النَّدَى ... حَسَنٌ مجلسُه غيرُ لُطَمْ
ولا نصل إلى أواخر العصر الجاهلي حتى يتخذ الشعراء المديح وسيلة إلى الكسب؛ فهم يقدمون به على السادة المبرزين وملوك المناذرة والغساسنة يمدحونهم وينالون جوائزهم وعطاياهم الجزيلة. وأخذوا في أثناء ذلك يعنون بهذه القصائد عناية بالغة حتى تحقق لهم ما يريدون من التأثير في ممدوحيهم. واشتهر بذلك زهير والنابغة وحسان بن ثابت، أما زهير فاختص بأشراف قومه، وأما حسان فاختص بالغساسنة، ولعلقمة بن عبدة فيهم مفضلية بديعة نظمها في الحارث الأصغر يتشفع لأخيه وقد وقع في يديه أسيرًا1. أما النابغة فخص النعمان بن المنذر بمدائحه، وتصادف أن وقع بعض قومه أسرى في أيدي الغساسنة؛ فأقبل عليهم يمدحهم ويتشفع فيهم؛ مما كان سببًا في غضب النعمان بن المنذر عليه، وسرعان ما أخذ يقدم له اعتذارات هي من أروع ما دبجه الجاهليون.
ومعنى ذلك أن الاعتذار نشأ نشوءًا من المديح وفي ظلاله، وإن كانت تتداخل فيه عاطفة الخوف مع عاطفة الشكر والرجاء. ومما ينحو نحو الاعتذار ما ظهر عندهم من فنون عتاب كان ينشئه بعض الشعراء ملامة لما قد يصيبه من أذى الأقارب على نحو ما نجد عند ذي الإصبع العُدواني2 والمتلمس3.
ولكن عتابهم واعتذارهم قليل، أما المديح فكثير كثرة مفرطة؛ إذ رحل به الشعراء إلى الملوك والأشراف يمتارون به، ويرجعون إلى أهليهم بُجْر الحقائب. ويظهر أن المناذرة خاصة كانوا يتخذونه وسيلة للدعاية لهم في القبائل، فكثر الشعراء حولهم وأخذ يموج بهم بلاطهم منذ عمرو بن هند، فقد قصده كثيرون من أمثال المثقب العبدي الذي لجأ إليه يمدحه بعد إيقاعه بقبيلته، وممن رحل إليه المتلمس والممزق العبدي وطرفة والمسيب بن علس. وكان النعمان بن المنذر ممدحًا للشعراء ومن بديع ما نظم فيه قول حجر بن خالد4:
سمعت بفعل الفاعلين فلم أجد ... كفعل أبي قابوس حزمًا ونائلا
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص204)
يُساقُ الغَمامُ الغُرُّ من كل بلدةٍ ... إليك فأضحى حول بيتك نازلا
فإن أنت تهلك يهلك الباعُ والنَّدى ... وتضحى قلوص الحمد جرباء حائلا1
فلا ملك ما يبلغنك سعيه ... ولا سوقه ما يمدحنك باطلا
وانتهى هذا الفن من فنون شعرهم إلى الأعشى فأصبح حرفة خالصة للمنالة والتكسب؛ إذ لم يترك ملكًا ولا سيدًا مشهورًا في أنحاء الجزيرة إلا قصده ومدحه وفخم شأنه معرضًا بالسؤال.
وإذا تركنا المديح إلى الغزل وجدناه موزعًا بين ذكريات الشاعر لشبابه ووصفه للمرأة ومعروف أن أول صورة تلقانا في قصائدهم هي بكاء الديار القديمة التي رحلوا عنها وتركوا فيها ذكريات شبابهم الأولى، وهو بكاء يفيض بالحنين الرائع، ومر بنا أنهم يردونه إلى شاعر قديم سبق امرأ القيس هو ابن خذام، وربما كان في ذلك ما يدل على أن هذا الجزء من غزلهم يسبق في قدمه الأجزاء الأخرى فيه.
ونراهم يقفون عند المرأة فيصفون جسدها، ولا يكادون يتركون شيئًا فيها دون وصف له؛ إذ يتعرضون لجبينها وخدها وعنقها وصدرها وفمها وريقها ومعصمها وساقها وثديها وشعرها، كما يتعرضون لثيابها وزينتها وحليها وطيبها وحيائها وعفتها2. وقد يتعرضون لبعض مغامراتهم معها. وهي مغامرات تحوَّل بها بعض الرواة إلى قصص غرامية على نحو ما قصوا عن حب المرقش الأكبر لأسماء والأصغر لفاطمة بنت المنذر وعن حب المنخل اليشكري للمتجردة زوج النعمان، وله قصيدة رائعة رواها الأصمعي وهي تجري على هذا النمط3:
ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر ... فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
ولَثَمْتُها فتنفست ... كتنفس الظبي البهير1
فدنت وقالت يا مُنَـ ... ـخل ما بجسمك من حرور
ما شفَّ جسمي غير حُبِّـ ... ـك فاهدئي عني وسيري
ووقف الشعراء طويلًا يصورون حبهم للمرأة وما يذرفون من دموعهم على شاكلة قول بشر بن أبي خازم2:
فظلت من فرط الصبابة والهوى ... طَرِفًا فؤادُك مثل فعل الأيهم 3
وكانت ذكراها لا تزال تلم بهم، ومن ثم أكثروا الحديث عن طيفها وما يثيره في أنفسهم من تباريح الحب4 ولهم في وصف هذه الذكرى وما تصنع بهم شعر كثير يصفون فيه صبابتهم على شاكلة قول المرقش الأصغر5:
صحا قلبُه عنها، على أن ذِكْرَةً ... إذا خطرتْ دارتْ به الأرضُ قائما
وكانوا كثيرًا ما يصفون ظعنُها، وهي ترحل في الجزيرة من موضع إلى موضع، وكان الرحلة أساسًا في حياتهم؛ فهم يرحلون وراء منابت الغيث، وينتقلون معها حيث حلت، وفي معلقة زهير وصف طويل لهذه الظعن وربما فاقه في هذا الوصف المثقب العبدي في قصيدته :
أفاطمُ قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألتِ كأن تبيني
فإني لو تخالفني شِمالي ... خلاَفك ما وصلتُ بها يَميني
وقد مضى يصف ظعنها ويتتبع سيرها وما تصنع هي وصواحبها في قلوب الرجال وهن يظهرن بكلَّة ويسدلن أخرى ويرسلن براقعهن على وجوههن وذوائبهن على ظهورهن:
أساليب الشعر.
(وهنا نشير إلى مسألة أخرى هي اختلاف أساليب الشعر باختلاف الموضوعات التي يتناولها؛ إذ كان من الملاحظ أن أسلوب الحماسة أو الفخر قوي جليل، وأن أسلوب العتاب أو النسيب، رقيق جميل، وأسلوب الوصف الطبيعي رائع جذاب؛ فما سبب هذا الاختلاف، وما مظاهره اللفظية؟
من المقرر الثابت أن الشعر فن جميل ينشأ عن الناحية الوجدانية للنفس الإنسانية فيعبر بلغته الكلامية الموسيقية عن أنواع الانفعال والعواطف.
والانفعال قوة وجدانية تسيطر على النفس وتصحبها تغبيرات جثمانية ظاهرة وأخرى عقلية باطنة، واضطرابات عصبية من الممكن أن يلحظها الإنسان في نفسه، وفي غيره، في أحوال الغضب والرضا، والفرح والحزن، والتفاؤل والتشاؤم، والفزع والهدوء، على تفاوت في الكم والكيف، وفي طبيعة الانفعال لذة وألما، وبساطة وتركيبا إلى غير ذلك. لاحظ الخائف وما يحل به من انقباض عام، وضيق نفسي، وجفاف في الحلق، وخفة في النفس، وارتعاد في العضلات، ثم ضيق دائرة الشعور وقصره على ما يتصل بموضوع الانفعال، وقد يبلغ به الأمر إلى نسيان عهوده ومواثيقه، واكتسابه شخصية أخرى.
فالانفعال يؤثر في الجسم والعقل والسلوك سواء أكان خوفا أم حبا، أم بغضا أم إعجابا.. ولكن بدرجات مختلفة كما أسلفنا
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص73
التداخل بين الأسلوبية والشعرية، للأسلوبية علاقة بالشعرية، بحيث تشمل هذه الأخيرة الأسلوبية بوصفها مجالا من مجالاتها البارزة" ، لكن جون لويس كابانيس يبين ذلك بطريقته الخاصة، حيث يؤكد أن التداخل بين الشعريات والأسلوبيات راجع إلى اهتمامها-في الفترات الأخيرة- بالأسلوب، ومفهوم الانحراف، التي عمدت إلى دراسة أسلوب الكاتب، ونظرت إلى الأسلوب على انه انحراف نسبة القاعدة التي يكونها اللسان المعاصر، فتطورت الأسلوبيات حتى وجدت نفسها معنية بالأسلوب، ومفهوم الانحراف، والجنس الأدبي، انظر موقع مربد .نت
معاني المفردات:
1 البهير: من البهر وهو ما يعتري الإنسان والحيوان عند السعي الشديد من النهج وتتابع الأنفاس.
أَرَيْنَ محاسنًا وكَنَنَّ أُخرى ... من الأَجْياد والبشَرِ المصونِ
ويقول: إنهن كن يمددن أعناقهن مستشرفات للنظر وصاحبته بينهن تفوقهن حسنًا وجمالًا. وكن كطبيعة النساء في كل عصر ينصرفن عن الشيب ومن قل ماله1؛ ولذلك كثر عتابهم معهن، وخاصة من حيث ما يأخذنه عليهم من البذل الذي يذهب بأموالهم، ودائمًا نراهم يحتجون عليهن بأن خلود المرء في بذله لا في ثرائه2. وقد يصورون في تعلقهم بالمرأة ضربًا من المتاع الحسي، على نحو ما يصور ذلك طرفة في معلقته وكذلك امرؤ القيس، ومرد ذلك إلى ضرب شاع عندهم من الفتوة؛ فهم يتمدحون بأنهم ينالون من المرأة ما يريدون، وكانوا وثنيين ولم يكن هناك دين يردعهم. على أن منهم من كان يتسامى في غزله حتى ليمكن القول بأن الغزل العذري له أصول في الجاهلية عند عنترة وأضرابه.
ومن المؤكد أن المرأة الحرة لم تكن ممتهنة عندهم؛ بل كانت في المكان المصون، وكان الشاعر يستلهمها شعره؛ ولذلك كان يضعها في صدر قصيده، ونحس عند كثيرين منهم -وخاصة فرسانهم من مثل عنترة- أنهم يقدمون مغامراتهم في الكرم وفي الحرب لها لينالوا حبها، وكان أكثر ما يشجيهم ويبعث الموجدة في قلوبهم أن تؤسر وتسبى؛ فكان لا يقر لهم قرار إلا أن يعودوا بها مكرمة إلى ديارهم.
ومن موضوعات شعرهم المهمة الوصف، وقد وصفوا كل شيء وقعت عليه أعينهم في صحرائهم، وفي العادة يذكرون ذلك بعد غزلهم وتشبيبهم؛ إذ يخرج الشعراء إلى وصف رحلاتهم في الصحراء، فيتحدثون عن قطَعهم للمفاوز البعيدة، فوق إبلهم، ويأخذون في وصفها وصفًا مسهبًا على نحو ما هو معروف عن طرفة في وصفه لناقته بمعلقته وقد كاد أن لا يترك فيها عضوًا ولا جزءًا دون وصف وتصوير، والمفضليات والأصمعيات تزخر بأحاديثهم عنها ومقدار ما كانوا يرون فيها من جمال وكانوا يشبهونها بالقصور ويشبهون قوائمها بالأعمدة وقد يشبهونها بالسفن والقناطر ويشبهون قوائمها بجذوع الطلح ويديها بالصخر الغليظ أو بيدي السابح، وصوتها
(أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص214)
بصوت القصب وخفافها بالمطارق. وقد يشبهونها بالجبل ويشبهون صدرها بالطريق وكانوا يشبهونها بكثير من الحيوان مثل الظليم والثور وحمار الوحش، وحينئذ يستطردون إلى وصف هذه الحيوانات وما يكون من عراك بينها وبين كلاب الصيد1، يقول الجاحظ: "ومن عادة الشعراء إذا كان الشعر مرئية أو موعظة أن تكون الكلاب هي التي تقتل بقر الوحش، وإذا كان الشعر مديحًا وقال كأن ناقتي بقرة من صفتها كذا أن تكون الكلاب هي المقتلوة. ليس على أن ذلك حكاية عن قصة بعينها؛ ولكن الثيران ربما جرحت الكلاب وربما قتلتها. وأما في أكثر ذلك فإنها تكون هي المصابة والكلاب هي السالمة والظافرة وصاحبها الغانم"2. وكأنهم كانوا يتخذون قتل الكلاب في المديح رمزًا لأعداء الممدوح، وكانوا فعلًا يشبهونهم بالكلاب .
وعلى نحو ما أكثروا من وصف الإبل أكثروا من وصف الماعز، كما أكثروا من وصف الخيل وشبهوها بضروب من السباع المنعوتة بالمخالب وطول الأظفار ولامرئ القيس قطعة بديعة بمعلقته يصف فيها فرسه الذي اتخذه للصيد، وفيها يقول:
له أَيطلا ظَبْيٍ وساقا نعامَةٍ ... وإرخاءُ سِرْجانٍ وتقريب تَتفُلِ
يقول أبو عبيدة: "ومما يشبه خلقه من خلق النعامة طول وظيفها5 وقصر ساقيها وعُرْي نسيبها6 ومما يشبه من خلقه خلق الأرنب صغر كعبها، ومما يشبه من خلقه خلق الحمار الوحشي غلظ لحمه وظمأ فصوصه وسَراته7 وتمحُّص8 عصبه وتمكن أرساغه وعرض صهوته، ومما يشبه من خلقه خلق الكلب هَرَتُ11 شدقه وطول لسانه وكثرة ريقة وانحدار قَصِّه12 وسبوغ ضلوعه وطول ذراعيه ورُحْب
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص215
معاني الكلمات
4 أيطلا الظبي: خاصرتاه، الإرخاء: سير السرحان وهو الذئب. والتتفل: الثعلب، وتقريبه: قفزه ووثبه.
5 الوظيف: مستدق الساق والذراع.
6 النسي: عرق في الساق
7 ظمأ هنا: ضمور، الفصوص: ملتقى كل عظمتين، سراته: أعلاه.
8 تمحص: شدة.
9 الرسغ في الحيوان: المستدق بين الحافر وموصل الوظيف من اليد والرجل.
10 الصهوة: مقعد الفارس على الفرس.
11 هرت: اتساع.
12 قصه: صدره.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص215
جلده ولحقو1 بطنه". وكثيرًا ما وصفوا كلاب الصيد وسموها أسماء كثيرة ولأبي زُبَيْد الطائي قصيدة طريفة يصور فيها معركة بين كلب له وأسد، وقد حطمه الأسد حطمًا3. وكما ذكروا الأسد ووصفوه وصفوا الذئب كقول طفيل الغنوي وقد شبه فرسه بذئب4:
كسيدِ الغَضا العادي أضَلَّ جِراءَهُ ... على شَرَفٍ مُسْتَقْبِلَ الريحَ يَلْحَبُ5
وذكروا الهر والديك والخنزير في وصفهم لنشاط الناقة فقال أوس بن حجر6.
كأن هِرًّا جَنيبًا عند مغرضها ... والتفَّ ديك برجليها وخنزيرُ
وقد ذكروا كثيرًا الضباع والرخم والعقبان والنسور والغربان وأكلها القتلى7 كما ذكروا الحُبارى والضب واليربوع والجرذان والجراد والأرانب والضفادع والوعول أو المعز الجبلية، وتعرضوا كثيرًا لوصف الحيات والأفاعي، ويشبه عنترة نفسه إزاء بعض أعدائه بأسود قد علق فيه نابه، ويقول في بعض وصفه له8:
رقود ضحيات كأن لسانه ... إذا سمع الأجراسَ مكحالُ أَرْمَدَا9
وعلى نحو ما وصفوا الحيوان والزواحف وصفوا الطير، وكثيرًا ما يستطردون من وصف فرسهم بالعقاب إلى وصفها10، وكانوا يذكرون الغراب كثيرًا ويتشاءمون به، وفيه يقول عنترة11:
ظعَنَ الذين فراقَهم أتوقَّعُ ... وجرى بِبَيْنِهمُ الغراب الأبقع12
الأسلوب
1.الأسلوب: (هو فن من الكلام سوآءا كان قصصا أو حوارا، تشبيها أو مجازا أو كناية، تقريرا أو حكما وأمثالا للأسلوب معنى أوسع فيشمل الفن الأدبي، فالأسلوب عند ابن خلدون صورة ذهنية تغمر النفس وتطبع الذوق الأساس فيها الدربة النابعة عن قراءة النصوص الإبداعية المتفردة ذات البعد الجمالي الأصيل اللغة هي الأداة التصوير الذهني)1
2.صفات الأسلوب: الوضوح: (لأنه يحقق الغاية الأساسية، وهي الإفهام، وقال السكاكي علم المعاني هو تتبع الحواص تراكيب الكلام في الافادة وما يتصل بتا من الاستحسان وغيره ليحترز با لوقوف عليها في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره ، وأبو يعقوب السكاكي لما جاء بعد الجرجاني ميز المباحث البلاغة فميز بعضها عن بعض تماما وجعل لكل مبحث منها علما خاصا، والسكاكي يعد إلى حد ما من تلامذة عبد القاهر الجرجاني ولكنه كان ناقدا ولم يكن أديبا، لأن أسلوبه في كتابه ليس أسلوب البليغ الممتاز مثل عبد القاهر الجرجاني لأن العجمة كانت غالبة على أسلوبه فكان في أسلوبه كثير من الغموض والتعقيد وضعف التأليف )2
3.محددات الأسلوب في الأسلوبية: (لقد دأب النقاد الأسلوبيون المعاصرون على رصد أساليب الكتاب وتفردهم واختلافهم، من خلال المقولات الثلاث: الاختيار ـ التركيب ـ الانزياح)3
4..اتجاهات علم الاسلوب: اتجاهات علم الأسلوب ومن هذا الفهم لمعنى «الأسلوب» تتفرع اتجاهات العلم الذي يدرسه ثلاثة اتجاهات:
1- اتجاه يدرس الأسس النظرية للبحث عن الأسلوب، وهو ما يمكن أن يسمى «علم الأسلوب»
2- اتجاه يدرس الخصائص الأسلوب في لغة معينة، يهدف إلى بحث «الطاقات التعبيرية» في هذه اللغة سواء في لغة الكتابة أم في غيرها، وهو بهذا يعد عملا تطبيقيا عاما يتناول «التنوعات» اللغوية على غير أساس فردي، كذلك البحث القيم الذي قدمه عن الأسلوب
3- أما الاتجاه الثالث فهو الذي يدرس لغة شخص واحد كما يمثلها إنتاجه الأدبي، وهذا هو الاتجاه الغالب في علم الأسلوب، وإليه تتجه معظم الرسائل الجامعية المتخصصة. وهو يخضع لغة الأديب لأنواع من التحليل يحاول بها أن يصل إلى معايير موضوعية تعين الناقد على التفسير)4
1. التحليل الأسلوبي
1. التحليل الأسلوبي:هو الذي يفسر العلاقة بين الإبداع عند الأديب والإبداع الذهني عند المتلقي
مستويات التحليل: على أن أهم ما يطبقه علم الأسلوب داخل هذه الاتجاهات أنه يستخدم مستويات التحليل اللغوي، وهي
1. تحليل الأصوات
2. تحليل التركيب
3.تحليل الألفاظ
وعلم الأسلوب يرى في دراسة «التركيب» عنصرا مهما جدا في بحث الخصائص المميزة لمؤلف معين، وهو في الأغلب يتوجه إلى بحث العناصر الآتية:
1- دراسة طول الجملة وقصرها.
2- دراسة أركان التركيب وبخاصة المبتدأ أو الخبر، والفعل، والفاعل، والعلاقة بين الصفة والموصوف، والإضافة، والصلة، وغير ذلك.
3- دراسة «الروابط» كبحث استعمال المؤلف للواو،أو الفاء، أو ثم، أو إذن، أو أما، أو إما، ودلالة كل ذلك على خصائص الأسلوب.
4- دراسة «ترتيب» التركيب على أن دراسة التركيب عند الأسلوبيين لا تقتصر على بحث جزء الجملة أو الجملة، وإنما يتعداها إلى بحث الفقرة والموضع ثم العمل الفني كاملا.
ثالثا- الألفاظ: وهو من أهم عناصر التحليل الأسلوبي لما له من تأثير جوهري على المعاني، ونحن نركز هنا على ما يلي:
1- دراسة الكلمة وتركيباتها وبخاصة بحث «المورفيمات» التي يستخدمها المؤلف.
2- الصيغ الاشتقاقية وتأثيرها على الفكرة.
3- «المصاحبات» اللغوية إذ إن هناك ألفاظا معينة في اللغة لا نكاد ننطقها إلا وتستصحب معها ألفاظا أخرى معينة،
4- دراسة المجاز على أن يكون ذلك مجازا أصيلا بمعنى ألا نجري وراء كل ما نلحظ من أركان التشبيه أوالاستعارة لأن كثيرا منها يتحول مع الزمن ومع الاستعمال إلى مجاز
يمكن للناقد الأدبي أن يعتمد عليها في الوصول إلى موضوعية التفسير.
5.الأسلوب الصوتي: تتحدد مستويات التحليل الأسلوبي من خلال التعريف الذي وضعه دي سوسير للكلام فيما يلي:
أ- الصوت (أو الإيقاع): يرى أحد الباحثين أن الإيقاع: هو تنظيم لأصوات اللغة بحيث تتوالى في نمط زمني محدد، ولا شك أن هذا التنظيم يشمل في إطاره خصائص هذه الأصوات كافة...فإن الصوائت التي هي أطول الأصوات في اللغة العربية)5
الأسلوبية والنص الأدبي: تركز الأسلوبية ـ بوصفها منهجاً نسقياً يقصي من طريقه كل السياقات الخارجة عن النص، على مقاربة لغة النص، وأسلوب الكاتب فيه انطلاقاً من إمكاناته اللغوية المتاحة، ومن ثم فهي ترتكز قراءتها للنص على مفهوم الأسلوب كمجموعة من الخيارات يقوم بها الكاتب في نصه على مستويات اللغة المختلفة.
المصادر والمراجع
1. أحمد الشايب الأسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 ص 198
2. الصعيدي عبد المتعال، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علم البلاغة، المطبعة النموذجية ب د ت الجزء الأول ص37
3. أحمد الشايب، الاسلوب، مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003، ص 198
4. نفس المرجع، ص 198
5. نفس المرجع، ص 198
معاني المفردات:
2 يعكفن: يمشطن شعرهن، والأساود: الأفاعي، والتنوم: شجر، ولم تعكف لزور كناية عن عفتهن.
4 الشتيت: المتفرق يريد أسنانها المفلجة، واضحًا: أبيض.
والرديني: الرمح.
وكان الجاحظ يعجب إعجابًا شديدًا بوصف عنترة لبعض الرياض وتصويره للذباب وحركة جناحيه حين يسقط، إذ يقول:
جادَت عليها كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ حديقةٍ كالدِّرْهَمِ2
فترى الذبابَ بِها يُغَنِّي وحده ... هَزِجًا كفعل الشارب المترنم
غَرِدًا يَحُكُّ ذِرَاعَه بذراعهِ ... فعل المُكِبِّ على الزِّنادِ الأَجْذم3
فقد شبه قرارات الروضة وحفرها بالدراهم، وشبه صوت الذباب بصوت الشارب المترنم، وما زال يطب صورة نادرة حتى وقع على الصورة الأخيرة؛ إذ شبه الذباب في حركة أجنحته الدائبة حين يسقط برجل مقطوع اليدين يقدح النار من عودين أو زَندين فلا تقتدح، فيستمر في قدحه لا يفتر.
وبجانب التشبيهات الكثيرة التي تلقانا في شعرهم نجد الاستعارة بفرعيها من التصريحية والمكنية، وهي مبثوثة في أقدام أشعارهم. نجدها عند امرئ القيس ومعاصريه كما نجدها عند من جاءوا بعده، ومن أمثلتها الطريفة عند امرئ القيس تصويره طول الليل وفتوره وبطئه ببعير جاثم لا يريم؛ إذ يقول في معلقته مخاطبًا الليل:
فقلتُ له لما تمطَّى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل4.
وأنشد ابن المعتز في كتابه "البديع" كثيرًا من استعاراتهم مثل قول أوس بن حَجر:
وإني امرؤ أعددت للحرب بعدما ... رأيتُ لها نابًا من الشر أَعْصَلا5
وقول علقمة بن عبدة:
بل كلُّ قوم وإن عَزُّوا وإن كرموا ... عَريفُهم بأثافي الشرِّ مَرْجُومُ6
معاني المفردات:
2 العين الثرة هنا: السحابة غزيرة المطر، وشبه الحديقة بالدرهم في استدارته.
3 الأجذم: مقطوع اليدين.
4 الكلكل: الصدر.
5 الأعصل: المعوج في صلابة.
6 العريف: الرئيس، والأثافي: الحجارة التي تنصب عليها القدر، استعارها لنوائب الدهر.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف ص229
وقول طُفيل الغنَوي في وصف ناقته:
وجعلتُ كوري فوق ناجية ... يقتاتُ شَحْمَ سنامها الرحل
وقول الحارث بن حلزة اليشكري:
حتى إذا التفع الظباء بأَطـ ... ـراف الظلال وقِلْنَ في الكُنْسِ2
وفي شعرهم كثير من هذه الاستعارات الطريفة، وسنعرض لطائفة منها ومن التشبيهات في دراستنا لشعرائهم المبرزين، وكانوا يضيفون إلى ذلك عناية ببعض المحسنات التي شاعت في الشعر العباسي وكثُر استخدامها فيه حتي اتخذها بعض الشعراء مذهبًا يطبقها على جميع أبياته أو جمهورها، ونقصد الطباق والجناس، فلهما أصول في الجاهلية، ونحن نجدهما عند امرئ القيس في وصفه لفرسه إذ يقول:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ
كُمَيتٍ يَزِلُّ اللِبدُ عَن حالِ مَتنِهِ ... كَما زَلَّتِ الصَفواءُ بِالمُتَنَزَّلِ3.
والطباق واضح في البيت الأول ومثله الجناس في البيت الثاني. وقد أنشد المفضل الضبي لعبد الله بن سلمة الغامدي قصيدة كثر في آخرها الجناس كثرة مفرطة، حتى لكأننا بإزاء شاعر عباسي من شعراء البديع، يقول عبد الله4:
ولقد أصاحبُ صاحبًا ذا مَأْقَةٍ ... بصِحاب مُطَّلِع الأَذَى نقريس 5
ولقد أزاحم ذا الشذاة بمزحم ... صعب البداهة ذي شذا وشريس6
معاني مفردات:
1 الكور: الرحل، ناجية: ناقة سريعة.
2 التفعت الظباء بالظلال: دخلت فيها واكتنت من الحر. وقلن: أمضين القائلة وهي نصف النهار. والكنس: جمع كناس وهي حفرة تحفرها الحيوانات الوحشية في أصل شجرة لتستتر فيها.
3 الكميت: الأحمر في سواد، يزل: يسقط، يريد أنه أملس المتن. الصفواء: الصخرة الملساء، المتنزل: النازل عليها.
5 المأقة: حدة الغضب، وصحاب: مصدر صاحب، مطلع الأذى: مالك له في استعلاء، والنقريس: الحاذق.
6 ذا الشذاة: ذا الأذى. بمزحم: شديد المزاحمة. صعب البداهة: شديد المفاجأة. والشذا: الأذى، والشريس: الشراسة.
ولقد أداوي داء كل مُعَبَّدِ ... بِعَنِيَّة غَلَبَتْ على النِّطِّيسِ1
فقد جانس في البيت الأول بين أصاحب وصاحبا وصحاب، وجانس في البيت الثاني بين أزاحم وبمزحم والشذاة وشذا وأدخل حرف الشين على كلمة شريس، وجانس في البيت الأخير بين أداوي وداء.
وتلك كلها محسنات كان الشاعر الجاهلي يعني بها حتى يؤثر في نفوس سامعيه ويخلب ألبابهم، وهي تصور مدى ما كان يودعه قصيدته من جهد فني، وخاصة من حيث التصوير ودقته وبراعته؛ فقد كان ما يزال يجهد خياله يأتي فيه بالنادر الطريف.
أحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، الناشر: دار المعارف، ص232
معاني المفردات:
1 المعبد: البعير الأجرب، أراد به الشريز. العنية: من أدوية الجرب. النطيس كالنطاسي: الطبيب الماهر.
المبحث الثاني: صور المراثي في الشعر الجاهلي
المراثي يعبر المراثي عن الحزن واللوعة، (الّتي تنتاب لغياب عزيز بفقده، بتعداد مناقبه والإشادة بمآثر التوجع وتتردد فيه صولة الموت وسلطان الفناء، وتطورت صور الرثاء ونماذجه و(أشعار الجاهلية مشهورة معروفة، وإنما نملي منها العيون) (المبرد، بدون ص 58)1 والذي يتضمن البكاء على الميّت وإظهار لوعة الفراق والحزن تعديد مناقب الميت ويسرد الحقائق بوضوح، مع بيان مكانة الميت (بصدق، ويحرص على إذاعتها، تجد في عبارته صدى ذلك، ، وإنما هي من صدق العقيدة وصحة الفهم والغرض إيقاظ العقل، والعواطف) (الشايب،2003: 194)2
1- الرثاء:
الرّثاء في اللغة مُشتق من الفعل (رثى) يُقال: رثَى الميْتَ رثياً رثّاهُ، ورثيْتُ الميّتَ رثياً ورثاءً ومرثاةً ومرثيةً، ورثَيتُهُ مدحْتُهُ بعدَ الموتِ وبكيتُهُ ، ورثي له: أي رقَّ لهُ ورثا الميّتَ يرثوهُ رثواً: بكاهُ وعدَّدَ محاسِنَهُ .
والرثاء في الاصطلاح هو تأبين الميّت وذكر محاسنه وفضائل أخلاقه، وهو تصوير ما يترك فقده من أثر في القلوب من أسىوحسرة وفزع سواء بالشّعر أو بالنثر، ويرتكز الرّثاء خاصة على الجانب العاطفي؛بل يمكن القول أنه لصيق بالجانب الشّعوري وبمواجيد النفس الإنسانية، لأنّه يستمد مادته من أحاسيس القلب، ويجد فيه الراثي متنفساً عما يكنه قلبه من آلام وأشجان يؤطرها بأشعار ومقولات سامية عميقة، تتخلد كلما ذُكر المرثي.
2- التأبين:
عرّفه أهل اللغة بأنّه:"مدح الرّجل بعد موته" ، ويذكر ابن منظور في اللّسان:أبّن الرجل تأبيناً، أي مدحه بعد موته وبكاه" ، وقد اعتُبر شعر الخنساء مزجا بين التأبين والرثاء، ولا فرق بين المدح والتأبين ذكره قدامة فقال:" لا فضل بين المدح والتأبين إلاّ في اللفظ دون المعنى"
عرَف العربُ النّدب في جاهليتهم إذ كانوا يجتمعون لمشاركة أهل الميّت مصابهم، وقد أباحه الإسلام بشّرط ألاّ يصاحب البّكاء خمشُ ولطمُ للوجه وحلق للشّعر والضرب بالنّعال...مستندين بالحديث الذي يقول فيه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم"المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ" ، وقد عرّف الجوهري النّدب فقال:"هو بكاءُ الميّتِ وتعداد حسناته والنواح عليه بألفاظ حزينة، وعبارات تُذيب الأكباد الغليظة مما يصاحبها من صياح وعويل" ، ومن هنا فالنّدب هو بكاء النفس وأسفِها على فقدان الأهل والأقارب.. بل يمتد إِلى رثاء العشيرة والوطن والدولة حين تصاب بمحنة من المحن المحزنة.
3- العزاء: المفهوم العام للعزاء هو الصبر على ما يُصيب الإنسان من مصائب وأقدار وأوجاع، وقد اقتصر مفهومها على مصيبة الموت التي تخطف الولدان والأحبة، والعزاء هو الصبر عن كل ما فقدت. تقول: عزّيت فلاناً أُعزيهُ تعزيةً، أي آسيتُه، وضربت له الأسى، وأمرته بالعزاء فتعزى تعزياً، أي تصبَّر تصبراً، وتعازي القوم: عزى بعضُهم بعضاً ،
4- النّعي: النّعي هو الإخبار وإشاعة الموت المقرون بمدح الميّت وتعداد صفاته، فنعى الميّت ينعاهُ نعياً، ونِعياً، إذا أذاع موته، وأخبر به، وإذا ندبه ، قال ابن الاثير:"والمشهور في العربية أنّ العرب كانوا إذا مات منهم شريف، أو قُتِلَ بعثوا راكباً إلى القبائل ينعاه إليهم، يقول نعاء فلاناً، أو يا نِعاء العرب: أي هلك فُلان أو هلكت العرب بموت فلان.
5- النياحة: النياحة هي إظهار الجزع والتسخط على موت الميت، والإحساس بالفاجعة،قال ابن حجر الهيثمي في الزواجر: "النّوح: هو رفع الصوت بالنّدب، ومثله إفراط رفعه بالبكاء" ، وصورته كما ذكر القرافي (ت: 1286م):"أنْ تقول النائحة لفظًا يقتضي فرط جمال الميت وحسنه، وكمال شجاعته وبراعته، وأبهته ورئاسته، وتبالغ فيما كان يفعل من إكرام الضيف، والضرب بالسّيف، والذّب عن الحريم والجار، إلى غير ذلك من صفات الميت التي يقتضي مثلها أن لا يموت، فإن بموته تنقطع هذه المصالح، ويعز وجود مثل الموصوف بهذه الصفات، ويعظم التفجع على فقد مثله، وأن الحكمة كانت بقاءه وتطويل عمره لتكثر تلك المصالح في العالم..." ، إذاً فالنياحة مثل ما تقدم هي رفع الصوت والإحساس بالحزن ومجارات المحزون وأهله ومواساته بالبّكاء والشفقة عليه.
ومن هنا نلاحظ ارتباطا كبيرا بين هذه المفاهيم:الرثاء،التأبين، النّدب، العزاء، النياحة.. ومدى التصاق معانيها بالحزن والأسى والصبر، على فقدان الميت ومدحه بذكر محاسنه وفضائله، وقد أدرك الشّعراء والبلغاء واللغويون هذه المعاني وفرقوا بينها لغويا، ولكن المعنى الاصطلاحي والدلالي واحد، وهذا الإحساس نابع من النظرة الإنسانية والعاطفية والأخلاقية التي يشترك فيها الفرد مع أخيه وعشيرته وأهل بيئته.
خصائص شعر الرثاء في العصر الجاهلي: لمّا كان الرثاء موضوعًا خاصًّا لحالةٍ خاصةٍ توجبَ أن يكونَ له مزايا خاصّة تميّزه عن غيره من الأغراض الشّعرية، والشّعر في طبعه يقوم على الصّورة والتّخييل، وهذا التّخييل في شعر الرثاء جاء خاصًّا به، وله خصائص معيّنة منها:
1. وضوح المعاني وبعدها عن الإغراب: فالشّاعر الجاهلي عندما يعبّر عن المعنى يعبّر عنه تعبيرًا مباشرًا دون تكلّفٍ، ومرجع ذلك هو نقله الواقعي للمشاعر والأحاسيس والأحداث دون أن يجعل اللفظ والتّزيين يغلب عليها.
2.عدم تبديل الحقائق وإيرادها كما هي: وهذا ما جعل جميع أشعارهم متشابهة وتكاد تكون واحدة، فطبيعة العصر اقتضت على الشعراء أن يكونوا أبناء بيئة واحدة، ومن هنا فقد كانت أشعارهم واحدة تكاد تتفق في كل شيء.
3.النقل الدّقيق للواقع: وعدم استخدام الصّور إلّا إذا كانت تخدم توضيح المعنى، فمن هنا يدرك القارئ أنّ الرمز في أشعارهم كان قليلًا وإن كان له حضور في شعر بعض الشعراء، ولكن السمة الغالبة عليهم هي الوضوح ولكن ليس بصورة مباشرة.
4. عدم عرض معانيهم الحسّية بصورة جامدة: بل بثُّوا فيها الحركة والحياة، وقد استمدّوا ذلك من حياتهم القائمة على الحركة، فالخيل والطيور والحيوانات الأهلية والوحشية في أشعارهم أعطت القصائد إيقاعًا عاليًا وحركة مستمرة.
5. تمام التّراكيب: فالألفاظ دالّة على معانيها التي وضعتْ لها، فقد كانوا يتخيّرون ألفاظهم للمعاني التي يريدون التعبير عنها، فلا يختارون اللفظ الضعيف للمعنى الجزل، ولا يختارون معاني الفرح للرثاء مثلًا، وهكذا.
6.الاستعانة بالمحسّنات اللفظية والمعنوية للتّأثير بسامعيهم: فقد كان الشاعر الجاهلي يعتني بقصيدته كثيرًا من حيث المعنى البديع واللفظ اللافت الذي يجذب السامع ليقف ويسمع القصيدة بكل جوارحه، أو يقرأها في العصر الحاضر. الصورة الفنية في شعر الرثاء الجاهلي لقد اتّبع الشّاعر الجاهلي أساليبٌ متنوّعة في عرض صوره، ومن هذه الأساليب استعانته بالطّبيعة التي يعيش فيها، فلمّا كان الشّاعر الجاهلي يعيش في الصّحراء تحت سمائها وعلى رمالها في خيمته جعل من الطبيعة أمرًا مسخرًا له يفعل ما يشاء بوساطته، وممّا جاء في استعانة الشّاعر بالطّبيعة في صوره البيانية في الرثاء
صور الرثاء في العصر الجاهلي: لقد تنوّعتْ صور الرثاء في العصر الجّاهلي وأشكاله تبعًا لطبيعة الرثاء وخصائصه والصّورة التي ظهر بها، فهو تبعًا لذلك على ثلاثة أنواع: الندب الندب -كما يعرّفه ابن منظور مؤلف كتاب لسان العرب- هو البكاء، فيقولون ندبَ فلانًا يندبُه ندبًا؛ إذا بكى عليه وعدّد محاسنه، وهو من الندب للجراح؛ لأنّه احتراق ولذعٌ من الحزن، وقيل: النّدبُ هو أن تدعو النادبةُ الميتَ بحسن الثناء،
من أشكال التّأبين في العصر الجاهلي: الوقوف على القبور، وذكر المتوفَّى عندها، فيذكر مناقبه وفضائله ولكن بقالب رثائي، فالتّأبين يبيّن نقطة الاشتراك بين المراثي والقصائد المدحيّة، فتعداد المناقب والصّفات الحسنة للميّت هي من المديح، وكذلك يرسم الشّاعر للمرثي صورة تكاد تكون كاملة، فيصفه بالحلم والسيادة والشّرف والشجاعة والمهابة والوفاء والكرم والأنفة والسماحة واللغة والبيان، وغير ذلك من الصفات الحسنة، كما يطرق الشّاعر الجاهلي إلى ذكر الأحساب والأنساب، وممّا جاء من التّأبين في المرثيّات الجاهليّة شعر تأبطّ شرًّا في رثاء صاحبين له فيقول:
أَبَعدَ قَتيلِ العَوصِ آسى عَلى فَتًى وَصاحِبِهِ أَو يَأمَلُ الزادَ طارِقُ أَأَطرُدُ نَهبًا آخِرَ اللَيلِ أَبتَغي عُلالَةَ يَومٍ أَن تَعوقَ العَوائِقُ لَعَمروُ فَتىً نِلتُم كَأَنَّ رِدائَهُ عَلى سَرحَةٍ مِن سَرحِ دَومَةَ شانِقُ
يرى الشّعراء الجّاهليون أنّ المال والناس كلّهم ودائع في هذه الدّنيا لا بدّ أن تعود إلى أصحابها، فيقول لبيد:
وما المال والأهلون إلّا ودائعٌ ولا بدّ يومًا أن تردّ الودائعُ
أثر البيئة على طبيعة شعر الرثاء الجاهلي هل للطبيعة القاسية والحياة التي ابتعدتْ عن الاستقرار تأثيرٌ على أشعار الرثاء
لقد تأثّرتْ المعاني التي استخدمها الشّعراء الجاهليون بالبيئة التي تولّدتْ بها على اختلاف نواحيها، من طبيعيّة وإنسانيّة واجتماعيّة وثقافيّة
البيئة الطبيعية لقد كانت الطّبيعة مصدر إلهام الشّعراء، فاستمدّوا منها معانيهم وجعلوها وسيلة يترجمون من خلالها أحاسيسهم ومشاعرهم، فعلى الرغم من صمتها فقد أنطقوها بمواجعهم وبما يدور بين حنايا صدورهم، فتجد الشّاعر الجاهلي قد تداخل مع الطّبيعة لشدّة تعلّقه بها فاتّحد معها بذات الألم والأمل، فالطّبيعة كانت تحمل مشاعر الشّاعر وتكون مرآةً له، فتجد الطبيعة تودّع الفرح عندما يرثي عبد الله بن عنمة بن حرثان الضّبي صديقه بسطام بن قيس بن مسعود الشيباني الذي قتل يوم الشقيقة.
شعر الرثاء النسائي في العصر الجاهلي امتاز شعر النساء في الرثاء إذ خلق الله المرأة وفي قلبها عاطفةٌ يكاد لا يتّسعها جرم، وفي داخلها حبٌّ يضيق به أيُّ جسدٍ آخر، فإذا ما أصاب الموت أحد أحبابها تجدها
الخنساء هي تماضر بنت عمرو بن الحارث السلمية، ، وهي أشهرَ من رثى في الجاهليّة من النساء، وقد فقدتْ الخنساء أولادها الأربعة أيضًا في معركة القادسيّة، وقد كانت حينها برفقتهم، وجمعتهم مساء ووعظتهم وفي الصباح انطلقوا إلى المعركة فاستشهدوا جميعًا، فلمّا بلغها النبأ قالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته"،
ولكنّها لم ترثي أبناءها كثيرًا، بينما أطالت في رثاء أخيها صخرٍ، ومما جاء في رثائها صخرًا
شعراء الرثاء في العصر الجاهلي مَن أشهر الشعراء الجاهليين الذين أغنوا أشعار الرثاء؟ صحيح أنّ من النساء الجاهليات نساء مشهورات بشعر الرثاء، ولكن كذلك كان هنالك شّعراء من الرجال قد برعوا في هذا الفن؛ فقد لمع كثير منهم في هذا الغرض من الشّعر، ومنهم: المهلهل بن ربيعة هو المهلهل بن ربيعة بن الحارث التغلبي، من بني جشم (443م -531م)، وقد كان شاعرًا وبطلًا من أبطالِ العرب، كان من الشعراء المكثرين من الغزل، ولكن بعد مقتل أخيه كليب صار يكثر من المراثي، اجتمعت عليه تغلب والقبائل التي حالفتها في حرب البكريين التي عرفت باسم حرب البسوس، وممّا جاء عن المهلهل بن ربيعة في الرثاء رثاؤه أخاه كليبًا الذي قتله جساس بن مرة،
دريد بن الصمة وهو دريد بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن بكر بن علقة بن جُداعة من قبيلة هوازن (483م - 630م)[٣٠]، أدرك الإسلام ولكنّه لم يسلم، بل بقي كافرًا وقُتل يوم حُنين حين اجتمعت هوازن وثقيف على قتال المسلمين، فكان دريد في جيش المشركين وقتل يومها، برع في شعر الرثاء، وممّا جاء في مرثياته رثاؤه لخالد الذي قيل إنّه قد قتله بنو الحارث بن كعب، وقيل خالد بن الحارث وقد قتله أحمس وهي بطن من شنوءة، فيقول يرثيه:
يا خالدًا خالدَ الأيسارِ والنّادي وخالدَ الرّيح إذا هبّتْ بصرّادِ وخالدَ القول والفعل المعيش به وخالدَ الحرب إذا عضّتْ بأزراد وخالدَ الرّكبِ إذ جدّ السّفارُ بهم وخالدَ الحيِّ لما ضُنَّ بالزَّادِ أوس بن حجر هو أوس بن حجر بن مالك الأسيدي التميمي (530م - 620 م)
، وهو زوج والدة الشاعر الجاهلي المشهور زهير بن أبي سُلمى، عُمِّرَ طويلًا ولكنّه لم يدرك الإسلام، ومما ورد من مراثي أوس بن حجر هو رثاؤه لعمرو بن مسعود بن عدي الأسدي الذي قتله النعمان بن المنذر اللخمي، وقيل إنّ من قتله هو كسرى ملك الفرس، فيقول راثيًا موته حزينًا على فقده ذاكرًا محاسنه وصفاته الحميدة شاكيًا تغيّر أحوال الدّنيا بسبب فقده مدعيًا أن ليس هناك من يشبهه،
والمراثي أكثر طرافتا في الشعر الجاهلي هو (مراثي الخنساء ومراثي ليلى الأخيلية، ومراثي لبيد في أخيه أربد، وعدي المهلهل فيمن بكاه من قومه )(المبرد ، بدون، ص 51)3
1.تقول الخنساء
قذى بالعين ام بالعين عوار...............ام اذرفت اذ خلت من اهلها الدار
كان دمعي لذكراه اذا مرت................فيض يسيل على الخدين مدرار
وان صخرا لتاتم الهداة به....................كانه علم على رأسه نار
(شيخو ، 1895م ، ص 25)4
1.من القصيدة حزن الشاعرة على فقد الميت
قذىً بعينك أم بالعين عوار ... أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار ؟
تخاطب الخنساء نفسها وتبكي له الحزن والألم وهذا حال المتألم دوما ما يبحث عمن يخفف عنه لوعته وحزنه .. وتوبيخ للنفس " هل في عينيك قذى وهو التراب أو بعض القذارة التي تصيب العين فتألمها وتوجعها والخوف من انمحاء الأصل لقد ظلت الخنساء في جلّ أشعارها مهووسة بالبكاء وذرف الدموع وسكب العبرات، متنقلة بين الوادي والجبل، والصحراء والواحة،
وتقول أيضا
إن صخراً لوالينا و سيدنا و إن صخراً إذا نشتو لنحار
و إن صخراً لمقدامٌ إذا ركبوا و إن صخراً إذا جاعوا لعقار
و إن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نار
جلدٌ جميل المحيا كاملٌ ورعٌ و للحرب غداة الروع مسعار
حمال ألويةٍ ، هباط أوديةٍ شهاد أنديةٍ ، للجيش جرار
تذكر الخنساء مدائح صخر (فهو الوالي والسيد والكريم المنحار " منحار " صيغة مبالغة لغرض الاكثار من كذا وهو شجاع مقدام في المعارك " " ركبوا " ايجاز يحمل العديد من المعاني الرائعة .. وهو من يستهدي به القوم في كل مكان فهو علم وراية للكرم والحق ... جميل وورع ومسعار في الحروب لا يخشاها ولا يخافها ... يحمل اللواء للحرب ويهبط الأودية في الليل غير خائف ولا جبان .. يشهد أندية قومه فهو سيد فيها وهو قائد الجيش في المعارك وصف رائع جدا دليل على الحب والاخاء (بن قتيبة 1423 ه ج: 2 ص335)5
المرأة والرثاء
وأجادت المرأة فن الرثاء منذ الجاهلية حتى في العصر المعاصرة، والجودة في الرثاء عند المرأة تعبر فطرة، لما تتميز به من صدق العاطفة والوجدان، وفاقت كثيرا من الشعراء في هذا الميدان وتتفوق على الرجال أيضا في ندب الموتى ، والنواح عليهم ، لما تمتاز به من حس مرهف وشعور رقيق، وعرف قديما أن البكاء والنواح على الميت من اختصاص النساء لضعف عزيمتها ، وشدة جزعها على المفقود مقارنة، وما دام أن الرثاء يبنى على شدة الجزع فالمرأة تتفوق فيه على الرجل
فالمرأة منذ العصر الجاهلي ، تفوق على الرجل في مجال الندب والناحية حليقة الرأس ، لاطمة
والشعور إثارة الحمية ، والمطالبة بالثأر والخدود بالأيدي ، والنعال ، وببعثة محد صلى الله عليه وسلم نهي عن ذلك لان تعاليم الدين الحنيف ينهى عن ذلك وأن تستبشر بالجنة ، وقد انعكس ذلك على شعرها، وولد الدين في معانيها القيم الروحية
الصدق العاطفي في الحزن: الصدق العاطفي في الحزن هي لحظة الحزن من اللحظات التي تكون المرأة فيها صادقاً مع نفسها ، فكل ما يصدر عنها محسوب عليها ، رغم أنها اللحظة الحقيقية التي تترك الأثر في النفس، لأن الرثاء يصدر عن نفس تعاني مرارة الحزن ، والأسى والشعور بفداحة الفقد ، والنساء أكثر النساء شعور في فقد أخوتهم، وأبنائهم أو بعض أهلهم
و لرثائهن وقع في النفس والوجدان، حقيقة العلاقة بين الأم والابن ، مهما بلغت درجة إيمان الأم بالله وبالموت ، فإن الأنين لا يفارقها حتى في حالة الاستسلام ، والرجوع إلى اللّه ، ومرجع ذلك هو موقع المرثي في نفس الراثي ، إنه الابن وهي الأم ، التي تهون عليها ، الدنيا بما فيها ومن عليها على أن تفقد ابنها
والندب: هو النواح والبكاء على الميت بالعبارات المشجية والألفاظ المحزنة التي تصدع القلوب القاسية ، وتذيب العيون الجامدة ، إذ يولول النائحون والباكون ويصيحون ويعولون مسرفين في النحيب وسكب الدموع
والفرق بين الرثاء في الجاهلية ، والرثاء في صدر الإسلام :
ففي الجاهلية كن يقمن الدهر على بكاء أولادهن ، أما الإيمان بالله فهو السلوان وفيه الرادع ، وبه الثواب ، والموت هو النهاية
أما رثاء الأخوة فهو لون من ألوان الرثاء الذي يظهر فيه أثر الإسلام جليا ، لأن الأخ من أشد المقربين إلى النفس ، ولكنه ليس في منزلة الابن ، فنلحظ في رثاء الأخوة العودة إلى اللّه ، والإيمان بالموت ، وانتشار المعاني الإسلامية الحكيمة والمرأة في الجاهلية ، كانت ا تندب وتنوح
أما الخنساء فإن فؤادها تقيح وهي مقيمة على النواح طيلة حياتها ،إن الخنساء لا يكفيها البكاء على أخيها ، بل كادت تقتل نفسها ،هكذا كان حال الباكيات في الجاهلية ، وإن استمر هذا الحال مع الخنساء ، حتى بعد دخولها الإسلام ، إلاّ أن الأمر مختلف بالنسبة للشواعر المسلمات فإنهن لا تشقين الجيوب ، ولا تعلن الحداد ، لأن الإسلام حرم ذلك.
فالشاعرة المسلمة تذكر محاسن أخيها ، وما كان بينهم من معاشرة طيبة ، ويكون حزنها حزنا صابرا على قضاء اللّه فالإسلام قد حبب إلى الناس الصبر على المصائب ، وأثاب عليه، وتنال الثواب
ومن ألوان الرثاء النسوي الأخرى ، رثاء الآباء والأزواج ، ويدخل هذا اللون من الرثاء
في باب التأبين ، وهو ذكر محاسن الميت وتعديد مناقبه ، من ذلك رثاء أروى بنت
الحباب لأبيها تعدد أروى مناقب أبيها ، وما كان عليه من شجاعة وقوة ، وعطف على اليتامى
والأرامل
وإذا كان العرب لا يزالون يرون أن الندب والنواح من المظاهر الدالة على تكريم الميت والوفاء له البكاء واجب على أقارب الميت وفاء وتكريما له ، والاتجاه السائد في هذا النوع من
شعر الرثاء، هو الإشادة بفضل المرثي وشجاعته ، وعفته ، وقوته وإيمانه .
ورثاء عاتكة بنت عمرو بن نفيل زوجها الزبير ابن العوام
ورثاء امرأة الأحنف بن قيس زوجها ، ومما يلاحظ في رثاء المرأة زوجها ، أنّها تجمل فيه كل الصفات التي تنم عن ذوق المرأة ، في اختيار الرجل ، وقد أجملت ليلى الأخيلية العديد من هذه
الصفات في الشعر الذي رثت به عشيقها المقتول توبة بن الحمير
كأن فتى من الفتيان توبة لِم ينخ فتى كان للملوك سناء ورفعةً
فنعم الفتى إن كان توبة فاخرا فتا لله تبني بيتها أم عاصم
فتى كان أحيا من فتاة حيية قلائصي يفحصن الحصا بالكراكر
من قصيدة طويلة ، جمعت فيها كل الصفات التي تتمناها المرأة في شريك حياتها، والتي قد لا تتوافر لشخص واحد ، وقد رثت المرأة الأقارب ، وغيرهم ، وهذا النوع من الرثاء يضمه التأبين
والعزاء ، و ذكر مناقب الميت ، ومحاسنه ، ومنها رثاء صفية بنت عبد المطلب في رثاء حمزة
هكذا يسيطر الهدوء على نفس الشاعرة ، وتقل حرارة البكاء المعتادة ، ويختفي النواح
ليظهر العزاء ، والأشعار التي رثى بها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، فإنها قد بلغت ذروة الحزن المطلوب في الرثاء، فقد بني هذا الرثاء على الصلة الروحية والدينية التي تربط الراثي بالمرثي ، ومثال ذلك مراثي حسان للنبي صلّى اللّه.
2.متمم بن نويرة في أخيه مالك
مراثي الجاهلية المشهورة المستحسنة المستجادة المقدمة معلومة موسومة منها قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، على أن سائر أشعاره غير مذموم، وان تقدمتهن العينية التي أولها. لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
(المبرد، بدون ، ص 50)6
الشاعر متمم بن نويرة يظهر حزنه الشديد وجزعه وألمه على أخيه مالك وهو سبب العقدة الأخوة الولاء العائلي وتشبّت بالحزن والكمد والتفجع يدخل الشاعر في الرّثاء مباشرة لحزنه الشّديد وللتّموّجات العاطفيّة الحادّة في نفسه ممّا کانتْ تضيق عليه المجال لمتابعة المنهج المعروف ( لتحقيق هذا الجلاء هو تحري البساطة في صوغ العبارات ومجانبة التعقيد، مع الاحتفاظ بسموها وقوتها) (الشايب،2003م ص 190)7
و يستخدم الشاعر القسم بقوله لعمري يستخدم الشاعر بأساليب متعددة ودخل الشاعر مباشرة في الحزن الشّديد وللتّموّجات العاطفيّة الحادّة في نفسه ويسلك الكلمات العبارات في صورة عقلية، وتفكير منطقي فحزن الشاعر الجاهلي بعد ممات المرثي يجعله يصور الشاعر حزنه على أخيه بكلمات سلسة يتولد في نفسه نواح وهو تعبير عن حزن على الفقيد فتجري الكلمات في مجرى عاطفي حزين يقوله:
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
فتجري الكلمات في مجرى عاطفي حزين فيستهلّ رثائه بما يظهر من حزن، فيزيده ذكر المرثي حزناً على حزنه ودموعاً على دموعه.
3. مرثية لبيد بن ربيعة في أخيه أربد
أتجزع ممّا أحدث الدّهر بالفتى
وأيّ كريم لم تصبه القوارع
(فؤاد،بدون ج1،ص 271)8
و ينعت اربد بالسمات الفضيلة يقول فيه:
أشْجَعُ مِنْ لَيثِ غَابةٍ لَحِمٍ
ذُونَهْمَةٍ في العُلاوَ مُنْتَقَد
وکذلک قوله :
حُلوًّ کريمٌ وَ في حَلاوَتِهِ
مُرٌ لطيفُ الأَحْشاءِ وَ الکَبَدِ
(فؤاد ،بدون ج1 ص 271)9
قال أبو الحسن المدائني: كانت العرب في الجاهلية وهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون عقاباً يتحاضون على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله، إيثاراً للحزم وتزيناً بالحلم، وطلباً للمروءة، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى إن كان الرجل منهم ليفقد حميمه فلا يعرف ذلك فيه. يصدق ذلك ما جاء في أشعارهم، ونثي من أخبارهم
4. عمرة بنت دريد بن الصمة في مرثيته أخاه عبد الله: الطويل
أما عمرة بنت دريد بن الصمة ، فإنها ترثى والدها ، وتعاتب قتلته ليس لأنهم قتلوه ، بل لأنهم قتلوه في حومة الميدان ، وإرضاء لأبيها المقتول فهي لا تملك إلاّ اللوم ثم تعديد مناقبه
لعمرك ما خشيت على دريد
جزى عنا الإله بني سليم
ببطن سميرة جيش العناق
وعقتهم بما فعلوا عقاق
قليل التّشكّي للمصيبات حافظٌ ... مع اليوم أدبار الأحاديث في غد
صبا ما صبا حتّى إذا شاب رأسه ... وأحدث حلماً قال للباطل ابعد
(المبرد، بدون ص 41/42)10
إذا تابعت الشاعر الجاهلي يصور المرثيّ بالشَّجاعة والآمال القصوى السامية ومستقيم الخُلق وبأَنّه مکرم أصدقائِه وخشية أعدائه والمرثي عند الشاعر الجاهلي نحيل الجسم مندرس الثّوب لا من فقر ؛ لأنّه في سعة العيش بل من رجحانه الآخرين علی ذاته، فهو متقشف جواد في فقره وحزنه لا في الثراء کما يقول دريد بن الصِّمة:
تَراه خَميصَ البَطْنِ وَ الزّادُ حاضرٌ
عتيدُ ويَغْدُوفي القَميصِ المقَدَّدِ
وإنْ مَسَّهُ الإقواءُ والجهدُ، زادَه
سَماحَاً وَ إتْلافاً لِما کانَ في اليَدِ
(فؤاد ،بدون ج1 ص 371)11
تصور الشاعرة الجاهلية الخنساء المرثيَّ بأنّه لم ينتفع الفضائل طيلة حياته، فلا يمكن أن تنساه، حتى تأتيه المنيّة، تقول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
فَلا وَاللهِ لا أَنْساك حتى أُفارِقَ مهْجَتي وَيشقَّ رَمْسي:
وَسَوفَ أَبكيك ما ناحَتْ مُطَوَّقَةٌ وما أَضاءَ تْ نُجُوم اللَّيلِ للسّاري
فلا تقدر أن تتحمّل فراق أخيها المتخلّق بالأخلاق الكريمة والفضائل العالية التي مدحته بها، فموته أعظم مصيبة راها الإنس والجنّ:
فَلَمْ أَرَمِثْلَهُ رُزْءً لجِنٍّ ولَمْ أَرَمِثْلَهُ رزءً لإنْسِ
وتضعف لو کان المرثي من غير أهل الشّاعر فلا نجد حينئِذٍ التفجع في رثائه کما نجده عند رثاء أقربائه تبتعد المراثي (عن الأهل والأقرباء وخرجت إلى السادات والملوك الغرباء، کان شأنها شأن المدح التكسّب، علي غیر آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميّت) (المبرد، بدون: 91 ) 12
مرآة صادقة للمعيشة الجاهليّة فالشاعر الجاهلي يصف مرثيّه بالتّحلّي بالأخلاقيّات مثل الشجاعة والجود والحلم والزّهد وغيرها ونجد في الّرثاء من عاداتهم امتناعَهم من شرب الخمر ومعاشرتهم الغانيات وابتعاد هم عن الملذّات عند موت أحد أقربائهم. وفي رثائهم دلالات تشير إلى معرفتهم ببعض المعارف والأجرام تدلّ علی اعتقادهم
کما أتی به لبيد بن ربيعة في رثاء أربد:
لَعَمْرُك ماتَدري الضَّواربُ بِالحصی
وَلا زاجِرتُ الطَّيرِ ما اللَّهُ صانعُ
سَلُوهُنَّ إِن کذَّ بتُمُوني مَتی الفَتـی
يَذُوقُ المَنايا أَم مَتی الغَيثُ واقِع
کما يقول:
أخْشی علی أَرْبَدَ الحتوفَ وَلا أَرْهَبُ ذَوْءَ السِّماك ولأَسدِ
(فؤاد، بدون ج1 ص 271)13
صدق الشاعر فيما يقوله حول الميت حيث لا يبالغ في الوصف طمعا في المال أو الجاه أو المرتبة، وإنما يعبر عن سجايا الميت أو أوصافه ومناقبه صادق، وتضعف العاطفة عند تراخ المرثي، من غير سلالة الشّاعر فلا نجد عندئذ التفجع في رثائه، کما نجده عند رثاء أقربائه المراثي عن الأهل والأقرباء وخرجت إلی السادات والملوك الأجانب و اعتبارها اعتبار المدح ، على غیر آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميّت.
الصدق الفني في قصائد الرثاء الجاهلية:
تعريف الصدق الفني يقصد بالصدق الفني في قصيدة الرثاء: صدق الشاعر فيما يقوله حول الميت حيث لا يبالغ في الوصف طمعا في المال أو الجاه أو المرتبة، وإنما يعبر عن سجايا الميت أو أوصافه ومناقبه صادق لأن الرثاء في الحقيقة مدح غير أنه مدح للميت ولا فرق بين المدح والرثاء إلا أن الأول يصاغ للإنسان الحي طمعا في ماله والثاني يصاغ للإنسان الميت رحمة أسفا على فراقه.
1.الخنساء
تقول الخنساء في أخيها صخر
قذى بالعين ام بالعين عوار ام اذرفت اذ خلت من اهلها الدار
كان دمعي لذكراه اذا مرت فيض يسيل على الخدين مدرار
وان صخرا لتاتم الهداة به كانه علم على راسه نار
(شيخو،1895م ص 25)14
1.صدق الشاعر فيما يقوله حول الميت ومناقبه
لم تكف عيون الخنساء عن البكاء وذرف الدمع منذ تلقيها نبأ وفاة أخيها صخر، حتى فقدت البصر وأصيبت بالعمى، لاضطراب الحاسة، لأسباب نفسية دفينة وعقدة الخصاء قد وجدت تجلياتها في فقدان الخنساء للبصر، (واضطراب الحاسة البصر بالأساس إلى الخوف من انمحاء الأصل تذرف الدموع وسكب العبرات، متنقلة بين الوادي والجبل، والصحراء والواحة، فقولها: قذى بالعين والقذى، دلالة على صدق الشاعرة لأن القذى والمقصود ان عينها لم تعد تبصر احد بعد صخر وتقول ام اذرفت اذ خلت من اهلها الدار). (بن قتيبة 1423 ه ج: 2 ص335 )15
2.سجاياه
جسدت سجايا الخنساء النموذج الأنثى المتحررة، المتمردة، المتحدثة بالدوافع و الجروحات الغائرة التي تخترقها بنوبات: البكاء؛ النواح؛ حلق الرأس؛ وتلطيم الخدّ ووضع نعل صخر في خمارها، وضع نعل أخيها المقتول على خصرها؛ تعبر من خلال الرّد الجسدي بما هي تقدّمه على نحو متمرّد يكسر القواعد السلوكية المطلوبة من الأنثى. (ومن الشعراء من يرثي بكاء الأشياء التي كان الميت يزاولها، فإنه ليس من إصابة المعنى أن يقال في كل شيء تركه الميت: إنه يبكي عليه، لأن من ذلك ما إن قيل إنه بكى عليه كان سبة وعيباً لاحقين به) (بن قدامة، 1302ه 33)16
4/علاقة الميت بالشاعر
علاقة الشاعرة بالميت هي عبارة عن القواسم المشتركة المتينة المعثور عليها بين الخنساء وصخر ، وهي علاقة ولاء القرابة، المعبرة عن الوفاء والولاء و الإخلاص علاقة الميت بالمجتمع: كان فارسا وحامي الديار
5.حمية الموت/العتاب
حزن الخنساء بعد ممات أخيها جعلها لا ترى شيئا يحسن في عينيها بقولها: قذىً بعينك أم بالعين عوار ، وحملها لنعال الميت وحلق رأسها وإطراء الميت بشخصية لامعة، و التعبير عن حزن على الفقيد، وتبكي له الحزن والألم وهذا حال المتألم دوما ما يبحث عمن يخفف عنه لوعته وحزنه وتظهر العتاب في معاتبة الدّهر وعدم تقبل الواقع وطمس للسكينة
6.علاقة الميت بالمجتمع:
علاقة بالمجتمع علاقة الانتماء الانساني و الاجتماعي والمعرفي و ينتج عن الوجود الانساني الذي يربطهما وحدة الجذور والأصالة والشعور الإنساني والضمير البشري.
2.دريد بن الصمة
يقول دريد بن الصِّمة:
تَراه خَميصَ البَطْنِ وَ الزّادُ حاضرٌ
عتيدُ ويَغْدُوفي القَميصِ المقَدَّدِ
وإنْ مَسَّهُ الإقواءُ والجهدُ، زادَه
سَماحَاً وَ إتْلافاً لِما کانَ في اليَدِ
(فؤاد ،بدون ج137 ص1)17
1 .صدق الشاعر فيما يقوله حول الميت ومناقبه
يكمن صدق الشاعر دريد بن الصمة في رثاء على أنه لم يرد بذلك منه زادا ولاجاه ويعتبر الميت من أقرب الأقربين إليه فهو أكثر تأثرا ، يصف دريد بن الصِّمة بالشجاعة في قوله :عتيدُ ويَغْدُوفي القَميصِ المقَدَّدِ، والزّهد في قوله: تَراه خَميصَ البَطْنِ وَ الزّادُ حاضرٌ والجود في قوله : والحلم في قوله: سَماحَاً وَ إتْلافاً لِما کانَ في اليَدِ وتضعف لو کان المرثي من غير أهل الشّاعر فلا نجد حينئِذٍ التفجع في رثائه کما نجده عند رثاء أقربائه تبتعد المراثي عن الأهل والأقرباء وخرجت إلی السادات والملوک الغرباء، کان شأنها شأن المدح التّکسّبي، علی غیر آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميّت) (المبرد ،بدون، ص91 ) 18
فيعدد مناقب الشاعر المرثي وحزنه وألمه ويسرد الحقائق بوضوح،( لبيان مكانة المرثي وتعظيمه والمبالغة في شدة ما أصاب بإيقاظ عقله، وعواطفه) (الشايب،2003 ص 194)19
2.سجاياه:
جسدت سجايا دريد بن الصِّمة تخترقه هو عتاد أخوه وغدوه في قميص مقدد وهو عبارة عن العاطفة الجياشة التي تملأ صدر الشاعر نحو أخيه وهذه السجايا يعد ضرب من ضروب الرثاء (لأن من الشعراء من يرثي الأشياء التي كان الميت يزاولها) (بن قدامة، 1302 ه ص 33)20
3/علاقة الميت بالشاعر:
يربط الشاعر بالميت علاقة أخوية المشتركة المعثور عليها وهو ولاء القرابة، المعبرة عن الوفاء والولاء والإخلاص وعلاقة القرابة.
4.علاقة الميت بالمجتمع:
علاقة بالمجتمع علاقة انسانية معرفية ،كونية نابجة عن الوجود الانساني الذي يربطهما وحدة الجذور والمماثلة والشعور الإنساني والسلوك البشري.
5.حمية الموت/العتاب:
فحزن الشاعر الجاهلي بعد ممات أخيه أنتج في نفسه تعداد الخصال وإطراء بشخصية لامعة، وهو تعبير عن حزن على الفقيد يرى الشاعر قتل المرثي ظلماً وجناية ، ويظهر العتاب في معاتبة الدّهر وعدم تقبل الواقع وطمس للسكينة
3.متمم بن نويرة
مراثي الجاهلية المشهورة المستحسنة المستجادة المقدمة معلومة موسومة منها قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، على أن سائر أشعاره غير مذموم، وان تقدمتهن العينية التي أولها.
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
(المبرد، بدون ص 50)21
1. صدق الشاعر فيما يقوله حول الميت ومناقبه
الشّاعر الجاهلي متمم بن نويرة صادق العاطفة في أخيه مالك، فهو يرثي أخيه بقلب صادق فحزنه الشّديد واضح وخاصة في أخيه القريب ، لا نه يرجو وراء رثائه عوائد مالية من قريب أو بعيد وهو يقوم بـتأبين الهالك بعواطف صادقة في قوله: لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ. صدق الشاعر فيما يقوله حول الميت مناقبه الشّاعر الجاهلي صادق العاطفة في رثائه تجري الكلمات مجرى عاطفي حزين ستهلّ الرثاء بما يظهر من حزنه، فيزاد ذكر المرثي حزناً على حزنه
2. علاقة الميت بالشاعر:
علاقة الميت بالشاعر علاقة ولاء القرابة، المشتركة بين الأخوين ،حيث يشد بينهما وهو العقدة الأخوة الولاء العائلي وتشبّت بالحزن والكمد والتفجع المعبرة عن الوفاء – الولاء الإخلاص والانسجام.
3.سجاياه: استخدم الشاعر السجايا حيويّة تجذب القارئ في مصيبته وليشارك في أحزانه وآلامه لغرض الوحدة الزمانية بين الشاعر و الشعور المخاطب بقوله: ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا. وكانت الجزع من أمهات حزنه وارتباكه.
4.حمية الموت/العتاب
فحزن الشاعر الجاهلي بعد ممات المرثي جعله يتعجب من الحياة بقوله: وما دهري بتأبين هالكٍ. يرى الشاعر قتل المرثي ظلماً وجناية ، ويظهر العتاب في معاتبة الدّهر وعدم تقبل الواقع وطمس للسكينة ويهدّد القتلة مثل ما نجده مّا أسلوب الشاعر الجاهلي فيستخدم الشاعر النداء أحياناً حزنه وألمه فالشاعر هو الذي يسرد الحقائق بوضوح، يأتي النداء لعتاب اللائم ولبيان مكانة المرثي وتعظيمه والمبالغة في شدة ما أصاب
5.علاقة الميت بالمجتمع:
علاقة بالمجتمع علاقة انسانية معرفية ،كونية نابجة عن الوجود الانساني الذي يربطهما وحدة الجذور والمماثلة والشعور الإنساني والسلوك البشري.
4.لبيد بن ربيعة
لَعَمْرُکَ ماتَدري الضَّواربُ بِالحصی
وَلا زاجِرتُ الطَّيرِ ما اللَّهُ صانعُ
سَلُوهُنَّ إِن کذَّ بتُمُوني مَتی الفَتـی
يَذُوقُ المَنايا أَم مَتی الغَيثُ واقِع
کما يقول:
أخْشی علی أَرْبَدَ الحتوفَ وَلا
أَرْهَبُ ذَوْءَ السِّماك ولأَسدِ
(فؤاد ، ج1،ص271)22
يقول لبيد في رثاء أربد:
أليس ورائي إن تراخت منيّتي
لزوم العصا تحني عليه الأصابع
ويقول أيضاً:
أتجزع ممّاأحدث الدّهر بالفتى
وأيّ كريم لم تصبه القوارع
(فؤاد ،بدون ت. ج1 :271)23
فنجد لبيد بن ربيعة يقول في أخيه أربد راثياً
أشْجَعُ مِنْ لَيثِ غَابةٍ لَحِمٍ
ذُونَهْمَةٍ في العُلاوَ مُنْتَقَد
وکذلك قوله :
حُلوًّ کريمٌ وَ في حَلاوَتِهِ
مُرٌ لطيفُ الأَحْشاءِ وَ الکَبَدِ (فؤاد، ج1 ص 271)24
1. صدق الشاعر فيما يقوله حول الميت ومناقبه
والشّاعر الجاهلي لبيد في أخيه أربد صادق العاطفة في رثائه، فحزن حزنا شديدا وتفجع في رثاء أقربائه تبتعد المراثي عن الأهل والأقرباء وهي مرآة صادقة في رثائه دلالات وتشير إلى حزنه من هذه الصدمة: ويقول: أتجزع ممّا أحدث الدّهر بالفتى. وفي قوله أيضا دلالة وإشارة على نوع من معرفته ببعض المعارف والأجرام تدلّ على اعتقادهم بقوله وَلا زاجِرتُ الطَّيرِ ما اللَّهُ صانعُ والموت شامل لا مفرّ منه وهذه لتعميم المصيبة وتنفيس المصاب وارتياحه فقوله: يَذُوقُ المَنايا أَم متى الغَيثُ واقِع وتضعف العاطفة عند تراخ المراثي من غير سلالة الشّاعر
2.سجاياه
استخدم الشاعر السجايا حيويّة تجذب القارئ في مصيبته وليشارك في أحزانه وآلامه لغرض الوحدة الزمانية بين الشاعر و الشعور المخاطب بقوله: أشْجَعُ مِنْ لَيثِ غَابةٍ لَحِمٍ وكانت سجاياه ، فراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى إن كان الرجل منهم ليفقد حميمه فلا يعرف ذلك فيه.
3.علاقة الميت بالشاعر
العلاقة بين الشاعر والميت عبارة عن القاسم المشتركة المعثور عليها بين بين الشاعر والميت وهو ولاء القرابة، المعبرة عن الوفاء و الولاء و الإخلاص وهو السبب للعقدة الأخوة الولاء العائلي وتشبّت بالحزن والكمد والتفجع
4.علاقة الميت بالمجتمع:
علاقة الميت بالمجتمع علاقة القاسم المشترك المعثور عليه بين الميت والمجتمع والانتماء الاجتماعي والمعرفي و ينتج عن الوجود الانساني الذي يربطهما وحدة الجذور والأصالة والشعور المشترك وتقارب الضمير البشري .
5.حمية الموت/العتاب:
فحزن الشاعر الجاهلي بعد ممات المرثي واستخدم الشاعر حزنه وألمه وقال: أليس ورائي إن تراخت منيّتي، لزوم العصا تحني عليه الأصابع، فيما أن الشاعر يعبر عن حمة الموت بهذه العبارة السلسة بعد يسرده للحقائق والعتاب اللائم وصدق الشاعر فيما يقوله حول الميت عتابه الشّاعر لبيد بن ربيعة الجاهلي يحذو في رثائه النمط الشعري الجاهلي المعروف أحياناً ويدخل في الندب مباشرة ويقف علی حطام وبقايا منزل الحبيب، ويظهر العتاب في معاتبة الدّهر وعدم تقبل الواقع وطمس للسكينة
6.علاقة الميت بالمجتمع
علاقة بالمجتمع علاقة الانتماء الانساني وعلامة معرفية وكونية نابجة عن الوجود الانساني الذي يربطهما وحدة الجذور والمماثلة والشعور الإنساني والسلوك البشري
1.تقول الخنساء
قذى بالعين ام بالعين عوار ام اذرفت اذ خلت من اهلها الدار
كان دمعي لذكراه اذا مرت فيض يسيل على الخدين مدرار
وان صخرا لتاتم الهداة به كانه علم على راسه نار
(شيخو ، 1895م ص 25 )26
تذكر الشاعرة الصفات الحميدة في أخيها الصخر
و إن صخراً لوالينا و سيدنا و إن صخراً إذا نشتو لنحار
و إن صخراً لمقدامٌ إذا ركبوا و إن صخراً إذا جاعوا لعقار
و إن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نار
جلدٌ جميل المحيا كاملٌ ورعٌ و للحرب غداة الروع مسعار
حمال ألويةٍ ، هباط أوديةٍ شهاد أنديةٍ ، للجيش جرار
1. حزن الشاعر على فقدان الميت
الحزن هو سبب العقدة الأخوة الولاء العائلي وتشبّت بالحزن والكمد والتفجع والبكاء
قذىً بعينك أم بالعين عوار ... أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار ؟
هنا الخنساء تخاطب نفسها وتبكي له الحزن والألم وهذا حال المتألم دوما ما يبحث عمن يخفف عنه لوعته وحزنه .. وتوبيخ للنفس " هل في عينيك قذى وهو التراب أو بعض القذارة التي تصيب العين فتألمها وتوجعها والخوف من انمحاء الأصل لقد ظلت الخنساء في جلّ أشعارها مهووسة بالبكاء وذرف الدموع وسكب العبرات، متنقلة بين الوادي والجبل، والصحراء والواحة، وبين كل هذه الأمكنة المختلفة
كان دمعي لذكراه اذا مرت................فيض يسيل على الخدين مدرار
2.الصفات المحمودة التي كانت تذكرها الشاعرة في الميت
تذكر الخنساء مدائح صخر وتقول فيه: أنه جلدٌ جميل المحيا كاملٌ ورعٌ و للحرب غداة الروع مسعار وأنه علم على رأسه النار (فهو الوالي والسيد والكريم المنحار " منحار " صيغة مبالغة لغرض الاكثار من كذا وهو شجاع مقدام في المعارك " " ركبوا " ايجاز يحمل العديد من المعاني الرائعة .. وهو من يستهدي به القوم في كل مكان فهو علم وراية للكرم والحق ... جميل وورع ومسعار في الحروب لا يخشاها ولا يخافها ... يحمل اللواء للحرب ويهبط الأودية في الليل غير خائف ولا جبان .. يشهد أندية قومه فهو سيد فيها وهو قائد الجيش في المعارك وصف رائع جدا دليل على الحب والاخاء ((بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 ص335( 27
3.علاقة الميت بالشاعر ومقامة الميت في المجتمع
علاقة الشاعر بالميت هو علاقة القواسم المشتركة المعثور عليها بين الشاعر واليت وهو ، ولاء القرابة، المعبرة عن الوفاء والولاء و الإخلاص وهو سبب للعقدة الأخوة والولاء العائلي وتشبّت بالحزن والكمد والتفجع وعلاقة الميت بالمجتمع هو علاقة الانتماء الاجتماعي والانساني و المعرفي والكوني ناتج عن الوجود الانساني الذي يربطهما وحدة الجذور والمماثلة والشعور الإنساني والسلوك البشري. ومقامته في المجتمع هو ذكر محاسنه وفروسته في الميدان وسائر أنواع الخصال والثناء على فضائله من الشجاعة في ساحة القتال وحمايته للأهل والديار.
2. دريد بن الصِّمة
تَراه خَميصَ البَطْنِ وَ الزّادُ حاضرٌ
عتيدُ ويَغْدُو في القَميصِ المقَدَّدِ
وإنْ مَسَّهُ الإقواءُ والجهدُ، زادَه
سَماحَاً وَ إتْلافاً لِما کانَ في اليَدِ(فؤاد ، ج1 ص 371)28
1.حزن الشاعر على فقدان الميت
فحزن دريد بن الصِّمة وتفجعه عل أخيه حدث فيه خلل فني النفسي وهو عقدة الأخوة والولاء العائلي فشجن الشاعر بعد ممات المرثي جعله يصور حزنه على أخيه بكلمات سلسة يتولد في نفسه نواح وهو تعبير عن الحزن والكمد بالحزن في صورة عقلية، والتفكير الممل.
2.الصفات المحمودة التي كان يذكرها الشعر في الميت
فالشاعر الجاهلي يصف مرثيّه بالتّحلّي بالأخلاقيّات مثل الشجاعة في قوله :عتيدُ ويَغْدُو في القَميصِ المقَدَّدِ، والزّهد في قوله: تَراه خَميصَ البَطْنِ وَ الزّادُ حاضرٌ والجود والحلم في قوله : سَماحَاً وَ إتْلافاً لِما کانَ في اليَدِ وتضعف. يدعو ألّا تطول حياته ويصور الشاعر الجاهلي قومه بالمجد وعدم المطاوعة أمام التعسف، يكمد الشّاعر الجاهلِي لخراب المرثيّ.
3.علاقة الميت بالشاعر ومقامة الميت في المجتمع
علاقة الشاعر بالميت هو علاقة القواسم المشتركة المعثور عليها بين الشاعر واليت وهو ، ولاء القرابة، المعبرة عن الوفاء والولاء و الإخلاص وهو سبب للعقدة الأخوة والولاء العائلي وتشبّت بالحزن والكمد والتفجع وعلاقة الميت بالمجتمع هو علاقة الانتماء الاجتماعي والانساني و المعرفي والكوني ناتج عن الوجود الانساني الذي يربطهما وحدة الجذور والمماثلة والشعور الإنساني والسلوك البشري، ومقامته في المجتمع هو ذكر محاسنه وفروسته في الميدان وسائر أنواع الخصال والثناء على فضائله من الشجاعة في ساحة القتال وحمايته للأهل والديار
3.متمم بن نويرة
مراثي الجاهلية المشهورة المستحسنة المستجادة المقدمة معلومة موسومة منها قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، على أن سائر أشعاره غير مذموم، وان تقدمتهن العينية التي أولها.
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
(المبرد ،بدون ص 50)29
1.حزن الشاعر على فقدان الميت
الشاعر متمم بن نويرة يظهر حزنه الشديد وجزعه وألمه على أخيه مالك وهو سبب العقدة الأخوة الولاء العائلي وتشبّت بالحزن والكمد والتفجع و يستخدم الشاعر القسم بقوله لعمري يستخدم الشاعر أساليب متعددة ودخل الشاعر مباشرة في الحزن الشّديد وللتّموّجات العاطفيّة الحادّة في نفسه ويسلك الكلمات العبارات في صورة عقلية، وتفكير منطقي فحزن الشاعر الجاهلي بعد ممات المرثي يجعله يصور الشاعر حزنه على أخيه بكلمات سلسة يتولد في نفسه نواح وهو تعبير عن حزن على الفقيد فتجري الكلمات في مجرى عاطفي حزين يقوله:
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
2.الصفات المحمودة التي كان الشاعر يذكره في الميت
بالشَّجاعة والآمال القصوى السامية ومستقيم الخُلق وبأَنّه مکرم أصدقائِه وخشية أعدائه والمرثي عند الشاعر الجاهلي نحيل الجسم مندرس الثّوب لا من فقر ؛ لأنّه في سعة العيش بل من رجحانه الآخرين علی ذاته، فهو متقشف جواد في فقره وحزنه لا في الثراء
3.علاقة الميت بالشاعر ومقامة الميت في المجتمع
علاقة الشاعر بالميت هو علاقة القواسم المشتركة المعثور عليها بين الشاعر واليت وهو ، ولاء القرابة، المعبرة عن الوفاء والولاء و الإخلاص وهو سبب للعقدة الأخوة والولاء العائلي وتشبّت بالحزن والكمد والتفجع وعلاقة الميت بالمجتمع هو علاقة الانتماء الاجتماعي والانساني و المعرفي والكوني ناتج عن الوجود الانساني الذي يربطهما وحدة الجذور والمماثلة والشعور الإنساني والسلوك البشري. ومقامته مقامة المحبوب عند الآخرين ومكروه عند الآخرين، فالذين يحبونه يذكرون محاسنه وفروسته في الميدان وسائر أنواع الخصال والثناء على فضائله من الشجاعة في ساحة القتال وحمايته للأهل والديار والذين يكرهونه وخاصة أعدائه يذكرون مساوئه.
4.لبيد بن ربيعة في رثاء أربد
أليس ورائي إن تراخت منيّتي
لزوم العصا تحني عليه الأصابع
أتجزع ممّا أحدث الدّهر بالفتى
وأيّ كريم لم تصبه القوارع
(فؤاد، ج1 ص 271)30
أشْجَعُ مِنْ لَيثِ غَابةٍ لَحِمٍ
ذُونَهْمَةٍ في العُلاوَ مُنْتَقَد
وکذلک قوله :
حُلوًّ کريمٌ وَ في حَلاوَتِهِ
مُرٌ لطيفُ الأَحْشاءِ وَ الکَبَدِ (فؤاد ،بدون ج1 ص271)31
1.من القصيدة حزن الشاعر على فقدان الميت
فقد لبيد بن ربيعة أخاه المرثي تفجع عليه في رثائه أنه جزع على الميت بقوله: أتجزع ممّا أحدث الدّهر بالفتى. مما يظهر حزنه على الفتى الميت ويتألم الشاعر من هذه الصدمة وعلق هذه الصدمة بسنه الدهر ولا مفر منه، وهو نوع نمن الإشارات مباشرة عن صدمات الحياة وما فيها من حرمان والقلق.
2.الصفات المحمودة التي كان الشاعر يذكره في الميت
يصف لبيد بن ربيعة مرثيّه وينعته بالسمات الفضيلة بالتّحلّي بالأخلاقيّات مثل الشجاعة في قوله: أشْجَعُ مِنْ لَيثِ غَابةٍ لَحِمٍ، والجود والحلم ذكره في قوله: حُلوًّ کريمٌ وَ في حَلاوَتِهِ والزّهد وغيرها ذكره في قوله: مُرٌ لطيفُ الأَحْشاءِ وَ الكبَدِ، وقد صدق الشاعر فيما يقوله حول الميت حيث ولم يبالغ في الوصف طمعا في المال أو الجاه أو المرتبة، وإنما يعبر عن سجايا الميت أوصافه ومناقبه بصورة صادقة.
3.علاقة الميت بالشاعر ومقامة الميت في المجتمع
علاقة الشاعر بالميت هو علاقة القواسم المشتركة المعثور عليها بين الشاعر واليت وهو ، ولاء القرابة، المعبرة عن الوفاء والولاء و الإخلاص وهو سبب للعقدة الأخوة والولاء العائلي وتشبّت بالحزن والكمد والتفجع وعلاقة الميت بالمجتمع هو علاقة الانتماء الاجتماعي والانساني و المعرفي والكوني ناتج عن الوجود الانساني الذي يربطهما وحدة الجذور والمماثلة والشعور الإنساني والسلوك البشري. ومقامته في المجتمع هو ذكر محاسنه وفروسته في الميدان وسائر أنواع الخصال والثناء على فضائله من الشجاعة في ساحة القتال وحمايته للأهل والديار.
مرثية الخنساء في أخيها صخر دراسة فنية:
موت صخر حدث صدمي، له وقع بالغ الأثر على نفسية الخنساء من أبرز الملامح التي تؤكد إصابة الخنساء بنوبات حادة نذكر: البكاء؛ النواح؛ حلق الرأس؛ وتبكي وتلطم خدّها واضعة نعل صخر في خمارها، كما كانت تعمل المرأة في الجاهلية إذا أصيب لها كريم حلقت شعرها وشرعت تضرب رأسها بنعليها فتعقره وتلطم خديها وتمزق ثيابها (ومن الشعراء من يرثي بكاء الأشياء التي كان الميت يزاولها) (بن قدامة، 1302ص 33)32
قذى بالعين ام بالعين عوار...............ام اذرفت اذ خلت من اهلها الدار
كان دمعي لذكراه اذا مرت................فيض يسيل على الخدين مدرار
وان صخرا لتاتم الهداة به....................كانه علم على راسه نار
(شيخو ، 1895ص 25)33
كان أخوها صخر بن عمرو شريفا فى بنى سليم، وخرج فى غزاة فقاتل فيها قتالا شديدا، وأصابه جرح رغيب فمرض من ذلك فطال مرضه، وعاده قومه، (فكانوا إذا سألوا امرأته سلمى عنه قالت: لا هو حىّفيرجى، ولا ميّت فينسى، وصخر يسمع كلامها، فشقّ عليه، وإذا قالوا لأمّه: كيف صخر اليوم؟ قالت أصبح صالحا بنعمة الله، فلمّا أفاق من علّته بعض الإفاقة، عمد إلى امرأته سلمى فعلّقها بعمود الفسطاط حتّى ماتت)
(بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 ص333) 34
وقولها:
قذى بالعين ام بالعين عوار أم اذرفت اذ خلت من اهلها الدار
أصابت الخنساء نوبة البكاء والنواح وحلق الرأس وتظهر العتاب في معاتبة الدّهر وعدم تقبل الواقع وطمس للسكينة وضع نعل أخيها المقتول على خصرها؛ ونلحظ نزوع لدى الخنساء إلى تهويل حدث موت أخويها وشحنه بطابع درامي لا يخلو من رواسب الاعتقادات الجاهلية وحالة من التوتر والخوف والقلق والحزن والحالات العقلية وأما أبياتها الأخرى فتجمع الفضائل الأربع التي هي العقل والشجاعة والحلم والعفة، وذلك في قول الخنساء تقول:
وإنّ صخراً لوالينا وسيّدنا ... وإنّ صخراً إذا نشتو لنحّار
وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علمٌ في رأسه نار
فجعلته موضعاً للسؤدد ومعنيّاً بأمر العشيرة لقولها: لوالينا وسيدنا، وجواداً مفضلاً نحاراً في وقت الأقتار والشتوة، ثم قالت: وإن صخراً لتأتم الهداة به فجعلته إمام (المبرد ،بدون ص 61)35
لا فرق بين المدح والرثاء إلا أن الأول يصاغ للإنسان الحي طمعا في ماله والثاني يصاغ للإنسان الميت رحمة أسفا على فراقه. تقول الخنساء في أخبها صخر
ذرفت الدمع منذ تلقيها نبأ وفاة أخيها صخر حتى فقدت البصر وأصيبت بالعمى، لاضطراب الحاسة، لأسباب نفسية وفقدان الخنساء للبصر، (واضطراب الحاسة البصر بالأساس إلى الخوف من انمحاء الأصل تذرف الدموع وسكب العبرات، متنقلة بين الوادي والجبل، والصحراء والواحة، فقولها: قذى بالعين والقذى، دلالة على صدق الشاعرة لأن القذى والمقصود ان عينها لم تعد تبصر احد بعد صخر وتقول ام اذرفت اذ خلت من اهلها الدار) (بن قتيبة ، 1423 ج: 2 ص335)36
جسدت الخنساء النموذج المتحررة، والجروحات الغائرة التي تخترقها بنوبات: البكاء؛ النواح؛ حلق الرأس؛ وتلطيم الخدّ ووضع نعل صخر في خمارها، وضع نعل أخيها المقتول على خصرها؛ تعبر من خلال الرّد الجسدي بما هي تقدّمه على نحو متمرّد يكسر القواعد السلوكية المطلوبة من الأنثى. (ومن الشعراء من يرثي بكاء الأشياء التي كان الميت يزاولها، فإنه ليس من إصابة المعنى أن يقال في كل شيء تركه الميت: إنه يبكي عليه، لأن من ذلك ما إن قيل إنه بكى عليه كان سبة وعيباً لاحقين به) (بن قدامة، 1302ص 33)37
كان صخر فارسا وحامي الديار حزنت الخنساء بعد ممات أخيها جعلها لا ترى شيئا يحسن في عينيها بقولها: قذىً بعينك أم بالعين عوار ، وحملها لنعال الميت وحلق رأسها وإطراء الميت بشخصية لامعة، و التعبير عن حزن على الفقيد، وتبكي له الحزن والألم وهذا حال المتألم دوما ما يبحث عمن يخفف عنه لوعته وحزنه.
شعر خنساء ومنزلتها بين شعراء قومها:
شعر الخنساء لا يخلو من الإحساس الجمالي المرهف، يرتكز على النفسيات الخنساء كبوت الأنثوية، و مركبات العقد النفسية في شخصية الخنساء وفي شعرها المرونة والرقة والغناء والجودة ، لعل أكثر ما يؤكد حقيقة أن الشعر تجسيد لمشاعر الشاعر، فشعر الخنساء يكاد يكون مقتصراً على البكائيات.. إنها لا ترثي بمعنى الرثاء المتعارف عليه، ولكنها تبكي فقدها لأبيها وأخويها صخر ومعاوية. وكانت معظم هذه البكائيات على أخيها صخر.
وبدأت موهبتها الشعرية تتفتح على آفاق الشعر العربي وألفاظها الدقيقة واحترامها للدلات الشعرية ورموز ها البناءة كتسوية اللفظ للمعنى، والإشارة (وهذه هي البلاغة يشتمل على معان كثيرة بإيماء إليها أو لمحة تدل) (بن قدامة ، 1302ه ص55 ) 38
تقول الخنساء في أخيها صخر
قذى بالعين ام بالعين عوار...............ام اذرفت اذ خلت من اهلها الدار
كان دمعي لذكراه اذا مرت................فيض يسيل على الخدين مدرار
وان صخرا لتاتم الهداة به....................كانه علم على راسه نار
(شيخو ، 1895م ص 25)39
كانت الخنساء الابنة الوحيدة في أسرتها، ولهذا كانت محل رعاية أسرتها وخاصة أخويها صخر ومعاوية. وقد رفضت الزواج عندما كانت في بداية الشباب، حيث تكونت لها شخصية طاغية، تزوجت الخنساء رواحة السلمي ثم مرداس بن أبي عامر وكان لها العديد من الأولاد. وقد اشتهر أولاد الخنساء جميعهم بالفروسية وقول الشعر، ولكن حب الخنساء لأخيها صخر فاق على ما يبدو حتى حبها لأبنائها ولهذا الحب قصة(بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 ص333 )40
تقول الخنساء:
يؤرقُني التّذكرُ حيَن أُمْسي
فأصبحُ قد بليتُ بفَرْط نُكْسِ
على صَخرٍ، وأي فتى كصخرٍ
(شيخو، 1895م ص150)41
فالخنساء كانت البنت المدللة من أخيها صخر وكان يحبها جداً ويغمرها بعطفه وجوده، وحينما افتقر زوجها قصدت أخاها صخراً قسم ماله شطرين وأعطاها أفضلهما.. ولقد فعل ذلك عدة مرات إلى أن قالت زوجة صخر:
ألا يكفي أنك تعطيها نصف مالك؟ لتقوم بإعطائها أفضل النصفين.
فأصر صخر على إعطائها النصف الأفضل قائلاً:
والله لا أمنحها شرارَها
ولو هلكتُ مزقَتْ خمارها
وجعلت من شعرٍ صدارها
وفي رواية أخرى قال:
والله لا أمنعُها خيارَها
وهي حَصَانٌ قد كفتني عارَها
ولو هَلَكْتُ قددت خمارها
واتخذت من شعر صدارَها
(بن قتيبة ،1423 ه ج: 2 ص335 42(
تعتبر القصيدة التالية عن محاسن شعر الخنساء اخترناها تجسد خير تجسيد مدى الحب الذي كان في قلب الخنساء تجاه أخيها صخر.. كما تظهر لمن يطلع عليها كيف كان بكاؤها الذي أبكى جميع من أصغى إليها وخاصة في ذلك اللقاء السنوي الذي كان يجمع أفضل شعراء العرب في عكاظ .تقول الخنساء:
يؤرقُني التّذكرُ حيَن أُمْسي
فأصبحُ قد بليتُ بفَرْط نُكْسِ
على صَخرٍ، وأي فتى كصخرٍ
ليَومِ كريهَةٍ وطعان حلس
(شيخو ، 1895م ص150) 43
وشعر الخنساء مليئ بالبلاغة والإبداع واللمحة الدالة، حيث وصف بعضهم، أنها اللمحة دالة، وذلك مثل امرئ القيس:
فإنْ تهلكْ شنوءةُ أو تبدلْ ... فسيري إن في غسانَ خَالا
بعزهمُ عززتِ وإن يذلُّوا ... فذلهمُ أنالكِ ما أنالا
فبنية هذا الشعر على أن ألفاظه، مع قصرها، قد أشير بها إلى معان طوال
(بن قدامة، 1302ه ص56)44
ائتلاف اللفظ والوزن: وهو أن تكون الأسماء والأفعال في الشعر تامة مستقيمة كما بنيت، ومعانيها تامة مستوفاة، لم يضطر الوزن إلى نقصها عن الواجب، ولا إلى الزيادة فيها عليه، وأن تكون المعاني أيضاً مواجهة للغرض لم تمتنع من ذلك ولم تعدل عنه من أجل إقامة الوزن ائتلاف اللفظ مع الوزن، ونحن نذكر ما يجب ذكره من أمثلة عيوب هذا الباب في جملة ما سنذكره من عيوب الشعر نعت ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت: أن تكون القافية معلقة بما تقدم من معنى البيت تعلق نظم له وملائمة لما مر فيه.
فمن أنواع ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر
وتقول أيضا
أشدَّ على صروفِ الدهرِ أبداً
وأفضل في الخطوبِ بغير لَبْسِ
وضيفٍ طارق أو مستجيرٍ
يروَّع قلبهُ من كل جرسِ
فأكرمَهُ وآمنَهُ فأمسى
خلياً بالُهُ من كل بؤسِ
(شيخو ، 1895م ص150)45
النّتاج الشعري للخنساء هي كمرآة للوجدان، للجسد، ونروم الوقوف على منابع الهوام الذي وجد مرة أخرى في الكلام، سواء أكان هذا الكلام منطوقا أم مرموزا في فضاءات متمايزة من الجسد، وتقول:
يذكرني طلوعُ الشمسِ صخراً
وأذكُرهُ لكلِ غروبِ شمسِ
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
ولكن لا أزالُ أرى عجولاً
وباكيةً تنوحُ ليومِ نحسِ
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
فلا والِله لا أنساكَ حَتى
أفارق مُهجتي ويُشق رَّمسي
فقد ودّعتُ يوم فراق صخرٍ
أبي حسّان لذّاتي وأنسي
فيا لهفي عليه ولهف أمّي
أيصبحُ في الضّريح وفيه يُمسي
(شيخو ، 1895م ص150)46 التعبير والتشويق في ملامسة موضوع الاهتمام، لشخصية الشاعرة في أخيها صخر بن عمرو شريفا في بنى سليم، وخرج في غزاة فقاتل فيها قتالا شديدا، وأصابه جرح ، فمرض (من ذلك) فطال مرضه، وعاده قومه، فكانوا إذا سألوا امرأته سلمى عنه قالت: لا هو حي فيرجى، ولا ميّت فينسى، وصخر يسمع كلامها، فشقّ عليه، وإذا قالوا لأمّه: كيف صخر اليوم؟ قالت أصبح صالحا بنعمة الله، فلمّا أفاق من علّته بعض الإفاقة، عمد إلى امرأته سلمى فعلّقها بعمود الفسطاط حتّى ماتت) (بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 ص333)47
تحليل قصيدة الخنساء في أخيها صخر:
الخنساء شاعرة العرب الأولى دون منازع هي تماضر بنت عمرو والمشهورة بالخنساء فاقت أبناء زمانها وامتاز شعرها بالعذوبة في المعاني وابدعت في لون الرثاء تعلقت بأخيها غير الشقيق صخر وحبته حبا شديدا ،فكان بالنسبة لها الاخ والزوج والأب والابن بل تعدى كل هؤلاء في نفسها عندما مات حزنت عليه حزنا عظيما وتوشحت السواد باقي عمرها ورثته بأجمل مراثي الشعر العربي كان لها أو ربعة من الأبناء استشهدوا جميعا في معركة القادسية لم تبكهم بل احتسبتهم عند ربها وهذا يدل على ان اخيها صخر فاق منزلة أبنائها في نفسها تقول في اعظم مراثي الشعر العربي:
قذى بالعين أم بالعين عوار أم أذرفت إذ خلت من أهلها الدار
وكان دمعي لذكراه اذا مرت فيض يسيل على الخدين مدرار
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم على رأسه نار
(شيخو ، 1895: 25)48
لم تكف عيون الخنساء عن البكاء ودرف الدمع منذ تلقيها نبأ وفاة أخيها صخر، حتى فقدت البصر وأصيبت بالعمى، بعد صراع طويل انتهى بسيطرة الظلام والسواد، لتستسلم الخنساء بالكّل إلى الظلام، فالبكاء دموع، والدمعة ماء إنه رمز للانبعاث والحياة، وقد أسهبت الأسطوريات أو الاناسة العربية، وفي العالم القديم، من الربط بين الانبعاث والدموع، بين الخصوبة والتجدد والبكاء و وزاد الخنساء وحشة وغربة ودلالات نفسية لاشعورية عميقة و شدة الحزن والبكاء وينجم فقدان البصر عن اضطراب الحاسة، لأسباب نفسية دفينة وعقدة الخصاء، قد وجدت تجلياتها في فقدان الخنساء للبصر، واضطراب الحاسة البصر بالأساس إلى الخوف من انمحاء الأصل لقد ظلت الخنساء في جلّ أشعارها مهووسة بالبكاء وذرف الدموع وسكب العبرات، متنقلة بين الوادي والجبل، والصحراء والواحة، وبين كل هذه الأمكنة المختلفة، تتذكّر كل عائلتها الذين فقدتهم الواحد تلو الآخر، صخر ومعاوية وعمرا وأولادها الأربعة، وخلف موتهم حسرة في وجدانها تستنكر ان مثل صخر يصبح، ويمسي في قبر لكنها سنة الحياة الخشناء، أنظروا هذا الحب فهي تقول قذى بالعين والقذى مرض يصيب العين فلا تكاد تبصر النور والمقصود ان عينها لم تعد تبصر أحدا بعد صخر، وتقول أم أذرفت اذ خلت من أهلها الدار فهي ترى أن الكون خلا من الناس بعد موت صخر بالرغم من وجود زوجها وابنائها أي حبآ هذا وتأملوا معي عذوبة الكلمات
قذىً بعينك أم بالعين عوار ... أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار ؟
هنا الخنساء تخاطب نفسها وهذا قمة البلاغة الآدبية وهو ما يسمى " بالجريد " حيث جردت من نفسها أنسانا تخاطبه وتبكي له الحزن والألم وهذا حال المتألم دوما ما يبحث عمن يخفف عنه لوعته وحزنه) (بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 ص33549 (
استطاعت تماضر الخنساء أن تربك رجال زمانها، وأن تفرض نفسها ضمن الشعراء الفحول، قد لا يرى التحليل النفسي في شخصية الخنساء سوى ملامح جسدت نموذج الأنثى المتحررة، المتمردة، المتحدثة بالدوافع و الجروحات الغائرة التي تخترقها.
الخنساء مؤنث الأخنس. والخنس هو تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، وهي صفة مستحبة أكثر ما يكون في الظباء وفي البقر الوحشي.. كما كان يُقال للخنساء خناس
هي تماضر بنت عمر بن الحرث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس وينتهي نسبها المعروف إلى عيلان بن مضر.
ومعنى الاسم: تماضر.. البيضاء. الخنساء ترثي اخاها صخرا
ألا تبكيان لصخر الندى أععيني جودا ولاتجمدا
ألا تبكيان الفتى السيدا؟ ألا تبكيان الجريئ الجمبل
إلى المجد مد إليه يدا إذا القوم مدوا بأيديهم
من المجد مضى مصعدا فنال الذي فوق أيديهم
وإن أصغرهم مولدا يكفله القوم ما عالهم
(بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 ص335 )50
وتقول أيضا:
تبكي خناس على صخرٍ و حق لها ... إذ رابها الدهر إن الدهر ضرار
1.التجريد من سمات القصيد: بدأت الخنساء بالرثاء ثم المدح فعوده للرثاء ..مصيبة أخته فيه لا تماثلها مصيبة أخرى في الجن أو الإنس صخر رجل الشدائد والخطوب صخر يكرم الضيف 2.فيضان النفس على المفقود: فاضت نفسها حزنا لفقد أخيها جياشة ومؤلمة وكان أبوها يأخذ بيدى إبنيه صخر ومعاوية ويقول: أنا أبو خيرى مضر، فتعترف له العرب بذلك. ثم قالت الخنساء بعد ذلك: كنت أبكى لصخر من القتل، فأنا أبكى له اليوم من النار. وممّا سبقت إليه قولها:
أشمّ أبلج تأتمّ الهداة به ... كأنّه علم فى رأسه نار
(بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 ص335 )51
3. الحضور الذكوري : طغيان الحضور الذكوري في العصر الجاهلي، تقابل الأنثى بنظرة نافية دونية ومرد ذلك إلى طبيعة المجتمع الجاهلي بما يستحب فيه من وصاية على المرأة، واكتناز المال واستكثار النسل إلى جانب القرابة الدموية والأخذ بالثأر وسفك الدماء و الميل إلى الشعر الجامح والمتوحش إلى أقصى الحدود الموقدة معه الشهوة العمياء.
4.العبقرية الخنسائية: العبقرية الخنسائية أن تضمها في الشطر الأول بأسلوب الاستفهام إنشائي لغرض التوبيخ وهو توبيخ للنفس، هل في عينيك قذى وهو التراب أو بعض القذارة التي تصيب العين فتألمها وتوجعها وربما تصاب بالرمد أو المرض " هذه المعاني الطويلة استطاعت شاعرتنا)..يا ترى ما السبب في ألم عينيها أهو القذارة التي أصابتها أم خلو الدار ممن تحب وما أصعب البلوى بالفراق، رحم الله من رحل وترك في فؤادنا لوعة الذكرى المريرة ،لا حظي استخدام أسلوب العطف " أم " وكأنه تعطي المستمع حق التخيير في ما أصابها وهذا دليل للعبقرية الشعرية عند الخنساء ((بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 :335 52(
5.ظهور الخنساء: أظهرت الخنساء مناعة قصوى في التّشبث بالحياة، غريزة البقاء على غريزة التدمير، ومجابهة النكبات والفواجع التي ألمّت بها، بكلّ صلابة وعنفوان، رغم الانكسارات التي عرّضتها لاضطرابات نفسية متعدّدة، وارتهنت نفسيتها في مدارات حزينة تتقلّب فيها ثناياها بين ثنائية الحياة و الموت.
6. التحليل النفسي: تكمن التحليل النفسي في رفع الستار عن هذا المعيش المتذكّر في أشعارها والمظهر في سلوكها وعلاقته العميقة بالانسحاب والغياب
كأن عيني لذكراه إذا خطرت ... فيضٌ يسيل على الخدين مدرار
ذكرى مؤلمة لمن رحل وترك في الفؤاد لوعه .. فما أن تذكره حتى تذرف من الدموع أنهارا 7.الأسلوب الخبري لغرض التقرير: الأسلوب الخبري لغرض التقرير أسلوب جميل غير متكلف في دائرة الحزن المؤلمة ... تشبيه تام حيث صورت دموعها بالفيض
تبكي لصخر هي العبرى و قد ولهت ... و دونه من جديد الترب أستار
جميعنا نبكي الموتى هذا حالنا في زمن الفقد والخنساء بكت صخر بحسرة وألم.. فكلما ذكرته ولهت واشتاقت له وهذا هو حال المحب، أسلوب خبري لغرض التوكيد استخدام ألفاظ قويه مؤثره كالفعل المضارع " تبكي " أو غيره من المفردات الموجزه المعبرة " ولهت. قذى) (بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 :335 )53
تبكي خناس على صخرٍ و حق لها ... إذ رابها الدهر إن الدهر ضرار
هنا تجد لها العذر في البكاء والنوح فقد قتلها الدهر وأصابها بموت من تفتقده وتعزه
رابها : أي طعنها أو سبب لها الأذى ونحوه ..
" رابها الدهر " استعاره مكنية صورت الدهر بانسان يقتل أو يطعن أو يؤذي " ذكر المشبه وحذف المشبه به لتقوية المعنى وتقريبه ... القرينه " رابها "
" خناس " ترخيم وتجميل للخنتساء .. وهذا دليل أنها اشتهرت به لجمالها ..
(بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 :335 )54
لا بد من ميتةٍ في صرفها غِيرٌ ... و الدهر في صرفه حولٌ و أطوار
حقيقة رائعه من شاعره حكيمة .. فعلا هنا تنطق الحكمة .. لا بد من الموت فالدهر يتغير ويتحول والانسان من سعاده إلى حزن ومن قوة إلى ضعف .. فاحذروا العواقب
و إن صخراً لوالينا و سيدنا ... و إن صخراً إذا نشتو لنحار
و إن صخراً لمقدامٌ إذا ركبوا ... و إن صخراً إذا جاعوا لعقار
و إن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نار
جلدٌ جميل المحيا كاملٌ ورعٌ ... و للحرب غداة الروع مسعار
حمال ألويةٍ ، هباط أوديةٍ ... شهاد أنديةٍ ، للجيش جرار
8.ذكر الخنساء مدائح صخر: فهو الوالي والسيد والكريم المنحار " منحار " صيغة مبالغة لغرض الاكثار من كذا، وهو شجاع مقدام في المعارك، ركبوا ايجاز يحمل العديد من المعاني الرائعة جميل وورع ومسعار في الحروب لا يخشاها ولا يخافها)(بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 :33555(
لم تره جارةٌ يمشي بساحتها ... لريبةٍ حين يخلي بيته الجار
حتى في الجاهلية كانت لديهم مكارم الأخلاق من أروع الصفات .. فللنظر لجمال الخلق عند هذا الرجل العفيف المحافظ على حرمات القوم، لا يدنس عرضه ولا عرض غيره بريبة أو شك
بل هو محافظ على بيت جاره في عدم وجوده فلله دره .
و لا تراه و ما في البيت يأكله ... لكنه بارزٌ بالصحن مهمار
نعم هو من يحمل الصحن للفقير والعائز ... حتى وإن لم يكن لديه ما يطعم به أهله
فهو شهم كريم ..
قد كان خالصتي من كل ذي نسبٍ ... فقد أصيب فما للعيش أوطار
كان هو من يرفعني ويحميني وقد استخلصته لي من كل ذي نسب يكفيني وجوده معي
والآن قد ذهب فكيف يكون العيش بعده
لحظات حزن رهيبة للخنساء .. وآه من حزن القلوب
(بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 :33556 (
9.الاحساس والعقد النفسية: تحليل دراسة الشعر الخنساء، ذوي الإحساس الجمالي نلتمس عن مركبات العقد النفسية في شخصية الخنساء وإبداعها جهدا كادحا لمحاربة رغبة التدمير الذاتي الطبع، و تصريف للنزوات الشبقية ومعاينة معاينة تحليلية نفسية كمرآة للوجدان، للجسد.
10.الشعور ألا شعور عند الخنساء: وفي الجانب ألا شعوري موقف الخنساء من بنيها وعدم درف الدمع على موتهم مصدره شذوذ في طبيعة تماضر جعل عاطفة الأخوة تغلب لديها على عاطفة الأمومة التي هي جوهر الأنوثة، والعنصر الأصيل في مقومات الفطرة لحواء وفيها تقول:
مثل الرّدينىّ لم تكبر شبيبته ... كأنّه تحت طىّ الثّوب إسوار
لم تره جارة يمشى بساحتها ... لريبة حين يخلى بيته الجار
فما عجول لدى بوّ تطيف به ... قد ساعدتها على التّحنان أظآر
أودى به الدّهر عنها فهى مرزمة ... لها حنينان إصغار وإكبار
ترتع ما غفلت حتّى إذا ذكرت ... فإنما هى إقبال وإدبار
يوما بأوجع منى يوم فارقنى ... صخر، وللدّهر إحلاء وإمرار)
(بن قتيبة ، 1423 ه ج: 2 :335 (57
آراء النقاد في رثاء الخنساء:
النقاد في العصر الجاهلي، يحكمون على الشعراء بمقدار جودتهم في الصياغة، ويصفونهم حسب أسلوبهم وتصويرهم، فيقولون ( إن ربيعة بن عيد كان يسمى المهلهل، لأنه أول من هلهل الشعر وأرقه، وكذلك المرقش لتحسينه شعره وتنميقه) (علي، بدون : 152)58
النقد الأدبي في العصر الجاهلي : يختلف عن غيره من العصور ويزعم بعض النقاد والمؤرخين أنّ العصور العربية الأولى تخلو من النقد ويقصدون به النقد المنهجي و
أصلِ النقد مسألةٌ لا ينبغي الاختلاف فيها لوجود الأدب في مثل تلك المرتبة العلية من الإبداع وأنّ الإنسان بطبعه ناقد متطلبا الأجمل والأجود
فالنقد النقد المنهجي العلمي الموضوعي حادثة لا توجد في تراث فكري قديم
خصائص النقد والأدبي وسماته وميزاته:
أوّلا: مستويات النقد في البيئة الجاهلية : يتجلى في مستويات ثلاث :
1) المستوى الأوّل النقد الذاتي: وهو نقد الشاعر لنفسه وتهذيبه لقصيدته ليُرضي الجمهور
يمثّل هذا النوع من النقد هو ما اصطلحوا عليه باسم المدرسة الأوسية أو عبيد الشعر وأشهر رواد هذه الطائفة من الشعراء زهير بن أبي سلمة ولذا سميت قصائده بالحوليات وكان الأعشى يجوب أحياء العرب وقبائلها ينشد الشعر مستعينا بآلة موسيقية تدعى الصَّنْج
2) المستوى الثاني: النقد الخاص ... وهو النقد الذي نشأ بين طائفة خاصة من المجتمع العربي على رأسهم الشعراء أنفسهم وأبرز شاهد ها هنا النابغة الذبياني فقد كان شاعرا فحلا وناقدا فذّاً
3) المستوى الثالث النقد العام : وهو نقد جماهير العرب وعامتهم
ثانيا مستويات النقد وميادينه في النصّ الأدبي الجاهلي : إنّ النقد الأدبي في العصر الجاهلي قد طال جميع مستويات النّص الأدبي وأوشك أن يتعرّض لجميع جزئياته وموضوعاته
نرى النقادَ يتعرضون للّفظة وللمعنى المبتذل و يتعرضون لشكل النّص ولمضمونه ويتعرضون لصاحب النصّ ذاته
1) نقد الألفاظ كنقد النابغة الذبياني لحسان بن ثابت رضي الله عنه حين استعمل لفظة الجمع البسيط دون منتهى الجموع أو جمع الجموع للدلالة على الكثرة
فالعربي كان ينتقد النصّ الأدبي من جهة ألفاظه
2) نقد المعاني : المقصود بالمعاني دلالات الألفاظ سواء على ما وضعت له أصالة (الحقيقة) أو نقلا (المجازات)
3) نقد الشكل : المقصود بشكل النّص الأدبي ما يتعلق بصورته من حيث عمودية الشعر وأوزانه وقوافيه وتركيبة قصائده من جهة مقدماتها وأغراضها
اهتمام نقاد العصر الجاهلي بشكل القصيدة من حيث الوزن والقافية والروي فلنتأمل في حكومة أمّ جندب المشهورة حيث تقول الرواية كما ذكرها ابن قتيبة في الشعر والشعراء
النقد الجمالي الفنّي: ونقصد به نقد النصوص الأدبية في العصر الجاهلي من حيث أدائها لوظيفة جمالية سواء من جهةجاذبيتها وسحرها الذي قد يخفى سرّه وتجهل علله أو قد تعلم وتتعدد بين حلاوة الألفاظ وعذوبة المعاني وجرس الحروف
5) نقد الأديب: هو تناقض في بعض أقواله أو انتهج نهجا مخالفا للمروءة والشهامة والجود
ثالثا : بعض المظاهر النقدية في الجاهلي :
1) ظاهرة المفاضلة بين الشعراء وتقديم بعضهم على بعض :
وأسباب هذه الظاهرة كثيرة جدّا لعلّ أهمّها العصبية والتنافس القبلي وكثرة الشعراء ووفرتهم في البيئة العربية الجاهلية ، وحبّه للتفاخر والتقدّم على غيره
2) ظاهرة التهذيب والتثقيف : وي نقد الشاعر لنفسه قبل أن ينتقده غيره واهتمامه به بالتصحيح والتعديل، ولعل أشهر من يمثّل هذا الاتجاه هو الشاعر الجاهلي الكبير زهير بن أبي سلمة
ومن للقوافي شأنها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوز جرول
يقومـها حـتى تلـين متونها فيقـصر عنـها كلّ ما يتمثل
ويقول راوية زهير وحامل منهجه التهذيبي الحطيئة في بيان صعوبة الشعر في حقّ من لا يحسن قرضه بالتثقيف والتهذيب
الشعرُ صعبٌ وطويل سلّمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه يريـد أن يعـربه فيعجمه
وعملية التثقيف والتنقيح
3) ظاهرة الرواية : فرواية الشعر في العصر الجاهلي كانت هي الأداة الطيّعة لنشره وذيوعه
ومن أشهر هؤلاء الرواة زهير بن أبي سلمة كان راوية لعمه أوس بن حجر
وكان كعب بن زهير راوية لأبيه
وقبلهم كان امرئ القيس راوية لخاله المهلهل
الأعشى كان راوية لخاله المسيّب بن علس
أبو ذؤيب الهذلي كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي
طرفة كان راوية لعمّه المرقش الأصغر وكان هو راوية لعمه المرقش الأكبر
كما روى طرفة عن خاله المتلمِّس من بني يشكر حيث تربى طرفة
دور الرواية كبير في النقد الأدبي:
أ. تعليم صناعة الشعر وتحديد معالم الجودة والرداءة فيها
فالشاعر المشهور يلزمه تلاميذ يروون عنه شعره وهم ليسوا دائما من قبيلته ولا من أسرته
ب. الانتصار لشعرائهم على حساب غيرهم من الشعراء سواء
ج. تصرف الرواة في قصائد وأشعار معلميهم بالتعديل والتهذيب
د. الإنشاد المستمر والرواية الدائمة التي تفتح قريحة النقد
4) ظاهرة المدارس الشعرية : ويقصد بها المدرسة الشعرية في العصر الجاهلي مجموعة من الشعراء يشتركون معا في بعض الميزات والخصائص الفنية أو اللغوية أو المنهجية التي تميّز شعرهم وأدبهم ومن أبرز هذه المدارس ؛ مدرسة عبيد الشعر وهم الذين يهتمون بتنقيح وتهذيب أشعارهم، ولابدّ أنّ خصائص كلّ مدرسة كانت تختلف عن خصائص المدرسة الأخرى ولا بدّ أنّ هذا الاختلاف كان معروفا معلوما عند النقاد وهذه المدارس ليست متعلقة بالرواية فقط
5) ظاهرة المعلقات : تصور المختار للمثل الأعلى الذي يروقه كما أنّه يدل على تذوقه للصور الفنية الناضجة التي كانت عليها هذه القصائد مبنى ومعنى
6) ظاهرة تسمية القصائد : المقصود بالتسمية ها هنا المبنية على أساس نقدي كالمعلقات السبع والسموط وصاحب الأغاني عن حماد الراوية
7) ظاهرة تصنيف الشعراء : ذكرى الأصمعي أنّ العرب كانت تصنّف الشعراء بحسب قوة قريحتهم وتمكّنهم من ناصية الشعر
فأوّلهم الفحل قال والفحولة هم الرواة
ودون الفحل الخنذيذ الشاعر المفلّق
ودون ذلك الشاعر فقط
والرابع الشعرور
ولذلك قال أحدهم في هجاء أحد الشعراء :
يا رابع الشعراء فيم هجوتني وزعمت أني مفحم لا أنطق
والمقصود بالرابع ها هنا أنّه شعرور في الطبقة الرابعة
وقال الجاحظ في تصنيف آخر للشعراء : طبقات الشعراء ثلاثة شاعر وشويعر وشعرور
قال العبدي :
ألا تنهى سراة بني حميس شويعرها فويليّة الأفاعي
قبيلة تردد حيث شاءت كزائدة النعامة في الكراع
والشويعر أيضا صفوان بن عبد ياليل من بني سعد بن ليث ويقال أنّ اسمه ربيعة بن عثمان ...
رابعا : خصائص النقد في العصر الجاهلي
1. الذاتية : هو البعد عن الموضوعية وتأثر الناقد بعوامل خارجة عن النصّ الأدبي فقد اتّهمّ امرؤ القيس زوجته بعدم الموضوعية
2. الجزئية : فقد كان النقد لا يتتبع النصّ الأدبي كلّه بل يبحث في البيت والبيتين أو على اللفظة واللفظتين
3. عدم التعليل : أي أنّ الناقد الجاهلي كان يصدر أحكامه بالاستحسان أو الاستهجان دون أن يلزم نفسه بتعليل هذه الأحكام وبيان وجه استحسانه أو استهجانه للنّص الأدبي ...ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك حكومة ربيعة بن حِذار الأسدي
5. تحكّم العرف : وهو ما وافق العرف فهو حسن وكلّ ما خالف هذا العرف والذوق العام فهو القبيح
6. الروح الشعرية في النصوص النقدية : وهو أنّ الناقد الجاهلي كان يصدر أحكامه في قوالب فنّية بديعة وبأساليب بيانية راقية
7. النقد الفطري : يعتمد هذا النقد على ذوق الشاعر وعلى سلامة سليقته
8. تأثير العصبية القبلية : و أبرز ظاهرة اتّسم بها هذا العصر هي العصبية القبلية، وتفاخر وتنافر والنزعات العصبية والأهواء الشخصية
9. التعرض لأمور خارجة عن النّص
خامسا : تقييم النقد في العصر الجاهلي :
نقل بعض أحكام أهل العلم والاختصاص متعلقة بالنقد الأدبي في العصر الجاهلي
إنّ دور النقد الأدبي وغايته مهما قيل فيها قديما وحديثا لا تخرج عن أربعة أمور هي :
1. دراسة النصّ الأدبي : من نواحيه الثلاث : الشكل ، المضمون ، وصاحبه
2. مساعدة القارئ على فهم النّص وتذوّقه
3. الحكم على النصوص الأدبية بالجودة والرداءة
4. توجيه الأدب وتطويره
والخلاصة أنّ النقد الأدبي في العصر الجاهلي فإنّه نقد مناسب لبيئته متوافقا معها.
الشاعرة الخنساء: الشاعرة الخنساء من أشهر شواعر العرب، ومن أرجحهن عقلا، (كانت الخنساء من شواعر العرب المعترف لهم بالتقدم وهي تعد من الطبقة الثانية واجمع علماء الشعر أنه لم تكن امرأة قط قبل الخنساء ولا بعدها أشعر منها ) (شيخو ،1895 :23)59
لقد امتدح شعرها النابغة الذبياني الناقد المشهور في الجاهلية، فقال لها: بعد أن استمع إلى قصيدتها الرائية في صخر – اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين، ولولا أن هذا الأعمى (الأعشى) أنشدني قبلك في عكاظ، لفضلتك على شعراء هذا الموسم؛ فإنك أشعر الجن والإنس.
قيل لجرير: من أشعر الناس؟ قال: أنا لولا هذه الخبيثة، ويعني: الخنساء وقال عنها بشار بن برد: لم تقل امرأة قط الشعر إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال. وقال المبرد: كانت الخنساء وليلى الأخيلية بائنتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، وقلما رأيت امرأة تتقدم في صناعة. بينما أبو زيد قال: ليلى أكثر تصرفا وأغزر بحرا، وأقوى لفظا، والخنساء أذهب عمودا في الرثاء، وكان الأصمعي يقدم ليلى عليها،
وفن الرثاء اشتهرت بهما الخنساء، وكانا بكلام فصيح ولهجة معربة، ونظم غير متفاوت، فهو الغاية. (بن قتيبة ، 1423 ج: 2 : 332) 60
قالت في رثاء صخر ـ أخيها ـ ومدحه:
يا عينُ مالَكِ لا تبكين تسكابا
إذ راب دهر وكان الدهر رَّيابا
فابكي أخاك لأيتام وأرملة
وابكي أخاك إذا جاورت أجنابا
هو الفتى الكامل الحامي حقيقته
مأوى الضريك إذا ما جاء منتابا
المجد حُلَّتُه والجود عِلَّتُه
والصدق حوزته إن قرنُه هابا
خطاب محفِلَةٍ فراج مظْلمةٍ
إن هاب مُعْضِلةً سنَّى لها بابا
حمَّالُ ألوية قطَّاع أودية
شهَّادُ أنجـيةٍ للوِتْر طلابا
ومن حكمتها وهي ترثي صخرا:
أبكي فتى الحي نالته منيتُه
وكل نفس إلى وقت ومِقْدارِ
فكل حي صائرٌ للبلى
وكل حبلٍ مرةً لاندثارْ
ومن ظن ممن يلاقي الحروبْ
بأن لا يصابَ فقد ظن عجْزاـ
(شيخو، 1895 ص 1)61
كانت الخنساء تقول الشعر فى زمن النابغة الذّبيانىّ، وكان النابغة تضرب له قبّة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها) (بن قتيبة ، 1423 ج: 2 ص 332)62 فأنشده الأعشى أبو بصير، ثم أنشده حسّان بن ثابت، ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء السّلميّة فأنشدته، فقال لها النابغة: والله لولا أنّ أبا بصير أنشدنى (آنفا) لقلت إنّك أشعر الجنّ والإنس، فقال حسّان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدّك! فقبض النابغة على يده، ثم قال: يابن أخى، إنك لا تحسن أن تقول مثل قولى:
فإنّك كاللّيل الّذى هو مدركى ... وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع
ثم قال للخنساء: أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك ! فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خصيين) (بن قتيبة 1423 ه ج: 2 ص332)63
دخول الخنساء في الدين الإسلامي لم يوفر لها العلاج بالصدمة، وهو استشهاد أبناءها الأربعة دفعة واحدة بعد فترة على اعتناقها الإسلام، بل أعاد تمزيق نفس الجرح باسترجاع ذاكرة الصدمة.
المصادر والمراجع
1. المبرّد، المبرد، حمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة الناشر: عالم الكتب، بيروت ، ص58
2. الشايب أحمد الشايب الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003 ص 194
3. المبرّد، المبرد، حمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة الناشر: عالم الكتب، بيروت المقتضب، ص51
4.شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 25
5. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ص335
6. المبرد، حمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة الناشر: عالم الكتب، بيروت المقتضب، ص50
7. الشايب أحمد الشايب الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003 ص 190
8. فؤاد ، أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1 ص 271
9. فؤاد ، أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1 ، ص 271
10. المبرّد، المبرد، حمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة الناشر: عالم الكتب، بيروت ، ص41/42
11. فؤاد ، أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1: 371
12. المبرّد، المبرد، حمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة الناشر: عالم الكتب، بيروت ، ص91
13. فؤاد ، أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1 ص 271
14. شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 25
15. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص335
16. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ، ص 33
17. فؤاد ، أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج 1، ص137
18. المبرّد، المبرد، حمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة الناشر: عالم الكتب، بيروت المقتضب، ص91
19. الشايب أحمد الشايب الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003ص 194
20.بن قدامة، 1302: 33
21. المبرّد، المبرد، حمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة الناشر: عالم الكتب، بيروت المقتضب، ص50
22. فؤاد ، أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1، ص271
23. فؤاد ، أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1 ص271
24. فؤاد ، أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1 ص 271
26.شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 25
27.بن قتيبة ، 1423 ه الجزء الثاني ص335
28. فؤاد ، أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1: 371
29. المبرّد، المبرد، حمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة الناشر: عالم الكتب، بيروت المقتضب، ص50
30.فؤاد، ج1 ص 271
31.فؤاد ،بدون ج1 ص271
32. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص 33
33.شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 25
34. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص333
35.المبرد ،بدون ، ص61
36. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص335
37. بن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص 33
38. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ه ص55
39.شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 25
40.ابن قتيبة ، 1423 ه الجزء الثاني، ص333
41. شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 150
42.ابن قتيبة ،1423 ه الجزء الثاني، ص335
43. شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 150
44. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص 56
45. شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 150
46. شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 150
47. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني،ص333
48. شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 25
49.ابن قتيبة ، 1423 ه الجزء الثاني،ص335
50. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني، ص335
51. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ،ص335
52. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص335
53. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص335
54. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص335
55. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص335
56. بن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص335
57. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص335
58.علي، بدون ، ص152
59. شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 23
60. ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص 332
61. شيخو، شرح ديوان الخنساء، مطبعة الكاتولكية، 1895م ، ص 1
62.ابن قتيبة ، 1423 الجزء الثاني، ص 332
63. بن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الشعر والشعراء دار الحديث، القاهرة: 1423 ه الجزء الثاني ، ص332
طبقَة أَصْحَاب المراثى:
قَالَ وصيرنا أَصْحَاب المراثى طبقَة بعد الْعشْر الطَّبَقَات
- أَوَّلهمْ متمم بن نُوَيْرَة بن جَمْرَة بن شَدَّاد بن عبيد بن ثَعْلَبَة بن يَرْبُوع رثى أَخَاهُ مَالِكًا
- والخنساء بنت عَمْرو بن الْحَارِث بن الشريد بن ريَاح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امْرِئ الْقَيْس بن بهثة رثت أخويها صخرا وَمُعَاوِيَة
- وأعشى باهله واسْمه عَامر بن الْحَارِث بن ريَاح بن عبد الله بن زيد بن عَمْرو بن سَلامَة بن ثَعْلَبَة بن وَائِل بن معن رثى الْمُنْتَشِر بن وهب بن عجلَان بن سَلمَة بن كراثة بن هِلَال بن عَمْرو محمد بن سلّام بالتشديد بن عبيد الله الجمحي بالولاء، (أبو عبد الله طبقات، فحول الشعراء، المحقق: محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني – جدة، ج1ص 270)
ابْن سَلامَة بن ثَعْلَبَة بن وَائِل بن معن
- وَكَعب بن سعد بن عَمْرو بن عقبَة أَو عَلْقَمَة بن عَوْف بن رِفَاعَة أحد بنى سَالم بن عبيد بن سعد بن جلان بن غنم بن غنى بن أعصر رثى أَخَاهُ أَبَا المغوار
- والمقدم عندنَا متمم بن نُوَيْرَة ويكنى أَبَا نهشل رثى أَخَاهُ مَالك بن نُوَيْرَة وَكَانَ قَتله خَالِد بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة حِين وَجهه أَبُو بكر رضى الله عَنهُ إِلَى أهل الرِّدَّة
فَمن الحَدِيث مَا جَاءَ على وَجهه وَمِنْه مَا ذهب مَعْنَاهُ علينا للِاخْتِلَاف فِيهِ
وَحَدِيث مَالك مِمَّا اخْتلف فِيهِ فَلم نقف مِنْهُ على مَا نُرِيد
وَقد سَمِعت فِيهِ أقاويل شَتَّى غير أَن الذى اسْتَقر عندنَا أَن عمر أنكر قَتله وَقَامَ على خَالِد فِيهِ وأغلط لَهُ وَأَن أَبَا بكر صفح عَن خَالِد وَقبل تَأَوَّلَه
وَكَانَ مَالك رجلا شريفا فَارِسًا شَاعِرًا وَكَانَت فِيهِ خُيَلَاء وَتقدم وَكَانَ ذَا لمة كَبِيرَة وَكَانَ يُقَال لَهُ الجفول، وَقدم على النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَن قدم من أَمْثَاله من الْعَرَب فولاه صدقَات قومه بنى يَرْبُوع، فَلَمَّا قبض النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اضْطربَ فِيهَا فَلم يحمد أمره وَفرق مَا فى يَدَيْهِ من إبل الصَّدَقَة فكلمة الْأَقْرَع ابْن حَابِس المجاشعى والقعقاع بن معبد بن زُرَارَة الدارمى فَقَالَا لَهُ إِن لهَذَا الْأَمر قَائِما وطالبا فَلَا تعجل بتفرقة مَا فى يَديك
فَقَالَ
أرانى الله بِالنعَم المندى ... ببرقة رحرحان وَقد أرانى
)(محمد بن سلّام بالتشديد بن عبيد الله الجمحي بالولاء، أبو عبد الله طبقات، فحول الشعراء، المحقق: محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني – جدة، ج1ص 274)
تمشى يَا ابْن عوذة فى تَمِيم ... وَصَاحِبك الأقيرع تلحيانى
حميت جَمِيعهَا بِالسَّيْفِ صَلتا ... وَلم ترعش يداى وَلَا بنانى
عوذة يعْنى أم الْقَعْقَاع وهى معَاذَة بنت ضرار بن عَمْرو
وَقَالَ
وَقلت خُذُوا أَمْوَالكُم غير خَائِف ... وَلَا نَاظر فِيمَا يجِئ من الْغَد
فَإِن قَامَ بِالْأَمر الْمخوف قَائِم ... منعنَا وَقُلْنَا الدّين دين مُحَمَّد
- فطرق خَالِد مَالِكًا وَقَومه وهم على مَاء لَهُم يُقَال لَهُ الْبَعُوضَة تَحت اللَّيْل فذعرهم وَأخذُوا السِّلَاح فَكَانَ في حجَّة خَالِد عَلَيْهِم أَنه أنظرهم إِلَى وَقت الْأَذَان فَلم يسمع أذانا
وَتقول بَنو تَمِيم إِنَّه لما هجم عَلَيْهِم خَالِد قَالَ من أَنْتُم قَالُوا الْمُسلمُونَ قَالَ وَنحن الْمُسلمُونَ فَمَا بَال السِّلَاح قَالُوا ذعرتمونا قَالَ فضعوا السِّلَاح
(محمد بن سلّام بالتشديد بن عبيد الله الجمحي بالولاء، أبو عبد الله طبقات، فحول الشعراء، المحقق: محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني – جدة، ج1ص 274)
- والمجتمع عَلَيْهِ أَن خَالِدا حاوره وراده وَأَن مَالِكًا سمح بِالصَّلَاةِ والتوى بِالزَّكَاةِ
فَقَالَ خَالِد أما علمت أَن الصَّلَاة وَالزَّكَاة مَعًا لَا تقبل وَاحِدَة دون الْأُخْرَى قَالَ قد كَانَ يَقُول ذَلِك صَاحبكُم قَالَ وَمَا ترَاهُ لَك صاحبا وَالله لقد هَمَمْت أَن أضْرب عُنُقك
ثمَّ تحاولا فَقَالَ لَهُ خَالِد إنى قَاتلك
قَالَ وبذا أَمرك صَاحبك قَالَ وَهَذِه بعد وَالله لَا أقيلك
- فَيَقُول من عذر مَالِكًا أَنه أَرَادَ بقوله صَاحبك أَنه أَرَادَ القرشية وَتَأَول خَالِد غير ذَلِك فَقَالَ إِنَّه إِنْكَار مِنْهُ للنبوة، وَتقول بَنو مَخْزُوم إِن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ لخَالِد وَقد كَانَ لقِيه وَهُوَ منصرف من عمان وَكَانَ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجهه إِلَى ابْن الجلندى فَقَالَ لخَالِد يَا أَبَا سُلَيْمَان إِن رَأَتْ عَيْنك مَالِكًا فَلَا تزايله حَتَّى تقتله
كَانَ خَالِد يحْتَج على مَالك بأشعاره الَّتِى كتبنَا
وكلم أَبُو قَتَادَة الأنصارى خَالِدا فى ذَلِك كلَاما شَدِيدا فَلم يقبله فآلى يَمِينا أَن لَا يسير تَحت راية أميرها خَالِد أبدا
وَقَالَ لَهُ عبد الله بن عمر وَهُوَ فى الْقَوْم يَوْمئِذٍ يَا خَالِد أبعد شَهَادَة أَبى قَتَادَة فَأَعْرض عَنهُ
ثمَّ عاوده فَقَالَ يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن اسْكُتْ عَن هَذَا فإنى أعلم مَا لَا تعلم
فَأمر ضرار بن الْأَزْوَر الأسدى بِضَرْب عُنُقه فَفعل
قَالَ ابْن سَلام سمعنى يُونُس يَوْمًا أَرَادَ التميمية فى خَالِد وأعذره فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله أما سَمِعت بساقى أم تَمِيم وَصَارَت أم تَمِيم إِلَى خَالِد بِنِكَاح أَو سباء وعابه عَلَيْهِ عمر ابْن الْخطاب قَالَ قتلت امْرأ مُسلما وَوَثَبْت على امْرَأَته بعقرباء يَوْم بنى حنيفَة
- قَالَ وَمن أحسن مَا سَمِعت من عذر خَالِد مَا ذكرُوا أَن عمر قَالَ لمتمم بن نُوَيْرَة مَا بلغ من جزعك على أَخِيك وَكَانَ متمم
(محمد بن سلّام بالتشديد بن عبيد الله الجمحي بالولاء، أبو عبد الله طبقات، فحول الشعراء، المحقق: محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني – جدة، ج1ص 275)
أَعور قَالَ بَكَيْت عَلَيْهِ بعينى الصَّحِيحَة حَتَّى نفد مَاؤُهَا فأسعدتها أُخْتهَا الذاهبة فَقَالَ عمر لَو كنت شَاعِرًا لَقلت فى أخى أَجود مِمَّا قلت
قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو كَانَ أخى أُصِيب مصاب أَخِيك مَا بكيته
فَقَالَ عمر مَا عزانى أحد عَنهُ بِأَحْسَن مِمَّا عزيتنى
وَبكى متمم مَالِكًا فَأكْثر وأجاد والمقدمة مِنْهُنَّ قَوْله
لعمرى وَمَا دهرى بتأبين هَالك ... وَلَا جزع مِمَّا أصَاب وأوجعا
قَالَ ابْن سَلام وأخبرنى يُونُس بن حبيب أَن التأبين مدح الْمَيِّت وَالثنَاء عَلَيْهِ قَالَ رؤبة
فامدح بِلَالًا غير مامؤبن ...
والمدح للحى
(محمد بن سلّام بالتشديد بن عبيد الله الجمحي بالولاء، أبو عبد الله طبقات، فحول الشعراء، المحقق: محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني – جدة، ج1ص 281)
وبكت الخنساء أخويها صخرا وَمُعَاوِيَة
فَأَما صَخْر فَقتلته بَنو أَسد وَأما مُعَاوِيَة فَقتلته بَنو مرّة غطفان
فَقَالَت فى صَخْر كلمتها الَّتِى تَقول فِيهَا
وَإِن صخرا لتأتم الهداة بِهِ ... كَأَنَّهُ علم فى رَأسه نَار
وَقَالَت فى مُعَاوِيَة
أَلا مَا لعينك أم مَالهَا ... لقد أخضل الدمع سربالها
وَقَالَت فى صَخْر الْكَلِمَة الْأُخْرَى
أَمن حدث الْأَيَّام عَيْنك تهمل ... وتبكى على صَخْر وفى الدَّهْر مذهل
(محمد بن سلّام بالتشديد بن عبيد الله الجمحي بالولاء، أبو عبد الله طبقات، فحول الشعراء، المحقق: محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني – جدة، ج1ص 282)
- وأعشى باهله رثى الْمُنْتَشِر بن وهب الباهلى قَتِيل بنى الْحَارِث بن كَعْب فَقَالَ فى كَلمته
لَا يَأْمَن النَّاس ممساه ومصبحه ... من كل أَوب وَإِن لم يغز ينْتَظر
لَا يغمز السَّاق من أَيْن وَلَا وجع ... وَلَا يزَال أَمَام الْقَوْم يقتفر
إنى أَشد حزيمى ثمَّ يدركنى ... مِنْك الْبلَاء وَمن آلَائِكَ الذّكر
فَإِن جزعنا فَمثل الشَّرّ أجزعنا ... وَإِن صَبرنَا فَإنَّا معشر صَبر
إِمَّا سلكت سَبِيلا كنت سالكها ... فَاذْهَبْ فَلَا يبعدنك الله منتشر
لَا يصعب الْأَمر إِلَّا ريث يركبه ... وكل أَمر سوى الْفَحْشَاء يأتمر
(محمد بن سلّام بالتشديد بن عبيد الله الجمحي بالولاء، أبو عبد الله طبقات، فحول الشعراء، المحقق: محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني – جدة، ج1ص 282)
- وَالرَّابِع كَعْب بن سعد الغنوى رثى أَخَاهُ أَبَا المغوار بِكَلِمَة قَالَ فِيهَا
فخبر تمانى أَنما الْمَوْت بالقرى ... فَكيف وهذى رَوْضَة وكثيب
وَمَاء سَمَاء كَانَ غير محمة ... بداوية تجرى عَلَيْهِ جنوب
ومنزلة فى دَار صدق وغبطة ... وَمَا اقتال فى حكم على طَبِيب
فَلَو كَانَت الْمَوْتَى تبَاع اشْتَرَيْته ... بِمَا لم تكن عَنهُ النُّفُوس تطيب
بعينى أَو كلتا يدى وَقيل لى ... هُوَ الغانم الجذلان حِين يؤوب
وداع دَعَا يَا من يُجيب إِلَى الندى ... فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب
فَقلت ادْع أُخْرَى وارفع الصَّوْت دَعْوَة ... لَعَلَّ أَبَا المغوار مِنْك قريب
_محمد بن سلّام بالتشديد بن عبيد الله الجمحي بالولاء، أبو عبد الله طبقات، فحول الشعراء، المحقق: محمود محمد شاكر، الناشر: دار المدني – جدة، ج1ص 284)
العاطفة في الرثاء الجاهلية
الشاعر القديم منذ البدء واعيًا لأهمية الصدق الفني والصدق العاطفي في الرثاء ويظهر ذلك اعتماده في استهلال القصيدة وحرصه على المطلع والختام مما يؤكد هذا الوعي ، إن المواضيع التي تطغى على القصائد الجاهلية في المجالات العاطفية، إنها تعبر عن الصدق الفني والعاطفي ويتمثل في قصيدة أبي ذؤيب الهذلي التي فضلها الأصمعي تتعرض لموضوع عاطفي حزين وهو موضوع الموت والفراق، وكذا الدهر وصروفه؛ وقصيدة امرئ القيس تعالج واقع سيرورة حياة الإنسان إلى الأسوأ إن إجراء الشعراء عبر عصورهم التغيرات على نصوصهم ، مما يُشير كَذلك إلى أن المبدع يضع نصب عينيه وفي طوايا تفكيره شخصيته الفنية وعواطفه الجياشة، الصدق الفني والصدق العاطفي يعني بالدرجة الأولى للقارئ و السامع لتأثرهما بأسلوب الصدق الفني والصدق العاطفي، حيث تشترك الأذن مع العقل والمشاعر والوجدان لذلك لا بد من الاعتناء بالقيم وأدوات فنية نحو موسيقا الكلمة أو إيقاعها ؛ و بإشارات إيماءات ، و الحركة الصوتية مؤثرة والموضوع والظرف وهي مؤثرات التي تغير من طبيعة الحكم أو موضوعتيه والقصيدة العاطفية تعالج استشفاف الصدق الفني لتكون اللغة مكثّفة و مركّزة (في صدور الناس المتصورة في أذهانهم، و في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره.) (الجاحظ، 1423 ه ج:1: 81)1
وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وأخبارهم عنها، واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم، وتجليها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهرا، والغائب شاهدا، والبعيد قريبا. لبيان والتبيين) (الجاحظ، 1423 ه ج:1 : 81)2
القصائد الوجدانية تعبر عن ذات الإنسان وعواطفه أو وجدانه الصادق وتنبعث من صميم النفس، و معاناة الشخصية والفكرية والعاطفية عبر العبارات والألفاظ التي تؤلِف له خصوصية ما .
الصدق الفني والعاطفي يتحقق من عاطفة المبدع وانفعاله ؛ و الصدق الفني والعاطفي لا يتحقق إلا بالخيال أو الصور الفنّية ، واستعمال الكلمات السلسة بأسلوب معيّن ، وكم من موضوع واحد يتناوله عشرات الشعراء ، ولكنّنا نحس الصدق لدى هذا ، ونرى التكلف لدى ذاك ، والخيال هو الثوب الصدق الفني وفكرته ، فالخيال مرفودًا بالعقل يقدّم خصوصية للشاعر تنبثق من خلال انعكاسات الأشياء في حسه وفي نفسه يقول أنور المعداوي : " أما الصدق الفني فميدانه التعبير، التعبير عن دوافع هذا الإحساس ، بحيث يستطيع الفنان أن يلبس تجاربه ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية الصور ") (الشايب، 1973: 19/22 )3
التقاليد الفنية والعاطفية: يتمثل في الشعراء الصعاليك الذين اعتمدوا في جل أشعارهم على المقدمات الطللية والغزلية باعتبارها تقاليد فنية لا تجديهم في التعبير عن مكنونات نفوسهم، وعن أفكارهم وآرائهم التي اتخذوها إزاء مجتمعاتهم القبلية الطبقية.
الصدق الفني يستلزم النظر إلى مقومات الشعر من إيقاعات.. ولغة مميزة مكثّفة ، ومعان تحملها صور أو خيال . وثمةّ تأثيرات أخرى خارجية عن النص " لم نعد نستطيع أن نميّز بين صادق وزائف في الفن " (فاضل، بدون: 59 )4
ومن شروط الصدق :
1- العاطفة حقيقية.
2 –حدة الشعور والقوة الحساسية بلا مبالغة
3 – الدوران في الفلك الإنساني والسلوك الإنساني
4 – جلاء العواطف
و الصدق هي مسألة ذوقية محضة في وقت لاحق – فيقول :
" الإجابة عن التمييز بين الصدق والزائف هي عسيرة جيدًا ، لأنه في حقيقته سؤال عن كيف نميزّ بين الصادق والزائف في الفن ."( النويهي،1971 : 135) .
مصطلح " الصدق ": من الاستعمالات الأولى لمعنى الصدق ما ورد على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في زهير بن أبي سلمى : " ولا يمدح الرجل إلا بما فيه " (ابن رشيق، 1934ج1: 80)5
إن استجابة الشاعر لأفكاره وعواطفه دون قيود فنية في قصيدة شعرية ليس عيبا، وليس ضعفا فنيا جماليا ؛ فهذا النوع المعتمد على البناء البسيط له درجات كبرى من الفنية والشعرية والجودة الفنية والشعرية مرتبطة بمجموعة من العناصر والبنى المؤلفة للعمل الإبداعي باعتباره مزيجا من التراكيب اللغوية والصور الشعرية والإيقاعات والدلالات
الصدق في الواقع كما ورد في بيت شعر لحسان بن ثابت ذكر للصدق ، ولكنه هنا جاء مطابقًا لنفسية الشاعر أو حاله :
وإن الشعر لب المرء يعرضه على المجالس إن كَيسًا وإن حُمُقًا
وإن أشعر بيت قائلـه بيت يقال إذا أنشدته صدقا
(حسان، د.ت: 169)6
الحقائق العاطفية: يكمن في التعبير عن عاطفة صادقة ينبع عن نفسها قلقة متأزمة من وضع اجتماعي فاسد يعيشه الشاعر، لذلك نجد عنترة في الكثير من قصائده يتناول موضوعه الرئيس، ألا وهو الفخر بذاته، والإشادة برجولته وشجاعته وفروسيته، بطريقة مباشرة وهو المتحكم في أغلب و كثيرا ما يثور وبهدوء على المقدمات الغزلية، ليستبدلها بمقدمات خاصة به، تستجيب لظروفه المادية والنفسية، مقدمات تعبر عن حالته وسط قومه وقبيلته؛ هذه الحالة التي تتأرجح بين اليأس والأمل، بين رفض الحاضر والماضي والتنبؤ بمستقبل زاهر، بين نفي الآخر للذات،
نمط الفن العاطفي: وأغلب أشعار عنترة كان يتحكم فيها الواقع القبلي المتردي الذي سلبه كل مراتب الشرف والنبل لكونه أسود البشرة، لذلك كرس حياته لمحاربة هذا الوضع المترهل، ولتحقيق شرفه بشجاعته وفروسيته وشاعريته لا بحسبه ونسبه، لذلك كانت كثير من قصائده مستجيبة لعنصر الواقع النمط العاطفي
الحب الواقعي الصادق: الوحدات التي يتغزل بها عنترة بعبلة ابنة عمه، لم تكن من باب التقليد الفني الذي درج الشعراء على ذكره في قصائدهم، بل كان ذلك حبا واقعيا صادقا، كما كان وسيلة لإبراز شجاعته وقوته لمن يحب. إن تغزل الشاعر عنترة بعبلة ليس مثيلا لتغزل امرئ القيس بعنيزة أو فاطمة أو سليمى إنه تغزل تسيره ظروف واقعية
كثافة الفكرة والشعور: مشحون بطابع الحسرة واليأس والحزن لها وظيفة تأثيرية كبرى على المتلقي ولا بد أن يكون الشاعر صادقا مع نفسه، باعتماده هذا البناء الشعري البسيط، لأنه لم يكن ليراعي التقاليد الفنية الشعرية المتعارف عليها، كما لم يكن ليسعى إلى تحقيق الشهرة أو الحظوة التي تنتج عن الفنية المبالغ فيها. الشاعر باعتماده هذا النمط الشعري يسعى إلى إلغاء كل رقابة، وإلى نفي كل حاجز يحول بينه وبين التعبير المباشر الصادق عن واقعه المتأزم المتردي (وقد أورد صاحب الأغاني حوارًا بين عبد الله بن أبي عتيق وكثيّر عزة – يستعمل فيه عبد الله عبارة " أقنع وأصدق منك " وذلك في معرض الموازنة بين كثير وشاعرين آخرين) (الأصفهاني، د.ت. ج5: 85 /86)7
وقد وقف إحسان عباس على معنى " الصدق " في نقد ابن طباطبا في كتابه " عيار الشعر " ، فرأى أن لدى ابن طباطبا استعمالات مختلفة له :
1 - الصدق الفنّي أو إخلاص الفنان في المصطلح عن تفحصه الشخصية
يقول ابن طباطبا " فإذا وافقت هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند المستمع لا سيّما إذا أيدت بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلقة فيها ، والتصريح بما كان يكتم منها والاعتراف بالحق في جميعها استفزازًا لما كان يسمعها " (عباس، 1981: 142-144)8
2 - صدق التجربة الإنسانية – وهذه تتمثل في قبول الفهم للحكمة – يعلل ابن طباطبا ذلك " لصدق القول فيها ، وما أتت به التجارب منها " )(ابن طباطبا، 1982: 21 –22)9
وقد ينحى بها نحو الصدق في مدح الرجال كما قيل كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه ، فالالتجاء إلى الخيال والتمثيل واختراع الصور والمبالغة هو كذب فمن قال (خيره – أي الشعر – أصدقه إذ كان ثمره أحلى وأثره أبقى .. ومن قال : أكذبه ذهب إلى أن الصنعة إنما قد باعها وتنشر شعاعها ويتسع ميدانها وتتفرع أفنانها حيث يعتمد الاتساع والتخييل ويدعي الحقيقة في أصله التقريب والتمثيل، وحيث يقصد التلطف والتأويل، ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المديح والذم والوصف والنعت والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض ، وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد ويبدئ في اختراع الصور ويعيد " (الجرجاني، 1954 : 250) 10
فالفن يقوم على الإيماءة التي لا تكشف كل أبعاد النص ، إنما تترك فسحة من التخيل ولا يتأتى هذا إلا عن طريق اللغة المجازية
ومن إشارات الصدق في القصيدة أن يقدّم النص دلالات جديدة في ذهن القارئ- دلالات لم تكن من المنظورات المبنية مسبقًا ، وإنما هي تبنى بعد مراجعة النص واسترجاعه داخل نفس المتلقي – القارئ ، فالنص أشبه بخلية حية تداخلت بخلية حية أخرى في القارئ ، فيحدث التفاعل أو يحدث التلاقح بين البذرتين ، وينشأ هذا الموقف المتمازح بين النص وبين ذاتية القارئ والصدق يقاس بمدى ما بعبّر عن القارئ ، أو ما يود أن يعبّر عنه ، إذا كانت البلاغة موافقة مقتضى الحال ، فإن الحال لأنّ النص ينطق بلسانه أو معه .
يقول عز الدين إسماعيل : " الفن ونحن أساسيان ومتلازمان في كل عمل شعري يحظى بتقديرنا " . وهو يرى أننا حين نحكم على قصيدة ما بالصدق " فإننا نعبرّ بذلك الحكم في الحقيقة على نجاح الشاعر في التعبير كذلك عن مشاعرنا وأفكارنا – عن الموقف الذي نتخذه من الحياة أو يجب أن نتخذه " إسماعيل، 1966: 23-24 )11
أما تماثلنا مع قصائد قديمة تحمل منطقًا غير منطق عصرنا ، أو تحمل عقيدة مخالفة أو أفكارًا مناقضة فإنه يتأتّى بتقديرنا المسبق على أن روح العصر أو ذوقه هو الذي يوجهّ القارئ عند تقبّل القصيدة
التخيّل الشعري يوصل إلى استيعاب الصورة الفنية ، وهو الذي ينقلنا إلى إطار تاريخي آخر وظروف أخرى ، ويضع لنا مقاييس لغوية وأدبية مختلفة ، فتكون التجربة التي يتلقاها القارئ ( وَعْيوَية ) إذا صح التعبير . إنها نوع من الإزاحة تتم بربط هذه الأشياء أو المقاييس بالاتجاه العام الذي كان سائدًا في الشعر .
ولكن ثمّة فرق بين القصيدة التقليدية التي يكتبها شاعر اليوم ، كأن يهجو مثلاً بأساليب الشعر القديم ، وبين تلك القصيدة التي طالعنا بها الفرزدق مثلاً . فالأحوال المادية والثقافية والنفسية والاجتماعية مختلفة ، لذا يصعب على القارئ في أيامنا أن يحيل هذا النص الأول إلى التاريخ ، أو إلى مقاييس العصور السالفة ، إنه يحيله إلى واقعه اليوم ، فسرعان ما يجد الهوة بين لغة الطرح الشعري ومضمونه (إن النماثل يحتاج منا أن نبذل جهدًا لنتعرف على النص عقليًا ووجدانيًا ، فنستكشف ما فيه من مواقف وأحاسيس ، ولا يتم ذلك إلا بالمعايشة والألفة) (الجاحظ، 1966: 83- 84)12
للشاعر في قصيدته رؤية خاصة في الكون ، وأن له لغة تختلف عن لغة سواه – لغة فيها أنساق وسياقات منسوجة بصورة متميزة ، أو غير مألوفة – تُبين أو تشفّ عن التجربة فإنه يكتشف له خصوصية فيها أصداء نفس مطلقة ، وهمسات وجدانية والصدق الأصيل ينطبق ما كان، صادقا في حكايته وجزء من التناصّ
الاستغراب : ما له دلالة جديدة ، فخرج من حيادته إزاء المقروء ، فإنه يقع في لحظات دهشية أولية ، وذلك بسبب ما شحنته الكلمات من أبعاد فنية أو لغوية أو نفسية يقف القارئ على باب النص ، فيستقيل إيماءات وإشارات ، وما يلبث أن يقود نفسه إلى الدخول في حرم هذا النص ، وبشكل تلقائي ، حيث أمامه مجال التخيل و لا يسير إلا بخيط الصدق الذي تركته له الدهشة ، فالدهشة المتأنية من استيعاء عصارة إحساس المبدع – تترك متعة لذيذة ، فيحس القارئ أنه أمام صدق فني الذي يعبر، و يستلزم أسسًا يقوم عليها هذا الفن – ومنها التخييل، والموسيقا والإيقاع...، وتوقفت – وبصورة خاصة – على رؤية محمد النويهي، وهي هامة في هذا المجال وكان لابد من العودة الى مفهوم " الصدق" عبر العصور المختلفة في أدبنا، وخاصة لدى ابن طباطبا، فعبد القاهر الجرجاني، ثم مساهمات الديوانيين- العقاد والمازني وشكري-في ذلك." القارئ هو الذي يتذوق النص ويحاوره من خلال عناصر اللغة، ومن انعكاس الظواهر الاجتماعية والنفسية فيه، كقول الفرزدق في وكيع بن أبي سُودٍ:
فعاش ولم يتركْ ومات ولم يدعْ ... من الناس إلاّ من أباتَ على وتْرِ
(ثعلب ، 1995: 34)13 هناك إشارات قد تزجي القارئ إلى تذوق القصيدة، فالإحساس بصدقها، تبدأ باللغة ويكون القارئ فعالاً فيها، وباللغة يتبين ارتباط المبدع بأسلوبه، فيحس القارئ أن للشاعر صوتًا خاصًا يندفع منه، فإذا تناسب شخصيًا مع الصيغة، ورأى أنه يعبر عنه فهذا دليل على أن القصيدة صادقة في معاييرها. (ما لم يكن بالمغربِ المستغلق البدوي، ولا السفساف العامي، ولكن ما اشتد أسره، وسهل لفظه، ونأى واستعصب على غير المطبوعين مرامه، وتوهم إمكانه). (ثعلب ، 1995: 63 )14
لا يتكلف الشاعر البحث عن القواعد الفنية التي تزخر بها ثقافته الشعرية، ليصقل موهبته حتى تخرج على منوال قالب شعري فني راقي متعارف عليه في الأوساط الشعرية الجاهلية، بل يباشر الموضوع، معبرا عن واقع حقيقي هو واقع الحرب والبسالة والشجاعة، إن الشاعر الصعلوك ربط شعره بالدفاع عن قضيته المصيرية المتمثلة في قضية الوجود، لكن ليس الوجود بالمعنى الإنساني العام، وإنما الوجود الاجتماعي: أي الحياة العزيزة الكريمة للذات الإنسانية المهمشة بسبب النسب أو الحسب أو اللون في مجتمع إنساني تسوده مظاهر العدل والمساواة
فن صف الرحيل: وصف مظهر رحيل الشاعر ، لكن ليس رحيل الأحبة، هناك سير للإبل والظعائن والماشية. إنه رحيل الشاعر إلى المجهول بعيدا عن قومه الذين رفضوه وطردوه، فلم يعودوا أهلا له. فيكزون الشاعر كئيبا يبعث في النفس إحساسا بالرهبة والحزن ؛ فرحيل الشاعر في النمط الفخم، وعلى الرغم من المخاطر والأهوال التي تسمه هو رحيل إلى الممدوح، إلى المال والجاه. ورحيل الشاعر الصعلوك، فهو رحيل إلى البيداء والصحراء، رحيل إلى عالم الذئاب والضباع والوحوش الضارة
القصائد الشعرية تبتدئ بموضوعها الرئيسي مباشرة، دون حاجة إلى مقدمات لا تمت له بصلة ظاهرية؛ وهذا ما أكسبها تلك الوحدة الموضوعية سواء ظاهريا أو باطنيا، على خلاف القصائد الفنية ذات البناء الفخم التي لا تملك هذه الوحدة سطحيا، وإن كنا لا ننفيها على مستوى البنية العميقة.
مضامين الرثاء في العصر الجاهلي:
يحتفظ أدب العربي تراث ضخم من المراثي منذ الجاهلية الذي يعبر عن الحزن واللوعة، الّتي تنتاب لغياب عزيز بفقده، بتعداد مناقبه والإشادة بمآثر التوجع وتتردد فيه صولة الموت وسلطان الفناء، وتطورت صور الرثاء ونماذجه وتعددت دواعيه وبواعثه. فإِذا جئنا نوازن بين عناصر المرثية في نماذج تمثل تدرج الزمن ونمو العقل وتعقد الحياة، خرجنا بحقائق يمكن رصدها في رسم بياني، بدايته في العصر الجاهلي ونهايته في عصرنا الحاضر، غير أن هذا الرسم نسبي إِلى حد كبير، ولابد من وجود تذبذبات ومنعرجات فيه (أشعار الجاهلية مشهورة معروفة، وإنما نملي منها العيون. ألا ترى إلى قوله قليل التشكي للمصيبات ثم وصله بقوله حافظ مع اليوم أدبار الأحاديث في غد كيف قرن فيه معنى ظريفاً بآخر مثله في الظرافة التي لا يمتنع اللبيب من قبولها واستحسانها والمعرفة بحقيقة ما فيها كما قلنا في الذي قبله) (المبرد ، 1997م: 58) 15
وهو أحد فنون الشعر العربي يصدرها من حيث صدق التجربة وحرارة التعبير ودقة التصوير ويتضمن البکاء على الميّت وإظهار لوعة الفراق والحزن ويحلق النّساء رﺅوسهنَّ حزناً علی الميّت. قال عن عبد الله بن الأسود: لما مات عاصم بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه أخوه عبد الله فرثاه. وأنشدني هذا الشعر الرياشي: الطويل
إن تك أحزانٌ وفائض عبرةٍ ... أثرن دماً من داخل الجوف منقعا
تجرّعتها في عاصمٍ فاحتسبتها ... لأعظم منها ما أحتسى وتجرّعا
فليت المنايا كنّ صادفن غيره ... فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
(المبرد ،1997م: 91 )16 وأقدم تلك المراثي مما أبدعت قرائح الجاهليين، وصلتنا ناضجة محكمة، قد تجاوزت طفولتها ومراحل محاولاتها البدائية، وصارت ذات قوالب وصيغ محددة، وأساليب وصور معروفة ثم لما تطورت مختلف فنون الشعر نتيجة مجيء الإِسلام وما تفرع عنه خلال الأجيال الطويلة المتعاقبة من تيارات فكرية ومذهبية وسياسية وأدبية وقال إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب يرثي أخاه محمد بن عبد الله: البسيط
أبا المنازل يا عبر الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا الله يعلم أنّي لو خشيتهم ... وأوجس القلب من خوفٍ لهم فزعا لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم ... حتّى نعيش جميعاً أو نموت معاً
وكان قتله في المعركة عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله وهو الذي قتل إبراهيم أخاه. (المبرد ،بدون : 91)17 تسود على الشاعر أحياناً العاطفة فهو يبدأ القصيدة بعتاب من يعاذله، فلا يستطيع الصبر على اللائم فيعظّم شأن المرثي نلاحظ إذًا أن العاطفة صفة نفسية، (نبع أول أمرها من نفس الأديب الذي يجب أن يكون نفسه متأثرًا منفعلًا إذا شاء من قرائه حماسة وانفعالا، وهي لذلك صفة العاطف والإرادة والأخلاق قبل أن تكون صفة الأسلوب؛)، (الشايب،2003: 194)18 يرى الشاعر قتل المرثي ظلماً وجناية ، فيعدد مناقب المرثي ثمّ يهدّد القتلة مثل ما نجده مّا أسلوب الشاعر الجاهلي فيستخدم الشاعر النداء أحياناً حزنه وألمه فالشاعر هو الذي يسرد الحقائق بوضوح، يأتي النداء لعتاب اللائم ولبيان مكانة المرثي وتعظيمه والمبالغة في شدة ما أصاب (ويعتقدها بصدق، ويحرص على إذاعتها، تجد في عبارته صدى ذلك، وهي قوة لا تكون بالتقليد والتصنع، وإنما هي من قوة الأخلاق وصدق العقيدة وصحة الفهم وبعد أغواره، وإذا كان الغرض من الوضوح هو الاقتصاد المباشر، في إجهاد مواهب القارئ، فإن الغرض من القوة الاقتصاد غير المباشر بإيقاظ عقله، وعواطفه) (الشايب،2003: 194)19
مراثي الجاهلية المشهورة المستحسنة المستجادة المقدمة معلومة موسومة منها قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، على أن سائر أشعاره غير مذموم، وان تقدمتهن العينية التي أولها. الطويل
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
ومنها قصيدة دريد في أخيه عبد الله التي أولها الطويل
أرثّ جديد الحبل من أمّ معبد ... بعاقبةٍ وأخلفت كلّ موعد
ومنها قصيدة كعب بن سعد الغنوي يرثي فيها أخاه، وهي التي أولها: الطويل
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ... كأنّك يحميك الشّراب طبيب؟
(المبرد ،بدون : 50)20 يستخدم الشاعر النداء يمنح للشعر حيويّة تجذب القارئ ليواسي الشاعر في مصيبته ويشاركه في أحزانه وآلامه لإلقاء الوحدة الزمانية بين الشاعر ومخاطبيه للشعور بأنّ المنادى حاضر في مرأى القارئ والشاعر يستخدم النّداء أحياناً للاستحضار الغائب والإلتذاذ بذكر المرثي، فيخاطب الميت والمقتول فكأنّه حاضر أمامه ويناديه ويستلذّ بتخاطبه فمناداة الشاعر المرثي مرّتين بعد فعلين أمرين يخاطب بهما إجابة أخيه مطالبة المسترحم الملحّ توضّح عاطفته الفائرة التي تغلّب عليه فخضع الراثي لها خضوعاً لا بدّ منه.
للمهلهل حيث يقول : أ تغدويا كليب معي إذ ما
جبان القوم أنجاه الفرار ؟ أ تغدويا كليب معي إذ ما
حلوق القوم يشحذهاالشّفار
(السيد احمد الهاشمي،جواهر الادب، ص 771)21
يدخل الشاعر في الرّثاء مباشرة لحزنه الشّديد وللتّموّجات العاطفيّة الحادّة في نفسه ممّا کانتْ تضيق عليه المجال لمتابعة المنهج المعروف. وهو احترام القوانين الأساسية ( لتحقيق هذا الجلاء هو تحري البساطة في صوغ العبارات ومجانبة التعقيد، مع الاحتفاظ بسموها وقوتها. وهذا القانون نفسه متصل بالتكوين المنطقي والنحوي للأسلوب؛ هذا التكوين الذي يسلك الكلمات والجمل والعبارات في نظام لفظي هو صورة لنظام عقلي، وتفكير منطقي مطرد وهذه بعض القواعد التي تفيد في تكوين التراكيب الواضحة (الشايب،2003: 190 )22
فتجري الكلمات في مجرى عاطفي حزين فيستهلّ رثاءه بما يظهر من حزنه، فيزيده ذكر المرثي حزناً على حزنه ودموعاً على دموعه، فتطول له الليالي ِن ما انتهى إِلينا من تراث المراثي كثير جدًا يمثل مختلف العصور الأدبية ومختلف الألوان والاتجاهات الفكرية.
ومن عجيب ما قيل قول النابغة في حصن بن حذيفة إكباراً لشأنه، واستعظاما لموته، وتعجباً من ذهاب مثله: الطويل
يقولون حصنٌ ثمّ تأبى نفوسهم ... وكيف بحصنٍ والجبال جنوح؟
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ... نجوم السّماء والأديم صحيح
فعمّا قليلٍ ثمّ جاء نعيّه ... فظلّ نديّ الحيّ وهو ينوح) (المبرد ،بدون : 62)23
فيشكو الشاعر من غربته بعد المرثي، فيجمع بين استفهام ونداء وطباق ليجمع بين عذاب الفراق وإلتذاذ بذكره واستحضاره وشجاعته ولتأكيد ألمه وحسرته له. والمراثي أكثر طرافتا من الشعر الجاهلي هو (مراثي الخنساء ومراثي ليلى الأخيلية، ومراثي لبيد في أخيه أربد، وعدي المهلهل فيمن بكاه من قومه )(المبرد ،بدون : 51)24 كذلك إنّ الاستفهام يستخدم لتقرير أنّ العمر يمرّ وينتهي إلى النّقصان والضعف ولبيان أنّ الموت شامل لا مفرّ منه وهذه لتعميم المصيبة وتنفيس المصاب وارتياحه كما يقول لبيد في رثاء أربد:
أليس ورائي إن تراخت منيّتي لزوم العصا تحني عليه الأصابع
ويقول أيضاً:
أتجزع ممّاأحدث الدّهر بالفتى وأيّ كريم لم تصبه القوارع (فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271)25
وقد فضل بعض المراثي على سبيل المثال (مرثية دريد بن الصمة فكان الأصمعي يقدمها جداً، وهي أهل ذاك. وكان سبب هذه المرثية أن أخاه عبد الله بن الصمة أحد بني جشم بن بكر بن هوازن، غزا قبائل غطفان بن سعد بن قيس بن مرة، وفزازة وأشجع بن بغيض. فاكتسح أموالهم وانصرف، فلم يجاوز بعيداً حتى أناخ وأمر بالإبل تنحر، فقال له أخوه دريد: يا أبا فرعان، إن غطفان غير نائمة عن أموالها فتقدم شيئاً ثم أنخ. يقول في كلمته هذه: الطويل
وقلت لعارضٍ وأصحاب عارضٍ ... ورهط أبي السّوداء والقوم شهّدي
أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا النّصح إلاّ ضحى الغد
فلمّا عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنّني غير مهتد
فما أنا إلاّ من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
فقلت لهم: ظنّوا بألفي مقاتلٍ ... سراتهم في الفارسي المسرد
فنادوا وقالوا: أردت الخيل فارساً ... فقلت: أعبد الله ذلكم الردي؟
فجئت كأمّ الوّ ريعت فأقبلت ... إلى جذمٍ من جلد سقبٍ مقدّد
فما راعني إلاّ الرّماح تنوشه ... كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد
فإن يك عبد الله خلّى مكانه ... فما كان وقّافاً ولا طائش اليد
كميش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بعيدٌ من السّوءات طلاّع أنجد
قليل التّشكّي للمصيبات حافظٌ ... مع اليوم أدبار الأحاديث في غد
وهوّن وجدي أنّني لم أقل له: ... كذبت، ولم أبخل بما ملكت يدي
(المبرد ، 1997 : 58/ 57)26
وطبيعي أن يتفوق الإناث مهارتا أكثر من الرجال في قصائد المراثي، لا نجده في فن آخر غير هذا الفن؛ ذلك أن الأنثى بتكوينها النفسي والوجداني والاجتماعي هي أكثر استعدادًا، فإنسانيتها أسرع بعثا وأعمق إحساسا، وتمكنا على البكاء وبعث مصائد اللوعة لا تدانيها قدرة الرجال. و الشّاعر الجاهلي في رثائه ينعت المرثیّ بجميع السمات الفضيلة فنجد لبيد بن ربيعة يقول في أخيه أربد راثياً
أشْجَعُ مِنْ لَيثِ غَابةٍ لَحِمٍ
ذُونَهْمَةٍ في العُلاوَ مُنْتَقَد
وکذلک قوله :
حُلوًّ کريمٌ وَ في حَلاوَتِهِ
مُرٌ لطيفُ الأَحْشاءِ وَ الکَبَدِ
(فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271)27
قال أبو الحسن المدائني: كانت العرب في الجاهلية وهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون عقاباً يتحاضون على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله، إيثاراً للحزم وتزيناً بالحلم، وطلباً للمروءة، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى إن كان الرجل منهم ليفقد حميمه فلا يعرف ذلك فيه. يصدق ذلك ما جاء في أشعارهم، ونثي من أخبارهم. قال دريد بن الصمة في مرثيته أخاه عبد الله: الطويل
قليل التّشكّي للمصيبات حافظٌ ... مع اليوم أدبار الأحاديث في غد
صبا ما صبا حتّى إذا شاب رأسه ... وأحدث حلماً قال للباطل ابعد
قال أبو عبيدة: كان يونس بن حبيب يقول: هذا أشعر ما قيل في هذا الباب.
وقال أبو خراش الهذلي: الطويل
تقول أراه بعد عروة لاهياً ... وذلك رزءٌ لو علمت جليل
فلا تحسبي أنّي تناسيت عهده ... ولكنّ صبري يا أميم جميل
وقال أبو ذؤيب: الطويل
وإنّي صبرت النّفس بعد ابن عنبسٍ ... وقد لجّ من ماء الشّؤون لجوج
لأحسب جلداً أو لينبأ شامتٌ ... وللشّرّ بعد القارعات فروج
وقال أوس بن حجر: المنسرح
أيّتها النّفس أجملي جزعا ... إنّ الّذي تحذرين قد وقعا
(المبرد ،بدون : 41/42)28 إذا تابعت الشاعر الجاهلي يصور المرثيّ بالشَّجاعة والآمال القصوى السامية ومستقيم الخُلق وبأَنّه مکرم أصدقائِه وخشية أعدائه والمرثي عند الشاعر الجاهلي نحيل الجسم مندرس الثّوب لا من فقر ؛ لأنّه في سعة العيش بل من رجحانه الآخرين علی ذاته، فهو متقشف جواد في فقره وحزنه لا في الثراء کما يقول دريد بن الصِّمة:
تَراه خَميصَ البَطْنِ وَ الزّادُ حاضرٌ
عتيدُ ويَغْدُوفي القَميصِ المقَدَّدِ
وإنْ مَسَّهُ الإقواءُ والجهدُ، زادَه
سَماحَاً وَ إتْلافاً لِما کانَ في اليَدِ
(فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص371)29
يصور الشاعر الجاهلي المرثيَّ بأنّه لم ينتفع الفضائل طيلة حياته، بل هي طبيعة فأثقل عليه هذه المحنة ،فلا يتمكن أن ينساه ،فيبکي حتّی تأتيه المنيّة، تقول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
فَلا وَاللهِ لا أَنْساکَ حتَّی أُفارِقَ مهْجَتي وَيشقَّ رَمْسي:
وَسَوفَ أَبکيکَ ما ناحَتْ مُطَوَّقَةٌ وما أَضاءَ تْ نُجُوم اللَّيلِ للسّاري
فلا تقدر أن تتحمّل فراق أخيها المتخلّق بالأخلاق الکريمة والفضائل العاليه الّتی مدحته بها،فموته أعظم مصيبة راها الإنس والجنّ:
فَلَمْ أَرَمِثْلَهُ رُزْءً لجِنٍّ ولَمْ أَرَمِثْلَهُ رزءً لإنْسِ
الشّاعر الجاهلي يحذو في رثائه النمط الشعري الجاهلي المعروف أحياناً ويدخل في الندب مباشرة ففي محاكاته المنوال الشعري الجاهلي يقف علی حطام وبقايا منزل الحبيب، فيبکي وينتقل إلی الصحراء ء فيصف ما تقع عليه عيناه. ثمّ يدخل في الرّثاء منها : نواح النفس ساعة الاحتضار ونواح السلالة والأهالي، وكل من ينزل منزلة النفس والأهل من الأحباء وأخوة الخواطر والمسار والمشرب، بل يمتد إِلى رثاء القبيلة والإقليم والبلد حين تدول أو تصاب بحرج من الأحراج الفتاكة الموحشة ولم تكن الخنساء هي الوحيدة في رثاء أقربائها. فنجد غيرها من الشواعر اللاتي فجعن بموت أخوتهنّ وآبائهن فرثينهم، كرثاء سعدى بنت الشّمردل الجهينة لأخيها في قولها:
أ من الحوادث والمنون أروَّعُ
وأبيت ليلي كلّه لا أهجعُ
وأبيت مخلية أبكّي أسعداً
ولمثله تبكي العيون وتهمع
إنّ الحوادث والمنون كليهما
لا يعتبان ولوبكى من يجزع
(من الشعر الجاهلي، أحمد المراغي ص: 62)30
فحزن الشاعر الجاهلي بعد ممات المرثي يجعله أن لا يری خيراً في الحياة بعده ويدعو ألّا تطول حياته ويصور الشاعر الجاهلي قومه بالمجد وعدم المطاوعة أمام التعسف. وأحياناً يسيطر عليه الحمية الجاهلية، فيرى الإغماض عن الأخذ بالانتقام ذلّاً لقومه فيحرّض بذلك شعبه ويتولد في نفسه نواح وتعداد الخصال والثناء وتنويه وإطراء بشخصية لامعة، أو محبوب ذي منزلة في أهله أو مجتمعه، وهو تعبير عن حزن على الفقيد، يكمد الشّاعر الجاهلِي لخراب المرثيّ ويتوعد قاتليه فيوعد ألاّ يتحول إلی الوشائح وَأنْ لا ينزع ترسه وحسامه حتّی يتناول انتقامه، والعزاء: هو في مرتبة عقلية فوق مرتبة التأبين. إِذ هو نفاذ إِلى ما وراء ظاهرة الموت وانتقال الراحل، وتأمل فكري في حقيقة الحياة والموت. تأمل ينطلق إِلى آفاق فلسفية عميقة في معاني الوجود والعدم والخلود کما يقول المهلهل:
خُذْ العهدَ الأَکيدَ عليَّ عمري
بِتَرکي کلَّ ماحَوَتِ الدِّيارُ
وَهِجريَ الغانياتِ وَشُربَ کأسٍ
وَ لُبسْي جبّةً لا تُسْتَعارُ
ولستُ بِخالعٍ دِرعي وسَيفي
إلی أنْ ييخْلَعَ الليلَ النَّهارُ
(السيد احمد الهاشمي، جواهر الأدب، ص 771)31
والشّاعر الجاهلي صادق العاطفة في رثائه. فحزنه الشّديد واضح من خلال أبياته خاصّةً إذا کان الرّثاء في أحد الأقرباء. کما نجده عند المهلهل حيث يرثي أخاه کليباً، تجد أَنَّه يصوّر حزنه في تفجعّ شديد فتأبی عيناه من ألاّ تبکي، فتذرف الدّموع کأَنَّ شفارها غضا القتاد وعند ما يسمع موت أخيه تطاير بين جنبيه الشّرار. فمن شدّة الحزن والبکاء لاينام، فيضطرب يقول:
أَبتْ عَينايَ بَعْدَکَ أَنْ تَکُفّا
کَأَنَّ غَضَا القَتَادِ لَها شِفَارُ
کَأَنّي إذ نَعی النَّاعي کُلَيْباً
تَطَايَر بَيْنَ جَنْبَيَّ الشَّرارُ
فَدُرْتُ وَ قَدْعَشِيَ بَصَري عليه
کما دارَت بِشارِبِها العُقَارُ
سَأَلتُ الحَيَّ أَينَ دَفَنْتُمُوهُ
فَقالُوا لي «بسَفحِ الحيِّ دارُ»
فَسِرتُ إليه من بلدي حَثيثاً
وَطارَ النَّومُ، وَامْتَنَعَ القَرارُ
يفقد البصر(العاطفة) وتضعف لو کان المرثي من غير أهل الشّاعر فلا نجد حينئِذٍ التفجع في رثائه کما نجده عند رثاء أقربائه تبتعد المراثي عن الأهل والأقرباء وخرجت إلی السادات والملوک الغرباء، کان شأنها شأن المدح التّکسّبي، علی غیر آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميّت) (المبرد ،بدون : ص91 )32
والرّثاء مرآة صادقة للمعيشة الجاهليّة فالشاعر الجاهلي يصف مرثيّه بالتّحلّي بالأخلاقيّات مثل الشجاعة والجود والحلم والزّهد وغيرها ونجد في الّرثاء من عاداتهم امتناعَهم من شرب الخمر ومعاشرتهم الغانيات وابتعاد هم عن الملذّات عند موت أحد أقربائهم. وفي رثائهم دلالات تشير إلى معرفتهم ببعض المعارف والأجرام تدلّ علی اعتقادهم کما أتی به لبيد بن ربيعة في رثاء أربد:
لَعَمْرُکَ ماتَدري الضَّواربُ بِالحصی
وَلا زاجِرتُ الطَّيرِ ما اللَّهُ صانعُ
سَلُوهُنَّ إِن کذَّ بتُمُوني مَتی الفَتـی
يَذُوقُ المَنايا أَم مَتی الغَيثُ واقِع
کما يقول:
أخْشی علی أَرْبَدَ الحتوفَ وَلا
أَرْهَبُ ذَوْءَ السِّماکِ ولأَسدِ
(فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271)33
وتضعف العاطفة عند تراخ المرثي من غير سلالة الشّاعر فلا نجد عندئذ التفجع في رثائه کما نجده عند رثاء أقربائه المراثي عن الأهل والأقرباء وخرجت إلی السادات والملوك الأجانب و اعتبارها اعتبار المدح ، علی غیر آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميّت إلاّ ذکر أياديه البيض عليه کرثاء النّابغة للنّعمان الغساني حيث يقول:
يَقُول رِجالٌ يُفکرونَ خَليقَتي
لعلّ زياداً ، لا أبالک ، غافلُ
غفلتي أنّي إذا ما ذکرتُه
تحرّک داءٌ في فؤادي داخلُ
وإنّ تلادي إن ذکرتُ وَشِکََّتي
وَ مُهري وَ ما ضَمَّتْ لديَّ الأَنامِلُ
حِباؤکَ وَ العِيسُ العِتاقُ کأنّها
هجان المهی تُحدي عليها الرّحائلُ
(أدباء العرب في الجاهلية وصدر الاسلام، ص 65)34
النظرة العابرة إلى في جسر الرثاء توضّح لنا أنّ الرثاء هو موقف الحكمة الذهنية حيناً والإنسانية المتهيجة حيناً آخر، كما نجد أحياناً أنّ الإنسانية تخرق الحكمة فتخلط المتانة بالطراوة. فالشاعر إذا كان ذا خصوصية تفاؤلية في المعيشة يسود عليه الفكر فيفسر الشاعر المصيبة بتجاربه وتمعن الذهن ممّا يجعل شعره بعيداً عن الأحاسيس فيتحدّث الشاعر عن الحياة وما فيها من حرمان وثراء وقلق وسعيد وفقدان وكسب وقصور وطاقة.
الرثاء غرض من الأغراض الأصلية للشعر الجاهلي وهي دراسة توضّح البيئة الجاهلية وتبيّن منهج الشاعر وتبرز أنواع الرثاء والمرثيين والصفات ممدوحة بها، ومن الشعراء الجاهليين منهم من خاض في هذا الميدان كلبيد بن ربيعة، ودريد بن الصمة، ومن الشواعر الخنساء وسعدى بنت الشمردل وغيرهم من الشعراء و(مراثي الجاهلية المشهورة المستحسنة المستجادة المقدمة معلومة موسومة منها قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، على أن سائر أشعاره غير مذموم، وان تقدمتهن العينية التي أولها.
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
ومنها قصيدة دريد في أخيه عبد الله التي أولها الطويل
أرثّ جديد الحبل من أمّ معبد ... بعاقبةٍ وأخلفت كلّ موعد
ومنها قصيدة كعب بن سعد الغنوي يرثي فيها أخاه، وهي التي أولها: الطويل
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ... كأنّك يحميك الشّراب طبيب؟
(المبرد،ب.ت: 50)35
الرثاء هو من أهمّ الأغراض الشعريّة في الجاهلية: فهو كالمدح إلّا أنّ هناك قرائن تدلّ على أنّه في الميّت أو القتيل، بعبارة أخرى أنّ الرثاء هو موطن العاطفة الحزينة يصف فيه الشاعر الجاهلي المرثي بجميع الصفات التي يصف بها الممدوح. ولا شكّ أنّ العاطفة عندما كان الرثاء في الأقرباء أصدق منها في غيرهم. ويستعمل الشعراء الألفاظ الرقيقة
و(ألفاظ الشاعر في هذا الجزء من المعلقة جاءت في معظمها بعيدة عن التجهم والعسر, تشفُّ وترق حين يعمد إلى التقرير الفكري، بينما يعروها الجفاف وتبدو عليها ملامح الغرابة حين يعمد إلى الوصف أو يعرض لمشاهد حسية، ويبلغ من ذلك أقصاه حين يصف الناقة مثلا يشتد اتصاله بالحياة البدوية، أما حين يتحدث عن نفسه ومذهبه، أو يبعث لواعج حزنه، أو يصور حبه ولذته، فإنه يطالعنا بصور مشرقة تفيض سلاسة وعذوبة، كما في هذا الجزء من القصيدة فهو يلائم بين الشعور والتعبير والمضمون) ( عمارة، بدون.ت: 222)36
نجد الشاعر يباشر بالرثاء عند رثاء الأقرباء دون أن ينهج المنهج المعروف للقصيدة الجاهلية فيرثي دون أن يقف على الأطلال ويصفها، ودون أن يبكي أو يستبكي لسيطرة العاطفة الحزينة عليه. وهو في رثائه يستخدم الأساليب المختلفة من استفهام واستثناء ونداء وما إلى ذلك للتقرير والتهديد والحسرة
من المراثي التي تشبه في المديح اقتضاب المعاني واختصار الألفاظ، ما قاله أوس في قصيدته يرثي فضالة التي أولها:
ألم تكسفِ الشمسُ شمسُ النها ... رِ مع النجمِ والقمرِ الواجب
لهلك فضالةَ لا تستوي ال ... فقودُ ولا خلةُ الذاهبِ
وأفضلتَ في كلِّ شيءٍ فما ... يقاربُ سعيكَ من طالبِ
نجيحٌ مليحٌ أخو ماقطٍ ... نقابٌ يخبرُ بالغائبِ
ويكفي المقالةَ أهلَ الدحَا ... لِ غيرُ معيبِ ولا عائبِ
( بن قدامة، 1302 :36)37
في ظاهر النظر أن يظن بنا خطأ في وضعنا مليح موضع المدح بالفضائل الحقيقية، إذ كانت الملاحة لا تجري مجرى الفضائل النفسية، لأن المليح في هذا الموضع ليس هو من ملاحة الخلق، لكنه على ما حكى عن أبي عمرو أنه المستشفى برأيه، قال: وهو من قولهم: قريش ملح الأرض، أي الذي يستشفى بهم، والذي يشهد على ما قاله أبو عمرو قول أوس بن حجر:
نقاب يخبر بالغائب
لأن هذا من جنس الرأي والحدس.
وقول الشماخ في عمر بن الخطاب:
فمَنْ يسعَ أو يركبْ جناحيْ نعامةٍ ... ليدركَ ما قدمتَ بالأمسِ يسبقِ
وقول الحطيئة يرثي علقمة بن علاثة:
فما كان بينِي لو لقيتكَ سالِماً ... وبينَ الغنَى إلا ليالٍ قلائلُ
ولو عشتَ لم أمللْ حياتِي وإن تمتْ ... فما في حياةٍ بعد موتكَ طائلُ
ومنهم أيضاً من يغرق في وصف فضيلة واحدة على حسب ما تقدم، وتكون جميع الأحوال في المراثي جارية على حسب أحوال المديح، وفي ما تقدم في باب المديح من وصف ذلك ما أغنى عن إعادته في هذا الموضع) (بن قدامة ،1302: 36 )38
امّا من حيث المضمون فكان الشاعر الجاهلي يبدأ قصيدته بذكر الحبيب ومنزله ووصف آثاره وصفاً دقيقا ثم يخلص إلى وصف ناقته التي تنجيه من أحزانه وآلامه فيصورها للقارئ أرجلها وأيديها وضمور بطنها وصلابة فقراتها واستطالة وجهها وكثرة أسفارها. ثمّ يعرض غرضه الرئيس في القصيدة(ولا شك أن هذه الصيغ وتلك الأساليب المتعددة تدل على نفسية قلقة, كما تعبر عن الأحوال النفسية التي تطرأ عليه وهو يعاني وطأة المصير الذي ينتظره، بالإضافة إلى أنها تساعد على إثارة انتباه السامع والقارئ وتمهد السبيل لإقناعه، و كان طرفة مفتنا في صوره الخيالية وتشبيهاته المجتلبة) (عمارة ،بدون،ت: 222)39
مضامين الحزن والأسى: الشاعر كما قيل هو لسان قومه وقبيلته يدافع حريمها مادحاً أبطالها يهجو أعداءها يرثي موتاها وقتلاها يفخر بمناقبها، فيرفع شأن من يريد ويخفض بمنزلة من يعارضه. كما أنّه هو الذي يشجّع الأبطال للقتال ويقوّيهم بأبياته ويهزم الأعداء بتمزيق شوكتهم. فهو راية القبيلة وسيفها القاطع
مضامين الرثاء في نفس الشاعر الجاهلي: يعتبر الرثاء من الأغراض الرئيسة التي تناولها الشاعر الجاهلي. فهو عند الرثاء إمّا يبدأ القصيدة بمنهـج الجاهلي المعروف وإمّا يباشر فيها بالرثاء لطغيان عواطفه وتسليمه أمام مشاعره دون مراعاة للأسلوب السائد على القصيدة إذن تخضع قصيدة شعرية لبناء معين يضمن لها تماسكها هذا البناء يخضع في أغلب الأحيان للمستوى الدلالي، الذي نستطيع بواسطته تقسيم القصيدة إلى وحدات شعرية مختلفة المضمون، متآلفة الإيقاع والوزن، إلا أن اختلاف المضمون والدلالة لا يعني استقلالية كل وحدة، بل إن هذه الوحدات متماسكة فيما بينها على مستوى البنية العميقة للدلالة والرؤية الشعرية
وهذا يشبه قول طرفة: الطويل
إذا القوم قالوا: من فتىً؟ خلت أنّني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
ومن ذلك قوله في أخرى: الطويل
وكلّ فتىً في النّاس بعد ابن أمّه ... كساقطةٍ إحدى يديه من الخبل
وبعض الرّجال نخلةٌ لا جنى لها ... ولا ظلّ إلاّ أن تعدّ من النّخل
وهذا من جيد الكلام لصحة معناه) (المبرد ،1997م :53)40
القصيدة الشعرية الجاهلية : ولعل بناء القصيدة الشعرية الجاهلية قد اتخذ شكلين متباينين: بناء فخم، تمتاز فيه القصيدة بالطول، وتضم عدة وحدات أولاها وحدة الطلل أو النسيب، ثم وحدة ذكر رحيل الأحبة، ثم وحدة وصف الفرس أو الناقة،
فوحدة المدح والرثاء أو الهجاء أو الفخر، وأخيرا وحدة الموعظة أو الحكمة... إلى غير ذلك من الوحدات التي تدخل ضمن هذا البناء كوحدة الليل ووصف الذئب أو الوادي وكذلك قول أعشى باهلة في مرثيته المنتشر بن وهب حيث يقول في جلده، إذ كان جل ما فيه مما يمدح به فيما كان به موصوفاً: البسيط
ما يغمز السّاق من اينٍ ومن وصبٍ ... ولا يعضّ على شر سوفه الصّفر
ماضي العزيم على العزّاء منصلتٌ ... بالقوم ليلة لا ماءٌ ولا شجر
كأنّه عند صدق القوم أنفسهم ... باليأس تلمع من قدّامه البشر
(المبرد، 1997 م: 59 )41
أما البناء الثاني الذي نجده في القصيدة الجاهلية، فهو ذلك البناء العادي والبسيط الذي يتناول فيه الشاعر - وبطريقة مباشرة - موضوعه الرئيس الذي يعبر من خلاله عن أحاسيسه ومشاعره اتجاه الحياة والكون. إنـه نمط بسيط في شكله لا في جوهره ومحتواه. إن بساطته ليست سذاجة، بل شكلا من أشكال تصنيف وتنضيد القصيدة الشعرية
ويروى من غير وجه حدثناه مسعود بن بشر وغيره أنه لما مات مخلد بن يزيد بن المهلب، حضره عمر بن عبد العزيز وصلى عليه ثم قال: الكامل
بكّوا حذيفة لا تبكّوا مثله ... حتّى تبيد قبائلٌ لم تخلق
ثم قال: لو أراد الله بيزيد خيراً لأبقى له هذا الفتى. فهذا من الأبيات الجامعة كنحو ما ذكرنا) (المبرد، 1997 م: 60 )42
وإذا كان هذا البناء النمطي البسيط شائعا في القصيدة الشعرية الجاهلية، فهو أقل شهرة من نظيره الفخم الذي عرفت به المعلقات والقصائد المشهورة التي اهتم بها النقاد العرب القدامى والمحدثون.إن البناء البسيط للعمل الشعري يشكل تجليا من تجليات حضور الواقع بشكل مكثف بعيدا عن كل فنية. إنه تعبير عفوي مباشر عن أفكار الشاعر وأحاسيسه وعواطفه؛ هذه الأفكار وهذه العواطف غالبا ما تمتاز بالتأزم الشديد، والرغبة في الكشف عن المجهول واستشراف آفاق المستقبل، وتحقيق ما هو أفضل
ويروى من غير وجه حدثناه مسعود بن بشر وغيره أنه لما مات مخلد بن يزيد بن المهلب، حضره عمر بن عبد العزيز وصلى عليه ثم قال: الكامل
بكّوا حذيفة لا تبكّوا مثله ... حتّى تبيد قبائلٌ لم تخلق
ثم قال: لو أراد الله بيزيد خيراً لأبقى له هذا الفتى. فهذا من الأبيات الجامعة كنحو ما ذكرنا والقائل: الوافر
ألا لهف الأرامل واليتامى ... ولهف الباكيات على قصيّ
لعمرك ما خشيت على قصيّ ... منيّة بين سلعٍ والسّليّ
ولكنّي خشيت على قصيّ ... جريرة رمحه في كلّ حيّ
فأحسن الشعر ما خلط مدحاً بتفجع، واشتكاءً بفضيلة، لأنه يجمع التوجع الموجع تفرجاً، والمدح البارع اعتذاراً من إفراط التفجع باستحقاق المرثي وإذا وقع نظم ذلك بكلامٍ صحيح ولهجة معربة ونظم غير متفاوت فهو الغاية من كلام المخلوقين.
(المبرد ،1997م : 60 )43 البنية الروحية للقصيدة الجاهلية: بناء القصيدة الجاهلية على نمط بسيط، هو إلغاء لكل العراقيل والحواجز الشكلية التي تعترض ذلك السيل المتدفق العارم من الأفكار والعواطف التي تؤرق بال الشاعر، وتختلج في نفسه وذاته، في عقله ووجدانه. إن البناء الشعري البسيط هو الطريقة المثلى للتعبير بسرعة عن الموضوع الرئيس، دون حاجة للمرور بمراحل الطلل والناقة، إما لاعتقاد الشاعر أن هذه المراحل مجرد مقدمات عمياء هي أقرب إلى التقليد الجاف منها إلى الإبداع، وإما لاعتقاده بأن وحدات الطلل والنسيب والناقة.. لا يمكنها أن تضفي جديدا على ما سيقوله، ما دامت تعني له نفس مضامين ودلالات غرضه وموضوعه الرئيس
إن الاختلاف بين البناء الشعري البسيط والبناء الشعري المركب والفخم، هو اختلاف في طريقة الأداء الشعري، لا اختلاف في جودة العمل الإبداعي، فليس العمل المنبني على النمط الأول عملا هزيلا والمنبني على النمط الثاني راقيا، ذلك أن مجموعة من الشعراء الكبار نظموا قصائدهم على النمطين معا كامرئ القيس ولبيد والنابغة... وهم أصحاب المعلقات، والقصائد الطوال الجياد
(أما قوة العاطفة في الأسلوب والصورة يقول فيها: "خذ من نفسك ساعة نشاطك" وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وقوة من لفظ شريف، ومعنى بديع، وأعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمماودة") (صبح، دون: 153 )44
صحيح أن البناء مكون شعري في الأعمال الإبداعية المختلفة، إلا أنه لا يمكن أن يكون مقياسا لتحديد درجات شعرية نص معين. إن الشعرية لا تتحقق إلا بوجود بناء معين، بناء يضمن للنص انسجامه واتساقه وتماسكه، ويضفي عليه نوعا من الوحدة ؛ هذا البناء قد يختلف من نص إلى آخر ضمن نفس الجنس الأدبي، دون أن يكون هذا الاختلاف مقياسا للمفاضلة
وهكذا، لا يمكن أن نفاضل بين القصائد الشعرية الجاهلية على أساس بنائها الشعري، لأن ذلك عمل لا منطقي، وإنما تتم المفاضلة على مستويات الصورة والتركيب والرؤية إن القصيدة الشعرية المعتمدة على البناء البسيط قصيدة يعبر فيها صاحبها بكل صراحة وعفوية، متخطيا بذلك كل القيود الفنية ( على مستوى البناء ) التي وضعها النظام الثقافي والاجتماعي في ذلك العصر.
(إنه ليس بين المرثية والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك، مثل: كان وتولى وقضى نحبه وما أشبه ذلك، وهذا ليس يزيد في المعنى ولا ينقص منه، لأن تأبين الميت إنما هو بمثل ما كان يمدح به في حياته، وقد يفعل في التأبين شيء ينفصل به لفظه عن لفظ المدح بغير كان وما جرى مجراها، وهو أن يكون الحي وصف مثلاً بالجود، فلا يقل: كان جواداً ولكن بأن يقال: ذهب الجود او فنم للجود بعده ومثل: تولى الجود وما أشبه هذه الأشياء). (بن قدامة، 1302 :33/34)45
ومن الشعراء من يرثي بكاء الأشياء التي كان الميت يزاولها، وعتد ذلك ومثله يحتاج إلى أن يعلم صحة المعنى فيما يتكلم به من مثل هذه الأشياء، فإنه ليس من إصابة المعنى أن يقال ف كل شيء تركه الميت: إنه يبكي عليه، لأن من ذلك ما إن قيل إنه بكى عليه كان سبة وعيباً لاحقين به كما قالت ليلى الأخيلية ترثي توبة ابن الحمير بالنجدة
فليس سنانٌ الحرب يا توب بعدها ... بغازٍ ولا غادٍ بركبٍ مسافرِ
(بن قدامة، 1302 :33/34)46
فمن ذلك مثلاً إن قال قائل في ميت: بكتك الخيل إذ لم تجد لها فارساً مثلك، فإنه مخطئ، لأن من شأن ما كان يوصف في حياته بكده إياه، أن يذكر اعتباطه بموته، وما كان يوصف بالإحسان إليه في حياته أن يذكر اغتمامه بوفاته.
(بن قدامة ، 1302 : 33/34)47
ومن ذلك إحسان الخنساء في مرثيتها صخراً وإصابتها المعنى، حيث قالت تذكر اغتباط حذفة فرس صخر بموته:
فقدْ فقدتكَ حذفةُ فاستراحتْ ... فليتَ الخيلَ فارسُها يرَاها
ولو قالت: فقدتك حذفة فبكت، لأخطأت، بل إنما يجب أن يبكي على الميت ما كان يوصف إذا وصف في حياته بإغاثته الإحسان إليه، كما قال كعب بن سعد الغنوي في مرثية أخيه:
ليبككَ شيخٌ لم يجدْ من يعينُه ... وطاوِى الحشى نائِي المزارِ غريبُ
وكما قال أوس بن حجر يرثي فضالة بن كلدة الأسدي:
ليبككَ الشربُ والمدامةُ وال ... فتيانُ طُرّاً وطامعٌ طمعَاً
وذاتُ هدْم عارٍ نواشرُها ... تصمتُ بالماءِ تولباً جدعَا
والحيُّ إذ حاذرُوا الصباحَ وقدْ ... خافُوا مُغيراً وسائراً تلعَا
فيجب أن يتفقد مثل هذا من إصابة الغرض والانحراف عنه.
وإذ قد تبين بما قلنا آنفاً إنه لا فصل بين المدح والتأبين إلا في اللفظ دون المعنى، فإصابة المعنى به ومواجهة غرضه هو أن يجري الأمر فيه على سبيل المدح. (بن قدامة ، 1302 :33/34)48
فمن المراثي التي تشتبه في المديح استيعاب الفضائل التي قدمنا ذكرها والإتيان عليها، مثل قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه: لعمري لئن كانت أصابتْ منيةٌ ... أخي والمنايا للرِّجال شعوبُ لقد كانَ، أما حلمهُ فمروحٌ ... علينا، وأما جهلهُ فغريبُ
أخي ما أخِي، لا فاحشٌ عند بيتهِ ... ولا ورعٌ عند اللقاءِ هيوبُ
فقد أتى في هذه الأبيات بما وجب أن يأتي في المراثي، إذا أصيب بها المعنى، وجرت على الواجب، أما في البيت الأول فيذكر ما يدل على أن الشعر مرثية لهالك لا مديح لباق، وأما سائر الأبيات الأخر فتجمع الفضائل الأربع التي هي العقل والشجاعة والحلم والعفة، ثم افتن كعب في هذه المرثية في ذلك، وزاد في وصف بعض الفضائل ما لم يخرج به عن استيفائه، وهو قوله:
حليمٌ إذا ماسورةُ الجهلِ أطلقتْ ... حُبَى الشيبِ للنفسِ اللجوجِ غلوبُ
كعاليةِ الرمحِ الردينيِّ، لم يكنْ ... إذا ابتدَر الخيلَ الرجالُ يخيبُ
فإني لباكيهِ وإني لصادقٌ ... عليه، وبعض القائلينَ كذوبُ
ليبككَ شيخٌ لم يجدْ من يعينهُ ... وطاوِى الحشَا نائِي المزارِ غريب
جموعٌ خلالَ الخيرِ من كل جانبٍ ... إذا جاءَ جياءٌ بهنَّ ذهوبُ
(بن قدامة، 1302 : 33/34)49
إنها قصيدة يغلب فيها عنصر الواقع على عنصر الفن إن درجات حضور الواقع في هذا النوع من القصائد أقوى مقارنة بدرجات حضور الفن. إنها تلبية لدعوة الواقع بمختلف تجلياته ومظاهره، سواء كان هذا الواقع اجتماعيا أو سياسيا أو نفسيا.
إن البناء البسيط فني وشعري في شكله ومحتواه، لأنه طريقة، وإن كانت مباشرة وصريحة، فهي ذكية للتعبير عن معالم الحياة والكون والوجود بطريقة تجعل الذات المتلقية أكثر اندماجا معها، وأكثر استعدادا لتمثل هذه النظرة أو تلك، ما دامت هذه الطريقة في التعبير تخاطب العقل والقلب مباشرة دون وضع حواجز نفسية وعقلية تزيح المتلقي عن المسار الصحيح الذي يوصله إلى الموضوع
إن بناء هذه القصيدة يتيح للشاعر التعبير عن نفسه أولا و آخرا، كما يتيح له تقديم همومه الواقعية على غيرها من المواضيع والأفكار المرتبطة بالطلل أو المرأة أو الفرس.. هذا البناء البسيط كان معروفا في النقد العربي القديم بمصطلحات يذكرها ابن رشيق في كتابه (العمدة) باب (المبدأ والخروج والنهاية) بقوله: (ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطا من النسيب، بل يهجم على ما يريده مكافحة، ويتناوله مصافحة وذلك عندهم هو: الوثب والبتر والقطع والكسع والاقتضاب)
إن الضغط الذي تحدثه الظروف الواقعية سواء أ كانت اجتماعية أم سياسية أم نفسية يجعل الشاعر يتسرع لإفراغ شحناته الفكرية والعاطفية، فيهجم مباشرة على الموضوع الذي يشغل فكره ووجدانه دون أن يجعل لعمله الإبداعي بسطا من النسيب أو الرحلة على الرغم من كون هذا البسط مما جرت عادة الشعراء على ذكره، ومما تعود متلقو الشعر على سماعه
إن البناء البسيط للقصيدة الشعرية وسيلة ناجعة يعتمدها الشاعر في لحظات فكرية ووجدانية معينة، يفرغ فيها حمولته الفنية والإبداعية المعبرة بكل صدق وشفافية عن واقعه الذي يحياه
مضمون الرثاء في الشعر الجاهلي تتضمن صفة الحزن والمأساة، بل تتعدى ذلك إلى حدود التأزم النفسي الحاد، خاصة إذا علمنا أن الموضوع الذي يتناوله الشاعر موضوع واقعي جدا، كان الشغل الشاغل للإنسان الجاهلي بصفة عامة ألا وهو موضوع: المصير المجهول.
واحسن مضامين الرثاء: سلامة الرسالة والتأبين والبناء الشعري السليم ومراعاة وقائع الظروف والملابسات ويعتمد الشعراء الجاهليين، على مضمون البنية وهو بناء لا تراعى فيه التشكيلة الفنية، بقدر ما تراعى فيه سلامة الرسالة، والقصيدة الواقعية في بنائها. لا تنفي عنها صفة الفنية، ونمط الرثاء الجميل احتل مكانة مهمة في ديوان الشعر الجاهلي،
المواقف الشعورية والحسية والعاطفة والحدس ومضمون قصائد الشعراء الجاهليين لا يعبر عن هذا الواقع في حدوده المادية فحسب، بل والمعنوية والروحية وأمور مادية كالحرب والقتال أو الصراع الاجتماعي والسياسي، كما يعبر عن أمور معنوية فكرية وشعورية كالكينونة الإنسانية، وقضية المصير المجهول، ومجال الصفات والأخلاق والقيم، إن عنصر الواقع يتحكم في هذا النوع من الأعمال الإبداعية الشعرية ؛ إنه الحافز الرئيس الذي يدفع الشاعر إلى إلغاء كل أنواع المقدمات من الخطاطة التي يصممها لقصيدته المرتقبة.
المصادر والمراجع
1.الجاحظ، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، عام النشر: 1423 هـ لجاحظ، 1423 ه ج 1ص 81
2. نفس المرجع، ص 81
3. الشايب، الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: 2003 ص 19/22
4.فاضل، بدون ص 59
5. النويهي،1971 ص 135
5.ابن رشيق، 1934ج1ص 80
6.حسان، شيخو شرح ديوان الخنساء مطبعة الكاتولكية 1895بيروت ص 169
7.الأصفهاني، د.ت. ج5ص 85 /86
8.عباس، 1981ص 142-144
9. ابن طباطبا، 1982ص 21 –22
10.الجرجاني، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني، سرار البلاغة، 1954 ص 250
11.إسماعيل، 1966م ص 23-24
12. الجاحظ، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1966م ص 83- 84
13.ثعلب ، 1995ص 34
14.ثعلب ، 1995ص 63
15. المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 58
16.نفس المرجع، ص 91
17.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 91
18. الشايب، الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003
ص 194
19. الشايب، الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003
ص 194
20. المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 50
51.السيد احمد الهاشمي،جواهر الادب، ص 771
22. الشايب، الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003
ص 190
23.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 62
24.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 51
25.فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271
26.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 58/ 57
27.فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271
28.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 41/42
29.فؤاد أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1،ص371
30.من الشعر الجاهلي، أحمد المراغي صص 62
31.السيد احمد الهاشمي، جواهر الادب، ص 771
32.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص91
33.فؤاد أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1،ص271
34.أدباء العرب في الجاهلية وصدر الاسلام، ص 65
35.المبرد، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 50
36.عمارة، بدون.ت ص 222
37. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص36
38. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص 36
39.عمارة ،بدون،تص 222
40.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص53
41.نفس المرجع ،ص 59
42. نفس المرجع، ص 60
43. نفس المرجع، ص 60
44. صبح ،علي علي مصطفى صبح، في النقد الأدبي، بدون ت ص 153
45. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص33/34
46. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص33/34
47.نفس المرجع، ص 33/34
48. نفس المرجع، ص33/34
49. نفس المرجع، ص 33/34
الفصل الثاني: أسلوب العاطفة في الرثاء الجاهلي
المبحث الأول: مفهوم الأسلوب والعاطفة
الأسلوب هو فن من الكلام سوآءا كان قصصا أو حوارا، تشبيها أو مجازا أو كناية، تقريرا أو حكما وأمثالا للأسلوب معنى أوسع فيشمل الفن الأدبي، فالأسلوب عند ابن خلدون صورة ذهنية تغمر النفس وتطبع الذوق الأساس فيها الدربة النابعة عن قراءة النصوص الإبداعية المتفردة ذات البعد الجمالي الأصيل اللغة هي الأداة التصوير الذهني.
صفات الأسلوب
الوضوح: لأنه يحقق الغاية الأساسية، وهي الإفهام- فإننا نلاحظ أن الفنون الأدبية التي يغلب فيها الوضوح هي النصوص القائمة على المعاني العقلية لقصد الثقافة كالقانون، والفلسفة، والجغرافيا
ولكننا أحيانا لا نقتصر فيما نكتب على نشر الحقائق وإنما نعني كذلك أو أكثر من ذلك بإيقاظ العقول الخامدة وبعث الشعور والحماسة، وإثارة العواطف في نفوس الناس، وبذلك نهب للأفكار حياة أقوى من حياتها العقلية، لتكون ممتعة مؤثرة، فهذه الحياة هي التي تسمى القوة
نلاحظ إذا أن القوة صفة نفسية، تنبع أول أمرها من نفس الأديب الذي يجب أن يكون نفسه متأثرا منفعلا إذا شاء من قرائه حماسة وانفعالا، وهي لذلك صفة العاطف والإرادة والأخلاق قبل أن تكون صفة الأسلوب؛ فالكاتب الذي يدرك الحقائق بوضوح، ويعتقدها بصدق، ويحرص على إذاعتها، تجد في عبارته صدى ذلك، وهي قوة لا تكون بالتقليد والتصنع، وإنما هي من قوة الأخلاق وصدق العقيدة وصحة الفهم وبعد أغواره، وإذا كان الغرض من الوضوح هو الاقتصاد المباشر، في إجهاد مواهب القارئ، فإن الغرض من القوة الاقتصاد غير المباشر بإيقاظ عقله، وعواطفه، وأخيلته، لتدرك المعاني بقوة، وتحظى بمتعة جديدة؛ إذ كانت قوة الأسلوب صدمة للعقل، ودعوة للنزال، والبحث عن مواطن الرالعة والفائدة، وهناك قاعدتان لتحقيق القوة الأسلوبية، أولا: قوة الصورة
ويراد بالصورة القوية ما تتجاوز بالعقل معناها الحرفي إلى معنى أو معان أخرى مجازية أو غيرها، وذلك يكون بالتمثيل، والكناية، والاستعارة من كل ما يفتح أمام القارئ آفاقا من التفكير أو التخييل،
.
الوسائل التي تحقق للبليغ
- (من ذلك، ما ذكر قبلا، من استعمال الكلمات المألوفة، المحدودة المعنى، العربية، فذلك يفيد في وضوح الأفكار والصور، كما يفيد في قوتها:
واستقرارها في العقول، وليس ينفع هنا اللفظ المشترك، ولا الغامض، ولا الكلمات الأجنبية التي لم تشرب روح العربية؛ لانها إذا فقدت الإلف والوضوح فقدت القوة
ولقد حمل ذلك بعض كتابنا على استعمال الكلمات والأمثال العامية بحجة أنها تحمل ذوق الشعب، وشعوره، وتدل على كل ما يحيط بالفكرة من أطياف
2- استخدام الكلمات الوصفية التي تفيد في جمال الأسلوب وفي قوته معا، ويراد بالكلمات الوصفية، تلك التي تصور مشاهد أو حوادث تلفت النظر، وتروع الفؤاد، وتثير الإعجاب، دالة على ما في الموصوف من بهجة ممتعة، أو صوت مجلجل، أو إبداع عجيب، كما رأيت ذلك في فن الوصف، وكقول بديع الزمان في المقامة الأسدية
"فإذا السبع في فروة الموت، وقد طلع من غابة، منتفخا في إهابه، غريبة تؤدى معنى المبالغة المقبولة والإيجاز الطريف، وتفتح للقارئ مجال التفكير والتخييل؛ ومن هذا الأخير قولهم: ليلة نابغية، ورأس كليب، وثالثة الأثافي والمستحيلات الثلاث
ومن المجاز قول ابن خفاجة الأندلسي يصف نهرا
متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء
وغادت تحف به الغصون كأنها ... هدب يحف بمقلة زرقاء
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء
4- التحاشي عن الكلمات الضعيفة، والحشو الفارغ، والعناصر الثانوية في العبارات، ثم الاكتفاء بأركان الكلام، حتى يترك لها المجال لتبعث آثارها دون عائق. وأكثر ما يبدو ذلك في الخطابة، والجدل، والمناظرة، وفي الشعر والنثر الأدبي كما سبق، ومن هذا الضرب الأمثال والحكم، ومثل: رب عجلة تهب ريثا، حسبك من شر سماعه، {ولكم في القصاص حياة)
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص196
وقد يظهر التناقض بين القوة والوضوح، إذا كانت تلك إلى الإيجاز والاكتفاء بالعناصر الهامة في حين أنه محتاج إلى هذه العناصر الثانوية لبسط الأفكار وإنارة جوانبها. ومعنى هذا أن تحاول صفة الحياة على حطام الأخرى. وللخلاص من ذلك يترك الأمر للأديب، فيؤثر أحد الجانبين تبعا لمقتضى الحال. ومع ذلك فإن مهرة الكتاب والخطباء يجمعون في أساليب بين الصفتين: الإطناب في مرتبة العرض لإيضاح الأفكار والتدليل عليها، ثم الإيجاز أخيرا لتلخيصها وقوة تأثيرها) أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص 198
1. الكلمات ذات المعاني الهامة تحسن بغيرها في المنطق وتكرارها، ولكن الكلام المكتوب لا أثر فيه للصوت، لذلك يجب أن يعرف القارئ، أهمية هذه المعاني بوسيلة أخرى ليست صوتية، وهي وضع كلماتها حيث تكتسب عناية وانتباها.
ويتم هذا بالوسائل الآتية
تقديم الكلم أو تأخيرها بالنسبة إلى موضعها الطبيعي دلالة على القصر أو التفخيم، أو حسن الذوق واللياقة أو الأهمية مطلقا، مثل: {إياك نستعين} ، على الأخلاق خطوا الملك وابنوا، لا إله إلا الله.
هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما
2. من أسباب القوة الطباق البديعي الذي مر ذكره في الوضوح؛ لأن المقابلة نوع من التحدي بين المعاني والمنافسة في الظهور وهذه قوة المعاني، مثل: {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} {إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم}
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك
3- لما كانت القوة تستلزم السرعة في أكثر الأحيان، كان الإيجاز
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص197
أسلوبية التعبير أو الأسلوبية الوصفية تعنى بمعالجة تعبير اللغة بوصفه ترجمان أفكارنا. ويعد شارل بالّي رائدها بدون منازع ولا مدافع. وهو يحدد الأسلوبية بأنها: "دراسة أحداث التعبير اللغوي المنظم لمحتواه العاطفي، أي دراسة تعبير اللغة عن أحداث الحساسية، وفعل أحداث اللغة على الحساسية" . فهذه الأسلوبية – كما يؤكد بيير غيرو "تعبيرية بحتة، ولا تعني إلا الإيصال المألوف والعفوي، وتستبعد كل اهتمام جمالي أو أدبي" . ومن أشياع هذا الاتجاه المتأثرين بمنهاج بالي ومفهومه للأسلوبية نلفي جول ماروزو (ومارسيل كروسو
(و أسلوب عبد القاهر الجرجاني في كتابيه أسلوبا بليغا ممتازا يساعد على ملكة البلاغة و لا يفسدها ولا عيب فيه إلا إن يسرف في العبارات المترادفة حتى تطغى على تقرير القواعد وما عني به من استخلاص أسرارها من الشواهد النثرية والشعرية
قال السكاكي علم المعاني هو تتبع الحواص تراكيب الكلام في الافادة ومايتصل بتا من الاستحسان وغيره ليحترز با لوقوف عليها في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره
وأبو يعقوب السكاكي لما جاء بعد الجرجاني ميز المباحث البلاغة فميز بعضها عن بعض تماما وجعل لكل مبحث منها علما خاصا ولا شك إن السكاكي بهذا يعد إلى حد ما من تلامذة عبد القاهر الجرجاني ولكنه كان ناقدا ولم يكن اديبا لان اسلوبه في كتابه ليس اسلوب البليغ الممتاز مثل عبد القاهر الجرجاني لان العجمة كانت غالبة على اسلوبه فكان في اسلوبه كثير من الغموض والتعقيد وضعف التاليف ومثل هذا يفيد الناظر فبه علما ولا يفيده اسلوبا بليغا بل يفسد فيه ملكة البلاغة وبه2ا يكون ضرره اكثر من نفعه وفيه نظر لان اذ التتبع ليس بعلم ولاصادق عليه فلا يصح تعريف شيئ من العلوم به ثم قال اعني بالتركيب تراكيب البلغاء وشك إن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة على على معرفة البلاغة وقد عرفها في كتابه بقوله هي بلوغ التكلم في تادية المعنى حدا له اختصاص بتوصية خواص التراكيب حقها وايراد انواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها فان اراد بالتراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء وهو الظاهر)
الصعيدي عبد المتعال بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علم البلاغة المطبعة النموذجية ب د ت الجزء الاول ص37
وجاء بعد السكاكي عالمان كبيران أرادا إن يحذوا في البلاغة حذوه أولهما ابن مالك النحوي المشهور في كتابه المصباح لتلخيص المفتاح والإيضاح لتلخيص المفتاح
وثانيهما الخطيب القزويني في كتابه تلخيص المفتاح والإيضاح لتلخيص المفتاح وثانيهما كالشرح للاول فأما مصباح بن مالك فانه لم يهذب كثيرا من مفتاح السكاكي في علم البلاغة لان غلبة النحو كانت غالبت عليه وكان سببا في أعراض المتأخرين عن كتابه
أما تلخيص الخطيب القزويني فانه هذب كثيرا في مفتاح السكاكي وقدم مباحثه وأخر وزاد عليه ما تجب زيادته في علم البلاغة وكان أسلوبه فيه أوضح من أسلوب السكاكي)
الصعيدي عبد المتعال بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علم البلاغة المطبعة النموذجية ب د ت الجزء الاول ص 4
(وكان سعد الدين الذين من علماء العجم الذين تأثروا بالسكاكي في طريقتها التقريرية وفي ضعف اسلوبه لضعف سليقته العربية بل كان هو من أتى بعد السكاكي من علماء العجم اضعف منه ذوقا أدبيا وسليقة العربية فمضوا في الطريقة التقريرية إلى إن وصلوا إلى نهايتها في البعد عن الذوق الادبي ثم اخذوا ينشرونها هنا وهناك الغزت علم العرب وغزت جميع العلوم من العربية إلى غيرها من العلوم وصارت عنايتها بتقرير عبارات المتون اكثر من عنايتها بتقرير مسائل العلوم ثم تهافت المتأخرون من علماء البلاغة على شرحي سعد الدين على التلخيص يضعونها عليهما الحاشية على الحاشية ويضعون على الحاشية تقرير بعد تقرير وشغف المدرسون بتلك الكتب في الجامع الأزهر وغيرها في الجامعات العربية في الاقطار المختلفة ويتعمقون في درسها إلى حدود الأقصى ويتنقلون في درسها من المتن إلى الحاشية إلى التقرير في استقصاء غريب وتفنن في البحث و الفهم)
الصعيدي عبد المتعال بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علم البلاغة المطبعة النموذجية ب د ت الجزء الاول ص6
(ولكن جعله اسلوبا تقريريا لايعنى الا بجمع القواعد في اوجز لفظ حتى في الايجاز كما اسرف عبد القاهر في الاطناب وجعل من تلخيصه متنا يحتاح إلى حواش وشروح وتقرير) بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علم البلاغة المطبعة النموذجية ب د ت الجزء الاول ص9)
البلاعة هو حسن استعمال المجاز تشبيها واستعارة والبراعة في الصناعة اللفظية من جناس وطباق وتورية و سواها من الإيجاز والوضوح لتأدية المعنى الجليل واضحا بعبارة صحيحة فصيحة تؤثر في النفس وتعطي كل شعور في القائل أو وصف لبيئة حقه من التعبير القوي المتين في نفس السامع ولكن عيبه هذا كان موضع تقدير المتأخرين وإعجابهم واستحسنوا إن يكون التشبيه بعيدا والاستعارة قريبة لكن الاستعارة تقوم على حذف الشبة والشبه به مع حذف أداة التشبيه ووجه الشبة
ما جاء في شعر ابي تمام من قبيح الاستعارة
فمن مر ذول ألفاظه وقبيح استعاراته
يا دهر قوم من اخدعيك فقد أضججت هذا الأنام خرقك
وقوله
سأشكر فرجة اللبيب الرخى ولين أخادع الدهر الأبي
و أشباه هذا مما تتبعته في شعره وجدته كثيرا جعل كما ترى مع غثاثة هذه الألفاظ للدهر اخدعا ويدا تقطع من الزند وكأنه يصرع وجعله يشرق بالكرام ويفكر ويتبسم والأيام بنون له والزمان الأبلق و جعل للمدح يدا و لقصائده مزامير إلا أنها لانتفخ ولا تزمر )
الموازنة بين شعر ابي تمام والبحتري تحقيق الصقر احمد السيد دار المعارف 1119كورنيش النيل القاهرة مجلد الاول ص265
أسلوبية الفرد وتسمى بالأسلوبية التكوينية ظهرت على يد النمساوي ليو سبيتزر كرد فعل على أسلوبية بالي، وأن الفرد مستعمِلَ اللغة غير ملزم بالتقيد بقواعد اللغة المتعارف عليها، بل بإمكانه أن يتملص منها، ويبدع تركيبا لغويا جديدا يميزه عن غيره، ويكون بمثابة أسلوب خاص به وحده
والحكم على أسلوب هو الحكم على طباع الشخص لان الأسلوب صورة الروح. وهو الرجل عينه"؛ بمعنى أنه صورة لصاحبه، تبرز مزاجه وطريقته في التفكير ورؤيته إلى العالم فهو "فلسفة الذات في الوجود" وقد أثَّر بوفون بنظريته هذه في كل الذين جاؤوا من بعده من نقاد الأدب ومنظّري الأسلوب (بول كلودال، شوبنهاور، فلوبير، ماكس جاكوبوب ونقر بحقيقة الأسلوب الفردي إلى القول باختلاف الأساليب من كاتب إلى آخر. و الأسلوب العام المطلق صالح لكل زمان ومكان، وهو الطريقة الكلية المتعبرة عن كيفية تأثير العقل في الطبيعة.
محددات الأسلوب في الأسلوبية:.
لقد دأب النقاد الأسلوبيون المعاصرون على رصد أساليب الكتاب وتفردهم واختلافهم، الواحد عن الآخر، من خلال المقولات الثلاث: الاختيار ـ التركيب ـ الانزياح.
1 ـ الاختيار:
يعمد الكاتب إلى اللغة بوصفها خزّاناً جماعياً رحباً، منه ينتقي مفرداتٍ، يتخيرها كي يصب فيها ما تجيش به نفسه من مشاعر وأحاسيس وانطباعات، وهنا يبدأ بحث النقاد الأسلوبيين من حيث العمل على كشف العلل والأسباب الكامنة وراء هذا الاختيار أو ذاك مادام (مبدأ "الاختيار" أو "الانتقاء" يمثل خاصية من خصائص البحث الأسلوبي، وإذا كانت اللغة تحوي مفردات متعددة، تتركب منها أعداد لا تحصى من العبارات والجمل، فإن القضية المثارة هي البحث عن الدلالات المتعلقة بأسباب اختيار جملة بدلاً من جملة أخرى، وتفضيل تركيب عن تركيب سواه ورصد العلل المضمرة وراء هذا الاختبار أو ذلك.
إن عملية الاختيار يحكمها جانبان: شعور فردي وجداني تمليه الدفقة الشعورية للإبداع، وآخر خارجي اجتماعي لغوي فني تفرضه القواعد والأعراف، والطقوس المتداولة عند الكتاب والمتلقين، حتى يكون هناك إدراك واضح لما تحمله النصوص الإبداعية، بفهم لغتها وما ترمي إليه، وجعلها أكثر قابلية عندهم، ومن نجد أن الوضوح يتحقق باختيار الكلمات المعينة غير المشتركة بين معان، والتي تدل على الفكرة كاملة، والاستعانة بالعناصر الشارحة، أو المقيدة، أو المخيلة، واستعمال الكلمات المتقابلة المتضادة إذا كان ذلك يخدم المعنى والفكرة، والبعد عن الغريب الوحشي، والعمد إلى لغة الناس وما يستطيعون إدراكه بسهولة وبصورة واضحة لا تشوبها شائبة.
يبقى الاختيار من العمليات المساعدة على كشف تفرد كاتب عن كاتب آخر، من خلال أسلوبه المتمثل في اللغة المعجمية، التي انتقاها ورصها مفرداتياً بعضها إلى بعض لتصير في النهاية لغة إبداعية فنية جمالية تستهوي القارئ، وترقع النص إلى مصاف الآثار الأدبية الخالدة.
2 ـ التركيب:
إن سلامة التركيب في جميع نواحيه، معجمياً، ونحوياً، وصوتياً، وصرفياً، ودلالياً، تستدعي انطلاقه من عملية سابقة عليه، وهي الاختيار، فكلما كان الاختيار دقيقاً يخدم الكاتب والنص القارئ، حينها يأتي التركيب كذلك؛ إذ (ترى الأسلوبية أن الكاتب لا يتسنى له الإفصاح عن حسه ولا عن تصوره للوجود إلا انطلاقاً من تركيب الأدوات اللغوية تركيباً يفضي إلى إفراز الصورة المنشورة والانفعال المقصود، والانطباع النابع من الذات عبر النص من خلال اللغة، ليحتضنه القارئ بحرارة.
وتقاس عملية التركيب بالرجوع إلى المزاج النفسي للكاتب وثقافته الخاصة، بالإضافة إلى السمات الثقافية لكل عصر، وهي الرقيب الذي يسير الكاتب تحت إمرته حتى يفهم عند المتلقين، ((فكل كاتب له مزاجه النفسي وثقافته المتميزة، كما أن لكل عصر سماته الثقافية، ومزاجه الفكري، ومن ثم يختلف أسلوب كاتب عن كاتب، كما يختلف أسلوب عصر عن عصر، إن الموقف وطبيعة القول وموضوعه، كل ذلك سوف يفرض بالضرورة أداء يختلف عن أداء، بل إن ذلك قد يكون لدى كاتب واحد، لأنه عايش فترتين زمنيتين مختلفتين.
أن ظاهرة التركيب التي لها علاقة تامة بالأسلوب تتحدد ضمن الأداء، من عدّة منطلقاتٍ ذاتيةٍ خاصةٍ بالكاتب ومزاجه النفسي، وثقافته المتميزة، والموضوع المتناول، وهي التي تفرض عليه لا محالة توظيف مفردات وتراكيب خاصة به، انطلاقاً مما سلف ذكره، وهذا لن يكون ذا فائدة تواصلية لغوية فنية جمالية، مالم يبق في إطار العصر وخصائصه الثقافية والفكرية واللغوية.
3 ـ الانزياح:
لقد ذهب جل النقاد الأسلوبيين، وعلى رأسهم الناقد الفرنسي "جون كوهن" إلى كشف ملامح الاختلاف بين الأساليب بدءاً بمدى انحراف الكتّاب عن النمط المألوف، والطقوس المتداولة في الكتابة في سياق نصوصهم الإبداعية؛ إذ الأسلوب هو كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مطابقاً للمعيار المألوف... إنه انزياح بالنسبة لمعيار، أي إنه خطأ ولكنه خطأ مقصود ومحمود تنزع النفس إليه مادام يحمل جمالاً فنياً.
فالانزياح في المفهوم الأسلوبي هو قدرة المبدع على انتهاك واختراق المتناول المألوف، سواء أكان هذا الاختراق صوتياً أم صرفياً أم نحوياً أم معجمياً أم دلالياً؛ ومن ثم يحقق النص انزياحاً بالنسبة إلى معيار متواضَعٍ عليه، لذا تبقى اللغة الإبداعية هي التي تسمح بهذه الخلخلات اللغوية ضمن النصوص بحملها من النفعية البلاغية إلى الفنية الجمالية؛ وهذا كله وفقاً لأفكار وتداعيات خاصة، في إطار أمنية ومواقف محددة تمليها طبيعة المواضيع المتناولة في ضمن النصوص، حيث (أنه من غير المجدي حصر الكلام في تكرار جمل جاهزة، كل واحد يستعمل اللغة لأجل التعبير عن فكرة خاصة في لحظة معينة، يستلزم ذلك حرية الكلام واستقلالية الخوض فيه وبه بارتياح، في رحاب لغة فنية أدبية تجعل الجمالية والتأثير غايتَيْها.
إن جمالية الانزياح عندما تخلق اللغة الإبداعية هوامش رحبة، على حساب اللغة المعجمية وانطلاقاً منها، ففيها يتأتى للقارئ الإقبال على العمل الفني، وتذوقه ومدارسته ومحاورته، بشقف ونهمٍ كبيرين، إلى درجة الاستمتاع والإثارة والاقتناع به فنياً وجمالياً.
الادب.1
من المستحيل ان نقول ان الادب العربي اصطلاح جاهلي ولا يكون من مصطلحات القرن الاول نبدأ بتعريف الادب قبل التطرق إلى الاسلوب.
وقد روى صاحب عقد الفريد في كتابه الأدب كلمة أسندها إلي عبدالله بن عباس وهي قوله كفاك من علم الدين ان تعلم ما لا يسع جهله وكفاك من علم الأدب إن تروي الشاهد والمثل
ختم تاريخ الاباء بالمبرد والثعلب وكان وفات المبرد سنة 258وثعلب بتاريخ291فيكون ختام تاريخ الادباء المعلمين وفي اواخر القرن الثالث من ومن يومئذ يتميز علم العربية بعد إن كانوا ادباء أصحاب النحو والشعر وإنما قيل لهم مؤدبون تمييزا لهم من المعلمين لصبيان العامة
قال جاحظ لما مر رجل من قريش بفتى من ولد عتاب ابن أسيد وهو يقرا كتاب سيبويه فقال اف لكم علم المؤدبين وهمة المحتاجين
وعلى إن المؤدبين كانوا عندهم على ضربين: أصحاب العلوم وأصحاب البيان وكانوا يخنون هؤلاء بالأثرة قال ابن عتاب يكون الرجل نحويا عروضيا وقياسا فرضيا وحسن الكتابة الجيد و الحساب حافظا للقران رواية للشعر وهو يرضى ان يعلم الأولاد بستين درهما
ولو ان رجلا حسن البيان حسن التخريج للمعاني ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم ولا ريب في ان الأدب هو الأدب الجيد وحده وكل ما سواه ليس بأدب فالأدب إذن هو المبتكر في اللفظ الفصيح والتعبير المتين والأسلوب البارع والخيال الواسع )فروج عمر تاريخ الأدب العربي دار الملايين للعلم ج1 ب ت ص 44
(والأصل في الأدب كله ان يكون فنا واحدا هو الوصف لان التعبير في حقيقته وصف للاحوال الحسية والأحوال النفسية ولذلك يقول ابن رشيق ف العمدة 2= 278 الشعر إلا اقله راجع إلى الوصف فسموا وصف الناس الإحياء مدحا وهجاءا وسموا وصف الأموات رثاء وسموا وصف النساء خاصة غزلا تم إنهم قسموا الكلام في المراة قسمين: فما كان منه من وصف أعضائها الظاهرة من حسن وجهها وجمال قدها ولون شعرها واتساع عينيها ابقوا لها اسم الغزل لكن لم تكن بيئة الجاهلية تجيز التغزل بالعذارى حتى انهم حرموا إن يتزوج فتى تغزل بتها فشهرها واكثر الغزل الجاهلي في المتزوجات فقول امرئ ألقيس فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا وقصة المنخل اليشكري مع المتجردة امرأة النعمان وقول الأعشى وقد أخالس رب البيت غفلته كلها مصداق لذلك ولا ريب في إن الجاهلي يتغزل بالعذارى لكنه اجرا على المتزوجات ) فروج عمر تاريخ الادب العربي دار الملايين للعلم ج1 ب ت ص 71
وما كان يناول الشكوى من فراقها والتشوق إلى لقائها يسمى واظهار الحب لها سموه نسبيا
وكذلك سموا الخمر خمريات والصيد طرديات وبقي الوصف المطلق متعلقا بوصف الطبيعة ومظاهرها كوصف الخيل والليل والبرق والجنائن والقصور وما إلى ذلك) فروج عمر تاريخ الأدب العربي دار الملايين للعلم ج1 ب ت ص49
قسم الإفرنج الفنون الأدبية إلى قسمين شعرا ونثرا كما فعل العرب ثم قسموا الشعر حاصة اربعة انواع
الشعر الغنائي ويقابل عندنا الشعر الوجداني وما مجراه من الغزل والرثاء المدح والهجاء و الوصف والحكمة وهجاء والزهد الشعر التعليمي وهو الشعر الذي ينظم فيه فنون العلم والمعارف والنحو والفقه والتاريخ تسهيلا لحفظه الشعر الملحمي يقصد به الحماسة والفخر والملحمة قصة طويلة تصف حربا تنطوي على حب ويشرط إن تكون فيها خوارق وتد خل الآلهة وتكون الملحمة في العادة شعرا وعندنا نحن ملحمات ولا لا صلة لها صلة لها بملاحم الإفرنج جمع ابو زيد القرشي في جمهرة أشعار العرب سبع قصائد سماها الملحمات هي للحرير والفرزدق والأخطل وراعي الإبل وسواهم وهذه التسمية عرفية لا تدل على نوع مخصوص من القصائد
أما عبدا لرحمان بن خلدون يقول في المقدمة330وما بعدها فيطلق لفظ الملاحم على القصائد التي تتعلق بالإحداث التاريخية وبالإخبار عن الغيب التنبؤ بالحوادث
الشعر المسرحي التمثيلي ويتألف من القصص المنظومة شعرا قائما على الحوار لاستخراج تلك القصص عل المسرح ولم يكن عند العرب شعر بهذه الوصف قبل احمد شوقي ت 1351ه=1932
والأدب من الفنون الجميلة لأنه يخضع لإنتاجه لعنصر الخيال ولقد عد الأقدمون في الفنون الجميلة الشعر والموسيقى والرقص والتمثيل والحطابة والبلاغة والرسم والخط والنحت والنقش ) فروج عمر تاريخ الأدب العربي دار الملايين للعلم ج1 ب ت ص 45
. اتجاهات علم الاسلوب1
اتجاهات علم الأسلوب ومن هذا الفهم لمعنى «الأسلوب» تتفرع اتجاهات العلم الذي يدرسه ثلاثة اتجاهات:
1- إتجاه يدرس الأسس النظرية لبحث الأسلوب، وهو ما يمكن أن يسمى «علم الأسلوب» العام ، يقدم فيه أصحابه القوانين العامة التي تحكم الدرس الأسلوبي دون أن يكون ذلك مرتبطا بلغة معينة وهو بذلك يضارع علم اللغة العام ، أي إنه علم غير تطبيقي، وقد ظهرت فيه حتى الآن بحوث غير قليلة على نحو ما قدمه هاليداي وأولمان وغيرهما
2- إتجاه يدرس الخصائص الأسلوب في لغة معينة، يهدف إلى بحث «الطاقات التعبيرية» في هذه اللغة سواء في لغة الكتابة أم في غيرها، وهو بهذا يعد عملا تطبيقيا عاما يتناول «التنوعات» اللغوية على غير أساس فردي، كذلك البحث القيم الذي قدمه عن الأسلوب الإنجليزي، حين تناولا الخصائص الأسلوبية للغة غير الأدبية، فقدما لغة المحادثة، ولغة المعلقين الرياضيين، ولغة الدين، ولغة التقارير الصفحية، ولغة الوثائق القانونية. ومن ذلك أيضا ما قدمه عن لغة الشعر الإنجليزي، وما قدمه عن لغة القصة. ومن الواضح أن الغرض من هذا الإتجاه تقديم المحيط الأسلوبي العام لتنوع لغوي محدد على أساس الموقف الكلامى أو على أساس النمط الأدبي، وأصحابه يطبقون ما يقرره علم الأسلوب العام من مستويات التحليل على أساس الصوت والكلمة والتركيب.
3- أما الاتجاه الثالث فهو الذي يدرس لغة شخص واحد كما يمثلها إنتاجه الأدبي، وهذا هو الاتجاه الغالب في علم الأسلوب، وإليه تتجه معظم الرسائل الجامعية المتخصصة. وهو يخضع لغة الأديب لأنواع من التحليل يحاول بها أن يصل إلى معايير موضوعية تعين الناقد على التفسير؛
1. التحليل الاسلوبي
1. التحليل الاسلوبي هو الذي يفسر العلاقة بين الإبداع عند الأديب والإبداع الذهني عند المتلقي" ، والحديث عن الإبداع عند المتلقي الذي يتواصل بالإبداع عند الأديب يطرح أهمية تزود المتلقي بالثقافة المطلوبة وإحاطته بالمجال الذي هو بصدد قراءته،
والنص الأدبي الرفيع لا يمكن أن يتفتح أمامنا دون ثقافة واسعة في المجال العقلي والروحي الذي ينتمي إليه هذا النص" بمعنى أن هناك:" ظواهر أساسية في تركيب اللغة أو المعنى تحتاج إلى تنوير من خلال الربط بين الشعر واللغة والفلسفة والدين" ،
القراءة الواعية تشكل رؤية جديدة تكشف لدى القارئ مع كل نص يقرأه، و تعدد القراءات يكتسب القارئ مجموعة من الطاقات التحليلية التي كانت غائبة عنه قبل ذلك في شتى مجالات إبداع الفكر البشري،
لكي نحدد دلالة صيغة لغوية معينة تحديدا علميا دقيقا، لا بد لنا من معرفة علمية حقيقية بكل ما يشكل عالم المتكلم" ، وإذا كان هذا منطبقا على شتى أنواع الأدب، فإن الضرورة تقتضي ذلك خاصة في الشعر الذي يحفل بكثير من الإنزياحات ويطلق العنان للخيال والرمز، مما يحتِّم على القارئ الإبحار مع الشاعر والإمساك بالدلالة وإن تعددت أوجه التناص، والحقيقة أظهرت لهاوي الشعر وللذي يقرأه لنفسه وينعم به دون الغوص فيه على تلميح مخفي أو رسالة فلسفية، أن الشعر الجيّد للقارئ الجيّد "على الشعر دائما أن يحمل لغزا، وهو هذا هدف الأدب. أعتقد أن الشعر موجود للنخبة، في مجتمع يعرف ما الأبهة" ، هذه النخبة لا بد أن تكون المتلقي المتمكن والحصيف الذي يستطيع فك الألغاز وبالتالي الإحاطة بالدلالة
على أن هناك ثلاثة اتجاهات أيضا فى التحليل اللغوي للنص.2
أ. اتجاه نفسي يصدر عن إيمان بأن «الأسلوب هو الرجل»، وهو يرى أن دراسة الأسلوب لا تكون صحيحة إلا في إطار دلالتها على خصائص المؤلف النفسية، ومن أشهر المحاولات في هذا الاتجاه ما قدمه العالم النمساوي الذي قدم دراسات تطبيقية على عدد من الأدباء متأثرا بآراء فرويد في التحليل النفسي، وقد توصل هو إلى طريقته الخاضرة في تحليل الأسلوب فيما أسماه «الدائرة الفيلولوجية وهو يشير فيها إلى منهجه على النحو التالي:
«إن ما يجب أن نعمله هو أن نبدأ من السطح إلى مركز الحياة الداخلي للعمل الفني، وذلك بأن نلاحظ، أولا، التفصيلات الظاهرة التي تظهر على سطح عمل معين، ثم تصنف هذه التفصيلات إلى مجموعات ونبحث عن طريقة تكاملها في الصدور عن مبدإ خلاق يكون كامنا في «نفس» الفنان، وأخيرا نعود على بدء بأن نبحث هذا «الشكل الداخلي» عند الفنان وانتظامه كل الظواهر الأسلوبية التي لاحظناها أولا».
ومعنى ذلك أننا أمام ثلاث مراحل في التحليل؛ أولها أن يظل الدارس يقرأ العمل الفني من أجل أن يتوحد مع جو هذا العمل حتى يلتقي بخاصة أسلوبية تكون غالبة عليه. وثانيها أن يبحث عن تفسير نفسي لهذه الخاصة. وثالثها أن يحاول البحث عن الشواهد الأخرى التي تفهم على ضوء هذا العامل النفسي.
واللغويون في أغلب الأمر يرفضون هذا الاتجاه، ويرونه غير بعيد مما يأخذونه على النقد الأدبي باعتباره ذاتيا وحدسيا، ولم ينكر شبتزر ذلك، بل أكد أن اتجاهه يعتمد على «الذكاء» و«الخبرة» و«الايمان».
وينكر عدد آخر من اللغويين أن تكون الخصائص الأسلوبية استجابة لملامح عميقة في عقل المؤلف أكثر من كونها «سلوكا» لغويا يكشف عن «عادات» لغوية فحسب.
ب اتجاه وظيفي يرى أن العمل الفني لا ينبغي أن يحلل على مستويات جزئية، وإنما على أساس «السياق» وهو مصطلح أخذ طريقة إلى الاستقرار في الدرس اللغوى عند فيرث وأتباعه. ودراسة الأسلوب هنا تقرر أن كل كلمة إنما هي جزء في جملة، وأن كل جملة جزء في فقرة، وأن كل فقرة جزء في موضوع. وعلى الباحث أن يدرس وظيفة كل هذه الأجزاء في «سياق» العمل الفني، ويمكن أن تتسع دوائر البحث في السياق من البحث في قصيدة واحدة أو في قصة إلى البحث في ديوان كامل، أو في أعمال فنية في فترة زمنية محددة، وإلى البحث في أعمال المؤلف كلها، أو في فن برمته حتى إنه يمكن الوصول إلى الخصائص الأسلوبية لثقافة بذاتها. وهذا اتجاه يتبعه كثير من الباحثين في الأسلوب لكنه يكاد ينتهي إلى «إجراءات»تتكرر تكرارا مملا عند تصنيف الظواهر الأسلوبية حتى ينتظمها سياق خاص.
جـ اتجاه إحصائي
وهذا هو الاتجاه المسيطر الآن على الدرس الأسلوبي، وهو يصدر عن اقتناع بأنه من المهم جدا أن نقف على درجة حدوث ظاهرة لغوية معينة في أسلوب شخصي معين وقوفا دقيقا، لا تكفي فيه الملاحظة السريعة، ولا يجزئ عنه الإحساس الصادر عن التقاط الظواهر. ولذلك يقتضي علم الأسلوب أن يدرس الباحثون فيه أصول علم الإحصاء دراسة كافية تمكنهم من إستخدام وسائله في رصد الظواهر. والذي يقرأ الآن بعض الدراسات الأسلوبية مما يطبق الإحصاء تطبيقا غالبا سوف يصطدم بأجزاء كبيرة منها تملؤها «الجداول» الإحصائية والأرقام، مع التقدم الآن إلى الاستعانة بالحاسبات الآلية، مما يضفي على العمل طابعا غريبا، ومما يشعر دراسي الأدب على العموم أن هذا الاتجاه يستعمل لغة غير مفهومة لأنها لغة غير التي ألفوها في تناول العمل الأدبي. وكأن اللغويين لم يكتفوا بما أدخلوه في الدرس اللغوي من مصطلحات التحليل العلمي وفنونه حتى يطبقوا ذلك على نصوص الأدب، وقديما دفع بعض الناس أبا جعفر النحاس في النيل حيث لقي حتفه وقد كان يحدث نفسه ببعض مسائل النحو لأنهم سمعوه يتحدث لغة غير مفهومة فظنوه يستخدم وسائل السحر أو لغة الشياطين. وينضاف إلى هذه الطبيعة الغربية في تناول النص الأدبي أن الإحصاء في ذاته يحمل أوجها من النقص نشير إلى بعضها فما يلي:
1- أن الإحصاء يقتضي جهدا كبيرا قد يكون غير مطلوب في أحيان كثيرة، إذ إن رصد بعض الظواهر تكفيه الملاحظة «بالعين المجردة» كما يقولون.
2- أن غلبة العمل الإحصائي تحمل في طياتها خطر سيطرة «الكم» على «الكيف» مما يفقد دراسة الأسلوب هدفها الأساسي.
3- أن الافتتان بالأرقام يوهم بدقة المنهج، ولكنها قد تكون دقة مخادعة عند تناول الأعمال الأدبية، لأن كثيرا من الظواهر يتدخل تداخلا عضويا بحيث يصعب إحصاء واحدة منها إحصاء منفردا، وقد أشار أولمان إلى الدراسة التي قدمها جراهام عن الصور عند حيث أحصى هذه الصور في )4578( صورة ذاكرا أن الاستعارات والتشبيهات عند هذا الكاتب تتداخل وتتكامل بحيث يكون ضربا من العبث أن نبحث عن تحديد «رقمي» دقيق لها
4- أن الإحصاء بهذا التفتيت الرقمي يفضي إلى خطر آخر هو فقدان السبيل إلى فهم تأثير «السياق» في العمل الأدبي، وهو مطلب مهم جدا على ما ذكرناه آنفا.
5- أن الدقة الإحصائية لا تجدي نفعا في «الإمساك» ببعض المسائل الغامضة أو النسبية أو المرنة كالنغمات العاطفية والإيقاع الرقيق أو المركب وغيرها.
ومع كل ما ذكرناه من أوجه النقص في الاتجاه الإحصائي مما يجعل عددا من الباحثين يعزف عنه فإنه لا يعدم جوانب مفيدة في دراسة النصوص الأدبية نذكرمنها ما يلي:
1- أن الإحصاء يقدم المادة الأدبية التي يدرسها الباحث تقديما دقيقا، والدقة في ذاتها مطلب علمي أصيل.
2- أن التحليل الإحصائي يساعد أحيانا على حل مشكلات أدبية خالصة، فهو قد يساعدنا، إلى جانب شواهد أخرى في «توثيق» النصوص الأدبية، حين نحاول نسبة أعمال معينة إلى مؤلف معين، وقد تساعدنا على فهم «التطور التاريخي»في كتاباته.
3- ليس من شك في أن ورود ظاهرة معينة مرة واحدة، أو خمسين مرة، أو ثلاثمائة مرة لابد أن يكون ذا دلالات مختلفة، ومن ثم فإن الإحصاء يفضي بنا إلى البحث عن هذه الدلالات.
4- أن التحليل الإحصائي يكشف في كثير من الأحيان عن «مقاييس» محددة في توزيع العناصر الأسلوبية عند مؤلف معين بحيث يمكن أن تؤدي إلى أسئلة تفيد في التفسير الجمالي.
ومهما يكن من أمر فلا يجد الباحثون بأسا من الاستعانة بالاتجاهات الثلاثة: النفسية، والوظيفية، والإحصائية، وَفْق ما تقتضيه الحال.
مستويات التحليل:
على أن أهم ما يطبقه علم الأسلوب داخل هذه الاتجاهات أنه يستخدم مستويات التحليل اللغوي، وهي
. تحليل الأصوات1
. تحليل التركيب2
تحليل الألفاظ.3
أولا- الأصوات
والتحليل الصوتي في علم الأسلوب يقتضي -أولاً- معرفة الخصائص الصوتية في اللغة العادية، وبعد ذلك يتوجه إلى رصد الظواهر الخارجة عن النمط والبحث في دلالتها فيما يفيد دراسة الأسلوب. والأغلب أننا لا نحلل النص الأدبي تحليلا صوتيا يتتبع كل التفصيلات التي ينتظمها علم الأصوات، فنحن هنا لا نهتم اهتماما كبيرا بالأصوات الصامتة -مثلا- إلا أن تكون لبعضها درجة واضحة من الكثرة تقتضي الالتفات والتفسير. أما الجوانب المهمة الأخرى التي يركز عليها التحليل الصوتي للأسلوب فتكاد تنحصر فيما يلي:
الوقف:
وهو ظاهرة صوتية مهمة جدا لأنها ترتبط بالمعنى ارتباطا مباشرا، ومن المعروف أن العرب القدماء اهتموا بها اهتماما واضحا في قراءة النص القرآني حتى إنهم أفردوا لها كتبا متخصصة درسوا فيها أنواع الوقف؛ من واجب، وجائز، وممتنع، وحسن، وقبيح، وغير ذلك، ورسم المصحف يشمل كما نعلم رموزا تحدد أنواع الوقف للقارئ.
والأمر في ذلك مفهوم لأنه يتصل بالقراءة التي هي في أساسها أصل من أصول التشريع. على أن القدماء لم يلتفتوا إلى هذه الظاهرة عند تناولهم للشعر ولم يرد عنهم ما يفيد انتفاعهم بها في شروحهم الكثيرة التي وصلت إلينا. والحق أن وجود الشعر القديم مكتوبا أيدينا حرمنا من رصد هذه الظاهرة فيه، وليس بمستساغ لدينا أن الشعر العربي بأوزانه المعروفة بحدودها في التفعلية والشطر والبيت يغني عن ملاحظة «الوقف» فيه، وليس بمستساغ عندنا أيضا أن أبا تمام والبحتري والمتنبي كانوا ينشدون شعرهم فلا «يقفون» إلا عند آخر الشطر أو آخر البيت، ولا نشك في أنه لو أتيحت لنا فرصة سماعهم أو قراءة وصف لطريقة إنشادهم لكان لدرس «الوزن» الشعري شأن آخر.
الوزن:
دراسة «الوقف» إذن تقود إلى دراسة «الوزن» وتكشف عما يمكن أن ينتظمه من «تنوعات» فردية ذات دلالات خاصة، والحق أن ذلك قد يكون أكثر وضوحا في دراسة «الشعر» الذي لا تتساوى فيه أبيات القصيدة الواحدة، ويؤدي الوقف دورا أساسيا، لكن ذلك مفيد في دراسة الشعر التقليدي، وقد قدم علماء الأسلوب الغربيون دراسات كثيرة حللوا فيها أنماط الوقف على أنواع كثيرة من الشعر، مشيرين إلى أنه ليس مقصورا على ما يعرف «بحدود» الكلمات أو حدود الأبيات، بل قد يكون وقفا داخليا لا مناص منه في فهم الشعر وفي فهم الوزن الذي ينتظم فيه
النبر، والمقطع
ودراسة الوزن تقودنا إلى ضرورة دراسة «النبر» ، وهي دراسة لم تحظ حتى الآن باهتمام في الدرس العربي رغم أهميتها في اختلاف «المعنى» وتنويعه، وهي ذات أهمية خاصة في دراسة «المقطع» في اللغة وعلى الأخص فيما يتصل بالشعر، ولا نحسب أن القدماء كانوا غافلين عن هذه الظاهرة لأن حديثهم عن التفعيلة وما تتكون منه من أسباب وأوتاد وفواصل وما يطرأ عليها من زحافات وعلل لا يبتعد كثيرا عن دراسة المقطع، وقد كان جديرا بالمتابعة والتطوير؛ لكننا وقفنا عند الذي رصدوه وقرروه.
وتأتي بعد ذلك دراسة «التنغيم» ودراسة «القافية»، وكل أولئك كما هو ظاهر ليس صورة كاملة لما يقدمه علم الأصوات العام، ولكنه يركز على الظواهر التي يمكن أن تفيد عند رصدها وتصنيفها، في فهم أسلوب معين.
وغني عن البيان أن ذلك ليس مقصورا على الشعر وحده، لأن الأسلوب النثري ينتظم أنماطا كثيرة من الوقف والنبر والمقطع والتنغيم.
ثانيا- التركيب:
وقد احتفل علماء العربية بدراسة الجملة فقدموا أنماطها وأركانها ودلالتها الحقيقية والمجازية وطبقوا ذلك على كثير من النصوص وبخاصة على القرآن الكريم.
وعلم الأسلوب يرى في دراسة «التركيب» عنصرا مهما جدا في بحث الخصائص المميزة لمؤلف معين، وهو في الأغلب يتوجه إلى بحث العناصر الآتية:
1- دراسة طول الجملة وقصرها.
2- دراسة أركان التركيب وبخاصة المبتدأ أو الخبر، والفعل، والفاعل، والعلاقة بين الصفة والموصوف، والإضافة، والصلة، وغير ذلك.
3- دراسة «الروابط» كبحث استعمال المؤلف للواو،أو الفاء، أو ثم، أو إذن، أو أما، أو إما، ودلالة كل ذلك على خصائص الأسلوب.
4- دراسة «ترتيب» التركيب، وهو من أهم عناصر البحث في الأسلوب، لأن تقديم عنصر أو تأخيره يؤدي في الأغلب إلى تغيير في الدلالة، ولأن الأديب لا يلتزم دائما بقواعد الترتيب العامة التي يرصدها اللغويون في اللغة العادية. وقد لاحظ الدارسون أن يميل إلى تغيير كبير في ترتيب الجمل، من نحو:
5- دراسة «الفضائل النحوية» كالتذكير، والتأنيث، والتعريف، والتنكير، والعدد.
6- دراسة الصيغ الفعلية، وتركيباتها، والزمن، وتتابعه.
7- دراسة البناء للمعلوم، والبناء للمجهول.
8- يميل علماء الأسلوب إلى استخدام طريقة النحو التحويلي في بحث «البنية العميقة» لتركيبات مؤلف معين، لأنها تساعد -أولا- على فهم كثيرة من المسائل الغامضة في النص، وتساعد -ثانيا- على معرفة ما أضافة هذا المؤلف إلى أساليب اللغة في التركيب. انظر مثلا إلى الجملة الآتية في قصة من قصص
على أن دراسة التركيب عند الأسلوبيين لا تقتصر على بحث جزء الجملة أو الجملة، وإنما يتعداها إلى بحث الفقرة والموضع ثم العمل الفني كاملا.
ثالثا- الألفاظ:
وهو من أهم عناصر التحليل الأسلوبي لما له من تأثير جوهري على المعاني، ونحن نركز هنا على ما يلي:
1- دراسة الكلمة وتركيباتها وبخاصة بحث «المورفيمات» التي يستخدمها المؤلف.
2- الصيغ الاشتقاقية وتأثيرها على الفكرة.
3- «المصاحبات» اللغوية إذ إن هناك ألفاظا معينة في اللغة لا نكاد ننطقها إلا وتستصحب معها ألفاظا أخرى معينة، ولابد من رصد هذه المصاحبات فى موضوع معين عند مؤلف معين.
4- دراسة المجاز على أن يكون ذلك مجازا أصيلا بمعنى ألا نجري وراء كل ما نلحظ من أركان التشبيه أوالاستعارة لأن كثيرا منها يتحول مع الزمن ومع الاستعمال إلى مجاز «ميت» أو مجاز «نائم»، فنحن حين نتحدث الآن مثلا عن «ميدان دراسة الأسلوب» و«أدواتها»، و«أهدافها»، وعن« إلقاء الضوء على الملامح المميزة لمؤلف معين» لا نتحدث حديثا مجازيا لأن هذه الألفاظ فقدت طبيعتها الاستعارية فقدانا كاملا أو غير كامل وفق ما يشير إليه السياق.
وبعد، فهذه مستويات التحليل التي يتبعها دارسوا الأسلوب اللغويين، وهم يطبقون طريقتهم في التحليل اللغوي، ويستخدمون الإحصاء على ما بيناه، وذلك في ظنهم يقدم معايير موضعية يمكن للناقد الأدبي أن يعتمد عليها في الوصول إلى موضوعية التفسير.
ولنا بعد ذلك ملاحظتان:
الملاحظة الأولى:
أن عددا كبيرا من الباحثين اللغويين الناشئين بدأ يتجه إلى علم الأسلوب في إعداد الرسائل الجامعية المتخصصة، وتلك ظاهرة طيبة تتيح لهم فرصة الاتصال بالتحليل اللغوي الحديث من ناحية، وتجعلهم يتصلون بالنصوص الأدبية من ناحية أخرى بما يبعد عن أعمالهم «جفاف»العلم الذى يلح عليه الدرس اللغوي الحديث. لكن الملاحظ أن معظم هذه الرسائل يقع في شيئين:
أولهما: غياب المنهج حتى ليختلط الأمر على أصحابها بين البحث اللغوي والبحث في تاريخ الأدب أوالنقد وهم يركزون في الأغلب على مبحث الألفاظ، لكن على منهج غير علمي يمكن أن يسمى تجاوزا درسا فيلولوجيا، لأنهم يبذلون أغلب الجهد في محاولة تتبع ألفاظ المؤلف وتطورها من مدلولاتها «المادية» إلى مدلولات «مجردة» معتمدين في ذلك على المعاجم العربية القديمة، وكل ذلك غير جائز لأن مادة المعاجم التي بين أيدينا لا تصلح في دراسة تطور الألفاظ ومدلولاتها، ومثل هذا العمل ينبغي أن يعتمد على النصوص وعلى الاستعمال، وهو مطلب غير يسير.
وثانيهما: أن الباحثين الذين يتصلون بالدرس اللغوي الحديث ومناهجه يطبقون على بحث الأسلوب طريقة الإحصاء تطبيقا شاملا بحيث ينتهي العمل العلمي دون أن تجد لهذا الجهد نفعا فيما تحتاجه النصوص من تفسير.
والملاحظة الثانية: أن الدراسات القديمة كانت تتميز بوجود «البلاغة» في أشكالها القديمة، وأن هذه البلاغة فقدت مكانها في الدرس الحديث، فهل يؤدي «علم الأسلوب» إلى نشأة ما يمكن أن نسميه «البلاغة الجديدة»؟ وهل يؤدي ذلك كله ما يمكن أن نطلق عليه «النقد الشامل»؟
2- المقولات: وتتحدد مقولات الأسلوبية في ثلاثة عناصر: الاختيار-التركيب-الانزياح
أ-الاختيار : إن لغة النص الأدبي هي لغة مميزة، وهذا التميز يبين لنا أن الكاتب أو الشاعر قد اختار من المعجم اللغوي الضخم مجموعة من الكلمات حتى يستطيع تكوين رسالته وإحداث الأثر المرجو منها وبالتالي التواصل مع المتلقي، فلغة النص الإبداعي الأدبي هي لغة مختارة بعناية ودقة، ولهذا أجمع الباحثون على أن الكتابة أو النظم قوامها اختيار المعجم الخاص لإحداث الأثر الفني، ومن ذلك ما قاله جوزيف شريم:"إن الكتابة إجمالا والكتابة الشعرية خاصة هي نوع من =الاختيار=، يقوم به الشاعر على مستوى كل بيت من أبيات قصيدته" ، وأثبت تشومسكي ذلك بقوله:"الجُمل تولد عن طريق سلسلة من الاختيارات للكلمات داخل الجملة" ، وهو صاحب النحو التوليدي (أو التحويلي)، والذي يسمح بتوليد جملة من البدائل الأسلوبية والكلمات حتى تمكن الكاتب أو الشاعر من فرصة إيجاد خيارات واسعة في استعمال اللغة، وهذا أيضا ما كرره رجاء عيد بقوله:"كانت قناعة البنيويين أن المتكلم ينتقي خطابه على حسب اختياره من تلك الطاقة المختزنة في الذاكرة:اللغة، وفيها يكون انتقاءه لما يناسبه، وعليه فالأسلوب هو دراسة تلك الاختلافات، وتحليل أنماط التباينات"
أول واجب على البليغ أن يكون واضحا مفهوما يرمي إلى إفادة قرائه ورفع مستواهم الثقافي، ولا يستطيع ذلك بالوقوف عند تزويدهم بالمعارف جافة ثقيلة، بل يحسن به أن يكسب معارفه حياة وروعة شائقة بما يبث فيها من عواطف وأخيلة ملائمة كما قيل من قبل. والمصدر الأول للوضوح هو عقل الأديب، فيجب على الكاتب أن يكون فاهما ما يريد أداءه فهما دقيقا جليا، ثم يحرص على أدائه كما هو، ولذلك أثره البعيد في قيمة الأسلوب؛ لذلك كان الوضوح صفة عقلية قبل كل شيء. وبعد ذلك يأت التعبير اللغوي الذي يتطلب من المنشئ ثروة لغوية وقدرة على التصرف في التراكيب والعبارات لتلائم أفكاره وطريقة تفكيره، فلا يرضى عن كلمة أو جملة تعبث الإبهام أو الاشتراك، ولا يشعر الناس بأن عبارته في حاجة إلى أن تفهم.
ولن يجوز في فن البلاغة هذا القانون الذي ارتجله أبو تمام حين قال: ولم لا يفهم ما يقال؟ جوابا لمن قال له: لم لا تقول ما يفهم؟ لأن البلاغة قائمة على العنابة بالقراء والسامعين، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، فإذا بدا الأسلوب بعد ذلك غامضا توجه الطعن إلى منشئته، ورمي إما بعدم فهمه ما يقول وإما بعجزه عن التعبير عما يفهم.
نعم قد تكون الفكرة في ذاتها غامضة لأنها لم يتم بحثها، فعليه عرضها كما هي بأحدث أوضاعها كما ترى ذلك في تاريخ العلوم والفلسفة، وقد يكون القراء أنفسهم دون مستوى الأديب أو من طراز آخر غير ما يكتب فيه، فعليه -ليكون البليغ التام- أن يكتب لهم باللغة التي يفهمونها تاركا التحرج أو الاعتزال. وهاتان الخطوتان اللازمتان لتحقيق الوضوح الأسلوبي تستلزمان أمرين
أحدهما متصل بالأفكار نفسها هو الدقة والثاني متصل بالقارئ وهو الجلاءة)ة
أحمد الشايب الأسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص186
أولا: الدقة أو وضوح الفكرة
(فيجب أن تؤدى كما هي ممتازة من سواها، ظاهرة الخواص والمعالم سواء أكانت قريبة سهلة كقول الطغرائي:
ومن يستعين بالصبر نال مراده ... ولو بعد حين إنه خير مسعد
وقول بعضهم: "عظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك" أم كانت لطيفة دقيقة مخترعة تلفت النظر وتحتاج إلى أناة كقول أبي تمام:
وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه )
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص 187
القوانين التي تساعد في تحقيق الدقة وتحديد الأفكار.
1- (اختيار الكلمات المعنية غير المشتركة بين معان، والتي تدل على الفكرة كاملة: وذلك يدعو إلى ملاحظة هذه الفروق الدقيقة بين ما تسمى المترادفات حتى لا يصير المعنى ذاهب المعالم. من ذلك، العاطفة والانفعال، والسقم والمرض والهضبة والجبل، والسهو والغفلة، وقد وقع جرير فيما يسمى الاشتراك حتى ذهب الناس كل مذهب فيما يعني، وذلك في قوله:
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل )
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص 188
2- (يحسن بالأديب الاستعانة بالعناصر الشارحة، أو المقيدة، أو المخيلة، كالنعت، والمضاف إليه، والحال، والتمييز، والاستثناء. فذلك من عوامل إيضاح المعاني وتحديدها، كقولك: شوقي شاعرا أحسن منه ناثرا، وليلة نابغية، ونهر النيل من أطول أنهار الدنيا، وقول ابن الرومي:
كأن مواهبه في المحو ... ل آراؤه عند ضيق الحيل )
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص 188
3- ومما يساعد وضوح الفكرة استعمال الكلمات المتقابلة المتضادة المعاني؛ إذ كانت مقابلة الأضداد مما يزيد في كل بيان خواصه، وشرط ذلك عدم الغلو فيه، وإلا عاد صنعه بديعية تفسد الأسلوب كقولك: طول النهار من قصر الليل، لا نقض ولا إبرام، والورد والصدر، العقل في الحياة كدفة السفينة، والعاطفة شراعها، وكقول البحتري
متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا ترقب إلا خمول نبيه
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص 189
4- البعد عن الغريب الوحشي، والعمد إلى لغة الناس وما يستطيعون إدراكه، وذلك يختلف باختلاف العصور وطبقات الناس. فلكل ألفاظ ومستوى أليق به.
وعكس ذلك حيلولة بين المعنى والقراء أو السامعين. ولكل مقام مقال، ومن ذلك ما قاله رجل من أهل خراسان للخليفة المهدي1: "أطال الله بقاء أمير المؤمنين، إنا قوم نأينا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن الخطب، وأمير المؤمنين يعلم طاعتنا وما فيه مصلحتنا، فيكتفي منا باليسير عن الكثير، ويقتصر على ما في الضمير دون التفسير" وقال الشاعر
حلال لليلى أن تروع فؤاده ... بهجر ومغفور لليلى ذنوبها
تطلع من نفسي لليلى نوازع ... عوارف أن اليأس منها نصيبها
وزالت زوال الشمس عن مستقرها ... فمن مخبري في أي أرض غروبها؟
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص 189
5- (ثم المصطلحات العلمية، والفنية، والاجتماعية، والتاريخية التي وضعت لمعان خاص محدودة، لتكون بين الكتاب والقراء، علامات واضحة وروابط عقلية مشتركة، وقد ذكرنا ذلك في الكلام على أسلوب التاريخ
والذي يخشى هو أن ينهمك البليغ في تحري الدقة فيعود الأسلوب بذلك جافا أشبه بالصكوك التجارية أو القانونية، خاليا من الروح الفنية تقرؤه محكما دقيقا ولكنك تشعر بعقمه وملاله. وهذا ما لحظه ابن قتيبه1 على قول لبيد بن ربيعة
ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح
فقال: "هو جيد المعنى والسبك وإن كان قليل الماء والرونق"، وعندي أن ذلك راجع إلى أن البيت قد استأثر به العقل دون العاطفة فذهبت روعته، وضاع جماله الأسلوبي )
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص 190
ب-التركيب
إن تركيب النص الإبداعي خاصة حين ثورته على النمط النحوي المعتاد الذي يحترم قانون النحو، وتكوينه لتركيب جديد غير مألوف لدى المتلقي هو الذي يبعث الدهشة والتوتر، ومن هنا كانت الأسلوبية متتبعة له محاولة طرح السؤال "لماذا؟"، والإجابة عن هذا السؤال والتوصل إلى فهم التركيب الطارئ لهو بحق السبيل إلى فهم العمل الأدبي والوقوف على فنيته وإبداعيته، فـ:جون كوهين يرى بأنه:"لا يتحقق الشعر إلا بقدر تأمل اللغة وإعادة خلقها مع كل خطوة. وهذا يفترض تكسير الهياكل الثابتة للغة وقواعد النحو" ، لأن:"لكل أديب طريقة خاصة في استخدام الكلمة وتركيب الجملة من حيث النحو البلاغي...يجب أن ندرك أن التركيب=التشكيل=اللغوي هو المادة الحقيقية المشكلة لفن الأدب، لهذا ينبغي بذل جهد كبير في التعرف على كيفية استخدام الأديب للغة" ، خاصة إذا علمنا أن واحدا من الشعراء الكبار وهو ملارميه:"عرَّف نفسه بالعبارة العجيبة=أنا مركِّب=" ، وقد اعتنى قدماء علماء العرب بفكرة أهمية التركيب فهذا عبد القاهر الجرجاني يقول:"الكلام لا يستقيم ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد إلا بمراعاة أحكام النحو فيه من الإعراب والترتيب الخاص" ، الأمر الذي دفع بـ:مصطفى ناصف إلى التصريح بأنه( عبد القاهر):"حرّض الباحثين على أن يعيدوا قراءة الشعر العربي في ضوء فكرة تنظيم الكلمات" . ولا سبيل إذن من أجل الوقوف على أدبية الأدب إلا النظر في كيفية تشكيله وهندسته
(بعد أن يتوافر للكاتب دقة الفكرة ووضوحها، تكون خطوته الثانية مطابقة الأسلوب لإدراك القارئ، وهي تبدو في صور شتى من الرقة والجزالة أو السهولة والصعوبة حسب المعاني التي تؤديها العبارات. على أنه لو كانت الأفكار عويصة وجب على البليغ أن يحقق من السهولة أبعد درجاتها، ويكسب تراكيبه صفة الشفافية، لتكون كالزجاج الأبيض الصافي، يحفظ الرسم، وينم عنه كما هو أو كأنه لا زجاج يحميه.
والقانون الأساسي لتحقيق هذا الجلاء هو تحري البساطة في صوغ العبارات ومجانبة التعقيد، مع الاحتفاظ بسموها وقوتها. وهذا القانون نفسه متصل بالتكوين المنطقي والنحوي للأسلوب؛ هذا التكوين الذي يسلك الكلمات والجمل والعبارات في نظام لفظي هو صورة لنظام عقلي، وتفكير منطقي مطرد وهذه بعض القواعد التي تفيد في تكوين التراكيب الواضحة.
1- لا بد للبليغ من ذوق نحوي شديد، يحسن التألف بين الكلمات لتدل على معنى دقيق معين، وتسلم من هذين العدوين اللذين يفسدان الكلام؛ اللبس حينما يدل التركيب على معنيين ممكنين أو أكثر كقول المتنبي:
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب
فقد يكون معناه -بناء على عود ضمير نعمائه على من الثانية- أن أشد الظالمين ظلما من تقلب في نعمة إنسان ثم بات يحسده عليها، وقد يكون المعنى -بناء على عودة ضمير نعمائه على من الأولى- أن أشد الناس ظلما من أولى إنسانا نعمة ثم حسده على تمتعه بها، فهو الواهب وهو الحاسد، والمعروف أن الشاعر لم يرد إلا معنى واحدا ولكنه يحترس من الثاني. ثم الغموض حينما لا يدل التركيب على معنى معين دلالة قاطعة كبيت جرير السابق عند النقاد السابقين.
ومن خير العبارات التي لوحظ فيها هذا التكوين النحوي السديد ما كتبه أخ إلى أخيه: "ابتدأتني بلطف من غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء من غير هفوة، فأطعمني أولك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء كشف إيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشك في حالك فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على خلاف" وهذا المثال ينفعنا فيما يلي
1. الوثوق من أن العناصر التركيبية التي يرتبط بعضها ببعض في المعنى -كأصل وتابع أو معنى وضده- قد ركبت بنظام دقيق، وتأليف منسق بحيث لا يتعب القارئ في تبين هذه الصلات بين الأجزاء، فينصرف عن المعنى ويجهد عقله في غير نفع، فإذا رجعت إلى المثال السابق وقرأت الجملة الأولى وحدها رأيت الكاتب بعد ما ذكر الفعل والفاعل والمفعول، يقيد ذلك بقوله:بلطف، ثم بقوله: من غير خبرة؛ لأن القيدين لا زمان لإتمام المعنى الأول، ثم يقابل ذلك في الجملة الثانية بتأليف هو كالأول تماما، ويسير بهذا النظام والتقسيم حتى ينتهي إلى غايته، فنجا من التعقيد
2. بعد ذلك تأتي مراعاة الجمل معا وما يكون بينها من فصل أو وصل، وما يربطها من حروف العلة، أو الحال، أو الاستثناء، بحيث لا يترك فواصل دون داع، ولا يغفل حرف وصل حيث يجب ذكره، ولا توجد فكرة دون التمهيد لها.
وهنا يتراءى الوضوح التام للأسلوب جملة، وإذ تجده سلسلة لفظية لسلسلة معنوية وتكون الأولى موسيقى عقلية هادئة عميقة كمثال النثر السابق، وكقول الشريف الرضي
ولقد وقفت على ربوعها ... وطلولها بيد البلى نهب
بكيت حتى ضج من لغب ... نضوى، ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمد خفيت ... عني الطلول تلفت القلب
فانظر إلى واو الحال أول الشطر الثاني، والفاء صدر البيت الثاني، وحتى التي تفيد الغاية، ثم قوله: فمذ وجملة تلفت القلب. وتلك الروابط عنصر هام في اللغة إذ فقدتها عادت الأفكار والتراكيب مفككة بغير نظام
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص 192
ج-الانزياح
يشرح لنا انكفست الانزياح (أو الانحراف) بقوله:" سنستعمل مصطلح انحراف لنقصد به الخلاف بين النص والمعيار النحوي العام للغة، ولهذا فالانحراف يعني عدم النحوية وعدم القبول" ، ويحدد بول فاليري الأسلوب بأنه انحراف عن قاعدة أو معيار ما، أي انحراف عن قانون النحو، وبيّن مصطفى ناصف أن:"الاستعارة انحراف عن الأسلوب الواضح الدقيق" . فالانحراف إذن هو الخروج عن المألوف المعتاد في الكلام العادي بين الأفراد في المجتمع، والاتجاه نحو صيغة كلامية تبعث الإيحاء وتحث على التأويل، وبالتالي خلق التوتر والاستغراق في حالة التأثر ومحاولة الشرح، أو كما يسميه بعض الباحثين بـ:"مواطن الخروج على المستوى العام الذي عليه الاستعمال العادي للغة"
ولإضاءة مفهومه للانحراف عن السياق يورد ريفاتير مصطلحين هامين وهما: الارتداد والتناص، ويعني بالأول تلك الوقائع الأسلوبية التي سبق للقارئ اكتشاف قيمها ثم لا تلبث أن تعدّل معانيها بأخرى بناء على ما يكتشفه القارئ وهو ماض في قراءته، كما يعني بالتناص ذلك الأثر الذي ينشأ عن تراكم عدد من المسالك الأسلوبية لتحدث قوة تعبيرية لافتة، والتي يعدها مثالا للوعي البالغ باستعمال اللغة
وهنا يطرح برنرد شبلنرن بعض الأسئلة الوجيهة مثل: على أي مستوى لغوي ينبغي أن تكون الانحرافات ممكنة؟ كيف يتحدد مستوى المعيار الذي ينحرف عنه النص؟ أي: عن أي شيء بدقة ينحرف النص؟
لا بد أنها أسئلة مهمة خاصة إذا أدرجنا الفعل التواصلي بين الأديب والمتلقي، فالأديب يهدف من رسالته إلى ملاقاة القارئ وإشراكه معه في الشرح والتحليل، فماذا يحدث إذا تعمق الانزياح كثيرا وأدى إلى غموض الرسالة؟، وهذا ممكن لأن القارئ قد لا يكون قادرا على فك الشفرة والإمساك بالدلالة، وهذا الإشكال يطرحه أحد الباحثين بقوله أن:"الانزياح يؤدي إلى غموض الرسالة، وإضعاف بنيتها، وهذا يعني أنه كلما عمد الشاعر إلى تعميق الانزياح ازداد انفصاله عن الجمهور" ، وقد حدث مثل هذا من قبل فـ:"الشاعر الانجليزي=كيتس= يوم كتب إلى أخيه رسالة في 18 شباط 1819، لام السذج الذين يأخذون الكلمة بمعناها الحرفي دون بعد في خلفياتها" ، ولعل هذا ما يسميه أتباع فيتغنشتاين:"التشنجات العقلية التي تنشأ عن المتاهات التي تخلقها اللغة" ، فالإنزياحات العميقة تخلق متاهات للعقل، وتجعله يسير في دوامة حلزونية لا متناهية تعيق فهمه للنص الأدبي.
إن:"الانزياح هو وسيلة الشاعر إلى خلق لغة شعرية داخل لغة النثر، ووظيفة خلق الإيحاء" ، لكن يبقى السؤال جوهريا: إلى أي حد يمكن أن يستمر الانزياح؟، وهل وظيفة خلق الإيحاء مبرر كاف لمراوغة القارئ والابتعاد عن شريحة كبيرة من القراء، ما دام أن هدف الأدب حسب البعض هو تبليغ الرسالة وبناء فعل التواصل؟ إنه سؤال نضعه هنا على أمل الإجابة عليه في المستقبل.
وتتخذ الأسلوبية من الخطاب الأدبي عامة مادة وغاية لها. يقول الباحث اللبناني بسّام بركة: "إن الأسلوبية تحليل لخطاب من نوع خاص، فهي وإن كانت تعتمد على قاعدة نظرية (لسانية أو سيميائية أو براغماتية)، فإنها أولا وأخيرا تطبيق يمارس على مادة هي الخطاب الأدبي" . وهي لا تقف عند حدود سطح النسج الأدبي، بل إنها" لا تلبث بعد ذلك أن تختلط بالنص ذاته عبر عمليات التفسير وشرح الوظيفة الجمالية للأسلوب لتجاوز السطح اللغوي ومحاولة تعمق دينامية الكتابة الإبداعية في تولدها من جانب وقيامها بوظائفها الجمالية من جانب آخر" .
ويراد بالناحية السلبية أن تكون العبارة خالية من أساس الاضطراب الصوتي والخشونة القاسية التي لا تنم عن عاطفة أو خيال، وبذلك تجد الكلمات مطردة، متناسقة الحروف والكلمات، تقرؤها جهرة فتحس بالصوت متناسب الأنغام صافيا، ومما يعين في ذلك ما يلي:
1- قدرة الكاتب -بذوقه المصفى- على إبعاد الكلمات المتنافرة الحروف أو العبارات المتنافرة الكلمات والجمل مهما يكن سبب التنافر1 وذلك نجده في قول البحتري:
حلفت لها بالله يوم التفرق ... وبالوجد من قلبي بها المتعلق
والأصل من قلبي المتعلق بها، فلما فصل بين الموصف -قلبي- والصفة "المتعلق" بالضمير "بها" قبح ذلك ونجد تتابع الإفاضات أفسد أسلوب البيت الثاني من قول كشاجم:
والزهر والقطر في رباها ... ما بين نظم وبين نثر
حدائق كف كل ريح ... حل بها كل قطر
وهذه الميمات التي اعتصمت بأوائل الكلمات، في البيت الآتي، جعلته ثقيل النغم ملكت مطال مولود مفدى ... مليح مانع مني مرادي
وفي النثر ما ورد لرجل يمدح كريما
"يا مغبوق كأس الحمد يا مصبوح، ضاق عن نداك اللوح، وببابك المفتوح تستريح، وتريح ذا التبريح، وترفه الطليح"
ومما ذكر مثالا للكلمات المتناسقة والعبارات المتناسبة السلسلة ما ورد لامرأة في أخيها عمرو
فأقسم يا عمرو لو نبهاك ... إذا نبها منك داء عضالا
إذا نبها ليث عريسة ... مغيثا مفيدا نفوسا ومالا
2- سرعة الأذن في إدراك الرتابة الصوتية التي تبدو في ترديد نغمة بعينها في النص الأدبي حيث تبعث الملل، وخير منه التنويع الذي يحتفظ فيه بمستوى الموسيقى لتلائم الموضوع
وكثيرا ما يقع الكتاب والشعراء والخطباء في هذا الخطأ وهو نوع من المماطلة اللفظية وقع فيه الشاعر حيث قال
دان بعيد محب مبغض نهج ... أغر حلو ممر لين شرس
3- وبعد ذلك لا بد من ملاحظة النغمة العامة للأسلوب، والتيار الصوتي الذي يجب أن يطرد في غير قوة ولا ملل، وذلك متوقف على براءة العبارة من الكلمات الطويلة الكثيرة، وترديد الجمل المتشابهة والعبارات العادية إلى مدى بعيد. )
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء:1 ص201
الناحية الإيجابية
(على أن ما سبق كان عملا سلبيا يراد به إعداد الأسلوب لقبول العنصر الإيجابي للجمال، وهو ما يمكن تسميته بالتناسب، أو مطابقة اللفظ للمعنى، وقد رأيت فيما مضى أمثلة هذا القانون وبواعثه، حين اختلفت العبارات باختلاف الموضوعات والفنون، ومع ذلك فنذكر هنا شيئا من مظاهر هذا التناسب
1- الملاءمة الطبيعية بين الألفاظ والمعاني حتى تكون الأولى حكاية للثانية فتمثل حركاتها، وأصواتها، وروعتها إذا كانت مشاهد طبيعية، وتصور الحماسة قوية صارمة، والنسيب عذبا رقيقا، والعتاب سهلا لطيفا كما مر
2- وذلك يستلزم استيحاء الكاتب شعوره الصادق، وخياله اليقظ ليمدا الذوق بالمقياس السديد الذي يستخدمه في تكوين العبارات الملائمة
3- وثمرة ذلك الظفر بهذه الهندسة الجميلة في صوغ وتأليف العبارات المتواصلة التي تكون صورة مطابقة لهذا النموذج المعنوي القائم بنفس الأديب، وهنا يعرض عليك الأسلوب جميع الخواص الفنية لشعور الكاتب وذوقه وخياله وقد مرت أمثلة لذلك )
أحمد الشايب الاسلوب مكتبة النهضة المصرية الطبعة:2003 عدد الأجزاء: 1 ص 207
الأسلوب الصوتي
المستويات
تتحدد مستويات التحليل الأسلوبي من خلال التعريف الذي وضعه دي سوسير للكلام:"الكلام تطبيق أو استعمال للوسائل والأدوات الصوتية، والتركيبية والمعجمية، التي يوفرها اللسان" فيما يلي:
أ- الصوت (أو الإيقاع): يرى أحد الباحثين أن الإيقاع:"هو تنظيم لأصوات اللغة بحيث تتوالى في نمط زمني محدد، ولا شك أن هذا التنظيم يشمل في إطاره خصائص هذه الأصوات كافة...فإن الصوائت التي هي أطول الأصوات في اللغة العربية، هي أكثرها جهرا وأقواها إسماعا، وأما التنغيم فهو نتاج توالي نغمات الأصوات الناتجة عن درجاتها" ، كما أن النبر هو:"ارتفاع في علو الصوت ينتج عن شدة ضغط الهواء المندفع من الرئتين، يطبع المقطع الذي يحمله ببروز أكثر وضوحا عن غيره من المقاطع المحيطة" .
ويعطي رجاء عيد لعلم الصوتيات أهمية بالغة في دراسة الأسلوب حيث يرى أن:" ...هناك بعض أنواع من الأدب لها إمكانية صوتية قوية، فالدراما والشعر يكتبان بكلمات مسموعة، والسمات اللغوية الخاصة التي تعرضها لا يمكن توضيحها إلا بألفاظ صوتية مصقولة، ولا بد أن يكون هذا اللفظ الصوتي قادرا على إلقاء الضوء على مثل هذه المظاهر كالجناس والسجع والقافية، واستخدام الكلمات التي تدل ألفاظها على معانيها والوزن والإيقاعات النغمية ومعرفة الطريقة التي تتباين فيها الحروف اللينة، وتتجمع الحروف الساكنة طبقا للموقع التي ترد فيه وكيفية النطق بها، فالحروف الساكنة تتجمع، والأماكن تتبدل في الوحدات الصوتية في تركيب المقاطع المتتالية، وكلها تمتزج وتتطابق لكي تعطي التأثير الشامل في النهاية" .
وعليه فما على الباحث الأسلوبي إلا دراسة الوزن والنبر والتنغيم والوقوف للإحاطة بما يحمله المقطع الشعري من مشاعر وعواطف وأحاسيس الشاعر والتي تتجسد في إيقاع الحرف والكلمة والعبارة، بالإضافة إلى البحر والقافية.
ب-التركيب: وهو عنصر مهم في بحث الخصائص الأسلوبية كدراسة طول الجملة وقصرها وعناصرها مثل المبتدأ والخبر، الفعل والفاعل، الصفة والموصوف وكذا ترتيبها، ودراسة الروابط مثل الواو، والفاء، وما، والتقديم والتأخير، والتذكير والتأنيث والتصريف، وبحث البنية العميقة للتركيب باستخدام النحو التوليدي لـ: تشومسكي في رصد الطاقة الكامنة في اللغة، ومعرفة التحويلات أو الصياغات الجديدة التي تتولد، والتي تعد أساسا من الأسس التي تكوِّن الأسلوب .
ج- الدلالة: يهتم علم الدلالة بـ:" الجانب المعجمي، وما تدل عليه الكلمات، مع تتبع لمستجدات المعنى الذي يلحق بتلك الدلالات، أو ما يدفع – بسبب التطور- إلى أن يتبدل ما تشير إليه تلك الكلمات أو سواها. ومن الممكن متابعة "الدلالة" من خلال النظام اللغوي الذي يتميز بخصائصه النحوية والصرفية، والتي تشكل لهذا النظام بنيته الخاصة به...وهذه البنية تتشكل منها ما يعرف بالحقول الدلالية، والتي تضم مجموعات تشكل مفهوما مشتركا، أو دلالة تدخل في نطاق واحد" .
وعليه فإن الباحث في الدلالة عليه أن يبحث في تلك العلاقة التي تربط الدال بمدلوله في النص من خلال السياق، وبالتالي فهم وتحديد الدلالة السياقية إن كانت دلالة مباشرة أو تحمل دلالات إيحائية أو تأويلية أخرى الحقل الدلالي
ومما يتصل بذلك الإطناب، والمساواة والإيجاز، ولسنا نريد هنا فرض أحد هذه الأوصاف على العبارة؛ لأن كل صفة منها تكون أوفى بالغرض في مقام دون سواها فالشعر تكفي فيه الكلمة الموجزة، واللمحة الخاطفة أحيانا؛ لأن طبيعته الإيجاز والرمز، والأسلوب العلمي تلائمه المساواة، وكل من الإيجاز والتطويل ضار فيه؛ إذ كان مقدمات ونتائج دقيقة محدودة، ويكون الإطناب أحيانا في الخطب والمقالات السياسية، والاجتماعي، ولعل أسلوب الصحافة الآن أميل إلى ذلك) ( أحمد الشايب الاسلوب 2003 ص 193)
فابن طباطبا ربط مفهوم الأسلوب بصفة مناسبة الكلام بعضه لبعض، باعتبار أن الأسلوب داخل النص الشعري يتحقق إذا كملت له المعاني، وانسجمت الأبيات ووفق بينها بأبيات تكون نظاماً لها وسلكاً لما تشتت منها، أما الجرجاني فقد أخضع الكلام لعلم النحو، حتى يحقق صفة النظم لأن النظم هو أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، بينما نجد أن ابن خلدون جعل الأسلوب صورة ذهنية مهمتها مطابقة التراكيب المنتظمة على التركيب الخاص، لأن الصناعة الشعرية التي هي بمعنى الأسلوب ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. لكن رغم هذا التباين في الأطروحات التي تبناها كل علم في مقاربته لمفهوم الأسلوب فإننا نجد أنهم قد أجمعوا على أن الأسلوب توفيق بين أطراف الكلام، سواء أكان ذلك بالملاءمة في الأسلوب أم بتوخي معاني النحو
قد اختلف الادباء في المعنى واللفظ اللذان هما عنصران من عناصر الاسلوب
اختلف النقاد في موقفهم من الأدب وخصوصا ما تعلق بالمعنى واللفظ يرى الجاحظ أن المعاني كثيرة متشعبة ولكنها مستورة في الصدور وإنما الفضل في اللفظ عليها باللفظ الحسن أما أفضل واشعر عند ابن قتيبة فهو ما حسن لفظه وجاد معناه
وابن رشيق القيرواني يميل إلى إن تكون معاني الشاعر كثيرة جديدة مبتكرة والا لما كان له فضل ولما جاز إن نسميه شاعرا
اما ضياء الدين بن اثير فكان من انصار المعاني الجديدة ولكن إن تاتي في صور شعرية أو في صور بيانية بارعة من تشابه واستعارات وكنايات
اما عبد الحمان بن خلدون
فيخالف ابن رشيق وبن اثير معا ال قليلا انه يؤثر الاسلوب على المعاني اذ يرى للعرب اساليب يتهجونها في التعبير عن مقاصدهم فعلى الشاعر إن لايحيد عن هذه الاساليب ثم اننه يكره المعاني المزدحمة لان ازدحامها يؤدي إلى تعقيدها وغموضها وقال بن خلدون في المقدمة وانم المختار من الشعر ما كانت الفاظه طبقا على معانيه أو اوفى اكثر من معانيه فان المعاني اذا كانت كثيرة كانت حشوا فاشتغل الذهن بالغموض عليها للاتيان بها فضاع على الذوق فرصة ايفاء حق الشعر من البلاغة)
فروج عمر تاريخ الأدب العربي دار الملايين للعلم ج1 ب ت ص 43
ص371
مآخذ العلماء على الشعراء الجاهليين
أولا- الشعراء الجاهليون
1- امرؤ القيس بن حجر الكندى [1]
حدثنى عبد الله بن يحيى العسكرى، عن أحمد بن أبى خيثمة، عن أبى الحسن على بن محمد المدائنى، قال: قال أبو عمرو بن العلاء: قال رؤبة: ما رأيت أفخر من قول امرىء القيس «1» :
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفانى ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالى
ولا أنذل من قوله «2» :
لنا غنم نسوّقها غزار «3» ... كأنّ قرون جلّتها العصىّ
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا «4» ... وحسبك من غنى شبع ورىّ
وقال أحمد بن عبيد الله بن عمّار: قد وقفنا على ما أتاه الشعراء القدماء من الزلل والخطأ فى قصيد أشعارهم وأراجيزها، قديمها وحديثها، وإحالتهم فى نسج بعضها، وما أتوا به من الكلام المذموم؛ فأوّلهم امرؤ القيس- مع جلالة شأنه، وعظيم خطره، وبعد همته- يقول مفتخرا بملكه واصفا لما يحاوله:
فلو أننى «5» أسعى لأدنى معيشة ... كفانى ولم أدأب قليل من المال
والبيت الذى يليه، ثم قال- بعد هذا القول المرضىّ فى هذا المعنى البهىّ- قول أعرابى متلفّع فى شملته، لا تجاوز همته ما حوته خيمته:
إذا ما لم تكن إبل فمعزى » ... كأنّ قرون جلّتها العصىّ
والبيت الذى بعده.
وقال: ولقد هجا الحطيئة الزّبرقان بن بدر بدون هذا حيث يقول «7» :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى
فاستعدى الزبرقان عمر بن الخطاب رحمهما الله تعالى على الحطيئة فحبسه حتى تاب وأناب.
أخبرنى محمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن يزيد النّحوى، قال حدثنا المازنى، قال: سمعت الأصمعىّ يقول: كان امرؤ القيس ينوح على أبيه حيث يقول «8» :
رب رام من بنى ثعل ... مخرج زنديه من ستره «9»
ثم قال: أما علم أن الصائد أشدّ ختلا من أن يظهر شيئا منه.
ثم قال: فكفّيه إن كان لا بدّ أصلح. قال: فهو أصلحه «كفّيه» .
كتب إلىّ أحمد بن عبد العزيز الجوهرى، أخبرنا عمر بن شبّة، قال «10» :
تنازع امرؤ القيس بن حجر وعلقمة بن عبدة، وهو علقمة الفحل، فى الشعر: أيهما
أشعر؟ فقال كلّ واحد منهما: أنا أشعر منك. فقال علقمة: قد رضيت بامرأتك أمّ جندب حكما بينى وبينك. فحكّماها؛ فقالت أم جندب لهما: قولا شعرا تصفان فيه فرسيكما على قافية واحدة وروىّ واحد. فقال امرؤ القيس :
خليلىّ مرّا بى على أمّ جندب ... نقضّ لبانات «12» الفؤاد المعذّب
وقال علقمة :
ذهبت من الهجران فى غير مذهب ... ولم يك حقّا طول هذا التجنّب
فأنشداها جميعا القصيدتين، فقال لامرئ القيس: علقمة أشعر منك. قال:
وكيف؟ قالت: لأنك قلت :
فللسّوط ألهوب وللساق درّة ... وللزّجر منه وقع أخرج مهذب «16»
الأخرج: ذكر النعام، والخرج: بياض فى سواد وبه سمّى. فجهدت فرسك بسوطك فى زجرك، ومريته «17» فأتبعته بساقك. وقال علقمة :
فأدركهنّ ثانيا من عنانه ... يمرّ كمرّ الرّائح المتحلّب «19»
ص 24
فأدرك فرسه «20» ثانيا من عنانه، لم يضربه ولم يتعبه.
فقال: ما هو بأشعر منى، ولكنك له عاشقة. فسمى الفحل لذلك
وروى محمد بن العباس اليزيدى، عن عمه إسماعيل بن أبى محمد اليزيدى، عن أبى عمرو الشيبانى- أنّ امرأ القيس بن حجر تزوّج امرأة من طيئ وكان مفرّكا «22» . فلما كان ليلة ابتنى بها أبغضته، فجعلت تقول: «أصبح ليل يا خير الفتيان أصبحت أصبحت
فينظر فيرى الليل كهيئته. فلم يزل «23» كذلك حتى أصبح. فزعموا أنّ علقمة بن عبدة التميمى، ثم أحد بنى ربيعة بن مالك، نزل به- وكان من فحول شعراء الجاهلية، وكان صديقا له- فقال أحدهما لصاحبه: أيّنا أشعر؟ فقال هذا: أنا. وقال هذا: أنا.
فتلاحيا، حتى قال امرؤ القيس: انعت ناقتك وفرسك وأنعت ناقتى وفرسى. قال:
فافعل، والحكم بينى وبينك هذه المرأة من ورائك- يعنى امرأة امرىء القيس الطائية- فقال امرؤ القيس:
خليلىّ مرّا بى على أمّ جندب
حتى فرغ منها.
وقال علقمة:
ذهبت من الهجران فى غير مذهب
فلما فرغا من قصيدتيهما عرضاهما على الطائية امرأة امرئ القيس، فقالت: فرس ابن عبدة أجود من فرسك. قال لها: وكيف؟ قالت: إنك زجرت، وحرّكت ساقيك، وضربت بسوطك- تعنى قوله فى قصيدته حيث وصف فرسه:
فللزّجر ألهوب وللساق درّة ... وللسوط منه وقع أخرج مهذب)(أبو عبيد الله بن محمد بن عمران بن موسى المرزباني، ص25)
ألهوب: يعنى ألهب جريه حين زجره. وللساق درّة: أى إذا غمز درّ بالجرى.
والأخرج: الظليم، وهو ذكر النعام، والأنثى خرجاء، فى حال لونه : وهو سواد وبياض لون الرماد. والأخرج: الرماد. ومهذب: أى مسرع فى عدوه. قالت: وإن علقمة جاهر الصّيد، فقال:
إذا ما اقتنصنا لم نقده بجنّة ... ولكن ننادى من بعيد ألا اركب
فغضب عليها امرؤ القيس، وقال: إنك لتبغضيننى. فطلّقها.
وحدثنى إبراهيم بن محمد العطار، عن الحسن بن عليل العنزى، قال: حدثنا أبو عدنان السّلمى، قال: أخبرنى أبو يوسف الجنّى الأسدىّ، راوية المفضل عن المفضل، أنّ أبا الغول النهشلى حدّثه، عن أبى الغول الأكبر، قال: لما نزل امرؤ القيس فى طيىء تزوّج امرأة منهم يقال لها أمّ جندب، وكان مفرّكا تبغضه النساء إذا وقع عليهن، فأتى أمّ جندب من الليل، فقالت له: يا خير الفتيان أصبحت فقم. فقام فإذا الليل كما هو.
فرجع إليها، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: لا شىء. قال: لتخبرنّى.
قالت: كرهتك، لأنك ثقيل الصّدر، خفيف العجز، سريع الهراقة، بطىء الإفاقة.
قال فلم تزل عنده. فأتاه علقمة بن عبدة، فتذاكرا الشعر عندها؛ فقال هذا: أنا أشعر، وقال هذا: أنا أشعر. فقال له علقمة: قل شعرا وانعت الصيد، وهذه الحكم بينى وبينك- يعنى أم جندب، فقال:
خليلىّ مرّا بى على أمّ جندب
فنعت فيها فرسه والصيد حتى فرغ منها. وقال علقمة فى مثل ذلك:
ذهبت من الهجران فى غير مذهب
(أبو عبيد الله بن محمد بن عمران بن موسى المرزباني، ص26)
إلا أن علقمة قال فى نعت الفرس: فأدركهن ثانيا من عنانه ... البيت، وقال امرؤ القيس: فللزّجر ألهوب وللساق درّة ... البيت. فقالت لامرىء القيس: هو أشعر منك. رأيتك ضربت فرسك بسوطك، وحركته بساقك. وزجرته بصوتك ، ورأيته أدرك الصيد ثانيا من عنانه يمرّ كمرّ الرائح المتحلب.
فخلّى سبيلها لما فضلت علقمة عليه.
قال الشيخ أبو عبيد الله المرزبانى رحمه الله: وقد روى هذا الحديث أيضا هشام بن الكلبى على هذه الحكاية. ورواه أيضا عبد الله بن المعتز. وذكره فيما أنكر من شعر امرىء القيس.
أخبرنى محمد بن يحيى الصولى، قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابى ، قال:
حدثنا محمد بن عبيد الله العتبى، قال: تشاجر الوليد بن عبد الملك ومسلمة أخوه فى شعر امرىء القيس والنابغة الذبيانى فى وصف طول الليل أيّهما أجود. فرضيا بالشّعبى، فأحضر، فأنشده الوليد:
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطئ الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذى يرعى «31» النجوم بآيب
وصدر أراح الليل عازب همّه ... تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب «32»
وأنشده مسلمة قول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى
السدول: الستور، ويبتلى: ينظر ما عندى من صبر أو جزع.
فقلت له لما تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
تمطّى: امتد، وصلبه: وسطه، وأردف: أتبع، وأعجازه: مآخيره، وناء:
نهض، والكلكل: الصدر.
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلى ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
أى ما الإصباح بخير لى منك؛ والياء فى انجلى أثبتها فى الجزم على لغة طيىء.
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل
المغار: الحبل المحكم الفتل، ويذبل: اسم جبل.
كأنّ الثّريّا علّقت فى مصامها ... بأمراس كتّان إلى صمّ جندل
فى مصامها : فى مقامها، والأمراس: الحبال، والجندل: الحجارة، والصم: الصّلاب. قال: فضرب الوليد برجله طربا. فقال الشعبى: بانت القضية.
قال الصولى: فأما قول النابغة:
وصدر أراح الليل عازب همّه
فإنه جعل صدره مألفا للهموم، وجعلها كالنّعم العازبة بالنهار عنه، الرائحة مع الليل إليه، كما تريح الرعاة السائمة بالليل إلى أماكنها. وهو أوّل من وصف أنّ الهموم متزايدة بالليل، وتبعه الناس؛ فقال المجنون .
يضمّ إلىّ الليل أطفال حبّكم ... كما ضمّ أزرار القميص البنائق(المرزباني، ص28)
وهذا من المقلوب: أراد كما ضمّ أزرار القميص البنائق؛ ومثل هذا كثير؛ فجعل المجنون ما يأتيه فى ليله مما عزب عنه فى نهاره كالأطفال الناشئة.
وقال ابن الدّمينة يتبع النابغة:
أظلّ نهارى فيكم متعلّلا ... ويجمعنى والهمّ بالليل جامع
فالشعراء على هذا المعنى متفقون، ولم يشذ عنه ويخالفه منهم إلا أحذقهم بالشعر.
والمبتدئ بالإحسان فيه امرؤ القيس؛ فإنه بحذقه، وحسن طبعه، وجودة قريحته، كره أن يقول: إنّ الهم فى حبّه يخفّ عنه فى نهاره، ويزيد فى ليله، فجعل الليل والنهار سواء عليه فى قلقه وهمه، وجزعه وغمه؛ فقال:
ألا أيها الليل الطّويل ألا انجلى ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
فأحسن فى هذا المعنى الذى ذهب إليه، وإن كانت العادة غيره، والصورة لا توجبه؛ فصبّ الله على امرئ القيس بعده شاعرا أراه استحالة معناه فى المعقول، وأنّ الصورة تدفعه، والقياس لا يوجبه، والعادة غير جارية به، حتى لو كان الرادّ عليه من حذّاق المتكلمين ما بلغ فى كثير نثره ما أتى به فى قليل نظمه، وهو أبو نفر الطّرمّاح بن حكيم الطائى؛ فإنه ابتدأ قصيدة، فقال :
ألا أيّها الليل الطويل ألا اصبح ... ببمّ وما الإصباح فيك بأروح
ويروى: «ألا أيّها الليل الذى طال أصبح» . فأتى بلفظ امرئ القيس ومعناه، ثم عطف محتجّا مستدركا، فقال:
بلى إنّ للعينين فى الصّبح راحة ... لطرحهما طرفيهما كلّ مطرح
فأحسن فى قوله وأجمل. وأتى بحقّ لا يدفع، وبين عن الفرق بين ليله ونهاره.
وإنما أجمع الشعراء على ذلك من تضاعف بلائهم بالليل وشدّة كلفهم؛ لقلة المساعد، وفقد المجيب، وتقييد اللّحظ عن أقصى مرامى النظر الذى لا بدّ أن يؤدّى إلى القلب بتأمله سببا يخفّف عنه، أو يغلب عليه؛ فينسى ما سواه.
وأبيات امرئ القيس فى وصف الليل أبيات اشتمل الإحسان عليها، ولاح الحذق فيها، وبان الطبع بها. فما فيها معاب إلّا من جهة واحدة عند أمراء الكلام والحذّاق بنقد الشعر وتمييزه. ولولا خوفى من ظنّ بعضهم أنّى أغفلت ذلك ما ذكرته.
والعيب قوله بعد البيت الذى ذكرته:
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيّها الليل الطويل ...
فلم يشرح قوله: «فقلت له» ما أراد إلّا فى البيت الثانى، فصار مضافا إليه متعلّقا به؛ وهذا عيب عندهم. لأنّ خير الشّعر ما لم يحتج بيت منه إلى بيت آخر. وخير الأبيات ما استغنى بعض أجزائه ببعض إلى وصوله إلى القافية مثل قوله:
الله أنجح ما طلبت به ... والبرّ خير حقيبة الرّحل
ألا ترى أنّ قوله: «الله أنجح ما طلبت به» كلام مستغن بنفسه، وكذلك باقى البيت. على أنّ فى البيت واو عطف عطفت جملة على جملة. وما ليس فيه واو عطف أبلغ فى هذا وأجود. وهو مثل قول النابغة الذبيانى فى اعتذاره إلى النعمان .
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أىّ الرجال المهذّب
فقوله فى أول البيت كلام مستغن بنفسه، وكذلك آخره، حتى لو ابتدأ مبتدىّ فقال: «أىّ الرجال المهذّب» لاعتذار أو غيره لأتى بكلام مستوفى، لا يحتاج إلى سواه.
وقد تبع الناس امرأ القيس، وصدّقوا قوله، وجعلوا نهارهم كليلهم لما أراده امرؤ القيس ولغيره. فقال البحترى فى غضب الفتح عليه:
وألبستنى سخط امرئ بتّ موهنا ... أرى سخطه ليلا مع الليل مظلما
وكأنه من قول أبى عيينة فى التذكّر لوطنه:
طال من ذكره بجرجان ليلى ... ونهارى علىّ كالليل داج
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، قال: حدثنى الأصمعى، قال: طفيل الغنوىّ فى بعض شعره أشعر من امرئ القيس.
قال: ويقال: إن كثيرا من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه قال: وكان عمرو بن قميئة دخل معه الروم إلى قيصر.
وحدثنى بعض أصحابنا عن أحمد بن محمد الأسدى، عن الرّياشى، قال: يقال:
إن كثيرا من شعر امرئ القيس ليس له؛ وإنما هو لفتيان كانوا يكونون معه مثل عمرو بن قميئة وغيره.
وقال أبو الحسن محمد بن أحمد بن طباطبا العلوى: روت الرّواة لامرئ القيس:
كأنى لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبإ الزّقّ الرّوىّ ولم أقل ... لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال
وهما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كلّ واحد منهما فى موضع الآخر كان أشكل وأدخل فى استواء النسج؛ فكان يروى:
كأنى لم أركب جوادا ولم أقل ... لخيلى كرّى كرة بعد إجفال
ولم أسبإ الزّقّ الرّوىّ للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
قال عبد الله بن المعتزّ: عيب على امرئ القيس قوله:
أغرّك منى أنّ حبّك قاتلى ... وأنك مهما تأمرى القلب يفعل
قال: وقالوا: إذا لم يغرّها هذا فأىّ شىء يغرّها؟ قال: وإنما هذا كأسير قال لمن أسره: أغرّك منى أنى فى يديك؟
ونحوه قول جرير :
أغرّك منى أنما قادنى الهوى ... إليك وما عهد لكنّ بدائم
قال: وعابوا على امرئ القيس :
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسدّ به فرجها من دبر
وقالوا: ذيل العروس مجرور، ولا يجب أن يكون ذنب الفرس طويلا مجرورا ولا قصيرا. قالوا: والصواب قوله:
ضليع إذا استدبرته سدّ فرجه بضاف فويق الأرض ليس بأعزل قال: وذكروا أنّ الأصمعى عاب عليه قوله :
وأركب فى الرّوع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر
وقال: إذا غطّت الناصية الوجه لم يكن الفرس كريما. والجيّد الاعتدال، كما قال عبيد:
مضبّر خلقها تضبيرا ... ينشقّ عن وجهها السّبيب
قال: وقال مؤدّبى أبو سعيد محمد بن هبيرة فى قول امرئ القيس :
وللسّوط منها مجال كما ... تنزّل ذو برد منهمر
وهذا أيضا ردئ. ما لها وللسوط! قال: وعيب عليه قوله:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
ثم قال :
وهل عند رسم دارس من معوّل
قال: ومثله قول زهير :
قف بالديار التى لم يعفها القدم
ثم قال :
بلى وغيّرها الأرواح والدّيم
فذكرت الرواة أنه أكذب نفسه.
وقال أبو سعيد مؤدبى: وأخسّ من إكذابه نفسه أن يكون جعل عفوّها خلوتها من أحبّته، ومع خلوها منهم فقد غيرتها الأمطار.
قال: وعيب على امرئ القيس قوله :
فقلت له لما تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلى ... بصبح وما الإصباح فيك بأمثل
قال: فانسلخ البيت الأول بوصف الليل من غير أن يذكر ما قال، وجعله متعلقا بما بعده، وذلك معيب عندهم.
قال: وعيب أيضا على امرئ القيس فجوره وعهره فى شعره، كقوله:
ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذى تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشقّ وتحتى شقها «76» لم يحوّل
وقالوا: هذا معنى فاحش.
وأخبرنى محمد بن يحيى، قال: عيب على امرئ القيس قوله :
إذا ما الثّريا فى السماء تعرضت «78» ... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل
فقالوا: ليست تتعرّض فى السماء. وقال بعضهم- ممن يعذره: أراد الجوزاء، لأنها تتلوها.
المرأة في رثاء أقاربها، تبدأ بالندب والنواح على الميت ، ثم تنتهي بالعزاء والتأبين وأن المرأة في رثاء ابنها تلزم الندب والنواح ، وهو أكثر ألوان الرثاء تأثيرا في النفس ، وتتفوق على الرجل بالجزع والحزن وشعر المرأة الرثائي مقطوعات قصيرة ، تعجز المرأة عن الإطالة على الفقيد لغلبة العاطفة عليها ، أما شعر الرجل فيمتاز بالطول والموازنة بين العاطفة والعقل .
وفي عصر صدر الإسلام شاعت المعاني الإسلامية في شعر الرثاء الإسلامي، فالإيمان بالله ، يجعلها لا تتمادى في الحزن ، كما كان الحال في الجاهلي.
معاني المفردات
1 لحوق: ضمور
2 الحيوان: 1/ 275.
3 الحيوان: 2/ 274. والأغاني: 11/ 132.
4 الحيوان: 4/ 416.
5 السيد: الذئب، والغضا: نبت، وذئاب الغضا أخبث الذئاب، أضل جراءه: فقد أولاده فهو يسرع في عدوه، يلحب: يمر مرًّا سريعًا.
إن الذين نَعَيتَ لي بفراقهم ... هم أسهروا ليلي التمام فأوجعوا2
وكانوا يذكرون القطا والجراد والعصافير والنمل والعنكبوت والحمام ونوحه وما يهيج فيهم من شوق وشجا. وقد أفاض الجاحظ بكتابه الحيوان فيما جاء على ألسنتهم من وصف ذلك كله وتصويره وينبغي أن لا نعتد بما جاء فيه من قصص أسطوري عن طوق الحمامة والديك والغراب والهدهد والحيات مما ساقه على لسان أمية بن أبي الصلت؛ فقد حمل عليه شعر كثير وضعه القصاصون والرواة. وقد استرعى الجاحظ كثرة ما جاء على ألسنتهم من وصف فلواتهم3 ووصف البرد وقوارصه والحر وهواجره4 وما يجري في ديارهم أحيانًا من خصب بعد مطر غزير5.
وفي معلقة امرئ القيس قطعة طويلة يصف فيها سيلًا عَرمًا نزل في مواطن بني أسد بالقرب من تيماء. ويتردد هذا الوصف في شعره وشعر شاعرهم عبيد بن الأبرص.
وكما أكثروا من ذكر الخصب ورطوبة النبات ولدونة الأغصان وكثرة الماء أكثروا من وصف الجدب، وطالما وصفوا وعوثة الصحراء ومخاوفهم في لياليها من الجن والشياطين. وكادوا لا يتركون شيئًا يتصل بهم إلا وصفوه. فوصفوا الرعي والمراعي، ووصفوا الأسلحة والحروب، ووصفوا الخمر وأوانيها وسقاتها ومجلسها وأثرها. وكانوا يقحمونها كما قدمنا في حماستهم. ويفتخرون بأنهم يسقونها الصحاب والرفاق على صوت القيان ومع نحر الجزور، يقول ثعلبة بن صعير في حماسية له :
أَسُمَيَّ ما يدريك أَنْ رُبَّ فِتْيَةٍ ... بيض الوجوه ذوي ندى ومآثر
باكرتهم بسباء جون ذارعٍ ... قبل الصباح وقبل لغو الطائر7
معاني المفردات
حرق: أسود، وشبه لحييه بالجلمين؛ لأنه يخبر بالفرقة كما يقطع الجلمان أو المقراضان.
نعب: صاح، ليلي التمام: الشديد الطول.
السباء: اشتراء الخمر، الجون: الزق الأسود: الذارع: المختلط بالماء.
(أحمد شوقي ، ص217)
فقَصَرْتُ يومهمُ برنَّة شارِفٍ ... وسماع مُدْجِنَةٍ وجَدْوى جازر1
وهذه الموضوعات التي قدمناها جميعًا كانت تتداخل في القصيدة الطويلة وكان يتداخل معها ضرب من الحكم والمعاني التهذيبية؛ فالشاعر ما يزال يدلي في تضاعيف قصيدته بتجاربه، وقد يفرد لها مقطوعات، إذا اتجه بها إلى تقديم وصية لبنيه، على نحو ما صنع عمرو بن الأهتم في وصيته لابنه التي يستهلها بقوله2:
وإن المجد أوله وعور ... ومصدر غبه كرم وخِيرُ3
وممن كثرت الحكمة في شعرهم زهير والأفوه الأودي وعلقمة بن عبدة، وهي تكثر في ميمية الأخير وتتوالى في أبيات متعاقبة من مثل قوله :
الحمدُ لا يُشتَرى إلا له ثَمَنٌ ... مما يَضِنُّ به الأَقوامُ معلومُ
والجود نافيةٌ للمال مَهْلَكَةٌ ... والبخلُ باقٍ لأَهليه ومذموم
وكل حِصْن وإن طالت سلامته ... على دعائمه لا بُدّ مهدوم
ويلخص لنا رأي الجاهلين في المرأة وما تطلبه من الرجل؛ فيقول في بائيته5:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
فإن شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودهن نصيب
ويظهر أن الحكمة قديمة عندهم، فنحن نجدها في معلقة عبيد بن الأبرص، وفيها يقول:
وكل ذي غيبة يثوب ... وغائب الموت لا يئوب
ويقول عبدة بن الطبيب6:
والمرءُ ساعٍ لأمر ليس يدركه ... والعيشُ شح وإشفاقٌ وتأميل
معاني المفردات:
الشارف: الناقة، ورنتها: صوتها عند النحر. المدجنة: القينة تغني يوم الدجن والغيم. وجدوى الجازر: عطاياه من أطايب اللحم.
غبه: عاقبته، الخير: الكرم
ويقول عدي بن رعلاء الغساني:
ليس من ماتَ فاستراح بِمَيْتٍ ... إنما الميْتُ ميِّتُ الأحْيَاءِ
وتلك هي الموضوعات الأساسية التي تنظم في سلك القصيدة الجاهلية؛ فالشاعر يبدؤها بالتشبيب أو النسيب بالأطلال والديار، ويصف في أثناء ذلك حبه، ثم يصف رحلته في الصحراء، وهي أول ما يقدمه للمرأة من ضروب جرأته، وحينئذ يصف ناقته أو فرسه، وقد يؤخرهما إلى نهاية القصيدة، ويقدم عليهما غرضه من الحماسة أو الهجاء أو الرثاء أو المديح، مفتنًا في أثناء ذلك في وصف ما يقع تحت عينه، وناثرًا حكمه وتجاربه)(شوقي ضيف، دار المعارف ص219)
2.الاسلوب الوصفي
(والأصل في الأدب كله ن يكون فنا واحدا هو الوصف لان التعبير في حقيقته وصف للأحوال الحسية والأحوال النفسية ولذلك يقول ابن رشيق ف العمدة 2= 278 الشعر إلا اقله راجع إلى الوصف فسموا وصف الناس الإحياء مدحا وهجاء وسموا وصف الأموات رثاء وسموا وصف النساء خاصة غزلا تم إنهم قسموا الكلام في الراة قسمين:
فما كان منه من وصف أعضائها الظاهرة من حسن وجهها وجمال قدها ولون شعرها واتساع عينيها ابقوا لها اسم الغزل
لكن لم تكن بيئة الجاهلية تجيز التغزل بالعذارى حتى انهم حرموا إن يتزوج فتى تغزل بتها فشهرها واكثر الغزل الجاهلي في المتزوجات فقول امرئ القيس فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا
وقصة المنخل اليشكري مع المتجردة امرأة النعمان وقول الأعشى وقد أخالس رب البيت غفلته
كلها مصداق لذلك ولا ريب في إن الجاهلي يتغزل بالعذارى لكنه اجرا على المتزوجات ) فروج عمر تاريخ الادب العربي دار الملايين للعلم ج1 ب ت ص 71)
وما كان يناول الشكوى من فراقها والتشوق إلى لقائها يسمى واظهار الحب لها سموه نسبيا
وكذلك سموا الخمر خمريات والصيد طرديات
وبقي الوصف المطلق متعلقا بوصف الطبيعة ومظاهرها كوصف الخيل والليل والبرق والجنائن والقصور وما إلى ذلك) (فروج عمر تاريخ الأدب العربي دار الملايين للعلم ج1 ب ت ص49)
الوصف والجمال سبق أن معناه في اللغة الكشف والإظهار، ومعناه الأدبي تصوير خواص الأشياء الحسية والمعنوية باللغة، وهو كالرسم في أنهما من الفنون الجميلة وفي اعتمادها على الألوان للإفهام والتأثير، وفي انقسامهما من إلى نوع واقعي وآخر مثالي جميل، وكلاهما يتناول الأشياء في حاليها المستقرة الثابتة والمتغيرة المتتابعة
والوصف -فوق ما له من قيمة فنية تظهر في نصوصه نظما ونثرا- يدخل في تكوين الفنون الأدبية الأخرى كالرواية، والرحلات، والتاريخ، والخطابة، والرسالة
ولهذا الفن قوانين متصلة بأقسامه، وتكوينه، نذكر منها هنا أهم ما يؤثر في أسلوبه اللفظي
1- يقوم الوصف الأدبي على اختيار أهم العناصر التي تميز الموصوف وتكون مصدر الجمال، والتأثير، تاركا الأشياء التافهة أو التفاصيل العلمية الدقيقة. ثم يفسر هذه العناصر تفسيرا عاطفيا خياليا متأثرا بمزاج الأديب. وذكائه: فالزهرة
بألوانها الجميلة، وشكلها المنسق، وعبيرها الفياح، ثم ما تبعثه في النفوس من معاني الذل، والشباب، والأمل، والإعجاب:
ومائسة تزهى وقد خلع الحيا ... عليها حلي حمرا وأردية خضرا
يذوب لها ريق الغمائم فضة ... ويسكن في أعطافها ذهبا نضرا
2- ولما كان هذا الفن معتمدا على الخيال في التصوير كانت عبارته حاوية هذه الصورة الخيالية من تشبيه، ومجاز، واستعارة ومبالغة، ومقابلة؛ لأن في كل صورة من هذه ميزة لتقوية المعنى أو تجسيده، أو إلحاقه، بما هو أقوى منه استجابة لقوة العاطفة والانفعال.
وقد رأيت في المثال السابق كيف استحالت الزهرة فتاة مزهرة بنفسها، معجبة بما خلع عليها المطر من حلي وحلل، وكيف فتن بها الغمام، فسال ريقه فضة، ثم أحالته ذهبا حين استقر في أعطافها، كل تلك صور خيالية متتابعة، لا بد منها لتصوير إعجاب الشاعر -ابن خفاجة الأندلسي- بالزهرة؛ وما بعثت في نفسه من معان وانفعالات. وكذلك الشأن في المنثور.
يقول السيد توفيق البكري في وصف البحر:
"فإذا كان الأصيل1 وسرى البسيم العليل؛ رأيت البحر كأنه مبرد؛ أو درع مسرد2؛ أو أنه ماوية3 تنظر السماء فيها وجهها بكرة وعشية؛ وكأنما كسر فيه الحلي أو مزج بالرحيق القطربلي4 وكأنما هو قلائد العقيان5، أو زجاجة)(أحمد الشايب ، 2003 ص104)
(المصور يؤلف عليها الأصباغ والألوان. حتى إذا أخضل الليل، وأرخى الذيل، يدا الهلال كأنه خنجر من ضياء، يشق الظلماء"2 وقد غلب التشبيه على هذا النص وإن لم يخل من الصور الأخرى.
3- يجب أن يكون الكلمات من الدقة بحيث تكون صدى صادقا لما تحكي من صوت، أو تؤدى من معنى ولون، لذلك حسن الاستعانة بالنعوت التي تزيد في التحديد أو الروعة ليكون الوصف كاشفا حاكيا ما وراءه، يسمعه الإنسان فكأنما يشهد الطبيعة في ائتلافها، والصور في ائتلافها، وكأنما يسمع الرعد القاصف أو الآذي الصاخب، أو البلابل الغريدة، أو نجوى النفوس، وهمسات الفؤاد، وخواطر الضمير.
ومن ذلك خصت اللغة كل صوت باسم، وكل لون بميزة، وكل طور في الحياة يعلمه، وكثرت فيه الكلمات والتراكيب التي تحكي صوت الطبيعة، وتدل بجرسها على معانيها.
ومن ذلك الصخب لصوت الخصومة، والزجل رفع الصوت عند الطرب، واللجب صوت العسكر، والهتاف رفع الصوت بالدعاء، وزئير الأسد. ونباح الكلب, وضباح الثعلب. ومواء الهرة. ويقال: جيش لجب وعسكر جرار. كما يقال أصفر فاقع. وأحمر قان. وأسود حالك إلى غير ذلك. ويحسن مثالا لذلك ما ورد لأبي زبيد الطائي في صفة الأسد. "وأقبل أبو الحارث من أجمته3. يتظالع في مشيته، كأنه مجنوب أو في هجار5 لصدره نحيط ولبلاعمه غطيط)( أحمد الشايب، 2003، ص105)
ولطرفه وميض. ولأرساغه نقيض1 كأنما يخبط هشيما، أو يطأ صريما2، وإذا هامة كالمجن3، وخد كالمسن4، وعينان سجراوان5 كأنهما سراجان يتقدان"6 ولا يظن أن ذلك إغراب في اللفظ وإنما هي الدقة في تحديد الأفكار، وتصوير العواطف، وحكاية الحوادث.
4- يجب أن تكون التراكيب والعبارات ذات نغمة عامة ملائمة لما يوصف سواء أكان منظرا رائعا يبعث الإعجاب، أم معركة حامية تثير الرهبة أو حوادث متتابعة تملك العقل، أو يأسا قاتلا أم أملا عريضا، بحيث يكون الأسلوب اللفظي حكاية الأسلوب المعنوي، ويتحقق بذلك ائتلاف اللفظ والمعنى كما بينا ذلك في فنون الشعر ولذلك تجد الوصف النثري مختلف العبارات قوة ولينا باختلاف الموضوعات كما رأيت في الموضعين السابقين. روعة في الأول. ورهبة في الثاني. وقد أورد ابن الأثير7 في هذا المعرض مثال لقوة الأسلوب وجزالته وقوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} وقوله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى
و(الجمال صفة لازمة للأساليب الأدبية، لا غنى لها عنه ما دام الأديب معنيا بإمتاع القراء واحترام أذواقهم، ومن السهل معرفة ذلك، فقد تقرأ نصا أدبيا واضح الأفكار، قوي العاطفة، ولكنك تحس مع هذا أنها نابية عن الذوق، فجة العبارة، لا تمتزج بالنفس.
هذا النقص ناشئ في الغالب عن سقم التعبير، ودليل على خمود الشعور والذوق الأدبي، وهو سبب وحده يكفي للعناية بجمال الأسلوب وموسيقى العبارة لعلنا نستطيع إرضاء ذوق القارئ وخياله فوق عواطفه وعقله
وهنا نلاحظ أن ليس من جمال الأسلوب في شيء هذه المحسنات البديعية، والصورة الخيالية التي يصطنعها الكتاب عمدا، ظانين أنها حلى بديعة، أو مدارين بها فقرا عقليا ونقصا ذوقيا، والحق أنها تدخل الأساليب الأدبية حين تدعوها طبيعة المعاني لتقويتها أو إيضاحها، أو حين يلجأ إليها الخيال ليصور بها عاطفة صادقة وانفعالا قويا.
والجمال صفة نفسية تصدر عن خيال الأديب وذوقه، فالخيال المصور يدرك ما في المعاني من عمق وما يتصل بها من أسرار جميلة إدراكا حادا رائعا والذوق يختار أصفى العبارات وأليقها بهذا الخيال الجميل.
وإذا ذكرنا الذوق فإنما نعني الذوق المهذب "الذي صقله الأدب، وشحذته الرواية، وجلته الفطنة، وألهم الفصل بين الرديء والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبح"1 وبذلك تتحقق هذه الصفة الفنية للأسلوب.
الجمال صفة سلبية وإيجابية، يكون بخلو الأسلوب من التنافر والخشونة التي تؤذي الحس والذوق، ثم يجعله صدى صادقا لجمال الذوق والخيال ) (أحمد الشايب 2003 ، ص198ص10)
الاسلوب وعلاقته بفنون الادب: تعد الأسلوبية اتجاهاً من اتجاهات النقد الأدبي، إن لم نقل جزءاً منه، وإن كنا نجد أن كل من الباحث الأسلوبي، والناقد الأدبي يقوم بالممارسة لفعل القراءة كل حسب ما توفرت له من رؤية وأدوات إجرائي، حينها لا نجد فرقاً أو احتواء أحدهما للآخر، مادام كل منها يحاول أن يقارب النص الإبداعي بأدواته الإجرائية، غير أن الناقد الأدبي يصبح أكثر منهجية عندما يستوعب ويلتزم بأحد المناهج، يستقي منه أدواته، ليقارب النصوص الأدبية.
فالنقد الأدبي لن يوفق في عمله مالم يستعن بمنهج نقدي من المناهج النقدية المعروفة سواء أكانت سياقية منها أم نَسقيّة، كل بحسب أدواته الإجرائية، وطرائقه ومقولاته في استنطاق النصوص الأدبية، وفهم العملية الإبداعية من ناص ونص ومتلقٍّ.
الأسلوبية والنص الأدبي:
تركز الأسلوبية ـ بوصفها منهجاً نسقياً يقصي من طريقه كل السياقات الخارجة عن النص ـ على مقاربة لغة النص، وأسلوب الكاتب فيه انطلاقاً من إمكاناته اللغوية المتاحة، ومن ثم فهي ترتكز قراءتها للنص على مفهوم الأسلوب كمجموعة من الخيارات يقوم بها الكاتب في نصه على مستويات اللغة المختلفة، اللفظية منها والنحوية بشكل رئيسي ثم الصوتية، وما تفرزه هذه الخيارات الأسلوبية من وظائف ومعانٍ ومدلولات أسلوبية ناشئة عن علاقات متشابهة، ومترابطة أو متنافرة، وأحياناً معقدة بين مستويات اللغة المذكورة، بحسب الموقف الذي ساهم في إنتاج النص.
يعتمد المنهج الأسلوبي اللغة الحاملة للنص قصد سبر أغوارها، وكشف مكنوناتها، من خلال الألفاظ، والتراكيب سواء من جانبها النحوي، أو الصوتي، أو الدلالي، سعياً إلى الوقوف عند اللغة الأدبية المميزة للنص عن سواه من النصوص الأخرى، لأن ((التناول الأسلوبي إنما ينصب على اللغة الأدبية لأنها تمثل التنوع الفردي المتميز في الأداء بما فيه من وعي واختيار، وبما فيه من انحراف عن المستوى العادي المألوف، بخلاف اللغة العادية التي تتميز بالتلقائية والتي يتبادلها الأفراد بشكل دائم وغير متميز))(20)، وذلك ما يميز بين الأسلوب في خصوصيته الإبداعية والأسلوب كأداة يومية تستعمل للتواصل؛ والأسلوبية باعتبارها منهجاً نقديّاً ينصب اهتمامها على اللغة الأدبية من خلال انحرافاتها الإبداعيةعن النمطية ضمن اللغة الإبداعية العادية.
تبقى القراءة الأسلوبية ذلك المنهج النسقي الذي يجعل لغة النص وسيلة وغاية لفهم الإبداع والوقوف على درجة الأدبية فيه، من خلال الهوامش التي تحققها اللغة الإبداعية إذ تسمو بالنص إلى مصاف الأعمال الفنية الجذابة، انطلاقاً من مدى اختيار الألفاظ وتراصها وعلاقة بعضها ببعض، ضمن تركيب نحوي وصوتي ودلالي؛ ولذلك نجد أن ((الأسلوبية تعود بالضرورة إلى خواص النسيج اللغوي، وتنبثق منه، فإن البحث عن بعض هذه الخواص ينبغي أن يتركز في الوحدات المكونة للنص وكيفية بروزها وعلائقها) بعضها ببعض.
وتبقى الأسلوبية منهجاً نقدياً عمل من أجل الكشف عن أسرار اللغة الأدبية في النص الإبداعي، من خلال وحداته المكونة لـه وانطلاقاً من اللغة كوسيلة وغاية، كوسيلة للوصول إلى استنطاق النص، وكغاية سعياً وراء الوقوف عند درجة الأدبية في النص الأدبي.
تحدث النقاد كثيرا عن الاسلوب حتى كاد أن يترسخ في ذهن الرواد أن الاسلوب ينحصر على العنصر اللفظي الذي يتألف من الكلمات فالجمل والعبارات، وربما قصروه على الأدب وحده دون سواه من العلوم والفنون، وهذا الفهم -على صحته- يعوزه شيء من العمق والشمول ليكون أكثر انطباقا على ما يجب أن يؤديه هذا اللفظ من معنى صحيح، وذلك أن هذه الصورة اللفظية التي هي أول ما تلقى من الكلام لا يمكن أن تحيا مستقلة، وإنما يرجع الفضل في نظامها اللغوي الظاهر إلى نظام آخر معنوي انتظم وتألف في نفس الكاتب أو المتكلم فكان بذلك أسلوبا معنويا، ثم تكون التأليف اللفظي على مثاله، وصار ثوبه الذي لبسه أو جسمه إذا كان المعنى هو الروح، ومعنى هذا أن الأسلوب معان مرتبة قبل أن يكون ألفاظا منسقة، وهو يتكون في العقل قبل أن ينطق به اللسان أو يجري به القلم، فهذا وجه.
والوجه الثاني: أن كلمة الأسلوب صارت هذه الأيام حقا مشتركا بين البيئات المختلفة، يستعملها العلماء ليدلوا بها على منهج من مناهج البحث العلمي، ويستعملها الأدباء في الفن الأدبي قصصا أو جدلا أو تقريرا وفي العنصر اللفظي سهلا أو معقدا
(أحمد الشايب 2003 : ص 1)
منذ القديم والدرس اللغوي متصل بالنص الأدبي، كان كذلك في الشرق، وكان كذلك في الغرب. واللغويون المحدثون يأخذون على الدرس القديم، أومايسمونه «النحو التقليدي»، أنه يصدر أولا عن «المعنى»، وأنه ينبني على نصوص مختارا اختيارا دقيقا بحيث تمثل «المستوى العالي» من الأداء اللغوي والذى لا شك فيه عندنا أن الدرس اللغوي عند العرب صدر -في نشأته- عن اتصال بالنصوص الفنية، وبخاصة في صورتها القرآنية، وفي صورتها الشعرية، ومن هنا كان الانتقاد الحديث الذي يوجه إليه من أنه لا يمثل العربية، وإنما يمثل جانبا معينا منها؛ في المستوى، وفي الزمان، وفي المكان.
على أننا نشير إلى أن العرب القدماء أفردوا درسا لغويا خاصا للتعليق على النصوص الأدبية كالذي قدمه «القراء» في«معاني القرآن»، أو ما قدمه أصحاب الاحتجاج للقراءات «كحجة» أبي علي الفارسي، و«محتسب» ابن جني، أو ما قدموه من شرح لغوي للشعر كشرح «بانت سعاد» أو شرح ابن جني لديوان المتنبي. ولكن هذه الأعمال كلها لم تكن تصدر عن نظرية واضحة أو منهج محدد، وإنما هي ملاحظات لغوية جزئية يسوق إليها النص حسبما كان وينقلها الخالف عن السالف دون أن تقدم شيئا جديدا إلا أن يكون تطبيقا حيا لما تحتويه كتب النحو والصرف والبلاغة.
وحين بدأت النهضة اللغوية الحديثة في الغرب في القرن الماضي فيما يعرف بالفيلولوجيا ظلت الآصرة قوية بين البحث اللغوي والأدب، لأن الفيلولوجيا لم تكن تنظر إلى اللغة على أنها غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لفهم «الثقافة»، ومن ثم كان تركيزهم على النصوص الأدبية القديمة تحقيقا وتفسيرا، مما دعا واحدا من كبارهم هو جريم أن يلفتهم إلى أن النصوص الأدبية المكتوبة لا تمثل إلا جزاء يسيرا من اللغة، وأن عليهم أن يهتموا بدراسة اللهجات والآداب الشعبية.
وظل الأمر كذلك إلى أن ظهر علم اللغة الحديث أوائل هذا القرن، وحين نادى دي سوسير بأن «موضوع علم اللغة الصحيح والوحيد هو اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها»
وعلم اللغة ينهض في جوهره على أساسين؛ أولهما أنه علم ، وثانيهما أنه مستقل ولعل السبب الأول فى هذين الأساسين أن أصحابه أرادوا أن يبعدوه عن كثير من العلوم، وأولها النقد الأدبي الذي يرونه «إنسانيا»«تقييميا»، وكان دي سوسير قد دعا إلى التفريق بين «اللغة المعينة»و «لغة الفرد»، منتهيا إلى أن علم اللغة يدرس اللغة المعينة التي تمثل الخصائص «الجمعية» للمجتمع، ولا ينبغي أن يلتفت إلى «لغة الفرد» لأنها تصدر عن «وعي» ولأنها لذلك تتصف «بالاختيار» الحر. وقد أكد بلو مفيلد بعد ذلك أن دراسة «المعنى» هي «أضعف» نقطة في علم اللغة، وكل أولئك كان جديرا أن يؤدي إلى قطيعة بين الدرس اللغوي والدرس اللغوي النقدي، ولئن كان علم اللغة يتميز بالدقة، و«الموضوعية» فإنه فقد «إنسانيته» واستحال إلى «وصف» محض، غارق في المصطلحات والرموز الفنية التي تبدو غريبة على غير المتخصص، وقد تبدو غير ذات نفع محقق في التطبيق الواقعي، على أن علم اللغة قد عاد إلى شيء من هذه «الإنسانية» في السنوات الأخيرة حين دعا تشومسكي وأتباعه من التحويليين إلى نبذ الوصف «السطحي» والعودة إلى التفسير «العقلي» للغة باعتبارها أهم ما يميز الإنسان، وباعتبارها خلاقة تتكون من عناصر محدودة ولكنها تنتج تركيبات وجملا لا نهاية لها، ومن ثم فهي لا تخضع للتفسير الآلي اقتداء برأي ديكارت.
وإذا كان الأمر كذلك فإن علم اللغة ينبغي أن يدرس في ضوء «الطبيعة البشرية» التي تؤكد أن «قدرة» الإنسان على اللغة برهان على أن هناك جانبين مهمين هما «الكفاءة » و«الأداء »، وهذان الجانبان كانا سببا في نشأة مصطلحي «البنية العميقة » و«بنية السطح » وهما مصطلحان يمثلان ركيزة البحث اللغوي الآن عند التحويليين، وقد كانا دافعا إلى الاستعانة بمباحث «العقل» ومباحث «علم النفس» مما له أثر فيما نحن بصدده الآن.
ولكن إذا كان اللغويون قد سعوا جاهدين في أن يبتعدوا بعملهم عن ميدان النقد الأدبي فإنهم عادوا بهذا العلم إليه من باب آخر، عادوا ليستخدموا «أدواتهم» اللغوية في تناول النص الأدبي، وهو ما يعرف الآن بعلم الأسلوب؟
فما هذا العلم؟ وما المنهج الذي ينهجه في معالجة الأدب؟
ولعلي أشير -بدءا- إلى أننا من الأسف- مضطرون دائما أن نقدم الخطوط العامة للمنهج على هيئة دراسة أولية، لأننا لا نزال متخلفين -في الدرس العربي- تخلفا شديدا عن مسايرة التطور المتلاحق في البحث اللغوي الحديث بحيث تكاد تغيب الأسس الضرورية عن عامة الباحثين الناشئين.
وعلم الأسلوب هو الذي يطلق عيه في الإنجليزية وفي الفرنسية وفي الألمانية ، والباحث في الأسلوب هو الذي يطبق منهجه على النصوص الأدبية.
يرى اللغويون أن النقد الأدبي درس «تقييمي» يقوم على «الانطباعات الذاتية»، وعلى «الحدس»، ومن ثم فهو يقدم -في رأيهم- مقاييس موضوعية، للعمل الأدبي، من أجل ذلك يقدمون «علم الأسلوب» كي يكون الخطوة الأولى أمام الناقد، تضع بين يديه المادة اللغوية في العمل الأدبي مصنفه تصنيفا علميا لعلها تساعده على فهم العمل فهما أقرب إلى الموضوعية. ومعنى ذلك أن علم اللغة يطبق «فنون» البحث اللغوي على النص الأدبي وبخاصة فيما يعرف «بمستويات التحليل» على ما يظهر في العرض التالي.
الخصائص المعنوية
لعل أول ما يلاحظ على معاني الشاعر الجاهلي أنها معان واضحة بسيطة ليس فيها تكلف ولا بعد ولا إغراق في الخيال؛ سواء حين يتحدث عن أحاسيسه أو حين يصور ما حوله في الطبيعة؛ فهو لا يعرف الغلو ولا المغالاة، ولا المبالغة التي قد تخرج به عن الحدود المعقولة.
ومرجع ذلك في رأينا إلى أنه لم يكن يفرض إرادته الفنية على الأحاسيس والأشياء؛ بل كان يحاول نقلها إلى لوحاته نقلًا أمينًا، يُبقي فيه على صورها الحقيقية دون أن يدخل عليها تعديلًا من شأنه أن يمس جواهرها. ومن أجل ذلك كان شعره وثيقة دقيقة لمن يريد أن يعرف حياته وبيئته برملها ووديانها ومنعرجاتها ومراعيها وسباعها وحيوانها وزواحفها وطيرها. وعرف القدماء ذلك فكلما تحدثوا عن عادات الجاهلين وألوان حياتهم استشهدوا بأشعارهم. وحينما كتب الجاحظ كتاب الحيوان وجد في هذه الأشعار مادة لا تكاد تنفد في وصفه ووصف طباعه وكل ما يتصل به من سمات ومشخصات. ومعنى ذلك أن الشاعر الجاهلي لم يغتصب الحيون لنفسه، فيسكب عليه من خياله ما يحيله عن حقيقته، ونستطيع أن نلاحظ ذلك في وصفه)( شوقي ضيف، ص219)
للمعارك الدائرة بينهم؛ إذ نراه يعترف بهزيمة قومه إن هُزموا1، وبفراره إن ولَّى الأدبار ونكص على أعقابه2، وفي أثناء ذلك لا يبخل على أعدائه بوصف شجاعتهم وبلائهم في الحروب، ولهم في ذلك قصائد تلقب بالمنصفات، مر الحديث عنها وجاءهم ذلك من أنهم لا يبذلون في الحقائق ولا يعدلون في علاقتها ومعانيها، بل يخضعون لها ويضبطون خيالاتهم وانفعالاتهم إزاءها. ونحن بهذا الوصف إنما نقصد إلى جمهور أشعارهم؛ فقد تندّ بعض أبيات تحمل ضربًا من المبالغة؛ ولكن ذلك يأتي شاذًّا ونادرًا. ونظن ظنًّا أن شيوع هذه الروح فيهم هو الذي طبع أفكارهم بنزعة تقريرية؛ إذ تعودوا أن يسندوا أقوالهم بذكر الحقيقة عارية دون خداع يموِّهها أو طلاء يزيفها. ومن هنا كانت معانيهم محددة تحديدًا يبرزها في أتم ما يكون من ضياء، ومن ثم تبدو في كثير من جوانبها كأنها شيء راسخ ثابت. ويتضح ذلك في حكمهم التي تصور أحكامًا سليمة وخبرات صائبة كما يتضح في جوانب كثيرة من تأبينهم ومديحهم وغزلهم وحماستهم؛ إذ يقدم الشاعر المعاني منكشفة كأنها أشياء صلبة محسوسة؛ فهي حقائق تُسْرَدُ سردًا وقلما شابها الخيال، إلا ليزيدها إمعانًا في الوضوح والجلاء.
واقرأ في أشعاره فستجد معانية حسية، واضحة، لا يقف بينك وبينها أي غموض أو أشراك ذهنية تضل في ممراتها وشُعبها الفكرية؛ إذ يعرض عليك هذه المعاني دائمًا مجسمة في أشخاص أو في أشياء. وخذ فضائلهم التي طالما أشادوا بها في حماستهم ومراثيهم ومدائحهم، فستجدها دائمًا تساق في مادة الإنسان الحسية، فهم لا يتحولون بها إلى معنى ذهني عام يصور إحساسهم بالبشرية جميعها في هذه الفضيلة أو تلك، فالكرم مثل البخل والوفاء وغيرهما من الفضائل والرذائل لا بد أن يقترن بشخص معين يتحدثون عنه.
وهذه النزعة في الشاعر الجاهلي جعلته لا يحلل خواطره ولا عواطفه إزاء ما يتحدث فيه من حب أو غير حب؛ فهو لا يعرف التغلغل في خفايا النفس الإنسانية ولا في أعماق الأشياء الحسية. وتتضح هذه النزعة في خياله وتشبيهاته فهو ينتزعها من عالمه المادي، ولنرجع مثلا إلى تشبيهاته للمرأة فهو يشبهها بالشمس والبدر والبيضة والدرة! والدمية والرمح والسيف والغمام والبقرة والظبية والقطاة، ويشبه
أسنانها بالأُقحوان وبنانها بالعَنم وثغرها بالبللور وخدها وترائبها بالمرآة وشعرها بالحبال والحيات والعناقيد ووجهها بالدينار وثديها بأنف الظبي ورائحتها بالمسك وبالأترجة وريقها بالخمر وبالعسل وعينها بعين البقرة والغزال وعجزها بالكثيب وساقها بالبُردية أما الرجل فيشبهه بالبحر وبالغيث وبالأسد وبالذئب وبالعقاب وبالبعير وبالبدر والقمر وبالرمح والسيف وبالبقرة والتيس والضبع وبالأفعوان والحية وبالكلب والحمار وبالصخرة وبالصقر وبالفحل)(شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي ص220)
وعلى هذه الشاكلة من الحسية في التشبيه الشعر الجاهلي جميعه؛ فالشاعر يستقي أخيلته من العالم الحسي المترامي حوله. وجعلهم تمسكهم بهذه الحسية إذا وصفوا شيئًا أدقوا النظر في أجزائه وفصلوا الحديث فيها تفصيلًا شديدًا، وكأنما يريدون أن ينقلوه إلى قصائدهم بكل دقائقه، وكأن الشاعر نحات لا يصنع قصيدة، وإنما يصنع تمثالًا؛ فهو يستوفي ما يصفه بجميع أجزائه وتفاصيله الدقيقة. وخير مثل لذلك وصف طرفة لناقته في معلقته فقد نعت جميع أعضائها وكل دقيقة فيها وجليلة. ولم يترك منها شيئًا دون وصف أو بيان.
وهذه الحسية فيهم جعلتهم لا يتسعون بمعانيهم؛ بل جعلتهم يدورون حول معان تكاد تكون واحدة، وكأنما اصطلحوا على معان بعينها، فالشعراء لا ينحرفون عنها يمنة ولا يسرة، فما يقوله طرفة في الناقة يقوله فيها غيره، وما يقوله امرؤ القيس في بكاء الديار يقوله جميع الشعراء، واقرأ حماسية كمعلقة عمرو بن كلثوم فستجد الشعراء الحماسيين لا يكادون يأتون بمعنى جديد. وقل ذلك في غزلهم ومديحهم ورثائهم فالشعراء يتداولون معاني واحدة وتشبيهات وأخيلة واحدة. ومن ثم تَبَدو في أشعارهم نزعة واضحة للمحاكاة والتقليد، وجنَى عليهم ذلك ضيق واضح في معانيهم؛ غير أنه من جهة ثانية أتاح لهم التدقيق فيها وأن يجلوها ويكشفوها أتم كشف وجلاء، واقرأ في المفضليات والأصمعيات فستجد دائمًا نفس المعاني، وستجد أيضًا براعة نادرة في إعادتها وصوغها صوغًا جديدًا؛ فكل شاعر يحاول أن يعطيها شيئًا من شخصيته، وخذ مثلًا تشبيه المرأة بالظبية، فشاعر يشبهها بها تشبيهًا عاديًّا، وشاعر يشبهها بها وهي تمد عنقها إلى شجر السلم الناضر، يريد أن يستتم بذلك منظرًا بديعًا)( شوقي ضيف، دار المعارف، ص221)
للظبية، يقول علباء بن أرقم:
فيومًا توافينا بوجهٍ مُقَسَّمٍ ... كأَن ظبية تعطو إلى ناضر السلم
وثالث يشبه جيدها بجيد الظبية في استوائه وطوله وجماله، يقول الحادرة2:
وتصدَّفت حتى استبتك بواضح ... صلت كمنتصب الغزال الأتلع
ورابع يجعل وجه الشبه حور العين، وخامس يجعله في التنفس كقول المنخل اليشكري:
ولثمتها فتنفست ... كتنفس الظبي البهير
وما يزال كل شاعر يضيف تفصيلًا جديدًا. وخذ مثلًا تصويرهم للرجال بالكواكب والنجوم، يقول عامر المحاربي3:
وكنا نجومًا كلما انقض كوكبٌ ... بدا زاهرٌ منهن ليس بأقتما
ويقول طفيل الغنوي في مديح قوم4:
نجوم ظلام كلما غاب كوكب ... بدا ساطعًا في حندس الليل كوكب
ويقول لقيط بن زرارة وقد أضاف إلى هذا المعنى زيادة بدعية5:
وإني من القوم الذين عرفتم ... إذا مات منهم سيد قام صاحبه
نجوم سماء كلما غار كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه6
وألمَّ النابغة بهذه الصورة فنقلها نقلة جديدة؛ إذ قال في النعمان بن المنذر مقارنًا بينه وبين الغساسنة7:
وإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يَبْدُ مْنهنّ كوكب
ومعنى ذلك أن ضيق الدائرة في معانيهم لم يحل بينهم وبين النفوذ منها إلى دقائق كثيرة؛ فقد تحولوا يولدونها ويستنبطون منها كثيرًا من الخواطر والصور الطريفة)(أ شوقي ضيف، دار المعارف ص222)
وملاحظة ثانية هي أنهم لم يعرضوا علينا معانيهم الحسية جامدة؛ بحيث تنشر الملل في نفوسنا؛ فقد أشاعوا فيها الحركة، وبذلك بثوا فيها كثيرًا من الحيوية، وما من شك في أن هذه الحركة مشتقة من حياتهم التي لم تكن تعرف الثبات والاستقرار؛ فهم دائمًا راحلون وراء الغيث ومساقط الكلأ، ومن ثَمَّ كانوا إذا وصفوا الحيوان وصفوه متحركًا لا واقفًا جامدًا، وارجع إلى وصف طرفة لناقته فستجده يصفها وهي سائرة به في طريق إلى غاية تصبو إليها نفسه، يقول:
أَمونٍ كأَلْواح الأرَان نَسَأْتُها ... على لاحبٍ كأَنه ظَهْرُ بُرْجُدِ
وهو يشبه الطريق بكساء مخطط، يجد فيه جمالًا، كما يجد فيها روعة وبهاء؛ فيستمر في وصفها وكأنه تدلَّه بها حبًّا؛ فهو لا يترك شيئًا دون أن يقيده، وكأنه يصنع لها تمثالًا يريد أن يحفره حفرًا في أذهان العرب الذين كانوا يعجبون بنوقهم ويودون لو أتيح لهم من ينصبها لهم تمثالًا بديعًا، وعلى هذا النحو كانوا يصفون خيولهم وكانوا ينتقلون منها ومن وصف النوق إلى وصف النعام وبقر الوحش وثورها والأتن وحمارها ويصورونها لنا وهي تجري في الصحراء تطلب الماء، والصائد إما في طريقها بكلابه أو على الماء مستترًا منها، وما تلبث أن تنشب معركة هائلة لا تقل عن معاركهم هولًا.
وطبيعي أن يفيض هذا الجزء من قصائدهم بحركة واسعة، فالحركة أساسه، وقد يُدخلون هذه الحركة في المقدمة نفسها؛ فالشاعر لا يكتفي بالوقوف بالأطلال وبكاء الديار؛ بل كثيرًا ما يصور ظعن حبيبته وصواحبها في القافلة، وقد خرجت تطلب مرعى جديدًا، فلا تزال متنقلة من موضع إلى موضع وعينُ الشاعر بإزائها تسجل هذه الرحلة الدائبة تسجيلًا بديعًا.
معاني المفردات:
1 أمون: موثقة الخلق، والأران: تابوت لموتاهم، ونسأتها: زجرتها، اللاحب: الطريق البين الواضح الذي أثر فيه المشي.
البرجد: كساء مخطط شبه به طرائق الطريق وما فيه من تعاريج وخطوط وآثار.
(شوقي ضيف، دار المعارف ص 223) وهذه الحركة في حياتهم التي تعني عدم الثبات والاستقرار، وبالتالي تعني عدم التوقف عند شيء وإطالة النظر فيه هي التي جعلت معانيهم سريعة، أو على الأقل كانت من أهم البواعث على سرعتها؛ فالشاعر لا يقف طويلًا عند المعنى الذي يلم به؛ بل لا يكاد يمسه حتى يتركه إلى معنى آخر؛ فحياته لا تثبت ولا تستقر، وهو كذلك في معانيه لا يثبت ولا يستقر؛ بل ينتقل من معنى إلى معنى في خفة وسرعة شديدة. ومن ثم غلب عليه الإنجاز، فهو لا يعرف الإطناب ولا ما يتصل به من هدوء وسكون. ولعل هذا هو الذي جعل البيت في قصائدهم وحدة معنوية قائمة بنفسها. وتتألف القصيدة من طائفة الأبيات أو البيوت المستقلة التي يكتفي فيها كل بيت غالبًا بنفسه؛ غير متوقف على ما يسبقه ولا على ما يلحقه إلا نادرًا.
وربما كان هذا هو السبب الحقيقي في أن القصيدة الطويلة لا تلم بموضوع واحد يرتبط به الشاعر؛ بل تجمع طائفة من الموضوعات والعواطف لا تظهر بينها صلة ولا رابطة واضحة، وكأنها مجموعة من الخواطر يجمع بينها الوزن والقافية وتلكهي كل روابطها، أما بعد ذلك فهي مفككة؛ لأن صاحبها لا يطيل المكث عند عاطفة بعينها أو عند موضوع بعينه. ومن أجل ذلك زعم بعض النقاد أن الاستطراد أساس في الشعر الجاهلي، ومن حقنا أن نعطيه اسمًا جديدًا مشتقًا من حياته، وهو التنقل السريع.
وما أشبه القصيدة عندهم بفضائهم الواسع الذي يضم أشياء متباعدة لا تتلاصق، فهذا الفضاء الرحب الطليق المترامي من حولهم في غير حدود هو الذي أملى عليهم صورة قصيدتهم؛ فتوالت الموضوعات فيها جنبًا إلى جنب بدون نسق ولا نظام ولا محاولة لتوجيه فكري. إنما هي موضوعات أو أشكال متجاورة يأخذ بعضها برقاب بعض في انطلاق غريب كانطلاق حياة الشاعر في هذا الفضاء الصحراوي الواسع الذي لا يكاد يتناهى ولا يكاد يحد، والذي تتراءى فيه الأشياء متناثرة غير متجاورة.
على أن هذه الحركة قد أتاحت لشعرهم ضربًا من الروح القصصية، لا نراه ماثلًا في وصفهم للحيوان الوحشي فحسب؛ بل نراه أيضًا في وصف الصعاليك لمغامراتهم على نحو ما تعرض علينا ذلك تائية الشنفرى التي أنشدها المفضل الضبي والتي يستهلها بقوله:
أَلَا أُمُّ عَمْرو أَجمعتْ فاستقلَّتِ ... وما ودَّعتْ جيرانَها إذ تولَّتِ
فإنه يقص علينا بعد غزلها الطريف قصة غزوة له مع بعض رفاقه من الصعاليك، وهو لا يسردها في إجمال؛ بل يسرد تفاصيلها، إذ يذكر أنهم أعدو العدة للغزو والسلب، يحملون قسيَّهم الحمر، وقد خرجوا من واديين: مِشْعل والجَبا راجلين، وقد حمل زادهم تأبط شرًّا الصعلوك المشهور، وكان يقتر عليهم في الطعام خشية أن تطول بهم الغزوة فيهلكوا جوعًا. ويصف لنا الشنفرى جعبة السهام التي كانت معهم، وكيف أنهم كانوا يحملون حسامًا صارمًا؛ بل سيوفًا قاطعة كأنها قطع الماء في الغدير لمعانًا؛ بل كأنها أذناب البقر الصغير تحركه، وقد نهلت وعلت من دماء محرم ساق هديه إلى الكعبة؛ فقتلوه دون غايته وأخذوا ما معه، كما قتلوا بعض من كانوا ساق هديه إلى الكعبة، فقتلوه دون غايته وأخذوا ما معه، وعلت من دماء محرم ساق هديه إلى الكعبة، فقتلوه دون غايته وأخذوا ما معه، كما قتلوا بعض من كانوا يرافقونه، ومن لم يُقْتَل أخذوه أسيرًا وينهى القصة مفتخرًا بشجاعته وأنه لا يرهب الموت)(شوقي ضيف، دار المعارف ص225)
ويكثر الصعاليك من قَصِّ مثل هذه المغامرة، ويلقانا في حماسياتهم كثير من وصف معاركهم، وقد يحاولون سردها، وهو سرد تتمشى فيه الروح القصصية على نحو ما تمثل ذلك معلقة عمرو بن كلثوم وقصائد بشر بن أبي خازم في المفضليات؛ إذ يتحدث فيها حديثا مفصلًا عن يوم النِّسار والجفار، فالقصص يتخلل شعرهم، وقد أفردوا له في مطوَّلاتهم قطعة وصف الحيوان الوحشي. ونراه ماثلًا في غزلهم على نحو ما مر بنا في غزلية المنخل اليشكري؛ وإنما تمثلنا بقطعة منها، وهو ماثل في غزل المرقّش الأصغر مما رواه صاحب المفضليات. فإذا قلنا بعد ذلك كله إن معانيهم كان يسودها في بعض جوانبها ضرب من الروح القصصية لم نكن مبالغين، وهي روح لم تتسع عندهم، فقد أضعفتها حركتهم وميلهم إلى السرعة والإيجاز. وبذلك لم يظهر عندهم ضرب من ضروب الشعر القصصي؛ فقد ظل شعرهم غنائيًّا ذاتيًّا، يتغنى فيه الشاعر بأهوائه وعواطفه، غير محاول صُنْعَ قصة، يجمع لها الأشخاص والمقومات القصصية، ويرتبها ترتيبًا دقيقًا، فإن شيئًا من ذلك لم يخطر بباله؛ إذ كان مشغولًا بنفسه، لا يهمه إلا أن يتغنى بها وبمشاعره)(شوقي ضيف، دار المعارف ص 225)
الخصائص اللفظية: من أهم ما يلاحظ على الشعر الجاهلي أنه كامل الصياغة؛ فالتراكيب تامة ولها دائمًا رصيد من المدلولات تعبر عنه، وهي في الأكثر مدلولات حسية، والعبارة تستوفي أداء مدلولها، فلا قصور فيها ولا عجز. وهذا الجانب في الشعر الجاهلي يصور رقيًّا لغويًّا، وهو رقي لم يحدث عفوًا فقد سبقته تجارب طويلة في غضون العصور الماضية قبل هذا العصر، وما زالت هذه التجارب تنمو وتتكامل حتى أخذت الصياغة الشعرية عندهم هذه الصورة الجاهلية التامة؛ فالألفاظ توضع في مكانها والعبارات تؤدي معانيها بدون اضطراب.
وقد يكون من الأسباب التي أعانتهم على ذلك أن الشعراء كما أسلفنا كانوا يرددون معاني بعينها؛ حتى لتتحول قصائدهم إلى ما يشبه طريقًا مرسومًا، يسيرون فيه كما تسير قوافلهم سيرًا رتيبًا، وكانوا هم أنفسهم يشعرون بذلك شعورًا دقيقًا، مما جعل زهيرًا يقول بيته المأثور -إن صح أنه له:
مَا أَرَانَا نَقُوْلُ إلَّا معارًا ... أو مُعادًا من لفظنا مكرورا
فهو يشعر أنهم يبدءون ويعيدون في ألفاظ ومعان واحدة، ويجرون على طراز واحد طراز تداولته مئات الألسنة بالصقل والتهذيب؛ فكل شاعر ينقح فيه ويهذب ويصفي جهده حتى يثبت براعته. ولم تكن هناك براعة في الموضوعات وما يتصل بها من معان إلا ما يأتي نادرًا؛ فاتجهوا إلى قوالب التعبير، وبذلك أصبح المدار على القالب لا على المدلول والمضمون، وبالغوا في ذلك، حتى كان منهم من يخرج قصيدته في عام كامل، يردد نظره في صيغها وعباراتها حتى تصبح تامة مستوية في بنائها.
وربما دل ذلك على أن مطولاتهم لم تكن تصنع دفعة واحدة؛ بل كانت تصنع على دفعات، ولعل هذا هو سبب تكرار التصريع في طائفة منها، ولعله أيضًا السبب)(شوقي ضيف، دار المعارف ص226)
في تَفْككها واختلاف عواطفها؛ فقد كان الشاعر يصنعها في أزمنة مختلفة. وأغلب الظن أنه كان إذا صنع قطعة عرضها على بعض شعراء قبيلته وبعض من يلزمه من رواته؛ فكانوا يروونها بصورة، وما يلبث أن يعيد فيها النظر فيبدِّل في بعض أبياتِها، يبدل كلمة بكلمة، وقد يحذف بيتًا. ومعنى ذلك أن صناعة المطولات أعدت منذ العصر الجاهلي لاختلاف الرواية فيها بسبب ما كان يدخله صاحبها عليها من تعديل وتنقيح. وفي أسماء شعرائهم وألقابهم ما يدل على البراعة في هذا التنقيح وما يطوى فيه من تجويد؛ فقد لقبوا امرأ القيس بن ربيعة التغلبي بالمهلهل لأنه أول من هلهل ألفاظ الشعر وأرقها، ولقبوا عمرو بن سعد شاعر قيس بن ثعلبة بالمرقش الأكبر لتحسينه شعره وتنميقه2 ولقبوا ابن أخيه ربيعة بن سفيان بالمرقش الأصغر، كما لقبوا طفيلًا بالمحبر لتزيينه شعره3، ولقبوا علقمة بالفحل لجودة أشعاره4 ولقبوا غير شاعر بالنابغة في شعره، ومن ألقابهم التي تدل على احتفالهم بتنقيح الشعر المثقِّب والمتنخّل. وقد استطاعوا حقًّا أن يبهروا العصور التالية بما وفروه لأشعارهم من صقل وتجويد في اللفظ والصيغة.
ونحن نعرف أن الصيغة في الشعر صيغة موسيقية، وقد أسلفنا كيف أحكموا هذه الصيغة؛ فقد كان الشاعر يتقيد في قصيدته بالنغمة الأولى، وما زالوا يصفون في نغم القصيدة، حتى استوى استواء كاملًا، سواء من حيث اتحاد النغم أو اتحاد القوافي وحركاتها، وبرعوا في تجزئة الأوزان حتى يودعوا شعرهم كل ما يمكن من عذوبة وحلاوة موسيقية على نحو ما نلاحظ في غزلية المتنخل اليَشْكَري السابقة. وحقًّا هو في جمهوره جزل؛ ولكنها جزالة تستوفي حظوظًا من الجمال الفني؛ ولذلك ظلت ماثلة في شعرنا العربي عند شعرائه الممتازين إلى عصورنا الحديثة. واقرأ في حوليات زهير وقصائده المطولة وفي غيره من المبرزين أمثال النابغة وعلقمة الفحل والمرقشين والأعشى وطرفة والمتلمس وعنترة ودريد بن الصمة وسلامة بن جندل والحادرة والمثقب العبدي فستجدك أمام قصائد باهرة، قد أُحكمت صياغتها وضبطت أدق ضبط، وسنعرض قطعًا منها فِي حديثنا عن الشُّعراء، لنصور براعتهم)(شوقي ضيف، ص226)
في هذا الجانب وكيف حققوا لموسيقاهم مهما جَزُلَتْ وتضخمت كل ما يمكن من بهاء ورونق.
وقد استعانوا منذ أقدم أشعارهم؛ لغرض التأثير في سامعيهم، بطائفة من المحسنات اللفظية والمعنوية، وأكثرها دورانًا في أشعارهم التشبيه؛ فلم يصفوا شيئًا إلا قرنوه بما يماثله ويشبهه من واقعهم الحسي، فالفرس مثلًا يشبه من الحيوان بمثل الظبي والأسد والفحل والوعل والذئب والثعلب ويشبه من الطير بالعقاب والصقر والقطاة والباز والحمام، ويشبه بالسيف والقناة والرمح والسهم وبالأفعوان والحبل والهراوة والعيب والجذع وتشبه ضلوعه بالحصير وصدره بمداك العروس وغرته بخمار المرأة والشيب المخضوب ومنخره بالكير وعرفه بالقصبة الرطبة وحافره بقعب الوليد وعنقه بالرمح والصعدة وعينه بالنقرة والقارورة ولونه بسبائك الفضة وارتفاعه بالخباء. وكل هذه الأوصاف والتشبيهات مبثوثة في المفضليات والأصمعيات، ويعرض علينا امرؤ القيس في وصفه لفرسه بمعلقته طائفة طريفة منها. وعلى نحو ما لاحظنا آنفًا كانوا يحاولون الإطراف في التشبيه، حتى يخلبوا ألباب سامعيهم، وقد يقعون على صورة نادرة كتصوير المتنخل اليشكري لغدائر بعض النساء بأنها كالحيات، يقول1:
يَعْكُفْنَ مِثْلَ أَساودِ الـ ... ـتَّنُّوم لم تُعْكَفْ لزُورِ2
وكانوا يشبهون المرأة بالبدر والشمس، وألم سويد بن أبي كاهل بهذا التشبيه، وحاول أن يخرجه إخراجًا جديدًا فقال3:
حرّة تَجْلُو شَتِيتًا واضحًا ... كشعاع الشمس في الغَيْم سَطَعْ4
فجعل أسنان صاحبته المفلجة البيضاء كشعاع الشمس يبزغ من خلل الغيم.
وكانوا يشبهون الرمح بالجمر ولهبه، وألمّ عَميرة بن جُعْل بهذا التشبيه فأضاف إليه إضافة جديدة؛ إذ قال:
جمعتُ رُدَيْنِيًّا كأَنَّ سِنَانَهُ ... سَنَا لهب لم يَتَّصِلْ بدُخانِ
(شوقي ضيف، ص228)
الشاعر القديم منذ البدء واعيا لأهمية الصدق الفني والصدق العاطفي في الرثاء ويظهر ذلك اعتماده في استهلال القصيدة وحرصه على المطلع والختام مما يؤكد هذا الوعي ، إن المواضيع التي تطغى على القصائد الجاهلية في المجالات العاطفية، إنها تعبر عن الصدق الفني والعاطفي ويتمثل في قصيدة أبي ذؤيب الهذلي التي فضلها الأصمعي تتعرض لموضوع عاطفي حزين وهو موضوع الموت والفراق، وكذا الدهر وصروفه؛ وقصيدة امرئ القيس تعالج واقع سيرورة حياة الإنسان إلى الأسوأ إن إجراء الشعراء عبر عصورهم التغيرات على نصوصهم ، مما يُشير كَذلك إلى أن المبدع يضع نصب عينيه وفي طوايا تفكيره شخصيته الفنية وعواطفه الجياشة، الصدق الفني والصدق العاطفي يعني بالدرجة الأولى للقارئ و السامع لتأثرهما بأسلوب الصدق الفني والصدق العاطفي، حيث تشترك الأذن مع العقل والمشاعر والوجدان لذلك لا بد من الاعتناء بالقيم وأدوات فنية نحو موسيقا الكلمة أو إيقاعها ؛ و بإشارات إيماءات ، و الحركة الصوتية مؤثرة والموضوع والظرف وهي مؤثرات التي تغير من طبيعة الحكم أو موضوعتيه والقصيدة العاطفية تعالج استشفاف الصدق الفني لتكون اللغة مكثّفة و مركّزة (في صدور الناس المتصورة في أذهانهم، و في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أموره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره.) (الجاحظ، 1423 ه ج:1: 81)1
وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وأخبارهم عنها، واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم، وتجليها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهرا، والغائب شاهدا، والبعيد قريبا. لبيان والتبيين) (الجاحظ، 1423 ه ج:1 : 81)2
القصائد الوجدانية تعبر عن ذات الإنسان وعواطفه أو وجدانه الصادق وتنبعث من صميم النفس، و معاناة الشخصية والفكرية والعاطفية عبر العبارات والألفاظ التي تؤلِف له خصوصية ما .
الصدق الفني والعاطفي يتحقق من عاطفة المبدع وانفعاله ؛ و الصدق الفني والعاطفي لا يتحقق إلا بالخيال أو الصور الفنّية ، واستعمال الكلمات السلسة بأسلوب معيّن ، وكم من موضوع واحد يتناوله عشرات الشعراء ، ولكنّنا نحس الصدق لدى هذا ، ونرى التكلف لدى ذاك ، والخيال هو الثوب الصدق الفني وفكرته ، فالخيال مرفودًا بالعقل يقدّم خصوصية للشاعر تنبثق من خلال انعكاسات الأشياء في حسه وفي نفسه يقول أنور المعداوي : " أما الصدق الفني فميدانه التعبير، التعبير عن دوافع هذا الإحساس ، بحيث يستطيع الفنان أن يلبس تجاربه ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية الصور ") (الشايب، 1973: 19/22 )3
التقاليد الفنية والعاطفية: يتمثل في الشعراء الصعاليك الذين اعتمدوا في جل أشعارهم على المقدمات الطللية والغزلية باعتبارها تقاليد فنية لا تجديهم في التعبير عن مكنونات نفوسهم، وعن أفكارهم وآرائهم التي اتخذوها إزاء مجتمعاتهم القبلية الطبقية.
الصدق الفني يستلزم النظر إلى مقومات الشعر من إيقاعات.. ولغة مميزة مكثّفة ، ومعان تحملها صور أو خيال . وثمةّ تأثيرات أخرى خارجية عن النص " لم نعد نستطيع أن نميّز بين صادق وزائف في الفن " (فاضل، بدون: 59 )4
ومن شروط الصدق :
1- العاطفة حقيقية.
2 –حدة الشعور والقوة الحساسية بلا مبالغة
3 – الدوران في الفلك الإنساني والسلوك الإنساني
4 – جلاء العواطف
و الصدق هي مسألة ذوقية محضة في وقت لاحق – فيقول :
" الإجابة عن التمييز بين الصدق والزائف هي عسيرة جيدًا ، لأنه في حقيقته سؤال عن كيف نميزّ بين الصادق والزائف في الفن ."( النويهي،1971 : 135) .
مصطلح " الصدق ": من الاستعمالات الأولى لمعنى الصدق ما ورد على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في زهير بن أبي سلمى : " ولا يمدح الرجل إلا بما فيه " (ابن رشيق، 1934ج1: 80)5
إن استجابة الشاعر لأفكاره وعواطفه دون قيود فنية في قصيدة شعرية ليس عيبا، وليس ضعفا فنيا جماليا ؛ فهذا النوع المعتمد على البناء البسيط له درجات كبرى من الفنية والشعرية والجودة الفنية والشعرية مرتبطة بمجموعة من العناصر والبنى المؤلفة للعمل الإبداعي باعتباره مزيجا من التراكيب اللغوية والصور الشعرية والإيقاعات والدلالات
الصدق في الواقع كما ورد في بيت شعر لحسان بن ثابت ذكر للصدق ، ولكنه هنا جاء مطابقًا لنفسية الشاعر أو حاله :
وإن الشعر لب المرء يعرضه على المجالس إن كَيسًا وإن حُمُقًا
وإن أشعر بيت قائلـه بيت يقال إذا أنشدته صدقا
(حسان، د.ت: 169)6
الحقائق العاطفية: يكمن في التعبير عن عاطفة صادقة ينبع عن نفسها قلقة متأزمة من وضع اجتماعي فاسد يعيشه الشاعر، لذلك نجد عنترة في الكثير من قصائده يتناول موضوعه الرئيس، ألا وهو الفخر بذاته، والإشادة برجولته وشجاعته وفروسيته، بطريقة مباشرة وهو المتحكم في أغلب و كثيرا ما يثور وبهدوء على المقدمات الغزلية، ليستبدلها بمقدمات خاصة به، تستجيب لظروفه المادية والنفسية، مقدمات تعبر عن حالته وسط قومه وقبيلته؛ هذه الحالة التي تتأرجح بين اليأس والأمل، بين رفض الحاضر والماضي والتنبؤ بمستقبل زاهر، بين نفي الآخر للذات،
نمط الفن العاطفي: وأغلب أشعار عنترة كان يتحكم فيها الواقع القبلي المتردي الذي سلبه كل مراتب الشرف والنبل لكونه أسود البشرة، لذلك كرس حياته لمحاربة هذا الوضع المترهل، ولتحقيق شرفه بشجاعته وفروسيته وشاعريته لا بحسبه ونسبه، لذلك كانت كثير من قصائده مستجيبة لعنصر الواقع النمط العاطفي
الحب الواقعي الصادق: الوحدات التي يتغزل بها عنترة بعبلة ابنة عمه، لم تكن من باب التقليد الفني الذي درج الشعراء على ذكره في قصائدهم، بل كان ذلك حبا واقعيا صادقا، كما كان وسيلة لإبراز شجاعته وقوته لمن يحب. إن تغزل الشاعر عنترة بعبلة ليس مثيلا لتغزل امرئ القيس بعنيزة أو فاطمة أو سليمى إنه تغزل تسيره ظروف واقعية
كثافة الفكرة والشعور: مشحون بطابع الحسرة واليأس والحزن لها وظيفة تأثيرية كبرى على المتلقي ولا بد أن يكون الشاعر صادقا مع نفسه، باعتماده هذا البناء الشعري البسيط، لأنه لم يكن ليراعي التقاليد الفنية الشعرية المتعارف عليها، كما لم يكن ليسعى إلى تحقيق الشهرة أو الحظوة التي تنتج عن الفنية المبالغ فيها. الشاعر باعتماده هذا النمط الشعري يسعى إلى إلغاء كل رقابة، وإلى نفي كل حاجز يحول بينه وبين التعبير المباشر الصادق عن واقعه المتأزم المتردي (وقد أورد صاحب الأغاني حوارًا بين عبد الله بن أبي عتيق وكثيّر عزة – يستعمل فيه عبد الله عبارة " أقنع وأصدق منك " وذلك في معرض الموازنة بين كثير وشاعرين آخرين) (الأصفهاني، د.ت. ج5: 85 /86)7
وقد وقف إحسان عباس على معنى " الصدق " في نقد ابن طباطبا في كتابه " عيار الشعر " ، فرأى أن لدى ابن طباطبا استعمالات مختلفة له :
1 - الصدق الفنّي أو إخلاص الفنان في المصطلح عن تفحصه الشخصية
يقول ابن طباطبا " فإذا وافقت هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند المستمع لا سيّما إذا أيدت بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلقة فيها ، والتصريح بما كان يكتم منها والاعتراف بالحق في جميعها استفزازًا لما كان يسمعها " (عباس، 1981: 142-144)8
2 - صدق التجربة الإنسانية – وهذه تتمثل في قبول الفهم للحكمة – يعلل ابن طباطبا ذلك " لصدق القول فيها ، وما أتت به التجارب منها " )(ابن طباطبا، 1982: 21 –22)9
وقد ينحى بها نحو الصدق في مدح الرجال كما قيل كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه ، فالالتجاء إلى الخيال والتمثيل واختراع الصور والمبالغة هو كذب فمن قال (خيره – أي الشعر – أصدقه إذ كان ثمره أحلى وأثره أبقى .. ومن قال : أكذبه ذهب إلى أن الصنعة إنما قد باعها وتنشر شعاعها ويتسع ميدانها وتتفرع أفنانها حيث يعتمد الاتساع والتخييل ويدعي الحقيقة في أصله التقريب والتمثيل، وحيث يقصد التلطف والتأويل، ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المديح والذم والوصف والنعت والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض ، وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد ويبدئ في اختراع الصور ويعيد " (الجرجاني، 1954 : 250) 10
فالفن يقوم على الإيماءة التي لا تكشف كل أبعاد النص ، إنما تترك فسحة من التخيل ولا يتأتى هذا إلا عن طريق اللغة المجازية
ومن إشارات الصدق في القصيدة أن يقدّم النص دلالات جديدة في ذهن القارئ- دلالات لم تكن من المنظورات المبنية مسبقًا ، وإنما هي تبنى بعد مراجعة النص واسترجاعه داخل نفس المتلقي – القارئ ، فالنص أشبه بخلية حية تداخلت بخلية حية أخرى في القارئ ، فيحدث التفاعل أو يحدث التلاقح بين البذرتين ، وينشأ هذا الموقف المتمازح بين النص وبين ذاتية القارئ والصدق يقاس بمدى ما بعبّر عن القارئ ، أو ما يود أن يعبّر عنه ، إذا كانت البلاغة موافقة مقتضى الحال ، فإن الحال لأنّ النص ينطق بلسانه أو معه .
يقول عز الدين إسماعيل : " الفن ونحن أساسيان ومتلازمان في كل عمل شعري يحظى بتقديرنا " . وهو يرى أننا حين نحكم على قصيدة ما بالصدق " فإننا نعبرّ بذلك الحكم في الحقيقة على نجاح الشاعر في التعبير كذلك عن مشاعرنا وأفكارنا – عن الموقف الذي نتخذه من الحياة أو يجب أن نتخذه " إسماعيل، 1966: 23-24 )11
أما تماثلنا مع قصائد قديمة تحمل منطقًا غير منطق عصرنا ، أو تحمل عقيدة مخالفة أو أفكارًا مناقضة فإنه يتأتّى بتقديرنا المسبق على أن روح العصر أو ذوقه هو الذي يوجهّ القارئ عند تقبّل القصيدة
التخيّل الشعري يوصل إلى استيعاب الصورة الفنية ، وهو الذي ينقلنا إلى إطار تاريخي آخر وظروف أخرى ، ويضع لنا مقاييس لغوية وأدبية مختلفة ، فتكون التجربة التي يتلقاها القارئ ( وَعْيوَية ) إذا صح التعبير . إنها نوع من الإزاحة تتم بربط هذه الأشياء أو المقاييس بالاتجاه العام الذي كان سائدًا في الشعر .
ولكن ثمّة فرق بين القصيدة التقليدية التي يكتبها شاعر اليوم ، كأن يهجو مثلاً بأساليب الشعر القديم ، وبين تلك القصيدة التي طالعنا بها الفرزدق مثلاً . فالأحوال المادية والثقافية والنفسية والاجتماعية مختلفة ، لذا يصعب على القارئ في أيامنا أن يحيل هذا النص الأول إلى التاريخ ، أو إلى مقاييس العصور السالفة ، إنه يحيله إلى واقعه اليوم ، فسرعان ما يجد الهوة بين لغة الطرح الشعري ومضمونه (إن النماثل يحتاج منا أن نبذل جهدًا لنتعرف على النص عقليًا ووجدانيًا ، فنستكشف ما فيه من مواقف وأحاسيس ، ولا يتم ذلك إلا بالمعايشة والألفة) (الجاحظ، 1966: 83- 84)12
للشاعر في قصيدته رؤية خاصة في الكون ، وأن له لغة تختلف عن لغة سواه – لغة فيها أنساق وسياقات منسوجة بصورة متميزة ، أو غير مألوفة – تُبين أو تشفّ عن التجربة فإنه يكتشف له خصوصية فيها أصداء نفس مطلقة ، وهمسات وجدانية والصدق الأصيل ينطبق ما كان، صادقا في حكايته وجزء من التناصّ
الاستغراب : ما له دلالة جديدة ، فخرج من حيادته إزاء المقروء ، فإنه يقع في لحظات دهشية أولية ، وذلك بسبب ما شحنته الكلمات من أبعاد فنية أو لغوية أو نفسية يقف القارئ على باب النص ، فيستقيل إيماءات وإشارات ، وما يلبث أن يقود نفسه إلى الدخول في حرم هذا النص ، وبشكل تلقائي ، حيث أمامه مجال التخيل و لا يسير إلا بخيط الصدق الذي تركته له الدهشة ، فالدهشة المتأنية من استيعاء عصارة إحساس المبدع – تترك متعة لذيذة ، فيحس القارئ أنه أمام صدق فني الذي يعبر، و يستلزم أسسًا يقوم عليها هذا الفن – ومنها التخييل، والموسيقا والإيقاع...، وتوقفت – وبصورة خاصة – على رؤية محمد النويهي، وهي هامة في هذا المجال وكان لابد من العودة الى مفهوم " الصدق" عبر العصور المختلفة في أدبنا، وخاصة لدى ابن طباطبا، فعبد القاهر الجرجاني، ثم مساهمات الديوانيين- العقاد والمازني وشكري-في ذلك." القارئ هو الذي يتذوق النص ويحاوره من خلال عناصر اللغة، ومن انعكاس الظواهر الاجتماعية والنفسية فيه، كقول الفرزدق في وكيع بن أبي سُودٍ:
فعاش ولم يتركْ ومات ولم يدعْ ... من الناس إلاّ من أباتَ على وتْرِ
(ثعلب ، 1995: 34)13 هناك إشارات قد تزجي القارئ إلى تذوق القصيدة، فالإحساس بصدقها، تبدأ باللغة ويكون القارئ فعالاً فيها، وباللغة يتبين ارتباط المبدع بأسلوبه، فيحس القارئ أن للشاعر صوتًا خاصًا يندفع منه، فإذا تناسب شخصيًا مع الصيغة، ورأى أنه يعبر عنه فهذا دليل على أن القصيدة صادقة في معاييرها. (ما لم يكن بالمغربِ المستغلق البدوي، ولا السفساف العامي، ولكن ما اشتد أسره، وسهل لفظه، ونأى واستعصب على غير المطبوعين مرامه، وتوهم إمكانه). (ثعلب ، 1995: 63 )14
لا يتكلف الشاعر البحث عن القواعد الفنية التي تزخر بها ثقافته الشعرية، ليصقل موهبته حتى تخرج على منوال قالب شعري فني راقي متعارف عليه في الأوساط الشعرية الجاهلية، بل يباشر الموضوع، معبرا عن واقع حقيقي هو واقع الحرب والبسالة والشجاعة، إن الشاعر الصعلوك ربط شعره بالدفاع عن قضيته المصيرية المتمثلة في قضية الوجود، لكن ليس الوجود بالمعنى الإنساني العام، وإنما الوجود الاجتماعي: أي الحياة العزيزة الكريمة للذات الإنسانية المهمشة بسبب النسب أو الحسب أو اللون في مجتمع إنساني تسوده مظاهر العدل والمساواة
فن صف الرحيل: وصف مظهر رحيل الشاعر ، لكن ليس رحيل الأحبة، هناك سير للإبل والظعائن والماشية. إنه رحيل الشاعر إلى المجهول بعيدا عن قومه الذين رفضوه وطردوه، فلم يعودوا أهلا له. فيكزون الشاعر كئيبا يبعث في النفس إحساسا بالرهبة والحزن ؛ فرحيل الشاعر في النمط الفخم، وعلى الرغم من المخاطر والأهوال التي تسمه هو رحيل إلى الممدوح، إلى المال والجاه. ورحيل الشاعر الصعلوك، فهو رحيل إلى البيداء والصحراء، رحيل إلى عالم الذئاب والضباع والوحوش الضارة
القصائد الشعرية تبتدئ بموضوعها الرئيسي مباشرة، دون حاجة إلى مقدمات لا تمت له بصلة ظاهرية؛ وهذا ما أكسبها تلك الوحدة الموضوعية سواء ظاهريا أو باطنيا، على خلاف القصائد الفنية ذات البناء الفخم التي لا تملك هذه الوحدة سطحيا، وإن كنا لا ننفيها على مستوى البنية العميقة.
مضامين المرثيات في العصر الجاهلي:
يحتفظ أدب العربي تراث ضخم من المراثي منذ الجاهلية الذي يعبر عن الحزن واللوعة، الّتي تنتاب لغياب عزيز بفقده، بتعداد مناقبه والإشادة بمآثر التوجع وتتردد فيه صولة الموت وسلطان الفناء، وتطورت صور الرثاء ونماذجه وتعددت دواعيه وبواعثه. فإِذا جئنا نوازن بين عناصر المرثية في نماذج تمثل تدرج الزمن ونمو العقل وتعقد الحياة، خرجنا بحقائق يمكن رصدها في رسم بياني، بدايته في العصر الجاهلي ونهايته في عصرنا الحاضر، غير أن هذا الرسم نسبي إِلى حد كبير، ولابد من وجود تذبذبات ومنعرجات فيه (أشعار الجاهلية مشهورة معروفة، وإنما نملي منها العيون. ألا ترى إلى قوله قليل التشكي للمصيبات ثم وصله بقوله حافظ مع اليوم أدبار الأحاديث في غد كيف قرن فيه معنى ظريفاً بآخر مثله في الظرافة التي لا يمتنع اللبيب من قبولها واستحسانها والمعرفة بحقيقة ما فيها كما قلنا في الذي قبله) (المبرد ، 1997م: 58) 15
وهو أحد فنون الشعر العربي يصدرها من حيث صدق التجربة وحرارة التعبير ودقة التصوير ويتضمن البکاء على الميّت وإظهار لوعة الفراق والحزن ويحلق النّساء رﺅوسهنَّ حزناً علی الميّت. قال عن عبد الله بن الأسود: لما مات عاصم بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه أخوه عبد الله فرثاه. وأنشدني هذا الشعر الرياشي: الطويل
إن تك أحزانٌ وفائض عبرةٍ ... أثرن دماً من داخل الجوف منقعا
تجرّعتها في عاصمٍ فاحتسبتها ... لأعظم منها ما أحتسى وتجرّعا
فليت المنايا كنّ صادفن غيره ... فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا
(المبرد ،1997م: 91 )16 وأقدم تلك المراثي مما أبدعت قرائح الجاهليين، وصلتنا ناضجة محكمة، قد تجاوزت طفولتها ومراحل محاولاتها البدائية، وصارت ذات قوالب وصيغ محددة، وأساليب وصور معروفة ثم لما تطورت مختلف فنون الشعر نتيجة مجيء الإِسلام وما تفرع عنه خلال الأجيال الطويلة المتعاقبة من تيارات فكرية ومذهبية وسياسية وأدبية وقال إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب يرثي أخاه محمد بن عبد الله: البسيط
أبا المنازل يا عبر الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أنّي لو خشيتهم ... وأوجس القلب من خوفٍ لهم فزعا
لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم ... حتّى نعيش جميعاً أو نموت معاً
وكان قتله في المعركة عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله وهو الذي قتل إبراهيم أخاه. (المبرد ،بدون : 91)17 تسود على الشاعر أحياناً العاطفة فهو يبدأ القصيدة بعتاب من يعاذله، فلا يستطيع الصبر على اللائم فيعظّم شأن المرثي نلاحظ إذًا أن العاطفة صفة نفسية، (نبع أول أمرها من نفس الأديب الذي يجب أن يكون نفسه متأثرًا منفعلًا إذا شاء من قرائه حماسة وانفعالا، وهي لذلك صفة العاطف والإرادة والأخلاق قبل أن تكون صفة الأسلوب؛)، (الشايب،2003: 194)18 يرى الشاعر قتل المرثي ظلماً وجناية ، فيعدد مناقب المرثي ثمّ يهدّد القتلة مثل ما نجده مّا أسلوب الشاعر الجاهلي فيستخدم الشاعر النداء أحياناً حزنه وألمه فالشاعر هو الذي يسرد الحقائق بوضوح، يأتي النداء لعتاب اللائم ولبيان مكانة المرثي وتعظيمه والمبالغة في شدة ما أصاب (ويعتقدها بصدق، ويحرص على إذاعتها، تجد في عبارته صدى ذلك، وهي قوة لا تكون بالتقليد والتصنع، وإنما هي من قوة الأخلاق وصدق العقيدة وصحة الفهم وبعد أغواره، وإذا كان الغرض من الوضوح هو الاقتصاد المباشر، في إجهاد مواهب القارئ، فإن الغرض من القوة الاقتصاد غير المباشر بإيقاظ عقله، وعواطفه) (الشايب،2003: 194)19
مراثي الجاهلية المشهورة المستحسنة المستجادة المقدمة معلومة موسومة منها قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، على أن سائر أشعاره غير مذموم، وان تقدمتهن العينية التي أولها. الطويل
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
ومنها قصيدة دريد في أخيه عبد الله التي أولها الطويل
أرثّ جديد الحبل من أمّ معبد ... بعاقبةٍ وأخلفت كلّ موعد
ومنها قصيدة كعب بن سعد الغنوي يرثي فيها أخاه، وهي التي أولها: الطويل
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ... كأنّك يحميك الشّراب طبيب؟
(المبرد ،بدون : 50)20 يستخدم الشاعر النداء يمنح للشعر حيويّة تجذب القارئ ليواسي الشاعر في مصيبته ويشاركه في أحزانه وآلامه لإلقاء الوحدة الزمانية بين الشاعر ومخاطبيه للشعور بأنّ المنادى حاضر في مرأى القارئ والشاعر يستخدم النّداء أحياناً للاستحضار الغائب والإلتذاذ بذكر المرثي، فيخاطب الميت والمقتول فكأنّه حاضر أمامه ويناديه ويستلذّ بتخاطبه فمناداة الشاعر المرثي مرّتين بعد فعلين أمرين يخاطب بهما إجابة أخيه مطالبة المسترحم الملحّ توضّح عاطفته الفائرة التي تغلّب عليه فخضع الراثي لها خضوعاً لا بدّ منه.
للمهلهل حيث يقول :
أ تغدويا كليب معي إذ ما
جبان القوم أنجاه الفرار ؟
أ تغدويا كليب معي إذ ما
حلوق القوم يشحذهاالشّفار ؟
(السيد احمد الهاشمي،جواهر الادب، ص 771)21
يدخل الشاعر في الرّثاء مباشرة لحزنه الشّديد وللتّموّجات العاطفيّة الحادّة في نفسه ممّا کانتْ تضيق عليه المجال لمتابعة المنهج المعروف. وهو احترام القوانين الأساسية ( لتحقيق هذا الجلاء هو تحري البساطة في صوغ العبارات ومجانبة التعقيد، مع الاحتفاظ بسموها وقوتها. وهذا القانون نفسه متصل بالتكوين المنطقي والنحوي للأسلوب؛ هذا التكوين الذي يسلك الكلمات والجمل والعبارات في نظام لفظي هو صورة لنظام عقلي، وتفكير منطقي مطرد وهذه بعض القواعد التي تفيد في تكوين التراكيب الواضحة (الشايب،2003: 190 )22
فتجري الكلمات في مجرى عاطفي حزين فيستهلّ رثاءه بما يظهر من حزنه، فيزيده ذكر المرثي حزناً على حزنه ودموعاً على دموعه، فتطول له الليالي ِن ما انتهى إِلينا من تراث المراثي كثير جدًا يمثل مختلف العصور الأدبية ومختلف الألوان والاتجاهات الفكرية.
ومن عجيب ما قيل قول النابغة في حصن بن حذيفة إكباراً لشأنه، واستعظاما لموته، وتعجباً من ذهاب مثله: الطويل
يقولون حصنٌ ثمّ تأبى نفوسهم ... وكيف بحصنٍ والجبال جنوح؟
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ... نجوم السّماء والأديم صحيح
فعمّا قليلٍ ثمّ جاء نعيّه ... فظلّ نديّ الحيّ وهو ينوح) (المبرد ،بدون : 62)23
فيشكو الشاعر من غربته بعد المرثي، فيجمع بين استفهام ونداء وطباق ليجمع بين عذاب الفراق وإلتذاذ بذكره واستحضاره وشجاعته ولتأكيد ألمه وحسرته له. والمراثي أكثر طرافتا من الشعر الجاهلي هو (مراثي الخنساء ومراثي ليلى الأخيلية، ومراثي لبيد في أخيه أربد، وعدي المهلهل فيمن بكاه من قومه )(المبرد ،بدون : 51)24 كذلك إنّ الاستفهام يستخدم لتقرير أنّ العمر يمرّ وينتهي إلى النّقصان والضعف ولبيان أنّ الموت شامل لا مفرّ منه وهذه لتعميم المصيبة وتنفيس المصاب وارتياحه كما يقول لبيد في رثاء أربد:
أليس ورائي إن تراخت منيّتي
لزوم العصا تحني عليه الأصابع
ويقول أيضاً:
أتجزع ممّاأحدث الدّهر بالفتى
وأيّ كريم لم تصبه القوارع
(فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271)25
وقد فضل بعض المراثي على سبيل المثال (مرثية دريد بن الصمة فكان الأصمعي يقدمها جداً، وهي أهل ذاك. وكان سبب هذه المرثية أن أخاه عبد الله بن الصمة أحد بني جشم بن بكر بن هوازن، غزا قبائل غطفان بن سعد بن قيس بن مرة، وفزازة وأشجع بن بغيض. فاكتسح أموالهم وانصرف، فلم يجاوز بعيداً حتى أناخ وأمر بالإبل تنحر، فقال له أخوه دريد: يا أبا فرعان، إن غطفان غير نائمة عن أموالها فتقدم شيئاً ثم أنخ. يقول في كلمته هذه: الطويل
وقلت لعارضٍ وأصحاب عارضٍ ... ورهط أبي السّوداء والقوم شهّدي
أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى ... فلم يستبينوا النّصح إلاّ ضحى الغد
فلمّا عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنّني غير مهتد
فما أنا إلاّ من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
فقلت لهم: ظنّوا بألفي مقاتلٍ ... سراتهم في الفارسي المسرد
فنادوا وقالوا: أردت الخيل فارساً ... فقلت: أعبد الله ذلكم الردي؟
فجئت كأمّ الوّ ريعت فأقبلت ... إلى جذمٍ من جلد سقبٍ مقدّد
فما راعني إلاّ الرّماح تنوشه ... كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد
فإن يك عبد الله خلّى مكانه ... فما كان وقّافاً ولا طائش اليد
كميش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بعيدٌ من السّوءات طلاّع أنجد
قليل التّشكّي للمصيبات حافظٌ ... مع اليوم أدبار الأحاديث في غد
وهوّن وجدي أنّني لم أقل له: ... كذبت، ولم أبخل بما ملكت يدي
(المبرد ، 1997 : 58/ 57)26
وطبيعي أن يتفوق الإناث مهارتا أكثر من الرجال في قصائد المراثي، لا نجده في فن آخر غير هذا الفن؛ ذلك أن الأنثى بتكوينها النفسي والوجداني والاجتماعي هي أكثر استعدادًا، فإنسانيتها أسرع بعثا وأعمق إحساسا، وتمكنا على البكاء وبعث مصائد اللوعة لا تدانيها قدرة الرجال. و الشّاعر الجاهلي في رثائه ينعت المرثیّ بجميع السمات الفضيلة فنجد لبيد بن ربيعة يقول في أخيه أربد راثياً
أشْجَعُ مِنْ لَيثِ غَابةٍ لَحِمٍ
ذُونَهْمَةٍ في العُلاوَ مُنْتَقَد
وکذلک قوله :
حُلوًّ کريمٌ وَ في حَلاوَتِهِ
مُرٌ لطيفُ الأَحْشاءِ وَ الکَبَدِ
(فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271)27
قال أبو الحسن المدائني: كانت العرب في الجاهلية وهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون عقاباً يتحاضون على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله، إيثاراً للحزم وتزيناً بالحلم، وطلباً للمروءة، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى إن كان الرجل منهم ليفقد حميمه فلا يعرف ذلك فيه. يصدق ذلك ما جاء في أشعارهم، ونثي من أخبارهم. قال دريد بن الصمة في مرثيته أخاه عبد الله: الطويل
قليل التّشكّي للمصيبات حافظٌ ... مع اليوم أدبار الأحاديث في غد
صبا ما صبا حتّى إذا شاب رأسه ... وأحدث حلماً قال للباطل ابعد
قال أبو عبيدة: كان يونس بن حبيب يقول: هذا أشعر ما قيل في هذا الباب.
وقال أبو خراش الهذلي: الطويل
تقول أراه بعد عروة لاهياً ... وذلك رزءٌ لو علمت جليل
فلا تحسبي أنّي تناسيت عهده ... ولكنّ صبري يا أميم جميل
وقال أبو ذؤيب: الطويل
وإنّي صبرت النّفس بعد ابن عنبسٍ ... وقد لجّ من ماء الشّؤون لجوج
لأحسب جلداً أو لينبأ شامتٌ ... وللشّرّ بعد القارعات فروج
وقال أوس بن حجر: المنسرح
أيّتها النّفس أجملي جزعا ... إنّ الّذي تحذرين قد وقعا
(المبرد ،بدون : 41/42)28 إذا تابعت الشاعر الجاهلي يصور المرثيّ بالشَّجاعة والآمال القصوى السامية ومستقيم الخُلق وبأَنّه مکرم أصدقائِه وخشية أعدائه والمرثي عند الشاعر الجاهلي نحيل الجسم مندرس الثّوب لا من فقر ؛ لأنّه في سعة العيش بل من رجحانه الآخرين علی ذاته، فهو متقشف جواد في فقره وحزنه لا في الثراء کما يقول دريد بن الصِّمة:
تَراه خَميصَ البَطْنِ وَ الزّادُ حاضرٌ
عتيدُ ويَغْدُوفي القَميصِ المقَدَّدِ
وإنْ مَسَّهُ الإقواءُ والجهدُ، زادَه
سَماحَاً وَ إتْلافاً لِما کانَ في اليَدِ
(فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص371)29
يصور الشاعر الجاهلي المرثيَّ بأنّه لم ينتفع الفضائل طيلة حياته، بل هي طبيعة فأثقل عليه هذه المحنة ،فلا يتمكن أن ينساه ،فيبکي حتّی تأتيه المنيّة، تقول الخنساء في رثاء أخيها صخر:
فَلا وَاللهِ لا أَنْساکَ حتَّی أُفارِقَ مهْجَتي وَيشقَّ رَمْسي:
وَسَوفَ أَبکيکَ ما ناحَتْ مُطَوَّقَةٌ وما أَضاءَ تْ نُجُوم اللَّيلِ للسّاري
فلا تقدر أن تتحمّل فراق أخيها المتخلّق بالأخلاق الکريمة والفضائل العاليه الّتی مدحته بها،فموته أعظم مصيبة راها الإنس والجنّ:
فَلَمْ أَرَمِثْلَهُ رُزْءً لجِنٍّ ولَمْ أَرَمِثْلَهُ رزءً لإنْسِ
الشّاعر الجاهلي يحذو في رثائه النمط الشعري الجاهلي المعروف أحياناً ويدخل في الندب مباشرة ففي محاكاته المنوال الشعري الجاهلي يقف علی حطام وبقايا منزل الحبيب، فيبکي وينتقل إلی الصحراء ء فيصف ما تقع عليه عيناه. ثمّ يدخل في الرّثاء منها : نواح النفس ساعة الاحتضار ونواح السلالة والأهالي، وكل من ينزل منزلة النفس والأهل من الأحباء وأخوة الخواطر والمسار والمشرب، بل يمتد إِلى رثاء القبيلة والإقليم والبلد حين تدول أو تصاب بحرج من الأحراج الفتاكة الموحشة ولم تكن الخنساء هي الوحيدة في رثاء أقربائها. فنجد غيرها من الشواعر اللاتي فجعن بموت أخوتهنّ وآبائهن فرثينهم، كرثاء سعدى بنت الشّمردل الجهينة لأخيها في قولها:
أ من الحوادث والمنون أروَّعُ
وأبيت ليلي كلّه لا أهجعُ
وأبيت مخلية أبكّي أسعداً
ولمثله تبكي العيون وتهمع
إنّ الحوادث والمنون كليهما
لا يعتبان ولوبكى من يجزع
(من الشعر الجاهلي، أحمد المراغي ص: 62)30
فحزن الشاعر الجاهلي بعد ممات المرثي يجعله أن لا يری خيراً في الحياة بعده ويدعو ألّا تطول حياته ويصور الشاعر الجاهلي قومه بالمجد وعدم المطاوعة أمام التعسف. وأحياناً يسيطر عليه الحمية الجاهلية، فيرى الإغماض عن الأخذ بالانتقام ذلّاً لقومه فيحرّض بذلك شعبه ويتولد في نفسه نواح وتعداد الخصال والثناء وتنويه وإطراء بشخصية لامعة، أو محبوب ذي منزلة في أهله أو مجتمعه، وهو تعبير عن حزن على الفقيد، يكمد الشّاعر الجاهلِي لخراب المرثيّ ويتوعد قاتليه فيوعد ألاّ يتحول إلی الوشائح وَأنْ لا ينزع ترسه وحسامه حتّی يتناول انتقامه، والعزاء: هو في مرتبة عقلية فوق مرتبة التأبين. إِذ هو نفاذ إِلى ما وراء ظاهرة الموت وانتقال الراحل، وتأمل فكري في حقيقة الحياة والموت. تأمل ينطلق إِلى آفاق فلسفية عميقة في معاني الوجود والعدم والخلود کما يقول المهلهل:
خُذْ العهدَ الأَکيدَ عليَّ عمري
بِتَرکي کلَّ ماحَوَتِ الدِّيارُ
وَهِجريَ الغانياتِ وَشُربَ کأسٍ
وَ لُبسْي جبّةً لا تُسْتَعارُ
ولستُ بِخالعٍ دِرعي وسَيفي
إلی أنْ ييخْلَعَ الليلَ النَّهارُ
(السيد احمد الهاشمي، جواهر الأدب، ص 771)31
والشّاعر الجاهلي صادق العاطفة في رثائه. فحزنه الشّديد واضح من خلال أبياته خاصّةً إذا کان الرّثاء في أحد الأقرباء. کما نجده عند المهلهل حيث يرثي أخاه کليباً، تجد أَنَّه يصوّر حزنه في تفجعّ شديد فتأبی عيناه من ألاّ تبکي، فتذرف الدّموع کأَنَّ شفارها غضا القتاد وعند ما يسمع موت أخيه تطاير بين جنبيه الشّرار. فمن شدّة الحزن والبکاء لاينام، فيضطرب يقول:
أَبتْ عَينايَ بَعْدَکَ أَنْ تَکُفّا
کَأَنَّ غَضَا القَتَادِ لَها شِفَارُ
کَأَنّي إذ نَعی النَّاعي کُلَيْباً
تَطَايَر بَيْنَ جَنْبَيَّ الشَّرارُ
فَدُرْتُ وَ قَدْعَشِيَ بَصَري عليه
کما دارَت بِشارِبِها العُقَارُ
سَأَلتُ الحَيَّ أَينَ دَفَنْتُمُوهُ
فَقالُوا لي «بسَفحِ الحيِّ دارُ»
فَسِرتُ إليه من بلدي حَثيثاً
وَطارَ النَّومُ، وَامْتَنَعَ القَرارُ
يفقد البصر(العاطفة) وتضعف لو کان المرثي من غير أهل الشّاعر فلا نجد حينئِذٍ التفجع في رثائه کما نجده عند رثاء أقربائه تبتعد المراثي عن الأهل والأقرباء وخرجت إلی السادات والملوک الغرباء، کان شأنها شأن المدح التّکسّبي، علی غیر آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميّت) (المبرد ،بدون : ص91 )32
والرّثاء مرآة صادقة للمعيشة الجاهليّة فالشاعر الجاهلي يصف مرثيّه بالتّحلّي بالأخلاقيّات مثل الشجاعة والجود والحلم والزّهد وغيرها ونجد في الّرثاء من عاداتهم امتناعَهم من شرب الخمر ومعاشرتهم الغانيات وابتعاد هم عن الملذّات عند موت أحد أقربائهم. وفي رثائهم دلالات تشير إلى معرفتهم ببعض المعارف والأجرام تدلّ علی اعتقادهم کما أتی به لبيد بن ربيعة في رثاء أربد:
لَعَمْرُکَ ماتَدري الضَّواربُ بِالحصی
وَلا زاجِرتُ الطَّيرِ ما اللَّهُ صانعُ
سَلُوهُنَّ إِن کذَّ بتُمُوني مَتی الفَتـی
يَذُوقُ المَنايا أَم مَتی الغَيثُ واقِع
کما يقول:
أخْشی علی أَرْبَدَ الحتوفَ وَلا
أَرْهَبُ ذَوْءَ السِّماکِ ولأَسدِ
(فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271)33
وتضعف العاطفة عند تراخ المرثي من غير سلالة الشّاعر فلا نجد عندئذ التفجع في رثائه کما نجده عند رثاء أقربائه المراثي عن الأهل والأقرباء وخرجت إلی السادات والملوك الأجانب و اعتبارها اعتبار المدح ، علی غیر آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميّت إلاّ ذکر أياديه البيض عليه کرثاء النّابغة للنّعمان الغساني حيث يقول:
يَقُول رِجالٌ يُفکرونَ خَليقَتي
لعلّ زياداً ، لا أبالک ، غافلُ
غفلتي أنّي إذا ما ذکرتُه
تحرّک داءٌ في فؤادي داخلُ
وإنّ تلادي إن ذکرتُ وَشِکََّتي
وَ مُهري وَ ما ضَمَّتْ لديَّ الأَنامِلُ
حِباؤکَ وَ العِيسُ العِتاقُ کأنّها
هجان المهی تُحدي عليها الرّحائلُ
(أدباء العرب في الجاهلية وصدر الاسلام، ص 65)34
النظرة العابرة إلى في جسر الرثاء توضّح لنا أنّ الرثاء هو موقف الحكمة الذهنية حيناً والإنسانية المتهيجة حيناً آخر، كما نجد أحياناً أنّ الإنسانية تخرق الحكمة فتخلط المتانة بالطراوة. فالشاعر إذا كان ذا خصوصية تفاؤلية في المعيشة يسود عليه الفكر فيفسر الشاعر المصيبة بتجاربه وتمعن الذهن ممّا يجعل شعره بعيداً عن الأحاسيس فيتحدّث الشاعر عن الحياة وما فيها من حرمان وثراء وقلق وسعيد وفقدان وكسب وقصور وطاقة.
الرثاء غرض من الأغراض الأصلية للشعر الجاهلي وهي دراسة توضّح البيئة الجاهلية وتبيّن منهج الشاعر وتبرز أنواع الرثاء والمرثيين والصفات ممدوحة بها، ومن الشعراء الجاهليين منهم من خاض في هذا الميدان كلبيد بن ربيعة، ودريد بن الصمة، ومن الشواعر الخنساء وسعدى بنت الشمردل وغيرهم من الشعراء و(مراثي الجاهلية المشهورة المستحسنة المستجادة المقدمة معلومة موسومة منها قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، على أن سائر أشعاره غير مذموم، وان تقدمتهن العينية التي أولها.
لعمري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جزعٍ ممّا أصاب فأوجعا
ومنها قصيدة دريد في أخيه عبد الله التي أولها الطويل
أرثّ جديد الحبل من أمّ معبد ... بعاقبةٍ وأخلفت كلّ موعد
ومنها قصيدة كعب بن سعد الغنوي يرثي فيها أخاه، وهي التي أولها: الطويل
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ... كأنّك يحميك الشّراب طبيب؟
(المبرد،ب.ت: 50)35
الرثاء هو من أهمّ الأغراض الشعريّة في الجاهلية: فهو كالمدح إلّا أنّ هناك قرائن تدلّ على أنّه في الميّت أو القتيل، بعبارة أخرى أنّ الرثاء هو موطن العاطفة الحزينة يصف فيه الشاعر الجاهلي المرثي بجميع الصفات التي يصف بها الممدوح. ولا شكّ أنّ العاطفة عندما كان الرثاء في الأقرباء أصدق منها في غيرهم. ويستعمل الشعراء الألفاظ الرقيقة
و(ألفاظ الشاعر في هذا الجزء من المعلقة جاءت في معظمها بعيدة عن التجهم والعسر, تشفُّ وترق حين يعمد إلى التقرير الفكري، بينما يعروها الجفاف وتبدو عليها ملامح الغرابة حين يعمد إلى الوصف أو يعرض لمشاهد حسية، ويبلغ من ذلك أقصاه حين يصف الناقة مثلا يشتد اتصاله بالحياة البدوية، أما حين يتحدث عن نفسه ومذهبه، أو يبعث لواعج حزنه، أو يصور حبه ولذته، فإنه يطالعنا بصور مشرقة تفيض سلاسة وعذوبة، كما في هذا الجزء من القصيدة فهو يلائم بين الشعور والتعبير والمضمون) ( عمارة، بدون.ت: 222)36
نجد الشاعر يباشر بالرثاء عند رثاء الأقرباء دون أن ينهج المنهج المعروف للقصيدة الجاهلية فيرثي دون أن يقف على الأطلال ويصفها، ودون أن يبكي أو يستبكي لسيطرة العاطفة الحزينة عليه. وهو في رثائه يستخدم الأساليب المختلفة من استفهام واستثناء ونداء وما إلى ذلك للتقرير والتهديد والحسرة
من المراثي التي تشبه في المديح اقتضاب المعاني واختصار الألفاظ، ما قاله أوس في قصيدته يرثي فضالة التي أولها:
ألم تكسفِ الشمسُ شمسُ النها ... رِ مع النجمِ والقمرِ الواجب
لهلك فضالةَ لا تستوي ال ... فقودُ ولا خلةُ الذاهبِ
وأفضلتَ في كلِّ شيءٍ فما ... يقاربُ سعيكَ من طالبِ
نجيحٌ مليحٌ أخو ماقطٍ ... نقابٌ يخبرُ بالغائبِ
ويكفي المقالةَ أهلَ الدحَا ... لِ غيرُ معيبِ ولا عائبِ
( بن قدامة، 1302 :36)37
في ظاهر النظر أن يظن بنا خطأ في وضعنا مليح موضع المدح بالفضائل الحقيقية، إذ كانت الملاحة لا تجري مجرى الفضائل النفسية، لأن المليح في هذا الموضع ليس هو من ملاحة الخلق، لكنه على ما حكى عن أبي عمرو أنه المستشفى برأيه، قال: وهو من قولهم: قريش ملح الأرض، أي الذي يستشفى بهم، والذي يشهد على ما قاله أبو عمرو قول أوس بن حجر:
نقاب يخبر بالغائب
لأن هذا من جنس الرأي والحدس.
وقول الشماخ في عمر بن الخطاب:
فمَنْ يسعَ أو يركبْ جناحيْ نعامةٍ ... ليدركَ ما قدمتَ بالأمسِ يسبقِ
وقول الحطيئة يرثي علقمة بن علاثة:
فما كان بينِي لو لقيتكَ سالِماً ... وبينَ الغنَى إلا ليالٍ قلائلُ
ولو عشتَ لم أمللْ حياتِي وإن تمتْ ... فما في حياةٍ بعد موتكَ طائلُ
ومنهم أيضاً من يغرق في وصف فضيلة واحدة على حسب ما تقدم، وتكون جميع الأحوال في المراثي جارية على حسب أحوال المديح، وفي ما تقدم في باب المديح من وصف ذلك ما أغنى عن إعادته في هذا الموضع) (بن قدامة ،1302: 36 )38
امّا من حيث المضمون فكان الشاعر الجاهلي يبدأ قصيدته بذكر الحبيب ومنزله ووصف آثاره وصفاً دقيقا ثم يخلص إلى وصف ناقته التي تنجيه من أحزانه وآلامه فيصورها للقارئ أرجلها وأيديها وضمور بطنها وصلابة فقراتها واستطالة وجهها وكثرة أسفارها. ثمّ يعرض غرضه الرئيس في القصيدة(ولا شك أن هذه الصيغ وتلك الأساليب المتعددة تدل على نفسية قلقة, كما تعبر عن الأحوال النفسية التي تطرأ عليه وهو يعاني وطأة المصير الذي ينتظره، بالإضافة إلى أنها تساعد على إثارة انتباه السامع والقارئ وتمهد السبيل لإقناعه، و كان طرفة مفتنا في صوره الخيالية وتشبيهاته المجتلبة) (عمارة ،بدون،ت: 222)39
مضامين الحزن والأسى: الشاعر كما قيل هو لسان قومه وقبيلته يدافع حريمها مادحاً أبطالها يهجو أعداءها يرثي موتاها وقتلاها يفخر بمناقبها، فيرفع شأن من يريد ويخفض بمنزلة من يعارضه. كما أنّه هو الذي يشجّع الأبطال للقتال ويقوّيهم بأبياته ويهزم الأعداء بتمزيق شوكتهم. فهو راية القبيلة وسيفها القاطع
مضامين الرثاء في نفس الشاعر الجاهلي: يعتبر الرثاء من الأغراض الرئيسة التي تناولها الشاعر الجاهلي. فهو عند الرثاء إمّا يبدأ القصيدة بمنهـج الجاهلي المعروف وإمّا يباشر فيها بالرثاء لطغيان عواطفه وتسليمه أمام مشاعره دون مراعاة للأسلوب السائد على القصيدة إذن تخضع قصيدة شعرية لبناء معين يضمن لها تماسكها هذا البناء يخضع في أغلب الأحيان للمستوى الدلالي، الذي نستطيع بواسطته تقسيم القصيدة إلى وحدات شعرية مختلفة المضمون، متآلفة الإيقاع والوزن، إلا أن اختلاف المضمون والدلالة لا يعني استقلالية كل وحدة، بل إن هذه الوحدات متماسكة فيما بينها على مستوى البنية العميقة للدلالة والرؤية الشعرية
وهذا يشبه قول طرفة: الطويل
إذا القوم قالوا: من فتىً؟ خلت أنّني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
ومن ذلك قوله في أخرى: الطويل
وكلّ فتىً في النّاس بعد ابن أمّه ... كساقطةٍ إحدى يديه من الخبل
وبعض الرّجال نخلةٌ لا جنى لها ... ولا ظلّ إلاّ أن تعدّ من النّخل
وهذا من جيد الكلام لصحة معناه) (المبرد ،1997م :53)40
القصيدة الشعرية الجاهلية : ولعل بناء القصيدة الشعرية الجاهلية قد اتخذ شكلين متباينين: بناء فخم، تمتاز فيه القصيدة بالطول، وتضم عدة وحدات أولاها وحدة الطلل أو النسيب، ثم وحدة ذكر رحيل الأحبة، ثم وحدة وصف الفرس أو الناقة،
فوحدة المدح والرثاء أو الهجاء أو الفخر، وأخيرا وحدة الموعظة أو الحكمة... إلى غير ذلك من الوحدات التي تدخل ضمن هذا البناء كوحدة الليل ووصف الذئب أو الوادي وكذلك قول أعشى باهلة في مرثيته المنتشر بن وهب حيث يقول في جلده، إذ كان جل ما فيه مما يمدح به فيما كان به موصوفاً: البسيط
ما يغمز السّاق من اينٍ ومن وصبٍ ... ولا يعضّ على شر سوفه الصّفر
ماضي العزيم على العزّاء منصلتٌ ... بالقوم ليلة لا ماءٌ ولا شجر
كأنّه عند صدق القوم أنفسهم ... باليأس تلمع من قدّامه البشر
(المبرد، 1997 م: 59 )41
أما البناء الثاني الذي نجده في القصيدة الجاهلية، فهو ذلك البناء العادي والبسيط الذي يتناول فيه الشاعر - وبطريقة مباشرة - موضوعه الرئيس الذي يعبر من خلاله عن أحاسيسه ومشاعره اتجاه الحياة والكون. إنـه نمط بسيط في شكله لا في جوهره ومحتواه. إن بساطته ليست سذاجة، بل شكلا من أشكال تصنيف وتنضيد القصيدة الشعرية
ويروى من غير وجه حدثناه مسعود بن بشر وغيره أنه لما مات مخلد بن يزيد بن المهلب، حضره عمر بن عبد العزيز وصلى عليه ثم قال: الكامل
بكّوا حذيفة لا تبكّوا مثله ... حتّى تبيد قبائلٌ لم تخلق
ثم قال: لو أراد الله بيزيد خيراً لأبقى له هذا الفتى. فهذا من الأبيات الجامعة كنحو ما ذكرنا) (المبرد، 1997 م: 60 )42
وإذا كان هذا البناء النمطي البسيط شائعا في القصيدة الشعرية الجاهلية، فهو أقل شهرة من نظيره الفخم الذي عرفت به المعلقات والقصائد المشهورة التي اهتم بها النقاد العرب القدامى والمحدثون.إن البناء البسيط للعمل الشعري يشكل تجليا من تجليات حضور الواقع بشكل مكثف بعيدا عن كل فنية. إنه تعبير عفوي مباشر عن أفكار الشاعر وأحاسيسه وعواطفه؛ هذه الأفكار وهذه العواطف غالبا ما تمتاز بالتأزم الشديد، والرغبة في الكشف عن المجهول واستشراف آفاق المستقبل، وتحقيق ما هو أفضل
ويروى من غير وجه حدثناه مسعود بن بشر وغيره أنه لما مات مخلد بن يزيد بن المهلب، حضره عمر بن عبد العزيز وصلى عليه ثم قال: الكامل
بكّوا حذيفة لا تبكّوا مثله ... حتّى تبيد قبائلٌ لم تخلق
ثم قال: لو أراد الله بيزيد خيراً لأبقى له هذا الفتى. فهذا من الأبيات الجامعة كنحو ما ذكرنا والقائل: الوافر
ألا لهف الأرامل واليتامى ... ولهف الباكيات على قصيّ
لعمرك ما خشيت على قصيّ ... منيّة بين سلعٍ والسّليّ
ولكنّي خشيت على قصيّ ... جريرة رمحه في كلّ حيّ
فأحسن الشعر ما خلط مدحاً بتفجع، واشتكاءً بفضيلة، لأنه يجمع التوجع الموجع تفرجاً، والمدح البارع اعتذاراً من إفراط التفجع باستحقاق المرثي وإذا وقع نظم ذلك بكلامٍ صحيح ولهجة معربة ونظم غير متفاوت فهو الغاية من كلام المخلوقين.
(المبرد ،1997م : 60 )43 البنية الروحية للقصيدة الجاهلية: بناء القصيدة الجاهلية على نمط بسيط، هو إلغاء لكل العراقيل والحواجز الشكلية التي تعترض ذلك السيل المتدفق العارم من الأفكار والعواطف التي تؤرق بال الشاعر، وتختلج في نفسه وذاته، في عقله ووجدانه. إن البناء الشعري البسيط هو الطريقة المثلى للتعبير بسرعة عن الموضوع الرئيس، دون حاجة للمرور بمراحل الطلل والناقة، إما لاعتقاد الشاعر أن هذه المراحل مجرد مقدمات عمياء هي أقرب إلى التقليد الجاف منها إلى الإبداع، وإما لاعتقاده بأن وحدات الطلل والنسيب والناقة.. لا يمكنها أن تضفي جديدا على ما سيقوله، ما دامت تعني له نفس مضامين ودلالات غرضه وموضوعه الرئيس
إن الاختلاف بين البناء الشعري البسيط والبناء الشعري المركب والفخم، هو اختلاف في طريقة الأداء الشعري، لا اختلاف في جودة العمل الإبداعي، فليس العمل المنبني على النمط الأول عملا هزيلا والمنبني على النمط الثاني راقيا، ذلك أن مجموعة من الشعراء الكبار نظموا قصائدهم على النمطين معا كامرئ القيس ولبيد والنابغة... وهم أصحاب المعلقات، والقصائد الطوال الجياد
(أما قوة العاطفة في الأسلوب والصورة يقول فيها: "خذ من نفسك ساعة نشاطك" وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وقوة من لفظ شريف، ومعنى بديع، وأعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمماودة") (صبح، دون: 153 )44
صحيح أن البناء مكون شعري في الأعمال الإبداعية المختلفة، إلا أنه لا يمكن أن يكون مقياسا لتحديد درجات شعرية نص معين. إن الشعرية لا تتحقق إلا بوجود بناء معين، بناء يضمن للنص انسجامه واتساقه وتماسكه، ويضفي عليه نوعا من الوحدة ؛ هذا البناء قد يختلف من نص إلى آخر ضمن نفس الجنس الأدبي، دون أن يكون هذا الاختلاف مقياسا للمفاضلة
وهكذا، لا يمكن أن نفاضل بين القصائد الشعرية الجاهلية على أساس بنائها الشعري، لأن ذلك عمل لا منطقي، وإنما تتم المفاضلة على مستويات الصورة والتركيب والرؤية إن القصيدة الشعرية المعتمدة على البناء البسيط قصيدة يعبر فيها صاحبها بكل صراحة وعفوية، متخطيا بذلك كل القيود الفنية ( على مستوى البناء ) التي وضعها النظام الثقافي والاجتماعي في ذلك العصر.
(إنه ليس بين المرثية والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك، مثل: كان وتولى وقضى نحبه وما أشبه ذلك، وهذا ليس يزيد في المعنى ولا ينقص منه، لأن تأبين الميت إنما هو بمثل ما كان يمدح به في حياته، وقد يفعل في التأبين شيء ينفصل به لفظه عن لفظ المدح بغير كان وما جرى مجراها، وهو أن يكون الحي وصف مثلاً بالجود، فلا يقل: كان جواداً ولكن بأن يقال: ذهب الجود او فنم للجود بعده ومثل: تولى الجود وما أشبه هذه الأشياء). (بن قدامة، 1302 :33/34)45
ومن الشعراء من يرثي بكاء الأشياء التي كان الميت يزاولها، وعتد ذلك ومثله يحتاج إلى أن يعلم صحة المعنى فيما يتكلم به من مثل هذه الأشياء، فإنه ليس من إصابة المعنى أن يقال ف كل شيء تركه الميت: إنه يبكي عليه، لأن من ذلك ما إن قيل إنه بكى عليه كان سبة وعيباً لاحقين به كما قالت ليلى الأخيلية ترثي توبة ابن الحمير بالنجدة
فليس سنانٌ الحرب يا توب بعدها ... بغازٍ ولا غادٍ بركبٍ مسافرِ
(بن قدامة، 1302 :33/34)46
فمن ذلك مثلاً إن قال قائل في ميت: بكتك الخيل إذ لم تجد لها فارساً مثلك، فإنه مخطئ، لأن من شأن ما كان يوصف في حياته بكده إياه، أن يذكر اعتباطه بموته، وما كان يوصف بالإحسان إليه في حياته أن يذكر اغتمامه بوفاته.
(بن قدامة ، 1302 : 33/34)47
ومن ذلك إحسان الخنساء في مرثيتها صخراً وإصابتها المعنى، حيث قالت تذكر اغتباط حذفة فرس صخر بموته:
فقدْ فقدتكَ حذفةُ فاستراحتْ ... فليتَ الخيلَ فارسُها يرَاها
ولو قالت: فقدتك حذفة فبكت، لأخطأت، بل إنما يجب أن يبكي على الميت ما كان يوصف إذا وصف في حياته بإغاثته الإحسان إليه، كما قال كعب بن سعد الغنوي في مرثية أخيه:
ليبككَ شيخٌ لم يجدْ من يعينُه ... وطاوِى الحشى نائِي المزارِ غريبُ
وكما قال أوس بن حجر يرثي فضالة بن كلدة الأسدي:
ليبككَ الشربُ والمدامةُ وال ... فتيانُ طُرّاً وطامعٌ طمعَاً
وذاتُ هدْم عارٍ نواشرُها ... تصمتُ بالماءِ تولباً جدعَا
والحيُّ إذ حاذرُوا الصباحَ وقدْ ... خافُوا مُغيراً وسائراً تلعَا
فيجب أن يتفقد مثل هذا من إصابة الغرض والانحراف عنه.
وإذ قد تبين بما قلنا آنفاً إنه لا فصل بين المدح والتأبين إلا في اللفظ دون المعنى، فإصابة المعنى به ومواجهة غرضه هو أن يجري الأمر فيه على سبيل المدح. (بن قدامة ، 1302 :33/34)48
فمن المراثي التي تشتبه في المديح استيعاب الفضائل التي قدمنا ذكرها والإتيان عليها، مثل قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه:
لعمري لئن كانت أصابتْ منيةٌ ... أخي والمنايا للرِّجال شعوبُ
لقد كانَ، أما حلمهُ فمروحٌ ... علينا، وأما جهلهُ فغريبُ
أخي ما أخِي، لا فاحشٌ عند بيتهِ ... ولا ورعٌ عند اللقاءِ هيوبُ
فقد أتى في هذه الأبيات بما وجب أن يأتي في المراثي، إذا أصيب بها المعنى، وجرت على الواجب، أما في البيت الأول فيذكر ما يدل على أن الشعر مرثية لهالك لا مديح لباق، وأما سائر الأبيات الأخر فتجمع الفضائل الأربع التي هي العقل والشجاعة والحلم والعفة، ثم افتن كعب في هذه المرثية في ذلك، وزاد في وصف بعض الفضائل ما لم يخرج به عن استيفائه، وهو قوله:
حليمٌ إذا ماسورةُ الجهلِ أطلقتْ ... حُبَى الشيبِ للنفسِ اللجوجِ غلوبُ
كعاليةِ الرمحِ الردينيِّ، لم يكنْ ... إذا ابتدَر الخيلَ الرجالُ يخيبُ
فإني لباكيهِ وإني لصادقٌ ... عليه، وبعض القائلينَ كذوبُ
ليبككَ شيخٌ لم يجدْ من يعينهُ ... وطاوِى الحشَا نائِي المزارِ غريب
جموعٌ خلالَ الخيرِ من كل جانبٍ ... إذا جاءَ جياءٌ بهنَّ ذهوبُ
(بن قدامة، 1302 : 33/34)49
إنها قصيدة يغلب فيها عنصر الواقع على عنصر الفن إن درجات حضور الواقع في هذا النوع من القصائد أقوى مقارنة بدرجات حضور الفن. إنها تلبية لدعوة الواقع بمختلف تجلياته ومظاهره، سواء كان هذا الواقع اجتماعيا أو سياسيا أو نفسيا.
إن البناء البسيط فني وشعري في شكله ومحتواه، لأنه طريقة، وإن كانت مباشرة وصريحة، فهي ذكية للتعبير عن معالم الحياة والكون والوجود بطريقة تجعل الذات المتلقية أكثر اندماجا معها، وأكثر استعدادا لتمثل هذه النظرة أو تلك، ما دامت هذه الطريقة في التعبير تخاطب العقل والقلب مباشرة دون وضع حواجز نفسية وعقلية تزيح المتلقي عن المسار الصحيح الذي يوصله إلى الموضوع
إن بناء هذه القصيدة يتيح للشاعر التعبير عن نفسه أولا و آخرا، كما يتيح له تقديم همومه الواقعية على غيرها من المواضيع والأفكار المرتبطة بالطلل أو المرأة أو الفرس.. هذا البناء البسيط كان معروفا في النقد العربي القديم بمصطلحات يذكرها ابن رشيق في كتابه (العمدة) باب (المبدأ والخروج والنهاية) بقوله: (ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطا من النسيب، بل يهجم على ما يريده مكافحة، ويتناوله مصافحة وذلك عندهم هو: الوثب والبتر والقطع والكسع والاقتضاب)
إن الضغط الذي تحدثه الظروف الواقعية سواء أ كانت اجتماعية أم سياسية أم نفسية يجعل الشاعر يتسرع لإفراغ شحناته الفكرية والعاطفية، فيهجم مباشرة على الموضوع الذي يشغل فكره ووجدانه دون أن يجعل لعمله الإبداعي بسطا من النسيب أو الرحلة على الرغم من كون هذا البسط مما جرت عادة الشعراء على ذكره، ومما تعود متلقو الشعر على سماعه
إن البناء البسيط للقصيدة الشعرية وسيلة ناجعة يعتمدها الشاعر في لحظات فكرية ووجدانية معينة، يفرغ فيها حمولته الفنية والإبداعية المعبرة بكل صدق وشفافية عن واقعه الذي يحياه
مضمون الرثاء في الشعر الجاهلي تتضمن صفة الحزن والمأساة، بل تتعدى ذلك إلى حدود التأزم النفسي الحاد، خاصة إذا علمنا أن الموضوع الذي يتناوله الشاعر موضوع واقعي جدا، كان الشغل الشاغل للإنسان الجاهلي بصفة عامة ألا وهو موضوع: المصير المجهول.
واحسن مضامين الرثاء: سلامة الرسالة والتأبين والبناء الشعري السليم ومراعاة وقائع الظروف والملابسات ويعتمد الشعراء الجاهليين، على مضمون البنية وهو بناء لا تراعى فيه التشكيلة الفنية، بقدر ما تراعى فيه سلامة الرسالة، والقصيدة الواقعية في بنائها. لا تنفي عنها صفة الفنية، ونمط الرثاء الجميل احتل مكانة مهمة في ديوان الشعر الجاهلي،
المواقف الشعورية والحسية والعاطفة والحدس ومضمون قصائد الشعراء الجاهليين لا يعبر عن هذا الواقع في حدوده المادية فحسب، بل والمعنوية والروحية وأمور مادية كالحرب والقتال أو الصراع الاجتماعي والسياسي، كما يعبر عن أمور معنوية فكرية وشعورية كالكينونة الإنسانية، وقضية المصير المجهول، ومجال الصفات والأخلاق والقيم، إن عنصر الواقع يتحكم في هذا النوع من الأعمال الإبداعية الشعرية ؛ إنه الحافز الرئيس الذي يدفع الشاعر إلى إلغاء كل أنواع المقدمات من الخطاطة التي يصممها لقصيدته المرتقبة.
العصر الجاهلي لا يتجاوز المائة وخمسين أو المائتين سنة، يُقصد بـالعصر الجاهلي
وكلمة أدب من الكلمات التي تطورت معناها من طور البادية إلى أطوار المدنية والتحضر
في عصر الأموي: أضافت إلى المعنى التهذيبي معنى التعليمي
وفي العصر العباسي: وجد المعنى التهذيبي والتعليمي تقابلا في الاستخدام و اتسع مفهومها ليشمل معارف دينية وثقافية واجتماعية
عناصر الأدب الجاهلي: يتكون من أربعة عناصر:
1.العاطفة: تعبر عن الشعور والحس والوجدان
2.الخيال : يعبى عن قوة العقل الخارق فيقوم الوصف الأدبي على الخيال والعاطفة بأسلوب تبعث في النفس الشوق والوجدان بعيدا عن السوقية المبتذلة
3.الفكرة : تعد الفكر من العناصر الرئيسية التي تطرأ على المبدع
4.الصورة: هي وسيلة لتوصيل المعنى والتعبير عبر الحقائق والمشاعر لتنتج صورة متكاملة
العوامل المؤثرة في الأدب: فالأدب صورة للحياة فينمو الأدب بتطور الحياة
1. البيئة : العوامل المؤثرة في الأدب هي البيئة، لأن الإنسان ابن البيئة فإن إبداعه متعلق بواقه الهادئ والمستقرة أو واقعه المضطرب وهنا يكون يصدر العواطف الصادقة أو الكاذبة
2.المكان: يعبر عن الإقليم الذي يعيش فيه الشاعر كانت الأمة العربية في الجاهلية تحيا حياتا بدوية فيها خشونة وعصبية وحروب فكان له تأثير على ألفاظهم وخيالهم،
2.الزمان الأدبي: فالزمن الأدبي في عصر الجاهلي خلاف الزمن الأدبي في عصر الأموي الخ
3.الجنس: لكل جنس خواص في التفكير والتصوير والتعبير ويرجع ذلك إلى العوامل المكانية والزمانية والوراثية
4.الاتصالات: عن طريق الاختلاط كالتجارة أو المصاهرة أو الاتجار أو عن طريق الترجمة فقد استفاد العرب من الفرس والروم وسائر بلاد الذي فتحوها .
5.الدين: والدين له وزنه ودوره في الآداب
6.الحالة السياسة : له أثر عميق في حياة الأدب
دواوين الشعر في العصر الجاهلي
انتصف القرن الثاني الهجري حتى نشط الرواة والإخباريون في تدوين أشعار الجاهليين وكان للتنافس بين كل من مدرستي الكوفة والبصرة اللغويتين أثره في إحياء الشعر الجاهلي لأغراض لغوية في المقام الأول، ولم يبدأ جمع الشعر العربي إلا في عصر الأمويين، ولم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا في عصر العباسيين [بروكلمان في "تاريخ الأدب العربي
1."المفضل بن محمد بن يعلى الضبي عمد إلى جمع مجموعة من قصائد وأشعار العصر الجاهلي سميت بالمفضليات هو من أوائل مصنفي ومهذبي تلك الدواوين، والشائع المعروف أن المفضل جمعها لتلميذه المهدي حينما جعله والده الخليفة العباسي المنصور مؤدبًا له.
2. أبو عمرو الشيباني" يروى عنه أنه جمع أشعار القبائل، ويرى المستشرق "جولدتسيهر" أن صنعة أبى عمرو الشيبانى لدواوين القبائل مجرد "تحرير لمجموع المتاح من الشعر لدى القبيلة"، هذا بالإضافة إلى الدواوين التي عملها وجمعها مثل دواوين: امرئ القيس، والحطيئة، ولبيد، ودريد بن الصمة، والأعشى. في تاريخ الأدب الجاهلي لعلي الجندي
2.الأصمعي" جمع الشعر المبعثر في دواوين ومجموعات، ومنها "الأصمعيات" المشهورة، كما عمل دواوين امرئ القيس، والنابغة، والحطيئة، ولبيد، والأعشى، وبشر بن أبي خازم، والمهلهل، والمسيب بن علس، والمتلمس.
3.ابن الأعرابي أنه قد أملى على الناس ما يحمل على أجمال،
4. ابن السكيت يقال عنه إنه جمع دواوين امرئ القيس، والحطيئة، ولبيد، والأعشى، وبشر بن أبي خازم، والمهلهل، والخنساء.
5.أبو سعيد السكَّري وقد قام بعمل دواوين امرئ القيس، وزهير، والنابغتين، والحطيئة، ولبيد، ودريد بن الصمة، والأعشى، وبشر بن أبي خازم، والمهلهل، والمتلمس، والمسيب وعدي بن زيد، والخنساء، وقيس بن الحطيم، وتميم بن مقبل، وأشعار اللصوص وأشعار هذيل، وهدية بن خشرم، ومزاحم العقيلي، والأخطل، وغيرهم.
6.أبو الفرج الأصبهاني قد كتب عشرات الكتب، منها كتاب "التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وأنسابها"، وكتاب "الأخبار والنوادر"، وكتاب "مجموع الآثار والأخبار"، وكتاب "أيام العرب"، وكتاب "الأغاني" الذي طبقت شهرته الآفاق وهو كتاب يعتبر موسوعة عربية ضخمة، وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب ثلاثين جملًا، من الكتب، فلما وصل إليه كتاب الأغاني استغنى به عنها.
ورصد هذه المجموعات من الاختيارات والدوواين أنهم اتفقوا على تقسيم شعراء العصر الجاهلي إلى طبقات ومراتب كما فعل ابن سلام الجمحي في كتابه الرائد "طبقات فحول الشعراء" حيث جعلوا على رأسها بصفة عامة شعراء المعلقات، وأغلبهم اتفقوا على ريادة امرؤ القيس والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى ولبيد وحيازتهم قصب السبق في تلك الفترة من الجاهلية، وعُلَمَاء الْبَصْرَة كَانُوا يقدمُونَ امْرأ الْقَيْس بن حجر وَأهل الْكُوفَة كَانُوا يقدمُونَ الْأَعْشَى وَأَن أهل الْحجاز والبادية كَانُوا يقدمُونَ زهيرا والنابغة انظر طبقات فحول الشعراء
ويمكن بإيجاز جمع وتصنيف دواوين الشعر الجاهلي في عدة مصادر إجمالية على النحو التالي:
• المعلقات: وهي اختيارات لعدد من قصائد الشعراء المخضرمين الجاهليين، واختلفوا في عددهم ومرتبتهم بين تقديم وتأخير، وأغلب النقاد يجعلونها سبع معلقات هي: لامرئ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد العبسي، والحارث بن حلزة، وأضاف آخرون الأعشى والنابغة الذبياني وعبيد بن الأبرص.
1.المفضليات: اختيارات "المفضل بن محمد بن يعلى الضبي"، وهي مائة وثمانية وعشرون قصيدة من عيون الأدب الجاهلي، أملاها على كثير من أصحابه وتلامذته، واشتهرت وصح معظمها، والشعراء الذين ذكرهم الضبي سبعة وستون شاعرًا منهم ستة شعراء إسلاميون، وأربعة عشر مخضرمون، والباقون وهم سبعة وأربعون شاعرًا جاهليون لم يدركوا الإسلام.
2.الأصمعيات: اختيارات الأصمعي وهو من أشهر رواة العرب ويأتي في المرتبة الثالثة بعد حمّاد الراوية والمفضل الضبى في جمع أخبار العرب وأشعارهم واستقصائها، واختياراته عبارة عن اثنتين وتسعون قصيدة ومقطعة، لواحد وسبعين شاعرًا؛ والشعراء منهم ستة شعراء إسلاميون، وأربعة عشر شاعرًا مخضرمون، وأربعة وأربعون جاهليون، وسبعة مجهولون ليست لهم في المظان تراجم تكشف عن عصرهم، والأصمعيات تلتقي مع المفضليات في تسع عشر قصيدة.
3.جمهرة أشعار العرب: مجموعة تنسب إلى أبي زيد بن محمد بن أبي الخطاب القرشي، وجاء في نهاية اختياراته نسبتها إلى المفضل بن عبد الله بن محمد بن المجبر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب؛ حيث قال: "قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدة عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وأنفس شعر كل رجل منهم"، وهي تضم سبعة أقسام، وفي كل قسم سبع قصائد على النحو التالي: المعلقات، والمجمهرات، والمنتقيات، وعيون المراثي، والمذهبات، والمشوبات، والملحمات.
4.مختارات ابن الشجري: لصاحبها هبة الله العلوي بن أحمد بن الشجري، المتوفى سنة 542 هـ، وقد جعلها ابن الشجري أقسامًا ثلاثة، وأهم ما في القسم الأول قصائد للشنفرى وطرفة ولقيط الإيادي والمتلمس، والقسم الثاني به مختارات من شعر زهير وبشر بن أبي خازم، وعبيد بن الأبرص، وفي القسم الثالث اختيارات من ديوان الحطيئة.
5.دواوين الحماسة: وهي مختارات تنسب لأصحابها، واكتسبت تلك التسمية من أول ديوان جمعه الشاعر أبو تمام وأطلق عليه "ديوان الحماسة"، وهي من منتقيات عيون الشعر العربي، ومن أبرزها: ديوان الحماسة لأبي تمام المتوفى سنة 231هـ، حماسة البحتري المتوفى سنة 284هـ، حماسة الخالديين وهى مجموعة للأخوين: أبي عثمان سعيد المتوفى سنة 350هـ، وأبي بكر محمد المتوفي سنة 380 هـ، الحماسة المغربية لصاحبها يوسف بن محمد البياسي في تونس سنة 646هـ، الحماسة البصرية جمعها صدر الدين علي بن الفرج البصري، وقدمها سنة 467هـ إلى الملك الناصر أمير حلب.
6. كتب مختارات الشعر الجاهلى والإسلامى المصنّفة وفق البيئات والموضوعات: ومنها "كتاب أشعار الأعاريب" لمحمد بن عبيد الله بن عمرو العتبى
كتاب "أشعار الشراة"، لعمر بن شبّة
"أشعار (أو: أخبار) اللصوص"، لأبى سعيد السّكّرى
"أشعار الملوك" لعبد الله بن المعتزّ
كتاب "أشعار (تنسب إلى) الجنّ" لمحمد بن عمران المرزبانى ا
كتاب "سرقات الشعراء وما تواردوا (أو: اتفقوا) عليه
خصائص الشعر الجاهلي
إنّ طه حسين قد طرح موضوعاً في كتابه «الشعر الجاهلي» تحت منهجه الخاص ورفض صحة الشعر من قبل الشعراء الجاهليين، ولم يقبل أنّ الشعر في العصر الجاهلي كان موجوداً و في رأيه كل الشعر في ذلك العصر منحول وموضوع وإنّه قد حُمل على العرب و أنكر من خلاله شخصيات من مثل امرئ القيس، ولكن آرائه أثار له التشاؤم، فهدفنا من هذا البحث، ذكر خصائص الشعر الجاهلي، وأن شعر الجاهلي مثبت بالقرآن الكرم والسنة النبوية، وليس ضروريا أن يكون تابعا لمنهج من المناهج الفكرية،
فالشعر الجاهلي شعر غنائي، من المعروف أنه يوجد عند الغربيين منذ اليونان أنواع مختلفة من الشعر، يردها نقادهم إلى أربعة أضرب: شعر قصصي وتعليمي وغنائي وتمثيلي، ويمتاز الضرب الأول بأن قصائده طويلة؛ فالقصيدة منه تمتد إلى آلاف الأبيات، وتتوالى فيه حلقات من الأحداث تنعقد حول بطل كبير،
فالتسلسل القصصي فيها دقيق والانتقال بين أجزائها منطقي محكم، وهي قصة تفسح للخيال مجالًا واسعًا، ولذلك كانت تكثر فيها الأساطير والأمور الخارقة، وكانت الآلهة تظهر فيها عند اليونان بدون انقطاع. وخير ما يمثلها عندهم الإلياذة لهوميروس وقد نقلها إلى العربية منذ فاتحة هذا القرن سليمان البستاني، ولكثير من الأمم القديمة والحديثة قصائد قصصية تشبهها؛ فللرومان الإلياذة لفرجيل، وللهنود الرامايانا والمهابهاراتا وللفرس الشهنامة للفردوسي وللألمان أنشودة الظلام وللفرنسيين أنشودة رولان)(شوقي ضيف، بدون ت ص189)1
الضرب القصصي تعرف الجاهلية هذا الضرب من الشعر القصصي، وهي كذلك لم تعرف الضرب الثاني من الشعر التعليمي الذي ينظم فيه الشاعر طائفة من المعارف على نحو ما نعرف عند هزيود الشاعر اليوناني وقصيدته "الأعمال والأيام" التي يصور فيها فصول السنة والحياة الريفية، فهذه الضروب الثلاثة من الشعر لم يعرفها الجاهليون،
ولكن إذا كان الشعر الجاهلي يختلف عن ضروب الشعر الغربية القصصية والتعليمية والتمثيلية؛ فإنه يقترب من الضرب الرابع الغنائي؛ لأنه يجول مثله في مشاعر الشاعر وعواطفه، ويصوره فرِحًا أو حزينًا. وقد وجد من قديم عند اليونان؛ إذ عرفوا المدح والهجاء والغزل ووصف الطبيعة والرثاء، وكان يصحب عندهم بآلة موسيقية يعزف عليها تسمى Lyre ومن ثم سموه Lyric أي غنائي)(شوقي ضيف، بدون ت ص 18)
وإذن نحن لا نبعد حين نزعم أن الشعر الجاهلي جميعه غنائي؛ إذ يماثل الشعر الغنائي الغربي من حيث إنه ذاتي يصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس؛ سواء حين يتحمس الشاعر ويفخر أو حين يمدح ويهجو أو حين يتغزل أو يرثي أو حين يعتذر ويعاتب، أو حين يصف أي شيء مما ينبثُّ حوله في جزيرته. وليس هذا فحسب، فهو يماثل الأصول اليونانية للشعر الغنائي الغربي من حيث إنه كان يغني غناء، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون، فهم يروون أن المهلهل غنى في قصيدته:
طفلة ما ابنة المحلَّل بيضا ... ء لعوبٌ لذيذة في العناقِ
ومعنى ذلك أن الشعر الجاهلي ارتبط بالغناء عند أقدم شعرائه. ومن حين إلى حين نجد أبا الفرج الأصبهاني يشير إلى أن شاعرًا جاهليًّا تغنى ببعض شعره من مثل السُّلَيْك بن السُّلَكة2 وعلقمة بن عبدة الفحل والأعشى، وكان يوقِّع)(شوقي ضيف، بدون ت ص 18)2
الموضوعات: لعل أقدم من حاول تقسيم الشعر العربي جاهليًّا وغير جاهلي إلى موضوعات ألف فيها ديوانًا هو أبو تمام ؛ فقد نظمه في عشرة موضوعات، هي الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسب، والهجاء، والأضياف ومعهم المديح، والصفات، والسير، والنعاس، والملح، ومذمة النساء. وهي موضوعات يتداخل بعضها في بعض فالحديث عن الأضياف؛ إما أن يدخل في المديح أو في الحماس والفخر، والسير والنعاس يدخلان في الصفات، كما تدخل مذمة النساء في الهجاء، أما الملح فغير واضحة الدلالة.
ووزَّع قدامة في كتابة نقد الشعر هذا الفن على ستة موضوعات، هي المديح والهجاء والنسيب والمراثي والوصف والتشيبه وحاول بعقله المنطقي أن يرد الشعر إلى بابين أو موضوعين هما المدح والهجاء؛ فالنسيب مديح، وكذلك المراثي،
وجعل ابن رشيق موضوعات الشعر في كتابه العمدة تسعة، وهي النسيب، والمديح، والافتخار، والرثاء، والاقتضاء والاستنجاز، والعتاب، والوعيد والإنذار، والهجاء، والاعتذار، ومن السهل أن يرد موضوع الاقتضاء والاستنجاز إلى المديح، والوعيد والإنذار إلى الهجاء، وأن يضم العتاب إلى الاعتذار، وأيضًا فإنه نسي موضوع الوصف. ويقول أبو هلال العسكري: "وإنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح والهجاء والوصف والتشبيه والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسمًا سادسًا وهو الاعتذار فأحسن فيه، وهو تقسيم جيد؛ غير أنه نسي باب الحماسة، وهو أكثر موضوعات الشعر دورانًا على لسانهم)(شوقي ضيف، بدون ت ص196)3
ولا نستطيع أن نرتب هذه الموضوعات في الشعر الجاهلي ترتيبًا تاريخيًّا، ولا أن نعرف كيف نشأت وتطورت، فإن الأصول الأولى لهذا الشعر انطمرت كما قدمنا في ثنايا الزمن، وإن كنا نستطيع أن نظن ظنًّا أنها تطورت من أناشيد دينية كانوا يتجهون بها إلى آلهتهم، يستعينون بها على حياتهم؛ فتارة يطلبون منها القضاء على خصومهم، وتارة يطلبون منها نصرتهم ونصرة أبطالهم، ومن ثم نشأ هجاء أعدائهم ومدح فرسانهم وسادتهم، كما نشأ شعر الرثاء وهو في أصله تعويذات للميت حتي يطمئن في قبره، وفي أثناء ذلك كانوا يمجدون قوى الطبيعة المقدسة التي تكمن فيها آلهتهم والتي تبعث فيهم الخوف؛ ومعنى هذا كله أن موضوعات الشعر الجاهلي تطورت من أدعية وتعويذات وابتهالات للآلة إلى موضوعات مستقلة، ويظهر أنه كانت لا تزال في نفوسهم بقية من هذه الصلة القديمة بين الشعر ودعاء الآلهة؛ يدل على ذلك أكبر الدلالة ما جاء في القرآن الكريم من كثرة الربط بين الشعر والسحر وتعاويذ الكهنة؛ فقد كانوا يرمون الرسول في بدء دعوته تارة بأنه شاعر وتارة ثانية بأنه كاهن وتارة ثالثة بأنه ساحر {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ورد عليهم القرآن دعواهم الكاذبة مرارًا في مثل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ومثل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ويقول جل وعز في سورة الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} وبعد ذلك: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
وواضح أن القرآن الكريم يحكي على ألسنتهم ما كانوا يؤمنون به من العلاقة بين الشعر والكهانة والسحر، وكانوا يزعمون أن الشياطين تنزل على الشعراء كما تنزل على الكهان، وزعموا أن الأعشى كان له شيطان ينفث في وعيه الشعر يسمى مسحلًا وأن شاعرًا كان يهاجيه يسمى عمرو بن قطن، كانت له تابعة من الجن اسمها جُهُنَّام، وظل بعض الشعراء في الإسلام يزعم أن له تابعًا من الجن، ويؤكد الأسطورة أبو النجم؛ فيزعم أن لكل شاعر شيطانًا إما أنثى وإما ذكرًا، يقول:
إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
فالهجاء في الجاهلية كان لا يزال يُقْرَن بما كانت تقرن به لعناتهم الدينية الأولى من شعائر،
)(شوقي ضيف، بدون ت ص 198)5
الخصائص المعنوية: لعل أول ما يلاحظ على معاني الشاعر الجاهلي أنها معان واضحة بسيطة ليس فيها تكلف ولا بعد ولا إغراق في الخيال؛ سواء حين يتحدث عن أحاسيسه أو حين يصور ما حوله في الطبيعة؛ فهو لا يعرف الغلو ولا المغالاة، ولا المبالغة التي قد تخرج به عن الحدود المعقولة، ومرجع ذلك في رأينا إلى أنه لم يكن يفرض إرادته الفنية على الأحاسيس والأشياء؛ بل كان يحاول نقلها إلى لوحاته نقلًا أمينًا، يُبقي فيه على صورها الحقيقية دون أن يدخل عليها تعديلًا من شأنه أن يمس جواهرها. إذ يقدم الشاعر المعاني منكشفة كأنها أشياء صلبة محسوسة؛ فهي حقائق تُسْرَدُ سردًا وقلما شابها الخيال، إلا ليزيدها إمعانًا في الوضوح والجلاء)(شوقي ضيف، بدون ت ص219)6
وهذه النزعة في الشاعر الجاهلي جعلته لا يحلل خواطره ولا عواطفه إزاء ما يتحدث فيه من حب أو غير حب؛ فهو لا يعرف التغلغل في خفايا النفس الإنسانية ولا في أعماق الأشياء الحسية. وتتضح هذه النزعة في خياله وتشبيهاته فهو ينتزعها من عالمه المادي، ولنرجع مثلا إلى تشبيهاته للمرأة فهو يشبهها بالشمس والبدر والبيضة والدرة! والدمية والرمح والسيف والغمام والبقرة والظبية والقطاة، ويشبه
أسنانها بالأُقحوان وبنانها بالعَنم وثغرها بالبللور وخدها وترائبها بالمرآة وشعرها بالحبال والحيات والعناقيد ووجهها بالدينار وثديها بأنف الظبي ورائحتها بالمسك وبالأترجة وريقها بالخمر وبالعسل وعينها بعين البقرة والغزال وعجزها بالكثيب وساقها بالبُردية أما الرجل فيشبهه بالبحر وبالغيث وبالأسد وبالذئب وبالعقاب وبالبعير وبالبدر والقمر وبالرمح والسيف وبالبقرة والتيس والضبع وبالأفعوان والحية وبالكلب والحمار وبالصخرة وبالصقر وبالفحل)(شوقي ضيف، بدون ت ص220)7
الخصائص اللفظية: من أهم ما يلاحظ على الشعر الجاهلي أنه كامل الصياغة؛ فالتراكيب تامة ولها دائمًا رصيد من المدلولات تعبر عنه، وهي في الأكثر مدلولات حسية،
وقد يكون من الأسباب التي أعانتهم على ذلك أن الشعراء كما أسلفنا كانوا يرددون معاني بعينها؛ حتى لتتحول قصائدهم إلى ما يشبه طريقًا مرسومًا،
)(شوقي ضيف، بدون ت ص226)8
العصر الجاهلي لاختلاف الرواية فيها بسبب ما كان يدخله صاحبها عليها من تعديل وتنقيح. وفي أسماء شعرائهم وألقابهم ما يدل على البراعة في هذا التنقيح وما يطوى فيه من تجويد؛ فقد لقبوا امرأ القيس بن ربيعة التغلبي بالمهلهل لأنه أول من هلهل ألفاظ الشعر وأرقها، ولقبوا عمرو بن سعد شاعر قيس بن ثعلبة بالمرقش الأكبر لتحسينه شعره وتنميقه ولقبوا ابن أخيه ربيعة بن سفيان بالمرقش الأصغر)(شوقي ضيف، بدون ت ص226)9
وقد استعانوا منذ أقدم أشعارهم؛ لغرض التأثير في سامعيهم، بطائفة من المحسنات اللفظية والمعنوية، وأكثرها دورانًا في أشعارهم التشبيه)(شوقي ضيف، بدون ت ص229)10
خصائص الشعر الجاهلي
1- نشأة الشعر الجاهلي وتفاوته في القبائل: لا ريب في أن المراحل التي قطعها الشعر العربي حتى استوى في صورته الجاهلية غامضة؛ فليس بين أيدينا أشعار تصور أطواره الأولى؛ إنما بين أيدينا هذه الصورة التامة لقصائده بتقاليدها الفنية المعقدة في الوزن والقافية وفي المعاني والموضوعات وفي الأساليب والصياغات المحكمة، وهي تقاليد تلقي ستارًا صفيقًا بيننا وبين طفولة هذا الشعر ونشأته الأولى؛ فلا نكاد نعرف من ذلك شيئًا. وحاول ابن سلام أن يرفع جانبًا من هذا الستار
وتتراءى لنا مطولات الشعر الجاهلي في نظام معين من المعاني والموضوعات؛ إذ نرى أصحابها يفتتحونها غالبًا بوصف الأطلال وبكاء آثار الديار، ثم يصفون رحلاتهم في الصحراء وما يركبونه من إبل وخيل، وكثيرًا ما يشبهون الناقة في سرعتها ببعض الحيوانات الوحشية، ويمضون في تصويرها، ثم يخرجون إلى الغرض من قصيدتهم مديحًا أو هجاء وفخرًا أو عتابًا واعتذارًا أو رثاء. وللقصيدة مهما طالت تقليد ثابت في أوزانها وقوافيها؛ فهي تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات وتتحد جميع الأبيات في وزنها وقافيتها وما تنتهي به من رَوِيّ.
فقد لاحظ التبريزي والمرزوقي أنها خارجة عن العروض التي وضعها الخليل واضطراب هذه القصائد في أوزانها مما يدل على صحتها وأن أيدي الرواة لم تعبث بها. ومعروف أن الزحافات تكثر في الشعر الجاهلي؛ بل في الشعر العربي بعامة، ومما كان يشيع بينهم الإقواء، وهو اختلاف حركة الروي في القصيدة كقول امرئ القيس في معلقته يصف جبل أبان:
كأَن أبانًا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل
فقد ضم اللام في نهاية البيت، وهي مكسورة في المعلقة جميعها. وفي رأينا أن احتفاظ الشعر الجاهلي بهذه العيوب العروضية مما يؤكد صحته في الجملة وأن الرواة لم يصلحوه إصلاحًا واسعًا، كما يزعم بعض المحدثين.
الخصائص المعنوية
لعل أول ما يلاحظ على معاني الشاعر الجاهلي أنها معان واضحة بسيطة ليس فيها تكلف ولا بعد ولا إغراق في الخيال؛ سواء حين يتحدث عن أحاسيسه أو حين يصور ما حوله في الطبيعة؛ فهو لا يعرف الغلو ولا المغالاة، ولا المبالغة التي قد تخرج به عن الحدود المعقولة.(شوقي ضيف، ص219)
الخصائص اللفظية
من أهم ما يلاحظ على الشعر الجاهلي أنه كامل الصياغة؛ فالتراكيب تامة ولها دائمًا رصيد من المدلولات تعبر عنه، وهي في الأكثر مدلولات حسية، والعبارة تستوفي أداء مدلولها، فلا قصور فيها ولا عجز. وهذا الجانب في الشعر الجاهلي يصور رقيًّا لغويًّا، وهو رقي لم يحدث عفوًا فقد سبقته تجارب طويلة في غضون العصور الماضية قبل هذا العصر، وما زالت هذه التجارب تنمو وتتكامل حتى أخذت الصياغة الشعرية عندهم هذه الصورة الجاهلية التامة؛ فالألفاظ توضع في مكانها والعبارات تؤدي معانيها بدون اضطراب)(شوقي ضيف، ص232)
المصادر والمراجع
1.الجاحظ، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، عام النشر: 1423 هـ لجاحظ، 1423 ه ج 1ص 81
2. نفس المرجع، ص 81
3. الشايب، الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: 2003 ص 19/22
4.فاضل، بدون ص 59
5. النويهي،1971 ص 135
5.ابن رشيق، 1934ج1ص 80
6.حسان، شيخو شرح ديوان الخنساء مطبعة الكاتولكية 1895بيروت ص 169
7.الأصفهاني، د.ت. ج5ص 85 /86
8.عباس، 1981ص 142-144
9. ابن طباطبا، 1982ص 21 –22
10.الجرجاني، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني، سرار البلاغة، 1954 ص 250
11.إسماعيل، 1966م ص 23-24
12. الجاحظ، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1966م ص 83- 84
13.ثعلب ، 1995ص 34
14.ثعلب ، 1995ص 63
15. المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 58
16.نفس المرجع، ص 91
17.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 91
18. الشايب، الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003
ص 194
19. الشايب، الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003
ص 194
20. المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 50
51.السيد احمد الهاشمي،جواهر الادب، ص 771
22. الشايب، الأسلوب الناشر: مكتبة النهضة المصرية الطبعة: الثانية عشرة 2003
ص 190
23.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 62
24.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 51
25.فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271
26.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 58/ 57
27.فؤاد أفرام البستاني،المجاني الحديثة، ج1،ص271
28.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 41/42
29.فؤاد أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1،ص371
30.من الشعر الجاهلي، أحمد المراغي صص 62
31.السيد احمد الهاشمي، جواهر الادب، ص 771
32.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص91
33.فؤاد أفرام البستاني، المجاني الحديثة، ج1،ص271
34.أدباء العرب في الجاهلية وصدر الاسلام، ص 65
35.المبرد، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص 50
36.عمارة، بدون.ت ص 222
37. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص36
38. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص 36
39.عمارة ،بدون،تص 222
40.المبرد ، المبرد، محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس لكامل في اللغة والأدب، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار الفكر العربي – القاهرة، 1417 هـ - 1997 م ص53
41.نفس المرجع ،ص 59
42. نفس المرجع، ص 60
43. نفس المرجع، ص 60
44. صبح ،علي علي مصطفى صبح، في النقد الأدبي، بدون ت ص 153
45. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص33/34
46. ابن قدامة، بن قدامة، بن قدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد البغدادي، أبو الفرج الجوائب نقد الشعر – قسطنطينية الطبعة: الأولى، 1302 ص33/34
47.نفس المرجع، ص 33/34
48. نفس المرجع، ص33/34
49. نفس المرجع، ص 33/34
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تذكرتي تتيح حجز تذاكر حفلات وفعاليات مهرجان الموسيقى العربية
.. ابنة ثريا ا?براهيم: محمد سعد عمل لها نقلة فنية في فيلم «كتكو
.. بسمة الحسيني: أولويات الإغاثة الثقافية في المناطق المنكوبة •
.. زينب العبد : جهود جبارة من المشاركين في أعمال مهرجان المهن ا
.. كلمة نقيب المهن التمثيلية أشرف زكي خلال مهرجان «المهن التمثي