الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكرات تائب -٦

محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)

2024 / 9 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


بينما أسير في درب العودة إلى الذات، أجد نفسي غارقًا في تأملات لا نهاية لها. ماضيّ، الذي اعتقدت أنني دفنته، يطل برأسه كأطياف تدور في خاطري، تُذكرني بالظلام الذي كنت أغرق فيه، وبالحلم الذي كدت أن أفقده. كنت مثل شخصية مكسورة في روايات دوستويفسكي، مأخوذًا برغبة غير مفهومة، رغبة للبحث عن المعنى في أروقة مظلمة، رغم أن النور كان دائمًا أمامي، ولكنني كنت أعمى، أعمى بإرادة صنعتها بنفسي.

في تلك العشرية السوداء، كانت الحياة تتسرب من بين يدي، مثل رمال في ساعة زمنية لا تتوقف. كنت مثل شخصية غريغور سامسا في رواية كافكا "التحول"، أستيقظ كل يوم وكأنني في جسدٍ آخر، غير قادر على معرفة نفسي أو التماهي مع محيطي. كل شيء كان متضاربًا، مليئًا بالتناقضات. كنت أهرب من القوة، ليس لأنني أكرهها، ولكن لأنني كنت أرى في النعومة ملاذًا، كأنها درع يحمي نفسي الهشة من الحقيقة القاسية. الحقيقة أن العالم قاسٍ، وأن البقاء للأقوياء. كنت أغض الطرف عن هذه البديهة بحجة أن النعومة رمزٌ للرحمة، لكنني أدركت، ولو متأخرًا، أن الرحمة وحدها لا تكفي، بل إن الحق ذاته يحتاج إلى قوة تحميه وتنصره.

كانت العشرية السوداء زمنًا من التوهان الفكري والروحي. انحزت إلى شخصيات لم أفهم يومًا مدى تأثيرها الكارثي. دعمي لشخص مثل السيسي لم يكن سوى انعكاس لارتباكي الداخلي. كنت أؤيد ظالمًا فقط لأنه ضد الإخوان، رغم أنني كنت، بشكل أعمق، أبحث عن أي شخصية تمثل الأقلية الضعيفة في مواجهة الأغلبية، حتى ولو كان ذلك على حساب الحق. هذا الميل إلى الأقليات لم يكن بحثًا عن العدل بقدر ما كان تعبيرًا عن إرادة الضعف في داخلي. كنت أختبئ خلف تلك الأوهام، مثلما تختبئ الشخصيات الروائية خلف قصصها، هروبًا من مواجهة الواقع الذي لا يُحتمل.

ثم جاءت الأحداث. غزة، و"طوفان الأقصى"، وصور الأطفال الذين ينامون في أسرّتهم بعيون مفتوحة، ليس لأنهم استيقظوا على صوت القصف، بل لأنهم لن يغلقوها أبدًا. كانت تلك اللحظة لحظة تصدع داخلي. الأطفال الذين كانوا ينتظرون حقائب المدرسة وكتبها، ينتظرون الأمل في الغد، تحولت حياتهم إلى حلم مستحيل. لم تعد المدرسة حلمهم؛ بل الاحتفاظ بيد أو رجل أو عين أصبح أقصى ما يتمنونه. كيف يمكن لعالمٍ كهذا أن يستمر؟ كيف يمكن لحياتي أن تستمر في ظل هذا الألم الذي يلاحقني؟ شعرت بأن الحياة لم تعد تستحق، ليس فقط حياتي الشخصية، بل حياة العالم كله. الشوق إلى نهاية العالم، إلى قيام الساعة، كان يسكنني، وكأنه الخلاص الوحيد من هذا الظلم الذي لا يرحم.

في هذا الألم، تتردد في ذهني آية 75 من سورة النساء، وكأنها لا تغادرني أبدًا: "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان..." إنها ليست مجرد كلمات نرددها في الصلاة، بل هي نداء عميق ينبع من أعماقي، يصرخ في وجهي كلما تذكرت تلك المشاهد القاسية. لا يمكن أن تظل مكتوف الأيدي أمام هذا الظلم. الحق لا يملك أن يكون مجرد فكرة نبيلة؛ بل يحتاج إلى قوة تنصره.

ومع كل ذلك، يظل المستقبل سؤالًا مفتوحًا. أتذكر شخصية "نيو" من فيلم "ماتريكس"، الذي اكتشف أن الحقيقة التي كان يبحث عنها أعمق وأعقد بكثير مما كان يتخيل. ربما نحن جميعًا نعيش في هذا الوهم، نبحث عن معنى في عالم مليء بالتناقضات. لكنني الآن، وبعد كل ما مررت به، لا أبحث عن النجاة الفردية فقط. هناك يقين بأنني بحاجة إلى قوة تدفعني نحو الأمام، قوة تنصر الحق، قوة تتجاوز مجرد البقاء.

لست نادمًا على الظلام الذي مررت به؛ فقد علمني الكثير. لكنني أعلم أيضًا أن الركون إلى الضعف، والانغماس في مشاعر التراجع والانعزال، كان كارثيًا لو استمر. كاد أن يكون تدميرًا ذاتيًا كاملاً. كانت تلك السنوات تُحفر داخلي، لكنني لم أدرك أنني كنت أساهم في حفر قبري بيدي. الآن، بعد كل هذا، أدرك أنني بحاجة إلى النور، إلى القوة، إلى العودة إلى الجذور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نازح من غزة: النزوح أشبه بطلوع الروح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. القضاء الهندي يأمر بوقف سياسة -عدالة الجرافات- في هدم منازل




.. من هم الذين يغيّرون المجتمع ؟


.. -الإ.ر.هاـ بية- على رادار الداخلية الفرنسية.. محاولات جديدة




.. فيديو متداول عن أحداث العنف في أمستردام: هل يظهر اعتداء مسلم