الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مثقفو الهامش: بين الاستبعاد والخروج عن المألوف

سامح قاسم

2024 / 9 / 21
الادب والفن


في مجتمعاتنا التي تميل غالبًا إلى تعظيم المثقفين الذين يتواجدون في واجهة المشهد الثقافي، يقف "مثقفو الهامش" في الظل، بعيدًا عن الأضواء الساطعة، ليجدوا أنفسهم في حالة من النسيان أو التجاهل. ورغم ذلك، يمثل هؤلاء المثقفون حجر الزاوية في تطوير الفكر الإبداعي والنقدي، حيث يقدمون رؤى جديدة ومعاصرة، تتجاوز ما هو سائد وشائع.

"الهامش" في السياق الثقافي يعني ذلك الفضاء الذي يُستثنى منه الشخصيات العامة والمؤسسات الرسمية. هو منطقة تتصف بالابتعاد عن المراكز التقليدية، ولكنه في ذات الوقت يحمل بُعدًا خاصًا من الحرية والاستقلال. غالبًا ما يكون المثقفون الذين ينتمون إلى هذا الهامش أكثر جرأة في نقدهم للمجتمع وللسلطات الفكرية والسياسية، لكنهم مع ذلك يبقون مهمشين من قبل الأنظمة السائدة.


من هو "مثقف الهامش"؟ إنه ذلك الشخص الذي لا يسعى إلى تسليط الضوء عليه أو الحصول على مكانة مرموقة في المجتمع. بل يعمل على توجيه الفكر والنقد نحو المناطق التي لا يجرؤ الآخرون على الاقتراب منها. إنهم أولئك الذين يختارون الكتابة أو التعبير من خارج السرديات الكبرى والمؤسسات الرسمية، مما يجعلهم قادرين على تقديم رؤى مختلفة وخلاقة.

من بين المفكرين الذين تناولوا مفهوم الهامش، يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: "القوة تكمن في الهامش، حيث لا توجد سلطة تحد الإبداع" . قول فوكو يُبرز فكرة أن الهامش يمكن أن يكون مصدرًا للإبداع والحرية، حيث يتمكن المثقفون من تقديم رؤى أكثر جرأة ونقدًا.


يأتي مثق الهامش على النقيض من ذلك المثقف الذي يرتبط بالمركز الذي غالبًا ما يكون مرتبطًا بمؤسسات ثقافية أو أكاديمية أو سياسية، مما يحد من قدرته على التعبير بحرية تامة. إن الانتماء إلى المركز يتطلب، في بعض الأحيان، مواءمة الأفكار لتتفق مع القيم السائدة أو الأجندات السياسية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى نوع من الرقابة الذاتية.

على النقيض من ذلك، يظل مثقف الهامش مستقلاً في طرحه الفكري والنقدي. إنه بعيد عن الضغوط الاجتماعية والسياسية التي تُمارس على المثقفين المرتبطين بالمركز. وكما يشير الكاتب والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في كتابه "دفاتر السجن": "المثقف العضوي هو من يعبر عن صوت الجماهير، وليس من يخضع لتوجيهات السلطة". غرامشي كان يؤكد هنا على ضرورة أن يكون المثقف مرتبطًا بقضايا المجتمع بشكل حقيقي، وليس مستلبًا لأجندات القوى المهيمنة.

عبر التاريخ، ظهر العديد من المثقفين الذين رفضوا الانصياع للسلطات التقليدية وتوجهوا نحو الهامش لإيصال رسالتهم. من بين هؤلاء سقراط، الفيلسوف اليوناني الذي اختار مواجهة المجتمع الأثيني بنقده العميق للتقاليد الفكرية والسياسية السائدة آنذاك. سقراط لم يكن يسعى إلى السلطة أو الشهرة، بل كان يتطلع إلى تبيان الحقيقة ونقد العادات والقوانين الفاسدة، مما أدى في النهاية إلى محاكمته وإعدامه.

وفي العصر الحديث، نجد مثالًا بارزًا في الكاتب الإيرلندي جيمس جويس، الذي كتب أعماله بعيدًا عن التيار الأدبي السائد في بداية القرن العشرين. جويس كان يعتبر نفسه "مهمشًا" من قبل الثقافة الأيرلندية آنذاك، ولكنه في النهاية أصبح رمزًا للأدب التجريبي والحداثي، واستطاع من خلال هذا الهامش أن يترك بصمة لا تُنسى على الأدب العالمي.

إن المثقف الذي يتخذ من الهامش مكانًا لنقده، غالبًا ما يُعبر عن موقف مقاوم، ليس فقط ضد السلطة السياسية، بل ضد السلطة الثقافية والفكرية أيضًا. يقول إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني الأمريكي، في كتابه "المثقف والسلطة": "المثقف الحقيقي هو الذي يظل في حالة دائمة من المعارضة والمقاومة". ويضيف: "الوظيفة الأساسية للمثقف هي مقاومة النزعات الاستبدادية والدفاع عن الحرية". هذه الفكرة تبرز العلاقة الجوهرية بين الهامش والمقاومة؛ فالهامش هو المكان الذي يجد فيه المثقف الحرية الكافية لمعارضة النظام السائد وانتقاد الخلل.

سعيد نفسه كان مثالًا على مثقف الهامش؛ فقد قاد حركات نقدية ضد الاستشراق وضد التحيز الغربي تجاه العالم العربي، وقدم دراسات عميقة في الأدب والنظرية السياسية من موقعه كمثقف غير منسجم تمامًا مع التيار الأكاديمي أو السياسي السائد في الغرب.

لا تقتصر أهمية مثقفي الهامش على النقد السياسي أو الاجتماعي فقط، بل إنهم يمثلون أيضًا مصدرًا للإبداع الفني والأدبي. المثقف المهمش يمتلك حرية أكبر للتجريب والتجاوز عن القواعد الأدبية والفكرية الراسخة. فبعيدًا عن القيود التي تفرضها المؤسسات الثقافية، يتمكن المثقف من تقديم أعمال جريئة وغير تقليدية.

الكاتب الأمريكي هنري ديفيد ثورو، في كتابه الشهير "والدن"، اختار العزلة والابتعاد عن المجتمع التقليدي ليعيش حياة بسيطة في الطبيعة، ويتأمل في القيم الأساسية للإنسان. من خلال هذا الانسحاب إلى الهامش، أنتج ثورو نصًا فلسفيًا يُعتبر من بين أعظم الأعمال التي تناقش مفهوم الحياة البسيطة والاكتفاء الذاتي.

وبالمثل، نجد أن الشعراء والكتاب الذين خرجوا عن التيار الأدبي السائد، مثل فروغ فرخزاد، الشاعرة الإيرانية التي اختارت الانفصال عن التقاليد الشعرية والفكرية التقليدية في إيران، واستخدمت شعرها للتعبير عن قضايا اجتماعية وشخصية بجرأة غير مسبوقة.

رغم الإبداع الذي ينبثق من الهامش، إلا أن المثقفين الذين يعملون في هذا الفضاء يواجهون تحديات كبيرة. من أهم هذه التحديات التهميش الاجتماعي والثقافي، حيث يتم غالبًا تجاهلهم من قبل المؤسسات الثقافية والإعلامية. المثقف الذي يخرج عن القيم السائدة قد يجد نفسه منعزلاً، لا يحظى بالاعتراف أو التقدير.

كما يواجه المثقف المهمش ضغوطًا اقتصادية، حيث أن الابتعاد عن المؤسسات الرسمية قد يعني فقدان الفرص المهنية والمالية. الكتاب والشعراء الذين لا يتماشون مع السرديات الكبرى غالبًا ما يجدون أنفسهم في مواجهة ضغوط مادية قد تعيق قدرتهم على الاستمرار في تقديم أعمالهم.

رغم هذه التحديات، يستمر مثقفو الهامش في تقديم رؤى نقدية وثقافية غير تقليدية تساهم في إثراء الفكر الإنساني. يقول الكاتب الأمريكي رالف والدو إيمرسون: "لا يأتي الإبداع من الانسجام مع القطيع، بل من القدرة على الابتعاد عنه". هذه الفكرة تجسد الجوهر الذي ينطلق منه مثقفو الهامش، حيث يجدون في الابتعاد عن التيار السائد وسيلة للتجديد والإبداع.

في النهاية، يمثل مثقفو الهامش تلك الأصوات التي ترفض الرضوخ للسائد والمألوف، وتبحث دائمًا عن الحقيقة والعدالة والإبداع. ورغم أن هؤلاء المثقفين قد يواجهون التجاهل والتهميش، إلا أنهم يشكلون قوة هامة في إعادة تشكيل الثقافة والفكر.

في زمن يتجه فيه الكثيرون نحو التصفيق للسلطات والمؤسسات الرسمية، يُذكرنا مثقفو الهامش بأهمية الاستقلال الفكري والقدرة على النقد الحر. إنهم أولئك الذين يقفون في الظل، ولكن تأثيرهم يمتد إلى الأجيال القادمة، حيث يتركون بصماتهم على الفكر الإنساني بشكل لا يُمحى.

يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: "على المثقف أن يظل في حالة من التمرد الدائم ضد السلطة". هذا الاقتباس يلخص ما يسعى إليه مثقفو الهامش، حيث يقدمون فكرًا نقيًا ومستقلاً يرفض الانصياع لأي سلطة أو ضغط، ويسعى دومًا إلى توسيع آفاق الفكر الإنساني.

إن مثقفي الهامش يمثلون الوجدان الأصيل للأمة، حيث ينطلقون من نقاط ضعف المجتمع ليقدّموا لنا رؤى نقدية وإبداعية تلهم الأجيال القادمة. رغم التحديات التي يواجهونها من التهميش الاجتماعي والثقافي، فإنهم يقدمون مساهمات ثمينة تساعد في فهم أعمق للواقع وتطوير الفكر النقدي.

في عالم يتسم بتركيز السلطة والسلطويات، يعتبر هؤلاء المثقفون حلقة وصل بين الفضاءات غير المألوفة والتجارب الإنسانية العميقة. قدرتهم على رفض المألوف والابتعاد عن التقليدية تجعلهم قادرين على تقديم تحليلات جديدة ومبدعة، تعكس واقعًا لم تُسلط عليه الأضواء من قبل.

كما قال الفيلسوف جورج أورويل: "في زمن الخداع العالمي، يكون قول الحقيقة عملاً ثوريًا". في هذا السياق، يلعب مثقفو الهامش دورًا ثوريًا حقيقيًا؛ فهم يقولون الحقيقة في وجه التزييف والظلم، ويكسرون الحواجز التي تحجب رؤى جديدة عن العالم.

بالتالي، فإن دعم مثقفي الهامش وتقدير إسهاماتهم ليس مجرد تعبير عن احترام الفكر الحر، بل هو اعتراف بأن التجارب والتوجهات التي تأتي من خارج الدائرة المهيمنة هي التي تحدد، في نهاية المطاف، مستقبل الثقافة والفكر الإنساني. إنهم يدعوننا إلى التطلع إلى أبعد من الحدود الموضوعة لنا، ويشجعوننا على مواجهة السلطة بقوة النقد والابتكار.

فكما يُظهر التاريخ، لا تُبنى الحضارات وتُغير الأنساق الفكرية إلا بتلك الأصوات التي تنبثق من الهوامش. لذا، يجب علينا أن نحتفي بهؤلاء المثقفين، وأن نقدم لهم المساحة التي يستحقونها، حتى يتمكنوا من تقديم رؤاهم والمساهمة في صياغة مشهد ثقافي وفكري أكثر تنوعًا وشمولية.

مثقفو الهامش ليسوا مجرد مراقبين على الأطراف، بل هم قلب الثورة الثقافية، وعقول المستقبل التي تتجاوز ما هو مُفترض ومعتاد. إنهم الذين يدفعوننا إلى التفكير بشكل مختلف، ويطرحون تساؤلات هامة حول العالم من حولنا، مما يجعلهم جزءًا أساسيًا من تطور الفكر الإنساني والتقدم الثقافي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس قطاع الهندسة بمدينة الإنتاج الاعلامي من مهرجان البحر ال


.. «نجم المسرح» منصة اكتشاف المواهب الفنية بقيادة «قروب مافيا س




.. فكرة جميلة علشان الجماهير تروح الملاعب وتشجيع فرق كرة القدم


.. الفنان السوري فارس الحلو: أرفض حكم العسكر




.. مواقف أبرز الفنانين السوريين بعد سقوط حكم الأسد