الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
هواجس في الأدب ــ 326 ــ
آرام كربيت
2024 / 10 / 24العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سونا والنهر
قالت:
ـ بلادنا فقيرة بالماء يا غافل، أنت تتحدث عن بحار في رداء أو ثوب نهر، تتكلم عن غزارة نهر يتجاوز أنهارنا بآلاف المرات في حجمه، ومساحته، وطوله وعرضه. هناك دول كثيرة لديهم فائض مائي غريب.
وأضاف غافل:
ـ عندما كنت إلى جوار نهر براهمابوترا، كنت خائفًا، بل كنت مرعوبًا من منظر النهر، من صوت هديره، أبكي بحرقة ومرارة.
طلبت من أمي أن نترك المكان، أن نهرب. مسكت ثيابها وتعلقت بها رغبة في أن نغادر. هذه الأنهار بحجم دول كبيرة. لا يمكن أن نقارن أنهارنا الصغيرة بتلك الأنهار العظيمة، كما تفضلت.
الطقس باردًا جدًا في تلك البلاد يا سونا. بمجرد أن تعريت من ثيابي من أجل العماد، شعرت أن فمي وأسناني وجلدي ليسوا لي، أقدامي وأصابع يدي أصبحا منفصلان عني. بمجرد أن وضعوني في الماء شعرت بالدفء، كنت أنا وأختي هند نبكي من الخوف، من المجهول.
بقينا في الماء مدة طويلة بينما الرهبان كانوا يدورون حولنا، ينثرون الورد علينا، مترافقة ذلك مع الصلوات والأغاني. كانوا يمشون على الجمر، احمراره كان مبهرًا تحت أقدامهم، سعداء، مبتهجين.
كانت أختي هند صغيرة لا تدرك ما يدور حولها، لكني كنت أنظر إلى المشهد بخوف، الجمر منح جسدي بعض الحرارة والطاقة، بيد أني كنت مذهولًا من البخور المتناثر في الفضاء من رائحته الآخاذة.
وجوه الرهبان كان قاسيًا، وكانوا حليقي شعر الرأس، بيد أنهم أبقوا جديلة معقودة وملفوفة ومنثورة إلى الوراء.
كان الموقف كرنفالًا حقيقيًا، ساحرًا، الناس واقفين حولنا، وهناك إلى جانبنا عدد كبير من الأطفال من أمثالنا جاءوا إلى هذا المكان.
كان يّسر أهل التبت أيّما سرور أن يقترب الغرباء من أمثالنا أن يلجأوا إليهم، أن يقتربوا من حدودهم. وكانوا في منتهى السعادة أن يأكل الزائرون من زادهم وماءهم ويتطهروا على المساحة الطويلة من أرضهم، ويتعمدوا على أيديهم.
ـ الا يبدو أن طقوس المسيحيين جاء من تلك البلاد؟ سألت سونا
ـ ربما، الثقافات والطقوس والأديان كالأنهار يتداخلون مع بعضهم بالانسياب الطبيعي، نحن في وطن واحد، قسمناه إلى حدود.
عندما انتقلنا إلى لأهاسا عاصمة التبت، المقام الرفيع لهم، المقام على ارتفاع شاهق جدًا، على سفح هضبة جنكهاي، بيد أنها لا تعتبر عالية قياسًا إلى بقية الجبال المحيطة به، أما ارتفاعه كان بحدود الأربع كيلو متر، وسكانها كلهم بوذيين. إنه المركز الديني والسياسي لهم، تعتبر هذه المدينة نقطة ترابط والتقاء خطوط التجارة، نستطيع القول عن طيب خاطر أنها مدينة كوزموبولتية، أي عالمية، وأنها المركز الديني، ومكان إقامة الدالاي لاما.
بالمناسبة، يتسع النهر ويكبر كلما وغل في الأرض وسار في مجراه المتحرك، ومن خلال وجودنا في الطائرة العمودية تنقلنا في عدة مدن ونواحي، ووصلنا إلى مناطق شاسعة، كلها مياه.
وقال غافل:
ـ قلت لأمي أن هذا ليس نهرًا، هذا بحر يشبه البحر الأحمر، عريض للغاية.
قالت:
ـ نحن في فصل الفيضان يا ولدي، أنه بحر كما تفضلت لكنه سيدمر الكثير من الأراضي في الهند والبنغلاديش، إن ارتفاع حرارة الأرض كارثة إنسانية محتمة سيدفع ثمنها جميع البشر على سطح الأرض. وستنقرض الكثير من الحيوانات وبقية الكائنات الحياة، وعندما ستذوب الثلوج فوق السلسلة الجبلية للهيمالايا، سيغمر الماء دول وسيدمر الأرض ويفتت التراب وسط انهيارات أرضية هائلة.
ـ وهل ستفيد صلوات الناس في إعادة التوازن بين الأنهار والأرض، كما رأينا وشاهدنا؟
ـ هذا يتعلق بنشاط البشر.
التقينا بالفلاحين البسطاء، كان الخوف يغمر عيونهم، سألت والدتي أحد الذين يزرعون الرز:
ـ الا تخاف أن يغمر الفيضان أرضك فيضيع تعبك هدرًا؟
ـ أخاف، بالطبع أخاف. كل ثانية ودقيقة اتضرع إلى الله أن يبقي رزقي، أن لا يجن النهر أو الفيضان من الأقدام على التدمير، نحن نعاني من انفلات الطبيعة من الانضباط. يقولون أن حرارة الأرض ارتفعت، ربما هذا الكلام صحيح مئة بالمئة، قبل خمسين سنة كان أهلنا يزرعون الأرض ويحصدونها بسهولة ولم يكن يعرفون الخوف، بعض المواسم كان يفيض النهر، لكن الأمر كان محمولًا، اليوم غيرت الطبيعة سلوكها، أنها تتفاعل مع سلوك الناس الشرير والهمجي.
عدنا إلى الصين، أخذتنا الطائرة إلى بكين، من هناك عدنا إلى دمشق، مكثنا بضعة أيام فيها، زارت والدتي الوزارة قدمت أبحاثها ودراساتها للدولة لترفعها إلى هيئة الأمم المتحدة لشؤون البيئة.
بعد سنة، قالت والدتي لوالدي، جائتني بعثة إلى الصومال، علينا أن نجهز أنفسنا للسفر إلى تلك الدولة، المدة شهر، خذ إجازة من العمل، علي تقديم دارسة عن نهر شبلي وجوبا.
غرغر الفرح في عقلي وجسدي كله، سنذهب إلى أرض أخرى وسماء أخرى، سنزور بلادنا عربية وأفريقية، سنقابل وجوه جديدة ومياه أخرى.
ـ الصومال؟
ـ نعم الصومال.
ـ وهل يوجد أنهار في الصومال، لم نقرأ أو نسمع بوجود نهر في هذا البلد المنكوب؟ أغلب الجرائد والمجلات والصحف والإعلام يتحدثون عن الجفاف والمجاعة والحرب، أنتِ تتحدثين عن الماء والأشجار والأراضي الزراعية، والحياة العامرة؟
كانا يتحدثان ويمشيان، يسيران باتجاه السيارة، أرادا أن يتابعا خط سيرهما باتجاه مدينة رأس العين، مدينة الينابيع.
من بعيد رأت سونا إطار السيارة مثقوبًا، صرخت بصوت عال:
ـ غافل، هناك عطل في السيارة، ثقب في الدولاب، ماذا سنفعل، ونحن في منتصف الطريق؟
انحنى غافل نصف انحناء، مد يده إلى الدولاب، تأكد أن هناك مشكلة، قال:
ـ يبدو أن وقوفنا هنا هو خير لنا، ماذا كان سيحدث لنا لو أن الدولاب انفجر أثناء قيادة السيارة؟
فتح الباب الخلفي، واخرج الرأفعة وعدة الإصلاح، حمل الدولاب إلى تحت ظل شجرة. لم يستغرق الأمر أكثر من نصف ساعة، ثم انطلقا.
السيارة تتمايل في الطريق كالأفعى، أخذت سونا الترمس، الإناء المملوء بالقهوة الساخنة، وفنجانين فارغين لتملأهما به، حاولت، بيد أن اهتزاز السيارة عرقلها، قالت:
ـ غافل هل تستطيع أن تقف، أريد أن املأ هذين الفنجانين بالقهوة.
أوقف غافل السيارة بالقرب من الاستراحة، ونزل منها، واتجه نحو سونا وفتح لها الباب لتنزل، قال لها:
ـ فكرة رائعة أن نشرب قهوتنا ثم نكمل طريقنا، ما رأيك؟
ـ خير ما فعلت، ما رأيك أن نشرب قهوتنا على مهل، لسنا على عجلة من أمرنا، أنا بشوق لمعرفة تجربتك في الصومال.
مجرد أن تعيش في أرض غامضة بالنسبة لنا هو حدث عظيم لطفل في الثامنة من العمر. حياتك غنية يا غافل، القدر وقف على يمينك ومدك بطاقة إيجابية جميلة، إن زيارة الدول والمدن تمد الإنسان بالمعرفة والتجربة.
بالمناسبة، عندما كنت طفلة صغيرة في الصف الثاني الأبتدائي، كان لدينا طفلة صغيرة أسمها فانيا، فتاة دلوعة، جميلة وجهها نضر ومملوءة بالصحة، كانت تتحدث وكأنها تتلمظ برتقالة أو ليمون، كل ثانية تطبق شفتيها على بعضهما، تبلع ريقها وتبتسم ثم تتكلم وكأنها كانت تقدم محاضرة عن الجسد في برنامج تلفزيوني. حدثتنا عن زياراتها لبلغاريا كل عام برفقة والدها ووالدتها أثناءالعطلة الصيفية، تبقى هناك ثلاثة أشهر.
ـ هل فانيا بلغارية؟
ـ لا. أنها أرمنية، أب عن جد، وأمها أرمنية، أقرباءها مقيمون في بلغاريا منذ خمسة عقود، لجأوا إليها بعد الإبادة التي تعرض لها أقرباءها مع أغلب أبناء قومها من الأرمن على يد الأتراك. استطاع جدها لأبوها وجدتها الهرب من استنبول إلى هذا البلد.
كانت تتكلم وكأنها كانت مقيمة في تلك الفترة الزمنية، كانت ترسم أجواء القهر والجوع والبرد بطريقة احترافية. تكلمت عن الحرب العالمية الأولى بإسهاب كأنها كانت تردد قصيدة شعر لشاعر مشهور.
كانت تتحدث للمعلمة والتلاميذ كصبية محترفة، عن ما عاناه أهلها أثناء الرحيل الإجباري، لقد حملهم طراد فرنسي عبر البحر الأسود إلى حدود بلغاريا، وضعهم في مدينة بورغاس وسط الخوف والقهر والظلم، ساروا على الأقدام إلى صوفيا عاصمة الدولة، عبروا الأنهار بمساعدة الفلاحين الفقراء، وضعوهم في قواربهم الخشبية الصغيرة ونقلوهم من الضفة الشرقية لبلغاريا إلى الضفة الغربية، صعدوا الجبال وقطعوا المنحدرات، تصدق عليهم السكان بالثياب والطعام والبعض منهم قدم لهم الحمير أو البغال من أجل الامتطاء في رحلة البحث عن ملاذ أمن، وعندما كان السكان يسألونهم عن وجهتهم، كانوا يرددون كلمة واحدة:
ـ صوفيا.
كانت فانيا سمينة، ولكنها محبوبة، تدخل القلب من أوسع أبوابه، طريقة أداءها في الحديث جعل أغلبنا يتسمر في مكانه يريد أن يسمع كلماتها، وفانيا كانت تدرك أن التلاميذ، زملاءها في الصف على أحر من الجمر لسماعها لهذا كانت تختلق سببًا ما لتخرج إلى الباحة، تردد كلمة، أنني ذاهبة إلى المرحاض، كنّا نراها تلعب في الباحة أو تأكل القضامة السكرية أو الشوكولاه، ونرى الضحك على وجهها الممتلئ الجميل. كانت تعلم أننا كنا نحبها ونحب أسلوبها في سرد الحكايات التي مرت معها.
وعندما كانت تعود تنتظر أن نطلب منها أن تكمل حديثها، تسخر منّا، تسأل:
ـ أين كنا، وإلى أين وصلنا؟
كانت تعرف تمامًا أين توقف حديثها، لكنه الدلال، فقد كانت مدللة في البيت ومحبوبة والديها لأنها وحيدة.
وأضافت:
في الحقيقة أنا لا أستطيع أن أرسم صورة حقيقية عن تلك الفترة، سأطلب من والدتي أن تأتي إلى المدرسة وتتحدث إليكم عن تجربة أجدادها، وأرفقت كلامها بضحكة صاخبة، في وقتها لم أفهم سبب هذه الضحكة البايخة، هل كانت سخرية أو غرور أو ثقة زائدة بالنفس؟
الصدمة، الانبهار، ضروريان، يجب أن يكون الحدث مذهلًا، أن يترسخ في الذاكرة العميقة للإنسان.
الصورة التي قدمتها الميديا في السابع من أكتوبر هذا العام، أصبحت جزءًا من الذاكرة العالمية، مثل الحادي عشر من أيلول، 2001.
دون أي تحقيق، تم اتهام العالم الإسلامي بالإرهاب، ثم فصلوها على مقاس المنظمات الإسلامية لتصبح الصورة أكثر قبولًا، بالرغم من أنهم، القاعدة والمنظمات الإسلامية كانوا يسموا أبطال الحرية قبل سنوات قليلة حسب توصيف بريجنسكي.
إن تفعل الولايات المتحدة هذا الحدث العظيم، اختراق إسرائيل عى يد حماس، هذا يستدعي آلاف الأسئلة:
ـ ماذا تريد الولايات المتحدة بالضبط، وإلى أين تريد أن تصل؟
السيناريو المعد حسب وجهة نظري سينفذ سواء بالترغيب أو الترهيب، هناك مشروع كبير تعده الولايات المتحدة لإغلاق المشروع الصيني الحزام والطريق والتضييق على هذا الدولة وإعادتها إلى المربع الأول، بهذا كأنها غيرت أولوياتها، فبدلا من الاجهاد العسكري والاقتصادي حول ملف تايوان، لجأوا إلى الشرق الاوسط، الطريق الذي رسمته الولايات المتحدة الامريكية، هو أقل كلفة، وأغلب الانظمة العربية في الجيب، والخط سينطلق من الهند إلى أن يصل إلى إسرائيل، وعبر موافقة السعودية والأمارات وغيرهم، وسيحاصرون مصر ويعطلون قناة سويس.
الحرب ليست على القضية الفلسطينية أو إسرائيل أو غزة، أنهما مجرد أدوات أو حجة لتحريك الأحداث.
وإن غدا لناظره قريب.
سابقًا كتبت، قبل عشر سنوات، أن النظام الدولي قطب واحد متعدد الوظائف، وكل دولة لها وظيفة.
اعتقد أنه صحيح، واعتقد أن نهب العالم جزء من وظائفه.
لننظر كيف أتفق الأعداء في الظاهر، الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وتركيا وأغلب الفاعلين الرئيسيين في النظام على ترحيل السكان الأرمن المعزولين عن العالم من بيوتهم في يومين، وكأنهم لم يكونوا موجودين في كاراباخ قبل آلاف السنين، إلى أرمينيا دون دعم أو شفقة أو مساعدة.
النظام الدولي هو تجمع قطيعي كبير مؤلف من الضباع والكلاب البرية، ينهشون في اللحم الحي ويأكلونها بلذة القاتل السعيد للحم المقتول.
تم ترسيخ الحرب الدينية بعد صناعة أحداث العام 2001، والحبل على الجرار. طبعا رافق ذلك صناعة الإعلام والإعلاميين والكتاب والمفكرين والسينما والفن عمومًا لتسير على هذا الخط، خط الحرب الدينية، بطلها المهزوم هو الإسلام.
اليوم هناك إنكماش إسلامي على نفسه، أنه في حالة ضوضاء، هياج، صراخ، كأنه يلفظ أنفاسه، ودون اللجوء إلى العقل أو التفكير أو الخروج من هذا النفق.
صناعة الإسلام الدموي، الإرهابي لا يزال قائمًا، وسيستمر لأن هناك سياسات تعمل على ذلك، وأموال تصرف بالمليارات على تأجيج الصراع بين الإسلام وغيره.
المشكلة لا عقلاء يحاولون أخذ المبادرة، للتفكير أو الرجوع للعقل، والمشكلة أن جميع الدول العربية والإسلامية منخرطون في الصراع من موقع العدو للإسلام.
هذه ليست المرة الاولى الذي ينزل فيها الغوغاء إلى الشارع، سواء في شوارع أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو الدول العربية والإسلامية.
كلما دخلت حماس وإسرائيل في صراع مسلح ينزل الغوغاء إلى الشارع بشكل ممنهج ولمصلحة حماس.
هل هذا بريئًا، بالتأكيد لا؟
لماذا يتم تعويم حماس، وتهميش السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليًا، ويتم تسميتها بالمقاومة الفلسطينية؟
هذا لم يأت من فراغ، أنه عمل ممنهج تقدم عليه الحكومات الغربية والعربية بالأتفاق مع إسرائيل، لضرب أي اعتدال عربي، ورفع شأن المنظمات الإسلامية الإرهابية المسلحة لتصبح هي المرجع لسياساتنا وأفكارنا وقناعتنا كبديل عن العقل والديمقراطية والعلمانية.
أليس هذا التصرف يصب في بنية كتاب صاموئيل هنتكتون، صراع الحضارات، وأن الحرب الدينية يجب أن يعطى لها المكانة الأولى لتكسير كل ما له علاقة بالحضارة الإسلامية؟
هذا الخبث الكافر له دلالات واضحة وعلينا أن نراها.
الصراع بين حماس وإسرائيل حدث ويحدث منذ أن اعتلت حماس السلطة في غزة، وفي كل مرة ينزل الجمهور القطيعي إلى الشارع عبر هياج شوارعي إعلامي عربي وغربي في أوروبا الجاهلة والولايات المتحدة.
لقد تم تحويل الصراع في المنطقة إلى صراع إسلامي يهودي واضح.
الإسلامي القطيعي أصبح مخجلًا واضحًا، أنه يحفر قبره في يده وقدمه ورأسه.
جاء الإله من تمجيد الإنسان لنفسه، لعشقه لنفسه، لخوفه من نفسه على نفسه، لأنانيته المفرطة، المنفلته من عقالها. هذه الأنانية، القلق الفائق، قادته إلى الخوف على نفسه من ما بعد الموت.
خلق الجنة كرشوة لنفسه، كمقايضة، لإبعاد الهواجس والاضطرابات عنها، للبحث عن الأمان المزيف في هذه الغربة الغريبة.
الإنسان كائن جبان، مفكك، يعاني من خواء داخلي لكونه لا يقبض على وجوده في هذا الوجود الغامض.
إن دفن الوعي هو الخلاص لخلاصه، وهذا لن يتم، لأن هذا الوعي جاءه من خارج نفسه، وسكن في نفسه.
كل ما يفعله الإنسان في حياته ووجوده على هذه الأرض هو نتاج الاضطراب الداخلي الذي يعاني منه، وهو نتاج القلق والخوف، وهذا هو وراء الأمراض الذي يعاني منها طوال حياته.
ابتعد عن الدبق لستَ الحشرة الوحيدة الذي ستحط عليه.
الدين أكل مخ الشعوب المتخلفة، ولا يزال يأكل ما تبقى منها.
أغلبنا هدفه الرحيل إلى الغرب، فلماذا نترك آثارنا خلفنا، فليأتوا معنا.
أخاف أن تولد داعش حقيقة من الأرض، وتدمر كل شيء.
فما زال الكثير منا يملك هذا الوباء، هذه القيمة المريضة، وتبدأ بالتدمير الذاتي، وتدمير الغرب الذي نعيش فيه.
معقول أن نسمح لشيخ دين جاهل وغبي أن يقودنا إلى ملعبه، ثم يرمينا فوق الزبالة؟
جميع رجال الدين من طبقة واحدة، هو التحايل على الواقع، وتمييع حقيقته.
معقول أن نثق بلاعب كشتبانات، كالسنوار أو حسن نصر الله واتباعهما أن يصادورا وجودنا، يحرفوا وعينا، ويصعدوا على حقوق مطالبنا بالحرية، بوطن لنا جميعًا، بوطن ينتمي إلى عصرنا، عصر العلم والتكنولوجية وانفتاح الحدود والحواجز؟
المقاومة هو صراع بين الماضي بكل ثقله وتخلفه وأمراضه، والحاضر بعلومه، وتحولاته ونجاحاته.
عصرنا، هو عصر إنتاج الفلسفة الإنسانية الحديثة، كالحرية والمساواة والتعايس السلمي بين البشر.
بين اقتصاد بدائي، خراجي، واقتصاد حديث، الأول لا يمكن إعادته إلى الحياة لأنه اقتصاد غزو ونهب وسبي، وتعصب ديني، واقتصاد حديث يتطور ويتحول تحولات هائلة.
أنا اختار العصر، أنا ابن الحياة، ابن الحاضر.
حسن نصر الله أدخل نفسه ولبنان في نفق عميق ليس من السهل الخروج منه.
إن توظيف حزبه وجيشه لمحاربة السوريون، ووضع نفسه تحت أمرة بشار وجيشه الفاسد ونظامه الفاسد جعله كريهًا في نظر الشعبين اللبناني والسوري.
إن الدفاع عن نظام الاستبداد في سوريا وإيران، يجعلنا لا نحترمه ولا نحترم ما يسميه مقاومة.
المقاومة للعدوان يحتاج إلى قوى حرة، فكر حر غير مأطر بأيدولوجية طائفية أو مذهبية أو دينية.
المقاومة هي رغبة في الانعتاق من الظلم والقهر والاستبداد السياسي والاجتماعي. إنها مع المأسور والضعيف، ولا تدافع عن المجرمين والقتلة والمعادين لشعوبهم.
إن هذا الولاء والخضوع لنظامي الخامئني وبشار، على حساب دولة لبنان وشعب لبنان لن يمر مرور العابرين الكرام.
المستقبل القادم سيغلق عليه المنافذ للخروج من أزمته التي هي أزمة فكر طائفي مغلق.
المقدمات الخاطئة ستفضي لا محالة إلى نتائج خاطئة.
وحسن نصر الله وشركائه في الجريمة، ميشيل عون ونبيه بري وسمير جعجع وسعد الحريري ووليد جنبلاط كلهم يجب أن يحاسبوا.
أصبحت اسماءهم في العالم كله لصوص وبلطجية ووجودهم أصبح عارًا عليهم.
بنية الدولة، هو نتاج السلطة، سواء كان قديمًا أو في عصرنا الحالي، عمليًا، هي فاشية في الجوهر.
عملت الدولة الحديثة منذ عصر الأنوار أن تلطف من وجودها، من ذاتها، أن تقدم لنا قشرتها السطحية العليا، أن تضع البرقع على نفسها في وقت الراحة والهدوء والسلام والسلم.
لا تحك الدولة، لا تدخل في جوهرها أو بنيتها العميقة.
نذكرك أننا قلنا لك مرات كثيرة، إذا حاولت أن تلعب بها أو معها، أو تبعبص في جوهرها، سيخرج لك ماردها، وفي يده السيف المستعد للنطع.
جوهر الدولة هي السلطة، والسلطة هي أداة عنف.
لنعش في دولة القانون دون استفزازها، لأنه ليس لدينا بدائل أفضل من الموجود، لا مفهوميًا ولا واقعيًا.
تستطيع الدولة في أي مكان من هذا العالم أن تلجأ إلى الفاشية أو الديكتاتورية إذا لزم الأمر.
غسان كنفاني:
لا شئ يطفئ أنوار الكون في عين الرجل كرحيل امرأه كان يعتبرها أرضه وسماؤه وكونه.
وأضافت الصديقة ربا أحمد الشيء ذاته:
لا شئ يطفئ أنوار الكون في عين المرأة كرحيل رجل كانت تعتبره أرضها وسماؤها وكونها.
عندما منع الله أدم وحواء من أكل ثمار الشجرة، هل كان بينهما حب مسبق، عشق، مهيئان عاطفيًا ونفسيًا لممارسة الحب؟
هل كان يعرف وضعهما، الضغوط الذاتية الهائلة، التي دفعتهما للممارسة؟
أم أن لقاءهما كان فيزولوجيًا بحتًا، متعة للمتعة.
وهل كان الله يفصل بين الجنسانية والعاطفة؟ وهل كان يعرف الفصل بينهما، أم أن وعيه لم يكن كاملًا كما هو عليه في أيامنا؟
وعلى ماذا حاسبهما، على الحب أم على ممارسة المتعة الجسدية.
وهل كان عطش الحب الدافع الأول، أم الجنس، لأدم وحواء، على ماذا قبلا التضحية بالجنة، ثم النزول إلى الأرض؟
ومتى وجدا نفسيهما عرايا، قبل الجنس أو بعده؟ وهل كان هناك سبب أخر لهذه الهزيمة الوجودية للإنسان عبر تاريخه الطويل.
هذه اسئلة مهمة جدًا، يجب علينا طرحها قبل القبول بالنتائج.
بتقديري، أن الله كان لديه معرفه مسبقة بهذا الحدث العظيم، ثم أراد الاستمتاع بإذلالهما، أدم وحواء، ليكون مبررًا اخلاقيًا وسياسيًا واجتماعيًا لطردهما، وليتهمهما بأنهما خالفا رأيه وقوانينه الفوقية؟
ثم هناك سؤال أخر:
لماذا أشعرهما بالخدر العاطفي قبل إطلاق سهامه عليهما، وإخراجهما من جنته؟
وما زال البشر إلى هذا اليوم يشعرون بتأنيب الضمير بعد الانتهاء من الوصول إلى اللذة أو الرعشة، بل يخافون منه، لهذا يمارسونه في الخفاء، بعيدًا عن الأعين، كأنهم يرتكبون جريمة.
في العلاقة الحميمية يمارس الإنسان أكبر تحدي ذاتي، بين المتخيل والواقع، بين الحبيب وخياله، هي لحظة قلقة، بين ذاكرة جسد الحبيب أو كأنه جسده، أي قابلًا على الاستبدال في كل لحظة.
في الخيال، كأن هناك جسد أخر قد حل محل جسد أخر، لنقل لو أن الحبيب غاب في هذه اللحظة، وحل محله جسد أخر، سيعمل الجسد والعقل والخيال بالآليات ذاتها، على نقل المرء على الطيران ذاته.
الإيحاء القابع في خلفية الصورة، الخداع، يستطيع أن يحول الخيال إلى حقائق دون أن يستطيع العقل القبض عليه.
عندما يعمل عقلك، بالإيحاء، تتخيل أن الذي معك هو سين، ستواصل شغفك به بالرغم من أن الذي معك هو عين.
يعمل الخيال على التحليق الذاتي، يحمل المرء من ذاته ويطير به، فيتحول المحبوب إلى أداة، للوصول إلى النشوة.
أين هو الغلط أو التناقض، هل هو في هذا الإنسان، هل هو في مراوغة العقل، هل هو في الخيال أم أن الواقع لديه القدرة على التعايش في مزدوجين أو أزدواجية، أحدهما بديل عن الأخر.
عندما لا يبادلنا الحبيب، الحب بالحب، بمعنى عندما يهملنا، نتعلق به أكثر، نتحول إلى كائنات مستلبة، أسيرة، بل نصبح مأزومين، مازوخيين جدًا.
بالنسبة لي، اعتبر التعلق بالحبيب الراحل هو رد فعل، محاولة رد الاعتبار للذات المأسورة المكسورة، الشعور بالفراغ والخواء،
يقول لنفسه:
ـ أحبه، أريده، لو أنه يعود لأصبحت حياتي جنة، ليته يعود، ماذا فعلت له حتى يرحل ويتركني في وحدتي مع مشاعري المهزومة؟
علينا أن نتعلم ترويض هذه الذات على الرحيل، أن لا نلتفت إلى من يرحل.
خليه يرحل، وأعطه ثلاث عجوات تمر وليمونة وشوية مشبك وبعصة، والباب واسع.
يتعرض الحبيب الخائب إلى كم هائل من الإذلال عندما يتم أهماله، أو التعامل معه بفوقية، يشرب القهر والألم من الذات لذاتها، لماذا؟
هل علاقات الحب، هي شراكة أم جلد للذات؟
وبدلًا من رجم الحبيب الراحل، وتحميله مسؤولية انهيار العلاقة، يبدأ المرء بجلد ذاته.
هذا المرض هل يمكن عقلنته؟
بتقديري يجب أن يجبر المرء، يمرن ذاته على البحث عن مخارج، قبل أن يستفحل الأذى الذاتي.
الحجاب خلق مسافة، جدار عالي بين الأفراد، هوة عميقة، لا ثقة بينهم من المنظور الأخلاقي والنفسي والاجتماعي والديني والتاريخي.
إن الحجاب يمنح حامله، من خارجه، حيازة الجسد وتعبئته بالرموز.
ويشير إلى إنفراد جزء من المجتمع في المرتبة والمكانة الاجتماعية والسلوك.
إن ظاهرة الحجاب ليس جديدًا ولا يقتصر على شعب من الشعوب، أنما يعود إلى قبل آلاف من السنين السابقة.
فقد استخدم في العصر الأشوري والأخميني ثم الأغريقي فالروماني، فالبيزنطي وغيرهم.
وأغلب الشعوب الغازية أو المغزية استعارا من بعضهما هذا الحجاب، وتحول مع الأيام من الإشارة إلى المنزلة، المكانة العالية، إلى النزول بالمحجب إلى المنزلة المتدنية، ثم تحقيره وقهره.
إن الحجاب عبء ثقيل، حمله الطرف الأضعف في المعادلة الاجتماعية رغمًا عنه، ونعني بهذا، المرأة.
التاريخ ليس بريئًا، ليس مسكينًا، أنه ملوث بالغايات والرغبات والنتنات.
بالحجاب خرجت المرأة من حيازة الحرية على جسدها والسيطرة عليه، إلى أن أصبح ملكية خاصة من قبل الرجل وفق أحجية غريبة او تفاسير أسطورية، وتحولها من شخصية حرة إلى شخصية مستلبة، بالرغم من أن الاستلاب عام للمجتمع كله، فاقدة للأهلية الأخلاقية والسلوكية والعقلية.
الحجاب فرض على المحجب الغربة الذاتية والعامة، والانفصال عن ذاته.
الحوار فن متكامل كالرقص أو العزف على آلة موسيقية. إنه يحتاج إلى إجادة، إلى أفراد يتقنون لغته:
خلفية ثقافية عميقة، قدرة على الانضباط، احترام نفسه ومحاوره، الاعتدال في الطرح، لغة مهذبة قائمة على الرغبة في المعرفة، والرغبة في الوصول الى تقاطعات.
وهذا يفترض أن يكون المحاور له خلفية اجتماعية مدنية.
صاحب الخلفية الطائفية أو العشائرية أو المذهبية أو أي انتماء ضيق لا يمكن أن يكون محاورًا حقيقيًا أو قادرًا على هضم آراء غيره.
والمستمع الجيد متكلم جيد.
ق حيث الغناء ـ 18 ـ
بعد لقائي مع الكاتب والمفكر موفق محادين بأسبوع واحد حصلت على الأقامة المؤقتة في منظمة الأمم المتحدة في الأردن.
ذهبت إلى مقر المنظمة في الشميساني وهي منطقة راقية في وسط عمان، أخذت بطاقة الهوية الجديدة التي تدل على قبولي فيها.
قالت لي المسؤولة:
ـ هناك دورة للغة الأنكليزية في أحد أحياء عمان، لم أعد أذكر أسمه، هل ترغب في الدراسة؟
ـ بالطبع أرغب.
وعملت مقابلة معي عن ظروفي وطريقة عيشي ومواليدي وحياتي السابق تدون كل شيء في جهاز الكومبيوتر، ثم وضعت اسم السويد، قلت لها:
ـ لماذا وضعت اسم السويد مباشرة دون أن تسأليني؟
ـ لأنه لديك أقرباء فيها، هذا سيسهل لك اللجوء.
ـ حسنًا، شكرًا لك. ولكن لماذا تعطون البعض بعض النقود ولا تعطونه لغيرهم؟
ـ في مثل وضعك، لديك أقرباء في السويد وبالتأكيد لست بحاجة للنقود؟
ابتسمت ابتسامة صفراء ساخرة، قلت:
ـ تقررون بالنيابة عن الأخر، من قال لك أنهم يرسلون لي النقود؟ لكن لا مشكلة.
شعرت بالارتياح، أنني لن أعود إلى سوريا أو إلى السجن.
وبمجرد أن خرجت من سوريا ذهب الأمن السياسي والعسكري إلى بيتنا في الحسكة، وسألوا والدي المسنين:
ـ من أين حصل آرام على الجواز السفر؟ من سهل له الحصول عليه؟
كانت لهجتهم عدوانية جدًا فيها غرابة كبيرة وحيرة. وكيف أنني خرجت بسهولة من سوريا دون أن يعرفوا.
في الحقيقة حصلت على الجواز في السادس من أيلول العام 2001، بقيت في بيت أهلي يومين، وزرت بيت أخواتي في القامشلي، ودعتهم، ثم عدت إلى الحسكة، وفي الثامن من أيلول اتجهت إلى دمشق، وفي التاسع منه توعدنا أنا وسمر على اللقاء في حديقة الجاحظ، في موقف الحجاز التقينا ثم ركبنا التكسي معًا باتجاه أبو رمانة، وقبل أن ندخل الحديقة اشترينا فنجانين من القهوة، ودخلنا إليها وأخذنا مقاعدنا، ننظر إلى بعضنا دون أن تعلم أنني حصلت على الجواز، ولم اتصل بها أخبرها مخافة أن يكون هاتف بيتنا مراقبًا.
بعد أن استرخينا قليلًا، وفنجان القهوة والسائل يتحركان في يدي، قلت لسمر:
ـ لقد حصلت على جواز السفر وسأسافر قريبًا!
ـ ستسافر، متى؟
ـ غدًا.
ـ ماذا.. ماذا تقول، كيف ستسافر وتتركني.
ـ تحدثنا حول هذا الموضوع مرات كثيرة، وقلت لك سأسافر بمجرد حصولي على جواز السفر. سأرحل عن هذا البلد نهائيًا، ولن أعود إليه مرة ثانية. الذين يحكمون هذا البلد همج برعاية دولية همجينة. إن السجون فيه سيستمر ما دام هناك الولايات المتحدة مهيمنة على النظام الدولي. أريد أن نرحل معًا، أن أسبقك أولًا ثم تلحقين بي، ونصل معًا إلى السويد ونبدأ حياتنا هناك.
قالت لي:
ـ لن أترك سوريا، هذا وطني ولن أبدله بكنوز الأرض كلها. أبق معي يا آرام لا ترحل، الغربة عالم الموات والقهر والعزلة.
ـ ليس لي مستقبل في هذا البلد. لقد اكل لحمي وعظامي. لقد شوهني وقتل الجمال والحرية في داخلي وحولني إلى كائن منفصل عن عالمي. لا أحد يعرف مأساة السجين كالسجين ذاته. ماتت الحياة في حياتي، في هذا المكان اشعر بالقرف من كل شيء، الصنم ذاته، أي النظام في مكانه ولن يرحل، الفتور ذاته في عيون الناس.
بكت صديقتي، وجهها الأبيض الجميل المورد بان آية في الجمال، قالت:
ـ هل ستتركني وحدي للوحدة والفقد والغياب والانتظار؟ أبق هنا نبني حياتنا معًا. أنا في الثامنة والعشرين، ما زال الوقت مفتوحًا لنا أن ننجب طفلًا ونبي بيتًا وأسرة
ـ الموضوع لا علاقة له بما تقولين، هذا الوطن لم يعد وطنًا، أنه وطن المخبرين والمخابرات، وأنا لست على استعداد أن أذهب كل يوم إلى فرع المخابرات عندما يتم استدعائي، لقد ملت ذاكرة بل تعبت من الأقنية المعتمة والأقنعة والروائح النتنة ووجوه الأمن القبيحة والقذرة.
لا أريد العودة إلى السجن، اسمي أسود وملفي في بطاقتهم أسود وسأبقى منتظرًا طرق الباب علي وعلى أطفالنا بعد منتصف الليل. لا أريد لأطفالنا ان يعيشوا في جو مضطرب وحزين وفي حالة خوف وانعدام الأمان والأمن.
وفي حال قيام أية حركة اجتماعية قادمة سأكون أنا والذين مثلي أول من يتم استدعاءهم، ثم في الزنزانة. لست مستعدًا للمغامرة مرة ثانية، وأن أكون كبش فداء لمجتمع غير جاهز في الدفاع عن نفسه.
لست ملائكة يا صديقتي، السجن الطويل روضني وقلم أظافري وقصقص أجنحة الطيران في جسدي. أنا اليوم عاري أمام نفسي وزمني. لم يعد لدي وطن احتمي به ولن يكون في المستقبل. مات الوطن في ذاكرتي وعقلي. وطني اليوم هو سقف وخبز وبقايا بقاء على قيد الحياة. الوطن يموت بوجود دولة ميتة. الدولة هي البناء الناظم لحياة الإنسان المعاصر، فإذا ماتت مات الإنسان في هذه الحضارة بعد أن ماتت الطبيعة وبراءتها قبل هذا.
كان الحزن الكبير مخيمًا على كلينا، كانت عيني على الطريق القادم من المستقبل محفوفًا بالمخاطر والحاضر مضطرب وغامض، وصديقتي الجميلة واقفة تنظر إلي بحسرة. كانت لحظة الحسرة، ونقطة افتراق رهيبة، أخر كلمة قالتها لي، لا تذهب. أبق هنا. لن تعرف لك حياة في الغربة.
قلت:
إن من يحكم سوريا مجرد غزاة يا حبيبتي، والغزاة لا يستولون على الأرض بالقوة فحسب, أنما على الدين والأخلاق والأغاني والموسيقى وآلات العزف والرقص, ومجمل الثقافة والتراث. من قال أن الغزاة لا يبدعون؟ إنهم يستولون على كل شيء, بيد أنهم لا يضيفون لنا إلا الخراب.
إن الانحطاط صفة كاملة ستمتد إلى عالمنا كله، لكنه بدأ في بلادنا برعاية عائلات ميتة مقيمة في أبراج عالية لديها همًا واحدًا هو التدمير الممنهج للأرض والسماء والماء. وإذا بقوا بقيت الحياة ميتة.
حضنا بعضنا وانفصلنا أمام أنظار المارة في الحديقة العامة الجميلة في وسط النهار في أرقى أحياء دمشق على مسافة واحدة من أبنية السفراء الأجانب.
كانت الدموع تملأ عينها وقلبها، وكان الافتراق، ومشى كل واحد في طريق مخالف للطريق الذي كان.
ذهبت إلى المحل الذي كنت أحاول العمل فيه، والذي خاب بالكامل أملي منه وإحساس مركب بالحزن مما آل إليه الأمر، وشعور مرير أن صاحب المحل، الرفيق والصديق طعنني في صدري من الخلف.
في المساء ذهبت إلى غباغب برفقة الصديق والرفيق المرحوم حمزة حبوس، سهرنا معًا ولعبنا مع طفليه الصغيرين وتعشينا وضحكنا، وحضرنا حفلة عرس مع أبناء القرية، دبك فيها حمزة كما لو أنه لم يدبك سابقًا مع أهل القرية، ثم عدنا لبيته ونمنا.
حمزة كان معي في السجن، ولا يوجد من يحن على السجين كالسجين نفسه، لدينا شعور مشترك أننا أولاد محنة واحدة.
لقد خرج من السجن قبلي بتسع سنوات، عاش في ضيعة أهله وناسه.
في الصباح حملت حقيبتي الصغيرة، بضعة ثياب بسيطة، وخرجنا من البيت بعد أن ودعت أولاد حمزة وزوجته، وذهبنا باتجاه الطريق العام ووقفنا ننتظر، وبمجرد رأينا المكروباص ودعنا بعض، وفي هذا الوداع كنت واصل لقناعة تامة أنني لن أرى حمزة بعد اليوم.
وحمزة توفي في العام 2008، بكيته كما أبكي نفسي يوم موتي.
نزلت في مدينة درعا في العاشر من أيلول وكان يوم الأثنين، اتجهت نحو موقف سيارات الإجرة، سيارات قديمة جدًا شبه مهترئة، وكل سائق بالقرب من سيارته، اتجهت نحو إحداها، وطلبت من السائق الأنطلاق نحو الرمثا في الأدرن.
على الحدود وقفنا، كنت خائفًا إلى حد كبير أن يوقفوني، بيد أني كنت متسلحًا بشيء واحد أنه لا يوجد إنسان يعرف عن فكرة سفري إلا من قبل القلة القليلة جدًا من الأصدقاء الموثوقين بهم جدًا، بيد أن المونولوج الداخلي يفعل فعله.
وقفت السيارة على الحدود وبيني وبين الوطن الأخر مئة متر، فيها حياة أخرى مختلفة عن السابق. اقتربت من دائرة الهجرة قدمت الجواز السفر وعيني مركزة على ملامح الموظف، قسمات وجهه، على يده وقلمه وحركاته وسكناته، وكل شيء فيه كان مثيرًا في هذه الدقائق السريعة القلقة. ختم الجواز، وقال لي:
ـ مع السلامة.
في الوسط، وسط الطريق كان حافظ الأسد والملك حسين ورائي، والملك عبد الله وبشار الأسد أمامي، كلاهما يرمزان إلى مرحلة صراعات عبثية قديمة كانت وتبخرت، والصراعات العبثية القادمة قادمة، أنها بلادنا اللامنطقية، بلاد العمليات العبثية لإدارة أزمات النظام الرأسمالي.
فرحتي بالبنان مضاعفة، إعادة الاعتبار لنا كسوريين. تعويض عن الهزيمة السياسية والاجتماعية والإنسانية الذي سببها النظام العائلي المجرم لنا، مع معارضته الشبيهة به.
ثورة لبنان أمل لكل المسحوقين في هذا العالم، أمل لكل ثورة تشتعل في أي مكان على سطح الكرة الأرضية.
هي مكملة لثورة العراق واليمن، لثورة السودان وليبيا، لتونس والجزائري، لسوريا وهونغ كونغ والهند والصن وأفريقيا.
الثورات هو اشتعال الوعي في شرايين الناس وعقولها. هو محاولة وضع حد للتسلط والجريمة المنظمة الذي تمارسه القلة، صاحبة الشركات العابرة للقارات المتحكمة بالدولة والمجتمع على مستوى العالم.
الوضع في لبنان معقد جدًا بوجود حزب الله.
حزب لديه جيش مسلح ومدرب تدريب عالي جدًا، ومعد لقتال الشوارع، ولدول كبيرة، وفي جاهزية عالية جدًا للتدخل السريع في مناطق التوتر.
إن خروجه من السياسة ليس بالأمر السهل محليًا وأقليميًا ودوليًا. إنه ينسف مشروع الهلال الشيعي الذي تريده الولايات المتحدة في مواجهة الجهة الأخرى من اللعبة، السنة، كجزء من المشروع الدولي لمحاربة ما يسمى الإرهاب.
إن ثورة الشعب اللبناني العظيم عم تدك اسفينًا كبير في السياسات الدولية، لهذا فإنه يحتاج إلى المؤازرة والدعم. إن لا يترك وحده في الميدان، لأن وجوده في الشارع يخلخل كل التوازنات والمعادلات الدولية. وليس من السهل خروج الطبقة السياسية الفاسدة من المعادلة السياسية الداخلية والخارجية والأقليمية.
الموضوع أكبر من الفساد والطائفية السياسية والميلشيات ومن الداخل اللبناني كله.
حزب الله لن يسلم سلاحه أو سياسييه في البرلمان والحكومة. ليس من أجل ما يسمى مقاومة، وأنما من أجل مشروعه الممتد إلى أبعد من إيران وسورية والعراق واليمن والبحرين وغيرهم.
مشروعه هو امتداد للمشروع الاستراتيجي الدولي.
الغزاة لا يستولون على الأرض باالقوة فحسب, أنما على الأغاني والموسيقى وآلات العزف والرقص, ومجمل الثقافة والتراث.
من قال أن الغزاة لا يبدعون؟
إنهم يستولون على كل شيء, بيد أنهم لا يضيفون جديدا.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. القمة العربية والإسلامية في الرياض تطالب مجلس الأمن بإلزام إ
.. يهود فرنسا يطالبون ماكرون بمنع سموتريش من دخول البلاد.. ما ا
.. 7 سنوات من العنـ, ف والدمـ ـ ـاء .. جر, ائم الإخوان لح, ـرق
.. هل يدرج ترامب الإخوان كمنظمة إرهابية مجدداً ؟
.. القمة العربية الإسلامية تدعم جهود مصر وقطر لوقف إطلاق النار