الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
سباق الضفادع: عندما يصبح الجشع رياضة وطنية
راقي نجم الدين
(Raqee S. Najmuldeen)
2024 / 10 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في عالم تتباين فيه الفرص والامتيازات، حيث تتداخل أحلام الناس مع واقعهم، نجد أن البعض لا يكتفي بما لديه، حتى وإن كان ما يملكه يحقق له السعادة والراحة. الجشع، الذي يتغلغل في كل جوانب الحياة، يدفع الأفراد للسعي المستمر نحو المزيد، دون التفكير في حدود أو قيم. وكأننا أمام مشهد يمثل "جشع الضفادع"، تلك المخلوقات التي تُعرف بأنها من أكثر الكائنات جشعاً. فالضفدع، رغم صغر حجمه، لا يشبع أبداً، يلتهم كل ما يمر أمامه دون حساب. هذه الصورة تعكس بوضوح طمع الإنسان الذي لا حدود له.
لنبدأ من أبسط الأمثلة: الشخص الذي يمتلك منزلاً واحداً، لكنه لا يستطيع التوقف عند هذا الحد، بل يسعى بشغف لشراء منزل آخر. ومن يمتلك منزلين لا يهدأ حتى يجد نفسه يتطلع إلى الثالث، وهكذا. إنه يعيش في وهمٍ مفاده أن زيادة الممتلكات تعزز من قيمته الذاتية، فسعادته تكمن في الامتلاك وليس في الاستمتاع بما لديه. يشبه حاله تلك المتسولة العجوز التي، عندما فارقت الحياة، وجدوا في بيتها آلاف الدولارات وآلاف العملات المختلفة التي كانت قد جمعتها على مر السنين. عاشت حياتها وهي تحصي أموالها وتتلذذ بالنظر إليها، دون أن تستفيد منها بشيء، وكأن هدفها كان مجرد زيادة الأرقام والتفرج على ما جمعت. هكذا، يتحول الامتلاك إلى غايةٍ بحد ذاته، لا يثمر عن شيء سوى عبء جديد، فلا مالها أغناها، ولا جشعها أشبعها.
وما يزيد من غرابة هذا السلوك هو أنه لا يقتصر على الممتلكات الكبيرة. انظر إلى من يتفاخر بأحدث سيارة، ومع ذلك تجده يحسدك على أبسط ما تمتلك، كقلم بسيط لا قيمة له في ميزان الأشياء. إنه جشع يتغذى على التنافس المرضي، رغبة لا تعرف حدوداً في الاستحواذ على كل شيء، حتى وإن كان ذلك لا يزيده شيئاً. في عمق هذا السعي المحموم، تُطمس القدرة على التقدير، وكأنهم يعيشون في سباقٍ عبثي لامتلاك كل ما هو مادي وخارجي، مهما كان ضئيلاً، على حساب القيم الإنسانية الأصيلة التي تُشكل جوهر الحياة.
الجشع لا يقتصر على الممتلكات، بل يمتد حتى إلى العلاقات الشخصية. الرجل الذي لديه زوجة طيبة وجميلة قد يمل منها مع مرور الوقت، فيبدأ بالبحث عن "طراز أحدث"، امرأة أكثر جاذبية وبريقاً. وكأن المرأة بالنسبة له مجرد عنصر آخر في قائمة المقتنيات التي يسعى لتجديدها بين الحين والآخر، مما يخلق حالة من عدم الرضا المستمر، حتى في أعز العلاقات الإنسانية.
ثم تأتي الأوساط الأكاديمية، حيث لا يخلو الأمر من جشعٍ من نوع آخر. تجد الأستاذ الجامعي يسعى لتحقيق أرقام قياسية في عدد الرسائل التي يشرف عليها. ظننت أنه يحب العلم؟ بالطبع لا، فهو مجرد ضفدع آخر في سباق الكم على حساب الجودة. لا نتائج جديدة، لا ابتكار، فقط تكرار ممجوج لمنهجية البحث التي باتت أشبه بالمعلبات الجاهزة. وكأن الهدف هو تكديس الأوراق أكثر من تطوير العقول.
والآن نصل إلى الموظف الذي ينال الترقية. هل سبق أن رأيت موظفاً حصل على ترقية وظيفية وأصبح بعدها سعيداً قانعاً؟ بالطبع لا! فقد تحول هذا المترقي إلى ضفدع جديد في سباقٍ لا نهاية له. بدلاً من أن يركز على تطوير أدائه والنهوض بفريقه، يحوّل منصبه إلى ساحة للاستفادة الشخصية، ويسعى للبقاء في منصبه أطول فترة ممكنة. وما إن يقضي فترة طويلة في هذا المنصب، حتى تتجه عيناه إلى منصب أعلى، غير مكترث بمدى ملاءمته أو استحقاقه لهذا المنصب الجديد. فالمهم لديه هو الصعود المستمر دون توقف. وهكذا، يتحول الطموح المشروع إلى جشع مَرَضي، يستنزف روح العمل، ويخنق كل فرصة للتقدم الحقيقي.
في كل حالة، هناك دائماً تبريرات جاهزة لتغليف هذا الجشع وتقديمه وكأنه طموح مشروع. لكن في الحقيقة، النفس المريضة تختبئ خلف هذه التبريرات، مبررة كل رغبة مفرطة وكل جشع لا يعرف الشبع. الجشع، عزيزي القارئ، لا يعرف حدوداً، ويشوه كل شيء يلمسه. يحول الطموح إلى عبء، والعلاقات إلى معارك، والعمل إلى ساحة للبحث عن المكاسب الشخصية.
كما قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): "اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت، لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت، لأن الشح فيها باق." هذه الحكمة تلخص جوهر المشكلة؛ فالإنسان الذي لم يعرف الجوع المادي أو المعنوي ربما يكون أكثر قدرة على تقدير ما لديه، بينما من ذاق الحرمان ثم حصل على ما أراده، قد يصبح أسيراً لرغبة لا تنتهي في المزيد، لأن خوفه من العودة إلى النقص يظل يحركه.
ربما علينا أن نتعلم من الضفادع أن القفز من بركة إلى أخرى لا يؤدي بالضرورة إلى السعادة، بل قد يتركنا ضائعين في مستنقع من الرغبات غير المحققة!
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. بعد سقوط الأسد.. ظهور مصانع -الكبتاغون- علنا بدمشق في سوريا
.. بعد إغلاق 12 عاماً.. تركيا تعيد فتح سفارتها في سوريا
.. نواب أميركيون: العقوبات على سوريا مستمرة رغم سقوط الأسد
.. مسيرة لطلاب جامعة أمستردام للمطالبة بتعليق العلاقات مع إسرائ
.. كيف ستلبي الحكومة السورية المؤقتة طلبات الإدارة الأمريكية؟