الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدركْتُ معنى الحياة من خلال الموت

فيان دلي

2024 / 10 / 31
الادب والفن


هناك نوع من النضج، نضج مؤلم لا ندركه إلا عند مواجهة الموت عن قرب، عندما نختبر فقدان مَن يقرّبوننا روحاً ودماً. كثيراً ما ندّعي إيماننا بحقيقة الموت ودورة الحياة، لكننا لا نتقبّله ونفجع به عندما يزورنا فجأة، لتترك فينا التجربة آثاراً لا تُمحى.
الموت، الذي كنا نتحدث عنه كشيء بعيد، كحكاية تخصّ الآخرين، نطلق كلمات المواساة دون أن ندرك عمقها، ونظنّ بسذاجة أننا محصّنون منه، لكن عندما يلمسنا شخصياً نُصاب بالخرس والصدمة، فتبدأ رحلتنا مع النكران والرفض. ينقسم زمننا إلى «ما قبل» و«ما بعد». نكتشف أننا قبل الفقد كنا نرى العالم بعين واحدة فقط، بعين مغلفة بغشاوة من البراءة والطمأنينة. أما بعده، تتفتّح عيننا الأخرى لنرى ما كان خافياً عنّا، وندرك كم كانت رؤيتنا للعالم محدودة!! كأن غشاوة زالت فجأة، لنصبح قادرين على رؤية الألم الكامن في التفاصيل التي كانت عادية من قبل.
نسخر من أنفسنا حين نتذكّر حزننا على أشياء تافهة، أو الدموع التي ذرفناها بسبب جرح صغير. تتغيّر معايير الألم لدينا، لكن نزداد تعاطفاً مع معاناة الآخرين. ننتبه فجأة للصور المعلّقة على جدران منازل الناس. نرى فيها لحظات انتهت وذكريات بقيت أو ربما قصصاً لأرواحٍ غابت لم نكن نقرأها من قبل. نتعلّم أن أبسط التفاصيل قد تتحوّل يوماً إلى مرآة لفراغ لم يعد بإمكاننا ملؤه. لتصبح أصغر التفاصيل أشدّها ألماً، كذكرى جميلة وأغنية مفضّلة لروح غائبة... كخزانة الملابس عندما تصبح فارغة، كالكرسي الشاغر الذي بات شاهداً على الحضور المفقود، أو حتى عدد الصحون الناقصة على المائدة.
نصبح أكثر يقظة، نغوص في أعماق لم نكن ندرك وجودها، يتعمّق فهمنا لمعنى الصحّة والمرض، الحضور والغياب، معنى الشعور بالألم. فالألم أحياناً يتجاوز حدود الإحساس لقساوته، ويحوّلك إلى روح هامدة، كلّ ما تشعر به هو الفراغ. فراغ عظيم يجثم على صدرك، ظلام دامس وبرد قارس.
ثم نجد نفسنا أمام خيارين، فإما أن نغرق في الغضب، لنصبح كارهين وناقمين على الحياة وعلى كلّ يد تمتدّ لتنتشلنا من بؤسنا، أو أن نتقبّل الموت بحكمة، فندرك أن الألم هو جزء من الحياة، وأنه هو ما يمنح الفرح معناه؛ فالألم يعلّمنا الامتنان، يعلّمنا أن نحتفي بما نملك قبل أن يسلبنا الزمن إيّاه.
لكن على الرغم من ذلك قد يصبح الخوف رفيقنا الدائم. فنعيش في خوف مستمرّ، خوف من تكرار التجربة، من نسيان مَن فارقونا، من الحياة وصدماتها، من المستقبل ومفاجآته، نخاف الضحك أو الفرح، ونخاف كلّ شيء.
أما أنا، بعد ذكرى رحيله السادسة عشر، وقد تحقّق أحد مخاوفي، وامتدّ بي الزمن حتى أصبحت قد عشت في غياب مَن فقدت أكثر مما عشته في وجوده، ما زلت أرفض أن تُعلّق صورته على الجدران، ربما لأني أخشى أن يصبح مجرّد صورة أخرى، كالتي نمرّ بها دون أن نلاحظها. ومازلت بلا وعي مني أتأكّد من عدد الصحون على المائدة كلّ مرّة، فلطالما تعوّدت ذلك خوفاً أن أضيف بلا وعي صحناً هو صحنه، ومازال قلبي ينقبض وأنفاسي تضيق مع كلّ لحظة جميلة في حياتي؛ لأني أدرك أن أجمل الذكريات قد تصبح أقساها يوماً.
أنا التي اختبرت هذا النضج المكروه في عمر صغير، كنت أتمنّى لو أنني عشت حياتي كاملة على السطح، مؤمنة بجمال الحياة وبساطتها، على أن أتذوّق مرارة الفقد والخسارة. لكني في الحقيقة، تعلّمت الامتنان لما أملك، وتعلّمت أعمق معاني الوجود ، فأنا لم أفهم معنى الحياة إلا من خلال الموت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #شاهد بريطاني ينتقد تبنّي الإعلام الغربي الرواية الإسرائيلي


.. مهرجان الجونة السينمائي: دورة جديدة تحت عنوان التشابك والإبد




.. الفنان عمرو الجزار : إسماعيل الليثى نزل الشغل علشان فرقته ب


.. طرح إعلان فيلم إن كاميرا لأمير المصري بعد مشاركته بمهرجان ال




.. بلا قيود يستضيف الروائية والأديبة المصرية ميرال الطحاوي