الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ديوان -ترانزيت- للشاعرة رنا عبد السلام
سمير الأمير
2024 / 11 / 2الادب والفن
ديوان " ترانزيت" الصادر عن دار فهرس سنة 2018 هو الديوان الثاني تقريبا في مسيرة الشاعرة رنا عبد السلام الإبداعية، إذ صدر لها من قبل ديوان "قهوة أندريا"، ويحتوي الديوان على حوالي عشرين قصيدة " وقد صدرته بإهداء: ليا - السبيل الوحيد
وهو إهداء بديع يليق بكونه مفتاحا لفهم رؤية الشاعرة للكتابة الشعرية ويشي بشكل جيد بما سنجده في قصائدها من الجدل المستمر بين الذاتي والموضوعي، ويمكنني أن أقرر أنها التزمت بهذه الرؤية للشعر في معظم هذه القصائد، وكذلك أعبر عن اندهاشي بهذه الرؤية الناضجة لشاعرة شابة تعي ما تبدع وتجعل من هذا الوعي بدافعية وأسباب الكتابة مبررا لها، مبتعدة عن الكتابة بالإيقاع الموسيقى أو الدرامي المحتمل وهو ما قد يستهوى الكثيرين من أبناء جيلها "المتشابهين جدا" الذين لا يرون في خوض نص الحياة مقدمة هامة للشروع في كتابة إبداعية وهو ما نجم عنه كم هائل من القصائد شديدة التشابه التي لا تدل على من كتبوها بشكل محدد، وإنما تشكل عمودا جديدا يستخدم نفس الأساليب ونفس المفردات تقريبا
الحيرة والتردد ولغة الشعر
ما لفت نظري إذن هو تلك الطريقة الخاصة والمتميزة التي تعتمدها الشاعرة في الكتابة والتي تجعل من صوتها مميزا جدا وسط هذا الصخب الذي لم يعد قادرا على جذب انتباه أحد، ففي قصيدة مريم (1) تقول الشاعرة:
كُنتي لي إيه المرّه دي؟/أوِّل هزيمه تمسّ روحي كأنّهازيّ انتصار ع الجَرح باستئصال مكانُه!/كُنتي لي إيه؟/مش دَه السؤال.. /أو نعترِف/كان لازِم افهم م البداية /إنّ انتظار المنطقيَّه ف الإجابة خيال/يا غُنايا ودقّتي ع الحلم -لاجل الأُنس- ف/الترحال
هذه اللغة تعبر عن شاعريتها بامتياز، إذ لا تبدأ بتقريرية الإخبار عن الذات ولكنها تبدأ بسؤال الذات الشاعرة لنفسها، إنها ممارسة تبدو للمتعجل معبرة عن نوع من الفصام، لكن المتأمل سيدرك أنها حيلة للتعبير عن موقف وجودي للمجادلة من أجل اكتشاف مدى علاقة هذا الكائن الاجتماعي العائش في الواقع بنفسه القابعة في مجاهل اللاوعي.
في خضم هذا النقاش سيأتي الإخبار عن "الهزيمة " متخفيا في جملة مثل:
" زي انتصار ع الجرح باستئصال مكانه " لندرك معا وباقتناع " تخييلي" أنه ليس انتصارا على الإطلاق، وأنه مجرد " إنكار" بل يتجاوز الإنكار إلى القمع التام والتجاهل من أجل المضي في خداع النفس المزهوة بانتصار ليس حقيقيا
المدهش أنه بعد توريط نفسها وتوريطنا في هذا السؤال: " كنتي لي إيه؟" ستتراجع عن الشعور الاستفهامي الذي أنتجته قائلة " كنتي لي إيه .. مش ده السؤال؟ "
وما هو الشعر إن لم يكن تلك القدرة على نقل حيرة الشاعر لمن يقرأه أو يستمع إليه؟
ولذا سننصت جديدا لما ستقوله الشاعرة بعد ذلك لأننا أصبحنا بحاجة للوصول إلى تصور ما، ربما يخصنا نحن، بعد أن عكست الشاعرة حيرتها علينا فاقتنعنا أن الحيرة هنا موقف إنساني عام ولا يخص شخصا بعينه، تواصل الشاعرة قائلة:
أو نعترِف/كان لازِم افهم م البداية/إنّ انتظار المنطقيَّه ف الإجابة خيال/يا غُنايا ودقّتي ع الحلم -لاجل الأُنس- ف الترحال/مش غلطِتِك.. /كان م الأساس الكون مقرر
بما أن القصيدة الجيدة هي رحلة معرفية تعبر عن الأسئلة الوجودية للمأزق الإنساني فإنها حتما وبالضرورة ستحتوي على لحظات " تنوير" في رحلة البحث عن حلول لهذا المأزق بشرط أن ندرك أن طبيعته لا يصلح معها المنطق والعقلنة والذهنية فنحن لسنا بإزاء مشكلة من مشاكل الاقتصاد أو السياسة ولكننا أمام مشكلة اضطراب النفس وبحثها عن يقين ما، وهو ما يستدعي أنواعا من العلاج بالنداء على الغناء وبالبحث عن الألفة في الأحلام وفي الخيال، وعلينا أن ندرك أيضا أن الشاعرة تستخدم الخيال أحيانا بمعناه المتداول الساخر الذي يعطيه معنى الوهم كما في المقطع السابق.
كذلك تحتوي القصيدة على إشارات هامة لفلسفة الوجود كما تراها الشاعرة فمثلا في هذا المقطع:
هي الجبال القادرة تعصم م الغرق- أو م الخطية-هيه الطريقه والطريق- ليها فوق وش البريه كل شيء - إلا الإجابات المريحه
إذ تعبر "رنا عبد السلام" هنا عن موقف فلسفي من الحياة يتضمن أن نجاة الإنسان تكمن في ابتعاده عن المنطقية المريحة وهو تناص بعيد المنال مع الآية 39 من سورة النجم " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى"
الدراما والروح السردية
من المهم أن نؤكد أن " الدراما وروح السرد " يشكلان ملمحا أساسيا في ديوان رنا عبد السلام ولنقرأ معا مفتتح قصيدة " هلاوس":
ضايقه السُبُل بيّا/اكتب لمين ولإيه؟/عشرين سنهعشرين؟/سبعين سنه قصدي/عُمرين باشد ف جتتي تنزِف/الدمّ حَرّ.والميتين جرابيع/يتلفَّعوا بدفاه/وانا ابُصّ للمشهد.-من جوّا...من برّا-/بسذاجه أو شيء م الرضا/ما اعرفش.ماهياش خيابه/إنّما.فيه ناس بتستكتر دموع الناس...وتسترخص دِماها! /تعرف يا شاب إنّ استساغِة دور يسوع ف الأصل مش هيبه؟
لدينا هنا حالة تمسرح واستدعاء لمخاطب ما، رغم أن الشاعرة تبدأ القصيدة بما يشبه المونولوج، ولكننا سنلحظ هذا التراوح المدهش بين السرد والغنائية اللذين يشيعان حالة التمسرح في القصيدة، فنحن أمام إنسان يمضي في طرق تضيق عليه، فتنقسم ذاته لتجسد عناء الإرادة في جرجرة الجسد عبر هذه الطرق التي ليست سوى سبل الحياة غير المواتية، سنكتشف أن هذه الجرجرة ينتج عنها نزيف الدماء ثم تفجعنا الشاعرة بأن الصورة لا تخصها وحدها حين تقول (الدم حر والميتين جرابيع )
وأيضا سنجد نفس تقنية مزاوجة السرد الدرامي بالغنائية في قصيدة" سذاجة"، تقول الشاعرة:
قلبي.. /لـ اللي ما يعرفهوش-مُرغَم...ع الانتشا بالصَلب/طالُه البُكا بايْر.نبِّت لُه جوّا القلب، قلب
والشاعرة هنا تضع قلبها كطرف في مشهد ستستدعي له " قلب حبيبها" كطرف ثاني في المشهد فتقول:
قلبَك.. /آخر ضحايا المَحرَقَه/فَرَقت معاه على ثانيتينقبل أمّا توصَل نار لجوفي/نَصَفُه القدر وعماه/ ماوعاش على خوفي
ثم تعود بعد ذلك للحالة الغنائية وكأنها تصنع لحنا مصاحبا لمشهد القلبين معا فتقول:
ف البدء بسألني/أنا لسَّه باكتب لَك عشان قلبك يغنّي لي؟/ولّا لإن البُكا -رغماً-/مربوط ف رجليه القصايد؟وانت.. بُكايا-/ما اعرفش/لكنّي واعيه لإنّ أنالمّا سحبتَك من دمايا حياه/ودَّعت طيف حِلمي
وتقدم لنا رنا عبد السلام مبررا وظيفيا لهذه الغنائية التي تصاحب المأساة في صورة عبقرية جديدة تجسد البكاء وتجعله أسيرا لتلك الغنائية ويظهر ذلك جليا في عبارتها:" واللا البكا ديما مربوط في رجليه القصايد؟ "
نلاحظ أن رنا عبد السلام الشاعرة المثقفة لم تسقط في عنوان قصيدتها فيلحقها نصيب من " السذاجة " فهي تدرك جيدا أن الغنائية رغم بريقها تخفي المشاهد أكثر مما توضحها ولكنها أيضا تؤطر حكمة تلزم هؤلاء الذين يجب عليهم أن يواصلوا الحياة غير متورطين في الهزيمة حتى وإن كانوا مهزومين بالفعل
وسنرى كطيف أن " البكاء" _الذي هو أداة غنائية لا تنفع في المآسي_ سيدرك ذلك وسيستل سيفه ويشرع في النضال، ليكتشف وعيا جديدا بمدى "قساوة" " الوطن" تجاه مآسينا التي تلين لها الصخور، فتقول في قصيدة بعنوان " وحدي ":
مروا العساكر من هنا شايلين/ أجساد عيال في المحرقة غنوا/ ظنوا ان هذي النار / يواريها النغم/ بس اللهيب / كان مختلف ظنه/ مال الوطن على حضنها يبكي..
مَلّ البُكا خد الوطن،/ فا استَلّ سيفُه بعد ما سنُّه/وجري بينحت ف الصخور لكن..
خدّ الوطن ما لان رغم الصخور حنُّوا.
أعتقد أننا أمام شاعرة شابة لم تجرفها أنغام وقوالب قصيدة العامية التي تكتبها شواعر كثيرات، وأهم ما في قصيدة رنا عبد السلام ابتعادها عن المبالغة في اعتبار الذات محورا لقراءة العالم ولكن تأمل هذا الجدل في الاتجاهين بين الذات والموضوع، بحثا عن أسئلة تجعل تجربتها في الحياة رحلة معرفية تمكنها من إعادة النظر دائما في المسلمات من حولها وكذلك قدرتها على صياغات مبتكرة تخصها وحدها دون الوقوع في أثر السائد والنمطي والمألوف ولا سيما في ظل ندرة الأصوات النسائية في القصيدة العامية، رغم ما يطفو على السطح من ازدحام لا علاقة له بالشعر في جدته وأصالته وتفرده، "رنا عبد السلام" إذن شاعرة مبدعة وجادة يمكن بمنتهى الموضوعية أن نضعها كجيل جديد يتلو شاعرات مبدعات سبقنها في شعر العامية مثل سهير المتولي وكوثر مصطفى ووفاء المصري.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فكرة جميلة علشان الجماهير تروح الملاعب وتشجيع فرق كرة القدم
.. الفنان السوري فارس الحلو: أرفض حكم العسكر
.. مواقف أبرز الفنانين السوريين بعد سقوط حكم الأسد
.. لحظة وصول الفنانة بدرية طلبة إلى عزاء زوجها بدار مناسبات الم
.. كيف عبر الفنانون السوريون عن مواقفهم بعد رحيل الأسد؟