الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الجمهورية العدمية
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
2024 / 11 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
٢٥٩ أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
٧ الجمهورية العدمية
السبب الرئيسي لهذه العداوة وهذه الحرب الطاحنة بين الفيلسوف والثوري التحرري أناكارسيس كلوتز، وبين رجل السياسة الوطني المحنك روبيسبيير، هو موقف الإثنين من الدين والإيمان والكنيسة والثورة. فرغم تقارب وجهات النظر والأهداف الثورية بين الإثنين، فإن الوسائل للوصول إلى هذه الأهداف كانت متناقضة ولا تترك أي مجال للحوار أو المصالحة. روبسبيير كان يرفض الخلط بين محاربة الكنيسة وتقليص دورها الإيديولوجي والإقتصادي في المجتمع، وبين محاولة تخليص الشعب من الخرافات والأوهام الدينية والتبشير بالإلحاد. أي أنه يفصل بين الكنيسة وبين الحياة الروحية في المجتمع، ذلك أن روبسبيير كان يعترف بوجود قوة أو إله يدير العالم، ورغم عدم إعترافه بالأديان السماوية إلا أنه كان يعترف بحق المواطن في الحياة الروحية. ولذلك عارض بعنف محاولات كلوتز لتقويض فكرة الإيمان ذاتها وزلزلة الحياة الروحية للمواطنين والتشكيك في معتقداتهم. روبسبيير، بذكائه وقوة حدسه السياسي، كان يهدف لمحاربة الكنيسة المسيحية ومصالحها المشتركة مع الطبقة الإقطاعية، ولكنه كان يدرك خطورة مثل هذه التوجهات السياسية، ويدرك خطورة مواجهة الشعب الباريسي والفرنسي عموما مباشرة بأفكار إلحادية صريحة وفي غاية الراديكالية. فقد كان يخشى أن تسبب أفكار كلوتز نفور أغلبية الشعب من العمال والفلاحين في المدن والقرى البعيدة من الثورة إن لم يكن محاربتها بالسلاح، بالإضافة إلى خوفه من أن تجلب هذه الأفكار عداوة كل الدول - الكاثوليكية ـ المجاورة لفرنسا. روبسبيير كان قائدا سياسيا، وكان يرى بأنه يجب التخلص من سلطة الكنيسة والقضاء على الدين، ولكن تدريجيا وبخطوات حذرة بدون قلب الأمور رأسا على عقب مرة واحدة. وكان يأمل أن يتحول الورع الديني المتأصل في الثقافة الشعبية إلى إيمان وتقديس لمباديء الثورة، وأن تتحول الكنائس إلى معابد لخدمة الثورة وعبادة العقل الثوري.
غير أن كلوتز لم يقتنع ولم ييأس، فكتب مقالات ومناشير عديدة لشرح وجهة نظره والدفاع عن فكرة تكوين جمهورية لا دينية وملحدة هدفها خدمة الطبقات الشعبية الفقيرة التي يجب أن تتحرر من العبودية المادية والروحية. ولكي يحسم هذا النقاش، ويجيب إجابة أخيرة ونهائية على حملات روبسبيير المتكررة ضده وضد ما كان يسميه بالإلحاد الفلسفي وبالفلسفة البرجوازية، صحح كلوتز موقفه بكلمات بسيطة واضحة، ليس إعترافا بصحة وجهة نظر روبسبيير، وإنما وضع القضية بكاملها بين قوسين لإنهاء هذا الصراع لمصلحة الثورة: "جمهورية حقوق الإنسان في حد ذاتها، ليست مؤمنة بالله وليست ملحدة، إنها عدمية". هذا الموقف يبدو في الظاهر كأنه موقف غامض يفتقد الصراحة، ولكن في حقيقة الأمر هو موقف فلسفي عميق وذو أهمية بالغة في تاريخ فرنسا اللاحق، ويشكل بداية لتأسيس علاقة جديدة بين الدين والدولة. فكلوتز أراد بوضوح أن يفصل فصلا نهائيا بين الدين والدولة، وأن تتحرر "الجمهورية" تحررا كاملا من أي علاقة مع "الله" حتى ولو كانت علاقة سلبية - عدم الإيمان. أي أن الجمهورية تتعالى عن هذه الإشكالية المعقدة ولا تتخذ موقفا لا بالسلب ولا بالإثبات، لا بالرفض ولا بالقبول. وهو ليس موقفا وسطا بين الإيمان والإلحاد، وإنما ممارسة نوع من الإبوكية epoché، وهو مصطلح يوناني قديم ἐποχή يُترجم عادةً على أنه «تعليق للحكم»، ومفهومه هو التوقف عن الحكم ووضع العالم المكاني الزماني بين قوسين، وعدم اعتماد الاعتقاد الطبيعي لهذا العالم. والتوقف عن اتخاذ أي موقف بالإثبات أو النفي إزاء وجود الموضوعات والظواهر، وقد طوره هوسرل وأستخدمه من بعده كل من هايدغر وسارتر وغيرهم من فلاسفة الفينومينولوجيا. ومن ناحية أخرى يمكن إستحضار الديالكتيك الهيجلي لتحليل هذه المقولة المهمة، الجمهورية العدمية تصبح المركب الديالكتيكي للنقيضين synthèse، أي رفض موقفي الإيمان والإلحاد مع الإحتفاظ بهما خارج حدود الجمهورية. وهذا يعني التخلص من الدين والطقوس والعبادة والمعابد، والتخلص في نهاية الأمر من الإيديولوجية مهما كان مصدرها، وتصبح هذه الجمهورية العدمية إنجازا ثوريا وتقدما تاريخيا للبشرية مع الإحتفاظ بحرية المواطن في إدارة حياته الروحية وعلاقته مع الميثولوجيا الدينية..
ولكن روبسبيير لم تقنعه هذه الجمهورية العدمية، لأنه كان مقتنعا بإستحالة تغيير المجتمع فجأة من مجتمع كاثوليكي إلى مجتمع مدني وعلماني بدون إحداث بلبلة لا يستطيع تقدير عواقبها السياسية، وكان يرى بأن من يستطيع أن يغير "المقدس" في نظام الحياة الإجتماعية لا بد أن يكون عبقريا أو نبيا، ولكنه حتى في هذه الحالة لا يستطيع أن يفعل ذلك بدون إيجاد بديل لهذا المقدس.
وفي ٢٦ ديسمبر ١٧٩٣ فُصِل كلوتز من اللجنة التأسيسية، وقُبِض عليه في اليوم التالي، ٢٧ ديسمبر من قِبل لجنة الأمن العام، التي تحت سيطرة روبسبيير، وأقتيد إلى السجن الذي مكث فيه لمدة ثلاثة أشهر، ثم نفذ فيه حكم الإعدام بالمقصلة في يوم ٢٤ مارس ١٧٩٤.
بإسم الإيمان المطلق بالإنسان وحقوقه وبالجمهورية الإنسانية العالمية، تدحرجت رأس أناكارسيس كلوتز في سلة المقصلة الدامية، وخسرت الفلسفة وخسر العقل إحدى معاركه المهمة ضد السياسة وضد العنف السياسي المنظم للدولة، ولكن أيضا خسر العقل الفلسفي تجربته في الإحتكاك الفعلي مع الواقع الإجتماعي والسياسي ومحاولة تغيير العالم بدلا من مواصلة تفسيره كما قال ماركس فيما بعد.
روبسبيير، الرجل السياسي الذي يجيد إستقراء الأحداث وحساب موازين القوى السياسية والإجتماعية المتضاربة، كان لا يريد وغير مستعد لتسليم كل المفاتيح للشعب، لا بد للرجل السياسي أن يحتفظ ببعض الأسرار، لأنه وحده يعرف مصلحة الشعب، ويعرف أن بعض الأشياء يجب إخفائها عن العامة، ومن الخطر أن نقول للناس، ما نفترض، أنهم لا يريدون أن يسمعونه. وهي حيلة سياسية قديمة وبالية، ولكنها ما تزال صالحة للإستعمال حتى اليوم. ضرورة حماية الثورة من أعدائها الذين يتربصون بها من كل الجوانب من الخارج ومن الداخل، أما ما قامت الثورة من أجله، فعادة ما يتم تأجيله حتى " تستقر الأمور" ويثب الأمن وتنقشع الرؤية وتتم التصفيات بين قادة الثورة.
يتبع
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مسيرة لطلاب جامعة أمستردام للمطالبة بتعليق العلاقات مع إسرائ
.. كيف ستلبي الحكومة السورية المؤقتة طلبات الإدارة الأمريكية؟
.. مستوطنون يؤدون طقوسا تلمودية في منطقة جبل الشيخ السورية
.. الاحتلال يقصف منزلا بمدينة غزة ما أدى لسقوط شهداء بينهم نساء
.. توقيف أكاديميين وطلاب داعمين لغزة خلال مظاهرة في جامعة نيويو