الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر: بحث في الهوية والقيم والتحديات

حمدي سيد محمد محمود

2024 / 11 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن البحث في مفهوم "أزمة المعنى" يشكل نافذة فكرية لفهم التغيرات العميقة التي تمر بها المجتمعات، خاصة في السياق العربي المعاصر. فالمعنى، بوصفه إطارًا يمنح الأفراد والجماعات إحساسًا بالهدف والانتماء والقيمة، يلعب دورًا أساسيًا في تحديد هوياتهم وتوجيه رؤيتهم للحياة. إلا أن هذا المعنى لم يعد ثابتًا كما كان في السابق، بل بات يتعرض لاختبارات عميقة نتيجة لعوامل داخلية وخارجية تُعقّد من قدرة الأفراد والمجتمعات على الوصول إلى فهم موحد لمعنى الحياة والقيم والأهداف المشتركة.

في المجتمعات العربية، تتجلى أزمة المعنى بشكل جلي من خلال التوترات التي تصاحب محاولات المزج بين موروثات ثقافية ودينية ضاربة في عمق التاريخ، وتطلعات إلى الحداثة والعولمة. لقد أفرزت العولمة أنماطًا جديدة من القيم وأساليب الحياة التي تتعارض في بعض الأحيان مع القيم التقليدية، مما خلق تناقضات وانقسامات داخلية لدى الأفراد والمجتمعات، حيث يجد الفرد نفسه بين رغبة في الانتماء إلى ماضيه وقيمه، وضغوط للتماشي مع متطلبات العصر والتكنولوجيا والقيم العالمية.

يُضاف إلى ذلك ما تشهده الدول العربية من اضطرابات سياسية واجتماعية، وتحديات اقتصادية تؤدي إلى تراجع في مستويات المعيشة، وتزايد البطالة والفقر، وتهميش فئات واسعة من المجتمع. هذه الأوضاع تغذي الإحساس بفقدان المعنى، إذ تصبح الحياة بالنسبة للبعض صراعاً للبقاء أكثر من كونها رحلة لتحقيق الذات وإيجاد مغزى لها. في هذا السياق، تتراجع بعض القيم المشتركة التي كانت تشكل قوام الهوية الجماعية، مثل التضامن الاجتماعي والوحدة القومية، لتحل محلها انقسامات طائفية أو إثنية أو إقليمية تزيد من تعقيد أزمة المعنى وتؤدي إلى شعور متزايد بالاغتراب والتشاؤم.

كما أن غياب المشروع القومي أو الرؤية الجماعية المشتركة، بعد تراجع المد القومي في منتصف القرن العشرين، ساهم في تعميق هذه الأزمة. فقد كانت الحركات القومية، التي نادت بالتحرر الوطني والتنمية، توفر للأفراد نوعاً من الإحساس بالغاية والاتجاه. أما اليوم، فتفتقر الكثير من الدول العربية إلى مشروع موحد يلهم الأفراد ويحفزهم على التضحية والعمل المشترك، مما يترك فراغًا وجوديًا يُفاقم شعور الأفراد بعدم الجدوى والضياع.

وبالطبع، لا يمكن إغفال تأثير التغيرات التي طرأت على المنظومة القيمية والدينية في المجتمعات العربية، حيث فقدت بعض المؤسسات الدينية التقليدية قدرتها على مواكبة التحولات السريعة، وأصبح الدين نفسه، في بعض الأحيان، محل خلاف بين التيارات المختلفة. فبينما يرى البعض أن الدين يمكن أن يكون مصدرًا للمعنى والهوية، يجد آخرون في الممارسات المتشددة واحتكار بعض الجماعات تفسير النصوص الشرعية عائقًا أمام البحث الحر عن المعنى. هذه التحديات الدينية تتقاطع مع متغيرات الحداثة وما بعد الحداثة، مما يعقّد من قدرة الأفراد على العثور على إجابات واضحة لأسئلتهم الوجودية.

كل هذه العوامل تجعل من موضوع أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر موضوعاً ملحًّا للتأمل والدراسة. فهي ليست مجرد مشكلة فكرية، بل أزمة عميقة تمسّ القيم والهويات والتطلعات، وتنعكس على مسارات الأفراد والمجتمعات بطرق تؤثر في جميع جوانب الحياة. لذا، فإن تناول هذه الأزمة يتطلب رؤية متعددة الأبعاد، تنظر في الاقتصاد والسياسة والدين والثقافة.

أزمة المعنى في السياق الفلسفي الأوروبي

أزمة المعنى في السياق الفلسفي الأوروبي هي موضوع عميق ومتجذر يرتبط بتطورات الفكر الفلسفي منذ القرون الوسطى وحتى يومنا هذا، حيث شهدت الفلسفة الأوروبية تغيرات كبرى أسهمت في زعزعة أسس المعنى والقيم التقليدية، مما أدى إلى ظهور أزمة في فهم المعنى والغرض من الحياة.

في القرون الوسطى، كان المعنى مرتبطًا بشكل أساسي بالدين، حيث كانت العقيدة المسيحية توفر إجابات شاملة حول الوجود، الغاية، والأخلاق. لكن مع عصر التنوير، بدأت هذه المركزية تتراجع، إذ أصبح العقل والعلم هما الأداتان الرئيسيتان لفهم العالم، مما أحدث تحولاً جذرياً في النظرة إلى المعنى. فعلى سبيل المثال، تساءل الفلاسفة مثل إيمانويل كانط عن حدود العقل البشري وعن القدرة على معرفة "الشيء في ذاته"، وهي فكرة أحدثت تحولاً في كيفية تعامل الفلاسفة مع مفهوم المعنى.

وفي القرن التاسع عشر، ساهمت أعمال الفلاسفة مثل فريدريك نيتشه، الذي أعلن "موت الإله"، في تصعيد أزمة المعنى، حيث فقدت البشرية مرجعيتها التقليدية للحقائق الأخلاقية والقيم، مما جعل السؤال عن المعنى يرتبط بمفاهيم أكثر شخصية وذاتية. نيتشه رأى أن الإنسان الحديث يجب أن يخلق معناه الخاص، وهو ما شكّل أساس الفلسفة الوجودية لاحقاً.

في القرن العشرين، جاءت الوجودية لتسليط الضوء بشكل أعمق على أزمة المعنى، حيث ركزت على حرية الفرد ومسؤوليته في إيجاد معنى لحياته. تأثرت هذه الأفكار بالحدثين الكبيرين في القرن، وهما الحربان العالميتان، اللتان دمرتا كثيراً من المفاهيم القديمة وزعزعتا الإيمان بالقيم المطلقة. الفيلسوف جان بول سارتر، على سبيل المثال، رأى أن الحياة بلا معنى إلا إذا قرر الفرد أن يمنحها معنى عبر اختياراته الحرة.

ومع التقدم العلمي والتكنولوجي الحديث، ظهرت مدارس فكرية مثل العدمية، التي تؤكد على غياب أي معنى موضوعي في الحياة. كما تناولت الفلسفات ما بعد الحداثية هذه الأزمة، مشيرة إلى أن المفاهيم الكبرى كالحقائق والمعنى أصبحت "بنايات اجتماعية" يتم تشكيلها عبر الخطابات، مما يجعل من الصعب تحديد معنى ثابت.
وفي المجمل، فإن أزمة المعنى في السياق الفلسفي الأوروبي ليست مجرد أزمة فكرية، بل هي تعبير عن تحولات عميقة طالت المجتمع، والعلم، والفرد، مما جعل قضية المعنى واحدة من أكثر القضايا الجدلية في الفلسفة الأوروبية الحديثة.

أزمة المعنى من منظور الفلسفة السياسية

في الفلسفة السياسية، تتعلق أزمة المعنى بمدى قدرة الأفراد والمجتمعات على إيجاد غايات مشتركة تحقق التماسك الاجتماعي، وتبرير السلطة، وإرساء معايير للقيم السياسية والمجتمعية. هذه الأزمة تنشأ عندما تفقد الأنظمة السياسية قدرتها على تقديم أهداف أو رؤى تؤسس لاستقرار المجتمعات وتجعل السلطة مشروعة.

ترتبط أزمة المعنى في الفلسفة السياسية بعدة تحولات، منها الانتقال من المجتمعات التقليدية ذات البنية الصارمة والقيم المشتركة إلى مجتمعات حديثة ومعقدة أكثر انفتاحًا على التعددية الثقافية والفكرية. ومع تطور الفكر الليبرالي، تصاعد الاهتمام بالفردانية، مما أدى إلى إضعاف الروابط المجتمعية التقليدية التي كانت توفر للفرد معنى ودوراً واضحين. كما ساهمت الحركات العلمانية في تقويض السلطة الدينية كمصدر للمعنى السياسي والأخلاقي، مما فتح المجال لبروز أسئلة حول أساسات الشرعية والهوية السياسية.

فيلسوف السياسة الألماني ماكس فيبر اعتبر أن هذا الانتقال يؤدي إلى "التضييق العقلاني" في المجتمعات الحديثة، حيث تتحكم العقلانية الأداتية في جميع مناحي الحياة، بما في ذلك السياسة. هذا النمط يقود إلى مجتمع يفتقر إلى "قيمة جوهرية" أو هدف مشترك يجمع بين أفراده. من هنا، نشأت أزمات حول تبرير السلطة السياسية والمعايير التي تحدد الصواب والخطأ، حيث أصبحت السياسة منفصلة عن الأخلاق وتفتقر إلى منظور شامل يُضفي معنى على حياة الأفراد.

وفي القرن العشرين، تسلطت الضوء على أزمة المعنى بشكل أكبر في ظل الأنظمة الشمولية، حيث عمدت تلك الأنظمة إلى استبدال المعاني التقليدية وتقديم إيديولوجيات قوية تسعى لتوجيه الفرد والمجتمع نحو أهداف محددة. إلا أن هذه الإيديولوجيات، كما في النازية والشيوعية، غالبًا ما قادت إلى قمع الحريات وفرض أشكال جديدة من السلطة المستبدة، مما جعل الأفراد في بحث دائم عن المعنى خارج إطار الدولة الشمولية.

مع صعود تيار ما بعد الحداثة، أصبحت أزمة المعنى أكثر حدة. إذ انتقدت هذه الفلسفة فكرة الحقائق الموضوعية والأهداف الشاملة، واعتبرت أن المعاني السياسية مبنية على الخطابات المتغيرة والمتعددة. هذا الانتقاد جعل من الصعب بناء إطار قيمي مشترك يكون مرجعية للمجتمع، إذ أصبح الأفراد ينظرون إلى السياسة كحقل للتفاوض والصراع بين هويات متعددة، بدلاً من رؤية السياسة كعملية لتحقيق الخير العام.

وفي سياق آخر، أكد الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور على أن أزمة المعنى في السياسة الحديثة تنبع من غياب هدف روحي أو أخلاقي مشترك. يرى تايلور أن هذا الفراغ الروحي يقود إلى "سياسة الاعتراف"، حيث يصبح دور السياسة محصورًا في منح الأفراد الاعتراف بهوياتهم الفردية، مما يعكس تشتتًا في القيم والمبادئ المشتركة التي كانت فيما مضى توجه السياسة نحو أهداف كبرى كالتضامن الاجتماعي.

بالتالي، أزمة المعنى في الفلسفة السياسية هي نتيجة للتباين بين المتطلبات الفردية والتعددية الثقافية من جهة، والحاجة إلى معايير مشتركة توفر استقراراً وقيمًا عليا من جهة أخرى. هذه الأزمة تفتح النقاش حول كيفية تحقيق توازن بين حرية الفرد والمصالح العامة، وتؤكد على أن السياسة لا يمكن أن تزدهر في فراغ أخلاقي، بل تتطلب إطاراً مشتركاً يمنحها معنى ويوجه جهودها نحو هدف مشترك.

أزمة المعنى عند الفقهاء المسلمين

أزمة المعنى في الفكر الإسلامي هي مسألة عميقة ومعقدة، تتصل بمحاولات الفقهاء والمفكرين المسلمين عبر العصور إيجاد تفسيرات ومعانٍ ثابتة ومتماسكة للشريعة والقيم الإسلامية، خصوصاً في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية التي مرت بها الأمة الإسلامية. هذه الأزمة ترتبط بتغيرات السياق الذي وُضع فيه الفقه الإسلامي، والذي مر من مراحل القوة والتمدد الحضاري إلى فترات الضعف والانقسام والتحديات الخارجية، مما أثّر على كيفية فهم وتطبيق التعاليم الإسلامية.

في السياق الكلاسيكي، سعى الفقهاء إلى تنظيم معاني الشريعة ضمن إطار متكامل يعتمد على القرآن والسنة والإجماع والقياس، وكانوا قادرين على تطوير رؤية شاملة للعالم والحياة تكون قادرة على تلبية حاجات المجتمع الإسلامي المتنامي. وقد كان لعلم أصول الفقه دورٌ كبيرٌ في تحديد أدوات ومناهج استنباط الأحكام وفهم معاني النصوص. لكن مع مرور الزمن، ظهرت عدة اتجاهات فكرية، بعضها حاول التمسك بالتراث ونقله بحرفيته، بينما سعى آخرون إلى التأويل والتجديد لتطبيق الشريعة في سياقات جديدة. هذا الانقسام بين التقليد والتجديد هو أحد أوجه أزمة المعنى في الفكر الإسلامي.

وبداية من العصر الحديث، ومع ازدياد التحديات الخارجية مثل الاستعمار ودخول الفكر الغربي، واجه الفقهاء المسلمون تحديًا كبيرًا في استيعاب هذه التغيرات وتطوير معاني تستجيب للواقع الجديد. أثار هذا الأمر نقاشات حول كيفية تطبيق الأحكام التقليدية في واقع يتسم بالتحديث السريع والعولمة، وتزايدت التساؤلات حول بعض القضايا الأساسية كالحرية، والعدالة، والديمقراطية، ودور الدولة في الدين. فمثلاً، كيف يمكن للدولة الإسلامية أن تتبنى الشورى والمساواة والعدالة الاجتماعية، في وقت تحكمه مؤسسات حداثية تضع معايير جديدة قد تتعارض مع الرؤية التقليدية؟

ظهرت مدارس فكرية متعددة سعت لإعادة تفسير الشريعة ومبادئها لتلائم المتغيرات المعاصرة. الاتجاه الأول ركز على إعادة قراءة النصوص الدينية من خلال "مقاصد الشريعة"، وهي محاولة للبحث في المعاني الأساسية والأهداف العليا للإسلام كالعدل والرحمة والمصلحة العامة، لتوفير رؤية تتناسب مع روح العصر. يعد الإمام الشاطبي من أبرز رواد هذا الفكر، حيث شدد على أن فهم الشريعة يتطلب النظر في مقاصدها العامة.

الاتجاه الآخر هو الفكر "السلفي"، الذي يرى أن التمسك بالنصوص كما هي - دون اجتهاد كبير في التأويل - هو الطريقة الوحيدة للحفاظ على المعنى الصحيح للشريعة. يؤمن هذا الاتجاه أن أزمة المعنى تنبع من الابتعاد عن تطبيق الإسلام الصحيح، وأن الحل هو العودة إلى فهم السلف الصالح وتطبيقه.

أما الاتجاه الثالث فهو ما يمكن وصفه بـ"الإسلام التحديثي"، الذي سعى لتطوير فهم حداثي للشريعة وقيمها، مؤكداً على أهمية التكيف مع المعايير الحديثة في قضايا الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمساواة. يعتبر المفكرون في هذا الاتجاه أن الفقه يجب أن يكون متجاوباً مع الواقع، ويعتمد على إعادة تفسير النصوص الدينية بما يتوافق مع المبادئ العالمية، مع التركيز على مفهوم "التجديد" ضمن حدود الشريعة.

في النهاية، تعكس أزمة المعنى عند الفقهاء المسلمين تحديات كبرى تتعلق بالموازنة بين التراث الإسلامي ومتطلبات الواقع المعاصر. هذه الأزمة تتجلى في الصراع بين التقليد والتجديد، وتطرح تساؤلات حول كيفية فهم النصوص وتطبيقها بطرق تخدم المجتمعات الإسلامية وتكون قادرة على التفاعل مع العالم الحديث بشكل إيجابي.

أزمة المعنى كيف تتجلى في واقعنا العربي المعاصر

تتجلى أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر بوضوح من خلال مجموعة من التحديات الفكرية، الاجتماعية، والسياسية التي تواجهها المجتمعات العربية. هذه الأزمة ترتبط بعدة عوامل، منها تحولات الهوية، والتغيرات السريعة، والاضطرابات السياسية، والتحديات الاقتصادية. وفيما يلي بعض المظاهر التي تعكس أزمة المعنى في السياق العربي:

1. التحولات الهوياتية وصراع الانتماءات

تعد الهوية أحد المكونات الأساسية للمعنى في حياة الأفراد والمجتمعات. وفي الواقع العربي، تعاني العديد من المجتمعات من أزمة في الهوية نتيجة التداخل بين الانتماءات القومية، الدينية، والطائفية. هذه التناقضات تتسبب في أزمة للمعنى، حيث يجد الفرد نفسه ممزقًا بين هويات متضاربة: بين الانتماء للوطن، والدين، والعرق، والقبيلة. هذه الأزمة الهوياتية تثير تساؤلات حول المعنى الحقيقي للهوية والمكانة التي يجب أن تشغلها القيم والتقاليد في عالم يتجه نحو العولمة.

2. تراجع دور المؤسسات الدينية في تقديم إجابات شاملة

في الماضي، كانت المؤسسات الدينية توفر للأفراد في المجتمعات العربية إطاراً متماسكاً للمعنى والأخلاق. إلا أن تراجع دور هذه المؤسسات، وتباين التفسيرات بين الاتجاهات الدينية المختلفة، جعل من الصعب على الأفراد الوصول إلى معاني ثابتة وموحدة. كما أن ظهور الفكر المتشدد وتوظيف الدين لأغراض سياسية زاد من تعقيد الأزمة، إذ بات الدين بالنسبة للبعض مصدراً للاضطراب بدلاً من أن يكون مصدرًا للمعنى والاستقرار الروحي.

3. الاغتراب الناتج عن العولمة

أدت العولمة إلى تحول عميق في القيم وأساليب الحياة في المجتمعات العربية، مما جعل الكثيرين يشعرون باغتراب عن جذورهم الثقافية وتقاليدهم. باتت الثقافة العربية تحت ضغط هائل من قيم عالمية تجعل الإنسان يشعر بفقدان معنى الأصالة والتميز. هذا الاغتراب يعكس أزمة في المعنى، حيث يجد الفرد نفسه تائهاً بين الثقافة المحلية والعالمية، دون وضوح حول ما يهم وما يمكن أن يمنحه المعنى لحياته.

4. الأنظمة التعليمية والتربوية وغياب المعنى

تعاني الأنظمة التعليمية في العالم العربي من مشكلات تتعلق بغياب رؤية شاملة تتجاوز الجوانب التقنية والوظيفية لتشمل جانبًا من القيم والغاية الوجودية. يُركّز التعليم على الحفظ وتلقين المعرفة، بدلاً من تطوير مهارات التفكير النقدي والتفاعل مع الأسئلة الوجودية. هذا الواقع يساهم في نشوء أجيال تتساءل عن معنى ما تتعلمه، وعن القيم التي يجب أن تعتمدها في حياتها، مما يعزز الشعور بأزمة المعنى على المستوى الشخصي والاجتماعي.

5. غياب المشروع القومي أو الرؤية الموحدة
يشير بعض المفكرين إلى أن أزمة المعنى في العالم العربي ترتبط بغياب مشروع قومي أو رؤية موحدة تجمع الأمة حول أهداف كبرى. ففي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان هنالك مشاريع قومية كبرى (مثل القومية العربية) التي وفرت للأفراد إطاراً للمعنى، حيث شعروا بأنهم جزء من حركة تقدمية تهدف لتحرير البلاد والنهوض بها. اليوم، تتسم الأوضاع السياسية بالتشرذم وتباين المصالح، مما يخلق فراغاً كبيراً في المعنى والرؤية المشتركة.

6. البطالة والتهميش الاقتصادي والاجتماعي

يلعب الاقتصاد دوراً كبيراً في تشكيل المعنى في حياة الأفراد. البطالة، والفقر، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في العديد من الدول العربية، تؤدي إلى شعور الأفراد بأنهم بلا قيمة أو هدف. يصبح العمل مجرد وسيلة للبقاء وليس طريقة لتحقيق الذات وإيجاد معنى للحياة. ينتج عن هذا الوضع أزمة معنى، حيث يفقد الأفراد الثقة بإمكانية التغيير ويشعرون بالتهميش وفقدان الهدف.

7. التوتر بين التقليد والحداثة

يواجه الواقع العربي أزمة في التوازن بين المحافظة على القيم التقليدية واستيعاب الحداثة. هذا التوتر يجعل الأفراد يتساءلون عن معنى الأصالة والتجديد. بعضهم يرى أن الحداثة تؤدي إلى تآكل القيم التقليدية، بينما يرى آخرون أنها ضرورة للتطور. هذا الصراع يعكس حالة من التشوش حول ما هو "ذو معنى" حقاً، وهل يمكن الوصول إلى توازن بين القيم التقليدية والعالم الحديث.

8. الاستبداد السياسي وغياب الحرية

ترتبط الحرية ارتباطًا وثيقًا بالمعنى، إذ تمنح الأفراد القدرة على التعبير عن ذاتهم وإيجاد معنى شخصي لحياتهم. ومع وجود أنظمة سياسية تحدّ من الحريات وحقوق التعبير، يشعر الأفراد بأنهم محرومون من فرص تحقيق الذات، وبالتالي يشعرون بأزمة وجودية تتعلق بمعنى الحياة ومعنى الانتماء لوطن أو مجتمع يقيد حريتهم.

وبشكل عام، فإن أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر ليست قضية عابرة، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين عوامل تاريخية وثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية. هذه الأزمة تتجلى في التناقضات الهوياتية، وغياب الرؤية الموحدة، والاغتراب الثقافي، وضعف النظام التعليمي، والصعوبات الاقتصادية، وغياب الحريات. كلها عوامل تجعل الأفراد يعيشون حالة من القلق وعدم اليقين حول قيمهم وأهدافهم، وتؤكد على الحاجة إلى نهج جديد يمكنه استيعاب التحديات المعاصرة وتقديم معاني ملائمة للمجتمعات العربية في ظل عالم متغير.

في ختام الحديث عن أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر، يتضح أن هذه الأزمة ليست مجرد حالة عابرة أو إشكالية فلسفية، بل هي انعكاس لتحديات جذرية تمس كل جوانب الحياة. فهي أزمة هوية وقيم وانتماء، أزمة ولّدت حيرة وقلقًا لدى الأفراد والمجتمعات، وتطرح تساؤلات ملحّة حول المستقبل. إن غياب مشروع قومي شامل ورؤية موحدة يُعمّق هذه الأزمة ويترك الأجيال الجديدة في حالة من الضياع والبحث عن أهداف وسط طغيان العولمة وأعباء الواقع الاقتصادي والسياسي.

اليوم، تحتاج المجتمعات العربية إلى إعادة بناء مفهوم المعنى من خلال رؤية جديدة تستمد جذورها من الأصالة وتستوعب المتغيرات المعاصرة؛ رؤية تجمع بين الإرث الثقافي والديني والحاجة إلى التطور والانفتاح، وتقدّم مسارات يمكن للأفراد من خلالها تحقيق ذواتهم وإيجاد معنى لحياتهم. إن تجاوز أزمة المعنى يتطلب مشروعات نهضوية تلهم الأجيال وتمنحهم غاية مشتركة تتجاوز الصراعات الضيقة، وتعيد ترميم الشعور بالأمل والانتماء.

وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال الكبير: كيف يمكن للمجتمعات العربية أن تستعيد المعنى في ظل عالم متغير؟ إنه سؤال يستدعي جهودًا فكرية وتربوية وسياسية واسعة، لأن استعادة المعنى ليست فقط مسؤولية فردية، بل هي مشروع جماعي يحتاج إلى إرادة حقيقية ورؤية متكاملة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة الشؤون السياسية في دمشق تسلم صحفيا أمريكا كان مختطفا م


.. تركيا تعلن استئناف عمل سفارتها في العاصمة السورية دمشق




.. مشاهد من داخل سجن المزة العسكري بدمشق بعد سقوط نظام الأسد


.. كاميرا مراقبة تكشف سرّ الحريق القاتل في دار لرعاية المسنين ب




.. محكمة الاستئناف الأميركية ترفض طلب -تيك توك- بوقف حظر التطبي