الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإلحاد والملحد والحرية (جزء سادس)

أمين بن سعيد

2024 / 11 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


وعي الإنسان المقيد بواقعه المادي، يجعل حريته مقيدة، وتصدق عليه فكرة المتاهة التي يتحرك فيها، والتي لا يستطيع تجاوز أطرها؛ حريته نسبية محدودة وليست "مثالية" "مطلقة" غير محدودة. حدود تلك المتاهة لم يحددها الإنسان بل فرضها عليه الواقع المادي الذي وُجد فيه: جسده وحدوده، الزمكان وتأثيراته أي الجغرافيا والعصر الذي وجد فيه وشتان بين واقع صحراوي وآخر زراعي وثالث صناعي وشتان بين عصر السيوف والخيل وعصر التكنولوجيا والمعلومات، والزمان أو العصر هو محصلة تطور وعي الإنسان وما يليه من ثقافة وأخلاق وسياسة وفن وفلسفة وأنماط إنتاج...
من أهم أسباب نشأة فكرة الإله، جهله بواقعه المادي وظواهره الطبيعية التي لم يستطع فهمها والسيطرة عليها، ورفضه لتلك المتاهة المفروضة عليه والتي أمام عجزه عن تجاوز حدودها وضرورياتها، ابتكر فكرة الإله التي أعطته تعويضا نفسيا ووعيا زائفا. صعب جدا على الإنسان إلى اليوم أن يفهم ويقبل أن الطبيعة لا تهتم بوجوده أصلا، فلو فني كل البشر ما غيّر ذلك في عملها شيء: لن تتوقف الأرض عن الدوران، ولا الأنهار عن الجريان، ولا النباتات والحيوانات والحشرات والكائنات الدقيقة عن مواصلة أنشطتها!
عدم اكتراث الطبيعة، مع جهل الإنسان، أنشآ عند الإنسان فكرة الإله المقدّر المهتم بمصائر البشر، وهي فكرة تقدم راحة نفسية مزيفة، فعوض أن يتعامل الإنسان مع واقعه المادي محاولا قدر المستطاع فهم آليات عمله وتطويع أكثر ما يُمكن فيه، اعتقد أن قوة عظمى هي التي وضعت ذلك الواقع المادي، وبذلك يصبح الواقع المادي وبطريقة غير مباشرة وزائفة، وكأنه يكترث لوجود الإنسان ومصيره بما أن الإله الذي وضعه مكترِث ومهتم. وهنا نرى بوضوح، كيف جعلت أوهام البشر من طبيعة غير عاقلة لا مبالية عالما مُسخَّرا وموضوعا من أجل عيون الإنسان، وهو نوع من إسقاط نفسي غريب وعجيب يشبه تماما من يدّعي أن تلك المرأة وُجدتْ من أجله فقط وهي لا تكترث به بل لا تعرف بوجوده أصلا!
فكرة الإله التي أخذت مكان الطبيعة، نرى جليا كيف أسست للجهل والخنوع وحدّت من آفاق البشر، فعوض محاولة تجاوز حدود المتاهة والعمل على فهم ضروريات الطبيعة ومحاولة تخطيها، سَلَّم الإنسان ورضي وخضع. فهو إن حاول، سيكون متجرئا على الإله، ومحاولا تخطي حدوده وهذا مستحيل، فالإله لا قوة ولا قدرة للبشر أمامه، وأيضا كل محاولة ستكون تعديا على أقداره ورفضا لها وهو ما يستوجب عقوبته!
عجز الإنسان أمام طبيعة غير واعية لا مبالية به، حوّله إلى عجز أمام إله عاقل مقدّر كامل. التعويض النفسي في الفكرة واضح، فالعجز أمام زلزال شيء، والعجز أمام خالق الزلزال شيء آخر. وعوض أن يبحث في قوانين الفيزياء لماذا لا يستطيع الطيران، رضي بالاعتقاد أن الإله العالم بكل شيء خلقه هكذا وعليه أن يرضى ويقبل. وعوض أن يبحث كيف يتكون المطر والزلازل والأعاصير، قال أن الإله هو منشئها. وعوض أن يدقق في الظواهر الطبيعية، قبل بالتفسيرات الميتافيزيقية المتوارثة فكانت الشمس عنده هي المتحركة والأرض هي المسطحة الثابتة مركز الكون بما أنه يعيش عليها والكون وُجد من أجله...
كمال الإله في كل أوصافه التي أعطاها له الإنسان، والذي من أهم أصوله، عجزه وجهله أمام واقعه المادي، جعل الإنسان يرضى بمحدودية حريته التي قيّدها بتعاليم إلهه: ضعف الإنسان أمام الطبيعة -المتاهة/ الحدود الحقيقية-، تحول إلى ضعف أمام الإله الذي خلق الإنسان والطبيعة، و "منطقي" جدا عنده أن تُحد حريته: متاهة/ حدود وهمية. من هذا التحليل، يمكننا أن نفهم كيف نشأت فكرة العبودية للإله، وخصوصا كيف قبل بها الإنسان ورآها منطقية بل بديهية! لذلك قلتُ، في الجزء السابق، أن المؤمن لا يمكنه أن يفهم المعنى الحقيقي للحرية ومن ثم حدودها ووهمية مثاليتها: المؤمن لا يقول بأن الحرية مطلقة فتعاليم إلهه تحدها، وهو فهم مثالي ميتافيزيقي زائف، فتعاليم إلهه مجرد وعي زائف يُبعد عن الفهم الحقيقي لمحدودية تلك الحرية: أذكر كمثال، زراعة الأعضاء، الممنوعة دينيا. الإله وراء قصور القلب، بلا قلب تموت، وذلك تقديره. زراعة قلب، هي رفض لقدر ذلك الإله العالم بكل شيء والعادل، وبالتالي هو أمر ممنوع ومنعا باتا! حرية الإنسان هنا محدودة بتعاليم الإله. لكن بعيدا عن ذلك، العلم علمنا كيف بلا قلب نموت، واليوم نستطيع زراعة الأعضاء، أي طوعنا طبيعة أجسادنا بعد أن فهمنا كيف تعمل وأصبحت عندنا التقنية اللازمة: لا يوجد أي مانع عندنا! حشر فكرة الإله في الموضوع، تتبعها قصة الروح ومآسيها، وهي مع التقدير الإلهي، يمنعان الزرع... طبعا، اليوم، كل المتدينين تقريبا، يدعون أن أديانهم لا تمنع -باستثناء أقليات كشهود يهوه- والحقيقة أنها مجرد نسخ جديدة من أديانهم لا علاقة لها بالأصل. زراعة قلب ليست دائما ناجحة، وقد تنجح سنوات ثم تفشل، وقد لا نجد أصلا قلبا متناسقا منذ البدء فيموت المريض، وكل ذلك حدود مادية تحد من حريتنا، والمثال هنا الحياة. لكن شتان بين محدودية حريتنا "ماديا" وبين محدوديتها "إلهيا"!
كمال صفات الإله الذي أنشأه الإنسان، أنتج لنا وهم المطلق/ اللامحدود. ومن وهم المطلق، خرجت الحرية المطلقة! وهي صفة تخص الإله وحده، فهو فعال لما يريد ولا أحد يستطيع رد قضائه وقدره. للإله الحرية المطلقة، وللإنسان العبودية أو الحرية المحدودة المقيدة بتعاليم الإله. يمكننا هنا أن نفهم كيف يقول المؤمن عن الملحد أنه استبدل الإله بالطبيعة، والفرق بينهما أن الملحد يقول بمحدودية البشر أمام الطبيعة ولا شيء غيرها، أما المؤمن فيحشر دون دليل صانعا للطبيعة: الملحد لا يهرب من مواجهة الحقيقة مثلما هي، المؤمن يفعل.
الحرية المطلقة إذن، قول ديني صرف، وحتى دينيا هو قول ممنوع فاللامحدودية لا يمكن أن تُقال إلا على الإله: الإطلاق هو قول/ مصطلح ديني/ لاهوتي، ومن المفروض أنه لا يخرج من فم ملحد أو فيلسوف والفلسفة نقيض الدين... القول البسيط الذي يقوله الجميع "أنا حر"، والذي يُستعمل "عاميا" كشرب الماء، هو قول لا يصدر عن تفكير مادي بل مثالي، وحتى ذلك المثالي من المفروض أن دينه لم يقل به أصلا، أي هو قول كلامي/ لاهوتي وليس ديني، تماما كقصة الخلق من العدم التي لم يقل بها الدين في نصوصه المؤسسة بل ابتدعها متكلموه ولاهوتيوه: هل يُرى جيدا هنا عظمة وأهمية ذلك المفتاح الذي أتكلم عنه منذ مدة وفي مقالات عدة؟
فكرة الإله إلى اليوم لا تزال مغرية، فالإنسان طوّع كثيرا من محيطه المادي ولم يعد يخشى الطبيعة كأسلافه. وتظهر جاذبية فكرة أن الكون خُلق من أجل عينيه، فهو يستطيع أن يفعل فيه ما يشاء دون رقيب أو حسيب، هو اليوم أصبح أقوى من الطبيعة في أمور كثيرة، فضلا عن كل الكائنات الأخرى: مدمرو أرضنا اليوم، فكرهم مثالي وليسوا ملحدين في أغلبهم! ولمن لا يزال يؤمن بالثنائيات كـ "يمين-يسار"، أصحاب الثروات والشركات العابرة للقارات واللوبيات المالية والعسكرية مكانهم اليمين وليس اليسار، واليمين علاقته بالدين والإله وثيقة: وتهانينا للرئيس ترامب، وتذكير بأن المحافظين الجدد "التروتسكيين" هم يهود بالدرجة الأولى! وربما يعطينا ذلك تفسيرا من تفسيرات كثيرة، عن لماذا ينافح اليساريون في الغرب عن المسلمين، وبذلك رفضهم خرافة صراع الحضارات البروتستانتية-اليهودية المنشأ وعوا ذلك أم جهلوه... كل شيء وراءه مصالح اقتصادية، لا شك في ذلك، لكن الوعي/ الفكر/ الدين يعطي راحة لضمير ذلك الذي ينام على المليارات وغيره بالملايين لا يملكون ما يسد رمقهم، ويطلق العنان لذلك الذي يقتل ويبيد الشعوب ويعطيه المشروعية والحق في أفعاله، ولا أحد سيؤنبه ضميره وهو يرى أن عنده الحق والمشروعية.
قد تظهر فكرة رفض الإنسان لأن تَحُدَّ حريته الطبيعة، فبحث واهما عن تحرر زائف في ابتكار فكرة الإله، قد تظهر غريبة، لكنها منطقية جدا وواقع ملموس يمكن أن نراه في سلوك البشر يوميا؛ فالإنسان يرفض مثلا أن يُقيِّد زميله المباشر في العمل حريته، لكنه يقبل ذلك عندما يأتي الأمر من الأعلى منه مركزا. يثور الإنسان إذا ما اعتدى عليه جاره، لكنه لا يثور أصلا أو بحدة أقل عندما يكون المعتدي رفيع المستوى غنيا أو سياسيا أو أمنيا إلخ: هذه طبيعة بشرية! قد يشذ عنها البعض، لكن الشاذ لا يُقاس عليه كما هو معلوم.
قرون من "الفلسفة" و "الفكر"، يمكن أن تُتجاوز، ويكون الإلحاد المفتاح الأعظم لذلك. فمن حقيقة الجدلية بين المادة والوعي، مع التأكيد على أنه لا وعي دون مادة، ولا وعي دون دماغ الإنسان، يمكن أن نفهم الوجود فهما موضوعيا علميا ولا حاجة لتخرصات المتخرصين مهما كانت خلفياتهم وإن كانوا "فلاسفة"! محدودية الوعي بواقعه العادي، تُبدد أوهاما عظيمة إلى اليوم تحكم البشر وبها يستعبد البعض الأغلبية المغيبة عن حقيقة وجودها وقضاياها الحقيقية. مع محدودية الوعي، تتلاشى كل أوهام الحرية والإرادة والغاية البشرية، ووعي الإنسان وحريته وغايته لن تتجاوز ذلك الفأر الصغير الذي يجري في متاهة ظانا نفسه واعيا حرا صاحب إرادة وغاية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد سقوط الأسد.. ظهور مصانع -الكبتاغون- علنا بدمشق في سوريا


.. بعد إغلاق 12 عاماً.. تركيا تعيد فتح سفارتها في سوريا




.. نواب أميركيون: العقوبات على سوريا مستمرة رغم سقوط الأسد


.. مسيرة لطلاب جامعة أمستردام للمطالبة بتعليق العلاقات مع إسرائ




.. كيف ستلبي الحكومة السورية المؤقتة طلبات الإدارة الأمريكية؟