الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
العولمة كبراديغم للتفكير
صلاح الدين الغزواني
2024 / 11 / 12قضايا ثقافية
منذ تسعينات القرن المنصرم شهد العالم فيضا من الكتابات في مختلف الميادين حول العولمة. فهي في العربية ترجمة للمصطلح الإنجليزي GLOBALIZATION وللعولمة بالفرنسية مصطلح اخر أقل استعمالا ورواجا MONDIALIZATION وإذا كان مصلح العولمة شاع في العربية فإن هناك مصطلحات أخرى اقل استعمالا: كوكبة/ كوننة.
إن صعوبة التعريف هو راجع أساسا إلى تنوع وجهات النظر وتنوع المنطلقات الفكرية والمنهجية. من الناحية الاقتصادية قد تشير العولمة الى المستجدات الاقتصادية وحركة رأس المال على الصعيد العالمي، أما سياسيا فقد ينظر إليها من زاوية تأثير المتغيرات العالمية والتكنولوجية في الدولة التي يتقلص أمامها العالم يوما بعد يوم، ويرصدها السوسيولوجي كما تتزامن مع قضايا ذات بعد عالمي كالانفجار السكاني والتقهقر البيئي والفقر والمخدرات وازدحام المدن وبروز المجتمع المدني، وتقارب ثقافيا من زاوية إنتاج الفضاء الثقافي وتهديد الخصوصية والهوية القومية وهيمنة الثقافة الاستهلاكية وتهديد القيم المحلية. وبالتالي وجب دائما الحذر من التعريفات وعدم اعتبارها تعريفات كاملة وعدم الانصياع وراء الايديولوجيات الفكرية كأنها الحقيقة المطلقة، وبالتالي يجب النظر للظاهرة من مختلف جوانبها المعرفية وليس فقط من جانب واحد، فهنا الوصف الجزئي للظاهرة لاينفي الصحة، ولكن الوصف الجزئي لظاهرة العولمة، حسب حمدي عبد الرحمان حسن( في كتابه العولمة واثارها السياسية في النظام الإقليمي العربي: رؤية عربية)، قد يؤدي إلى التشويه وعدم القدرة على الفهم الصحيح.
إذن العولمة ظهرت لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الاقتصاد بالتحديد وانتشرت في باقي بقاع العالم وفي جميع المجالات، وفضلا عن كونها اقتصادية فإنها أيضا ظاهرة سياسية وتكنولوجية وحضارية. في منتصف القرن التاسع عشر استطاع الرسام صامويل مورس Samuel Morse أن يخترع التلغراف ويرس أول رسالة مضونها قوله "ما الذي صنع لله" ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في التاريخ البشري، حيث لم تكن، قبل هذه القفزة، ترسل الرسائل دون أن يذهب بها شخصا كوسيط.
تحديد تاريخي:
يمكن اعتبار العولمة مرحلة محددة تاريخيا قبل اعتبارها ظاهرة اجتماعية وهي بهذا التحديد تبدأ بشكل عام منذ بداية ما سمي بسياسة الوفاق التي سادت في الثمانينات بين القطبين المتصارعين في النظام الدولي انذاك ونعني الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي إلى انتهاء الصراع وإطفاء فتيل ما سمي بالحرب الباردة. إنها بهذا التحديد، أي العولمة، الذي يقوم عل الزمن باعتباره العنصر الحاسم، تعتبر العولمة تلك الحقبة التي تلي الحرب الباردة بين القطبين وتتميز بصعود اللبرالية الغربي.
تحديد اقتصادي:
يركز هذا الاتجاه على الدولة باعتبارها تحوي مجموعة من الظواهر المترابطة ( تحرر السوق، انسحاب الدولة من أداء بعض وظائفها، نشر التكنولوجيا، التوزيع العابر للقارات والانتاج المصنع من خلال الاستثمار الأجنبي) كل هذه التحديدات تشير إلى علاقة الدول بالاقتصاد في ظل العولمة وبتعبير اخر تراجع سيادة الدول على اقتصادها.
العولمة السياسية:
تتجلى مظاهرها في إخضاع الجميع لسياسة القوة العظمى والقطب الوحيد والذي هو الولايات المتحدة الامريكية اليوم، هذا يعني أن الدول لم تعد تتمتع بالسيادة المطلقة ولا بالحرية والاستقلالية في تقرير مصيرها وأمورها من خلال أجهزتها وسياستها الداخلية، واتجاه العالم في ظل العولمة هو نحو توحيد السياسة وتوحيد مصدر القرار.
العولمة الثقافية:
تعتبر العولمة الثقافية ظاهرة جديدة تمر بمراحلها الأولى وهي من أشد المظاهر خطرا وهذا راجع الى فرض الثقافة الأمريكية على العالم كله. وبالتالي نحن أمام تسيد لنموذج ثقافة الصورة والبث المتلفز الذي أضعف النموذج التقليدي المتمثل في الخطاب عبر الصحف والكتب والمقالات، فهذا المشروع الثقافي الغربي في عهد الإمبراطورية السمعية-البصرية، حسب عبد الاله بلقزيز في كتابه "في البدء كانت الثقافة"، بما تملكه من نفوذ وامكانات وسلطة تمكنها من تقديم مادتها الإعلامية للمتلقي في قالب مشوق يجذب الانتباه عبر تكنولوجية الاثارة والتشويق يقارب عتبة المتعة التي يبلغ معها خطابه الايديولوجي أهدافه الاستهلاكية، ودائما في خضم صراع الثقافات ما يكون التقييم أو نظام المفاضلة بين الثقافات محصورا في تقليد النموذج المتفوق وبالتالي يكون للثقافة المغلوبة أزمة هوية وتعيش ما سماه هيكل وفيورباخ وماركس "بالاغتراب أو الاستيلاب". ويقول ابن خلدون في مقدمته "إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه نحلته وسائر أحواله وعوائده...لذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه...بل وفي سائر أحواله...حتى يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر لله".
العولمة الاقتصاية:
إن العولمة، حسب عبد الغني عماد( في كتابه سوسيولوجيا الثقافة)، في تجلياتها الاقتصادية هي الرأسمالية في طور حضورها الكوني التي وظفت الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية الجديدة لصالح عملياتها، والعولمة بواسطة السوق، حسب اسماعيل صبري عبد لله ( كتابه أبرز معالم الجدة في نهاية القرن العشرين)، هي الشكل المتقدم لرسملة العالم وسلعنته وتحويل أفراده إلى مجرد مستهلكين للسلع والخدمات التي تروج على نطاق واسع.
الدور المتزايد للشركات العابرة للحدود: فهي ليس لها وطن أو مقر، وقائمة على نسج تحالفات عابرة للقارات متنوعة في أنشطتها واستثماراتها، وتعتبر هذه الشركات الوقود الذي يزود العولمة الاقتصادية، وفي غالبية النشاط الاقتصادي العالمي تحتكره أكبر مئتي 200 شركة عالمية حسب دراسة نشرتها مجلة THE NATION سنة 1994.
منظمة التجارة العالمية: تصاعد دورها منذ عام 1996 وتضم أكثر من 140 دولة تعهدت بخفض الرسوم الجمركية على التجارة الخارجية وإزالة ما يعيق تدفق السلع والخدمات والمنتوجات بيسر وسهولة فيما بينها. وتم تعزيز هذه المنظمة باتفاقية الخدمات المالية 1997 من قبل 70 دولة، ومن تم أصبحت هذه المنظمة اهم مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية.
بروز البنك الدولي وصندوق النقد الدولي: حيث أصبحت الاسواق المالية عابرة للقارات وتجاوزت عاملي الزمان والمكان وأصبحنا نتحدث عن السوق المالية العالمية، سوق بلا وطن ولا حدود جغرافية تنتقل بين العواصم العالمية دون اعتبار للحكومات والدول وبسرعة هائلة.
هذه العولمة الاقتصادية اليوم تكتسب قوتها من ما يسمى بالقطب الواحد (الولايات المتحدة الأمريكية) بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي وأصبح العالم خاضع لمنطق السوق والخصخصة وتحرير الاقتصاد، وكل هذه التغيرات أصبحت ترسم علامات استفهام حول الدولة الحديثة وحول سيادتها المهددة واكتفائها بالوظائف المتعلقة بالرعاية الاجتماعية وتقلص سيادتها نتيجة هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية العالمية، وما يكرس هذا الضعف هو تدخل صندوق النقد والبنك الدوليين في شؤون الدول الوطنية واقتصادها وسياستها وتعليمها وقوانينها...
أمام انتشار العولمة وانفتاح السوف العالمية والاتجاه نحو رفع الحواجز الجمركية كما تملي بذلك منظمة التجارة الدولية والكاط ودخلنا في مرحلة أسماها لوتواكEDWARD LUTTAWAK (من مركز الدراسات الدولية بواشنطن) عصر الرأسمالية المتسارعة ويعتبر حسن أوريد أن هذه المقولة ليست حذلقة بلاغية بل هي ايحاء بتساؤل وجودي عن غاية الاقتصاد، هل وجد لخدمة المجتمع أم العكس. في كتابه "الاسلام والغرب والعولمة" ذهب حسن أوريد إلى اعتبار العولمة ظاهرة تضحي بالمجتمع وتهدد الفرد في استقراره، وأن القضية لم تعد قضية افتراضية أو مجالا بين مدرستين فكريتين ( اشتراكية ورأسمالية) وهذا ما بينته إضرابات فرنسا لديسمبر 1995 وموجة الاحتجاجات التي عرت الوجه الاخر للعولمة، وأيضا ظهرت سلبيات العولمة في الولايات المتحدة الأمريكية على مستوى التشغيل وأفضت إلى مجموعة من التسريحات اكتسبت صفة الظاهرة ( وهي ظاهرة التسريح) وقد خصصت جريدة نيويورك تايمز في مستهل 1996 ملفا حول الظاهرة التي تتحاشى وسائل الاعلام وأصحاب الشركات بنعتها باسمها ( التسريحات) وتستعمل ألفاظ لطيفة مثل "التقليص". وحسب أوريد فإن شركتي MICROSOFT وINTEL الأكثر نفوذا في وول ستريت فهما لا تشغلان في أحسن تقدير أكثر من 48.100 ألف، فيما تشغل "فورد"، إحدى ديناصورات الرأسمالية الكلاسيكية، وحدها قرابة مئتي 200 ألف عامل، وبالتالي "العمالقة الجدد" كما يصفهم أوريد لا يخلقون مناصب شغل وهذه هي الخلاصة المرة. يشير أوريد أيضا أن العولمة غيرت البديهيات، كون تطور التكنولوجيا والزيادة في الإنتاج يؤديان الى خلق مناصب شغل أكثر وإلى ارتفاع الأجور، إلا أن العكس ما حدث تماما والتطور التكنولوجي قلص مناصب الشغل وقلص معها الأجور. فهذه الرأسمالية حسب أوريد تأنف من الضوابط أيّا كانت، وتعمل بعبارة "دعه يعمل دعه يمر" فلا شيء يجب أن يحد من مبادرة الابتكار وتسويق المنتوجات.
في كتابه "براديغما جديدة لفهم عالم اليوم" يحدد ألان تورين موقع العولمة من الناحية التاريخية ويحدها في المرحلة التي تمتد من أواسط سبعينات القرن الماضي حتى الاعتداء الذي دمر برجيّ التجارة العالميين في نيويورك، (الذي أرجعته أمريكا الى طالبان واسامة بلادن)، مرورا بسقوط جدار برلين، وكون هذه المرحلة بدأت بأزمة النفط بعد عملية نقل كثيفة للموارد الاتية من اليابان وأوربا الغربية في اتجاه البلدان النفطية التي أودعت مدخراتها بنوك نيويورك بهدف تنمية الفوائد، هذا حسب تورين هو مشهد من مشاهد بدء ما يسمى بعولمة الاقتصاد ومنذ ذلك الحين أفرز العالم الغربي تقدما هائلا في كل المجالات الاقتصادية والصناعية، واحتلت الولايات المتحدة الأمريكية موقعا بدأ يتعاظم يوما بعد يوم، وهكذا حسب تورين تم فرض رؤية اقتصادية للتاريخ تضفي على عوامل التغير الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي أهمية متزايدة. وبالتالي فعولمة الأسواق وتكون شبكات الاتصال التي لفتت انتباه "مانويل كاستلز"، والنظام المالي القادر على نقل المعلومات بصورة فورية ونشر ثروات ثقافية هائلة بواسطة الإعلام والإعلان، كلها عوامل وأخرى تضافرت من أجل خلق هذه العولمة. وحسب تورين فإنه تم التخلي عن التعددية الثقافية MULTICULTURALISME، مثلا، لم يعد فهم الاختلاف بين الثقافة الغربية والنموذج الإسلامي هو الكائن، بل محاربة الاسلام، أو بالأحرى أولئك الذين يقاتلون باسمه، فهذه الموجة المعادية التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية، حسب تورين، والتي توهم في أغلب الأحيان بأنه لم يحدث أي تغيير في عالم تسيطر عليه القوة الأمريكية بالكامل، بل ما حدث هو العكس، والتغيرات تتسم بالسرعة.
كل هذه التغيرات التي حدثت على المستوى العالمي وبالخصوص التحولات الاقتصادية وانعكاسها اجتماعيا وسياسيا وبيئيا، وأيضا فرزها لمجموعة من الظواهر الاجتماعية ( الفقر، البطالة، الهشاشة، استنزاف الموارد الطبيعية، الأمراض المزمنة، التهديد الايكولوجي للوجود البشري، تخلف دول العالم الثالث، التطرف السياسي والديني والعنصري، تراجع دور الدولة القومية، بروز حركات جديدة كحركات المثليين والحركات الخضراء والدفاع عن المرأة...). كل هذا أنتج لنا ما سماه عالم الاجتماع الألماني "أولريش بيك" مجتمع المخاطر، الذي يبدأ منذ اللحظة التي تعجز فيها منظومات القيم المجتمعية الضامنة للأمن عن القيام بدورها إزاء الأخطار التي تهدد المجتمعات، مما يعني حسب "بيك" أن المجتمعات المعاصرة تشكل جوهر الانفصال عن الإطار الزماني للمجتمع الصناعي. ويتحدث أيضا، في كتابه "مجتمع المخاطرالعالمي: بحثا عن الأمان المفقودة"، عن المخاطر التي تنتشر في مختلف الأقطار أو كما وصفها ب " المخاطرة الطيارة، أي التي تطير من مكان إلى اخر دون أن نقدر على مسكها وإخضاعها والتحكم فيها". كل هذا لعبت فيه العولمة دورا محوريا من خلال مساهمتها في تخطي المخاطر الحدود القومية وجعلت العالم في شكل قرية صغيرة، وبالتالي أصبح لدينا عولمة المخاطر والأخطار وبالتالي توسيع نطاق عدم الأمان المصطنع. فمجتمع المخاطر حسب "أولريش" هو المجتمع العالمي الذي اشترك في احتضان المخاطر. فبعد ما كانت هذه المخاطر لا تتعدى حدود الدولة القومية، أصبحت اليوم تنتشر على نطاق واسع وفي مختلف الاتجاهات كالجماعات الإرهابية على سبيل المثال.
وربما هذا ما سماه عالم الاجتماع البولندي " سيجموند بومان" بالخوف السائل، أي أن الأخطار التي كانت محدودة بحدود الدول، أصبحت اليوم في عصر العولمة أخطارا سائلة يتعدى سيلانها الحدود الوطنية فيسيل إلى أقصى الحدود العالمية، والسيلان هنا يمكن إسقاطه على أي ظاهرة أخرى، مما سيوصل إلى سيلان الخوف كما سماه بومان.
فمجتمع المخاطرة حسب "أولريش" لم يعد يقتصر على الأخطار، بل تعدى ذلك إلى خطر مواجهة هذه الأخطار، وبالتالي تفاقم الاخطار في مقابل تراجع الفرص سيخلق حالة من عدم الأمان والشك وفقدان الثقة وعدم المقدرة على مواجهة الأخطار والتحكم فيها مكانيا وزمانيا، وبالتالي المجتمع اليوم يعيش حالة من فقدان اليقين العالمي.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. بعد محاولته فرض الأحكان العرفية.. أحزاب المعارضة الكورية الج
.. الدكتور حسام أبو صفية مدير مستشفى كمال عدوان: ليس هناك مبرر
.. مستوطنون يحرقون مركبة فلسطينية في بلدة بيت فوريك بالضفة الغر
.. المرصد السوري لـ -العربية-: فشل هجوم قسد على القرى الـ 7 في
.. ماذا قالت سارة بوحجي الرئيس التنفيذي لهيئة البحرين للسياحة و