الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
هواجس وذكريات ــ 363 ــ
آرام كربيت
2024 / 11 / 29قضايا ثقافية
أنماط الإنتاج لا تعود إلى الوراء، هذا واقع حقيقي، من يبك على الماضي فالماضي ذهب إلى الموت ولن يعود.
فكروا كيف تستثمرون في الحاضر، في بنية النمط القائم اليوم، أن تستفيدوا من تغوله، كيف تبنون تحولات عميقة فيه، فككوه، لتبنوا عليه واقع جديد من داخله وترتقوا به إلى الأعلى.
الواقع شديد القسوة، مركب من رأسه إلى قدميه، لكن الواقع يقول أن لا شيء خارج الصراع والتفكيك.
إنه الإنسان، أنه قلق، قلقه وواقعه المادي المفكك سيقوده إلى التغيير.
في هذا الزمن ليس مهما أن يكون لديك موهبة في كتابة الشعر أو الرواية أو السياسة، المهم أن تعرف كيف تنط من منبر إلى أخر، أن تتسلق وتسوق نفسك، وأن تعرف أين يكمن مصادر القوة والمال، وبعدها كل شيء يسير بسهولة ويسر وعلى بركة الله.
لم أكن أعرف الخوف، أصدقائي الأطفال كانوا يتكلمون مع بعضهم عن الأموات، وأنهم يدفنون تحت التراب، فزرعوا الخوف في عقلي وقلبي.
كانوا يتكلمون عن الموت دون أن يعرفوا أن كلماتهم كانت كالسكاكين تغرز أظفارها في ذاتي، وسكنت في أعماقي.
لم أكن أعرف ما معنى الموت، لكنهم حفروا عميقًا في شيئًا جديدًا جعلني في حالة خوف وسؤال عميق:
لماذا نموت؟
كنا ننام على جانب الشارع، على مسافة متر واحد من البيت على مستوى الأرض.
كانوا يحفرون الأرض ويرمون التراب على طرف باب البيت ليمدوا قساطل المجاري، وكان داخل الجور، التراب الخارج منه عظام بشرية كثيرة ومفتتة، ورائحة التراب المعفن.
خفت وكتمت هذا الخوف في ضلوعي.
ولكن بعد قصيرة، في عمر عشرة سنوات تغلبت عليه.
عرج الجوى ـ روايتي
إن المسرح والموسيقا والفن خرجو ا من آلامنا، من حبنا للحياة والبقاء.
حضارة إيبلا، ملحمة جلجامش، أحسب أنك تعرفين ذلك:
ـ ضاربات الدفوف، وعرايا المعبد والرقص والغناء، كن يضعن الطيب على أجسادهن، وهن مندوزا ت للفن والجمال بإسم عرايا المقدس.
ولم ينقطع الفن عن المنطقة.
كنّا نحب الحياة، نحن من أنسن الرجل ونقله من التوحش إلى المدنية، وروض الهمجية بالموسيقا.
عندما عزفت النساء لا نكيدو، وغنوا له وتعروا، وبان لهذا الأخير جمال الجسد الأنثوي وتناسقه ورقته، والفن الكامن فيه، وعليه، تغير وتأنسن.
هذا ما قالته المعلمة إليزابيت للمعلمة داليدا، على خشبة المسرح.
لإن الإنسان تائه، غريب، تراه دائم البحث عن وجوده في الوجود.
هذا الوجود الغامض معضلة له، لأنه لا يمده بالأمان، بطاقة إيجابية تنزع عنه الاحساس بالخوف من هذا الكون المترامي الأطراف، الذي لا يمكن القبض عليه.
إن الخوف والضياع والغربة تدفعه للبحث عن الأمان في في ما وراء الطبيعة، الخاص به، عله يمده بالراحة الوجودية ويبعد عنه بعض التهميش الذي يشعر به.
إن الأنبياء المرضى، المهووسين بالأنانية، وحب الذات والشهرة والرغبة في الملكية الضيقة، لا يمكن ان يمدوا الإنسان العاقل المعاصر بالامتلاء، ولا يستطيعون أن ينقلوه نقلة نوعية إلى تبديد طاقة الخوف الكامنة في لا شعوره.
أغلب الفلاسفة والكتاب والفنانين والشعراء والأدباء مؤمنين، في لا شعورهم العام، خوفهم وحيرتهم يدفعهم إلى البحث عن الله الخاص بهم، سواء عبر نقض كل شيء أو تأكيده.
الخواء والضياع هما وراء أغلب هواجس المثقفين والمفكرين عبر التاريخ.
إن هذا الكون، والبحث عن بدايته ونهايته هو مرضنا جميعًا، هوسنا في تفكيكه وإعادة إنتاجه لنستطيع أن نعيش بأمان في ظله.
النص الذي أحببته وأحب إعادته
عندما قرأت طفولة سيمون دي بوفوار شعرت أن طفولتها تشبه طفولتي إلى حد كبير جدًا.
الفارق أن أبوها متعلم تعليمًا عاليًا، وأمها أيضًا، وبرجوازيان، والدها محامي. العائلة متماسكة، يتخلل البيت الحب والاحترام، الاهتمام بها بدراستها، وكانا يتابعان دراستها متابعة حثيثة مع تشجيعهم الدائم لها.
علاقة الأقرباء مع بعضهم رائعة، بالإضافة إلى وجود الأصدقاء ووجود زيارات بينهم.
كانت هذه الفتاة الصغيرة مؤمنة بالله ومسيحه، تذهب إلى الكنيسة بإرادتها، بحب وشغف، تصلي وتصوم.
هنا، أنا مختلف عنها، كنت أكره الكنيسة، ولم أكن أحبها إطلاقًا، وأكره رجال الدين، وأرى طقوس الصلاة عبء. أراها مملة وكريهة، ومعطلة للعب، تأخذ مني يوم عطلتي.
كنت أذهب إلى الكنيسة غصبًا عني، تحت تهديد الضرب والبصق من القسيس كيفورك العنيف.
أستيقظ في ذلك الصباح البارد، في السادسة، عندما أصل، ارتدي ثياب الكنيسة، وأقف مع الأطفال الصغار مثل الصفوف النازية.
المشكلة لم أكن أعرف قراءة الساعة، لهذا كان سمعي يتجه نحو الصلاة الربانية التي كانت تشير إلى نهاية هذا الطقس الرباني المكرر.
بمجرد أن أنزع الثياب البيضاء عني والصليب الأزرق الفاتح المعلق عليه، أركض بأسرع ما أستطيع تاركًا أخواتي الصغار ورائي، لأخذ الكرة وألعب وأعوض الخسارة.
لم يكن والدي يهتم بتعليمي، لأنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة، هذا كان يمحني الحرية لأكون حرًا، فلتانًا، على عكس سيمون، فقد كانت محاطة بأبوين متعلمين، يراقبانها دائمًا، يقدمان لها الحب على صينية مزخرفة، مدجنة.
طفولتها كانت شبيه جدًا بالكثير من البيوت السورية في المدن، كل شيء كان مؤمنًا في وقتنا، الكهرباء والماء، والمدرسة النموذجية.
لكن واحد مثلي كان يكره المدرسة والزخارف والأفكار والحياة المدجنة، لهذا لم تكن تعنيني هذه الاجواء النظيفة من الخارج.
المتمرد يخسر العالم كله، ولا يكسب نفسه، أنه وحيد، وسيبقى.
في العام 1970 دخلت مدرسة الدولة، كانوا يسمونها المعارف، في رأس العين، ثم القامشلي، كلاهما كان رائعًا. كان عمري 12 سنة. في عمر سبع سنين كنت أنفر من الكنيسة، كنت أرى أجواءها كئيب جدًارغم وجود الصور الملونة المبهجة فيها، لكن صورة الميت ارتبط في ذهني قبل دفنه هذا نفرني وأبعدني عنها. اللون الأسود للقسيس ارتبط في ذهني بالأجواء الجنائزية.
كانت العلاقة في البيت كتير حلوة، كنا محاطين باسرة متناغمة، جو دافئ ومرح، الأهل كانوا الى جانبنا طوال مرحلة طفولتنا إلى حين خرجنا من البيت، الفرق أن والداي كانا غير متعلمين. شعرت أن البيئة العامة لفرنسا تشبه بيئتنا في سوريا، كانت مدارسنا نموذجية إلى حد كبير وفيها اهتمام من الدولة والجهاز التدريسي.
طفولتي بالنسبة لغيري كانت جيدة، أبي وأمي كانا متفاهمين، أخواتي البنات كانوا في منتهى الحب من قبل الوالدين، دلال وحب، أما أنا كانوا يتعذبون من كثرة حركتي وعدم انضباطي والهروب من البيت ومحاولة التدخين والبعد عن البيت واستغلال عاطفة أمي وضحكي عليها وعدم احترامها، مع هذا كانوا أحسن مني. لكن الطفل أناني يريد كل شيء لنفسه. أما أنت يا صديقي شيء مؤالم ما حدث لك.
اسمع الموسيقا، الغناء، وأرقص، فالهمج لا يحب الفن والفحر، أنهم كئيبون، لا يتغيرون من الخارج، إلا إذا ذوبت الصنم الذي يركعون له ويسجدون.
إذا رأوا الصنم يذوب أمام أعينهم، سيذوبون كالشمع.
ما يفعله الإعلام العربي والإسلامي الكاذب ضروري بل ضرورة جداً لشعوبهما، فهذه الشعوب المنفصلة عن مصيرها متعطشة للكذب، أنهما بحاجة لهذا المخدر حتى يعيشا في النيرفانا، الحلم الوهم.
الحاكم بإعلامه يكذب لضرورة سياسية، والمجتمع يقبل الكذب بطيب خاطر لضرورة عاطفية.
كلاهما الإعلام_الانظمة، والمجتمع، بحاجة إلى تفريغ الشحنة السلبية في بعضهما من أجل بقاء ما تبقى من التوازن الهش.
كان خوفي يبدأ عندما يحلّ الليل
يأتي في صرر سوداء غريبة،
يلازمني طوال الليل يا أبي.
كنت صغيرًا لم أبلغ العاشرة.
لم أستطع أن أفاتحك في هذا الموضوع مخافة أن تتهمني بالجبن.
خوفي كان ثقيلًا ومركبًا ومرعبًا، ولم أستطع أن أبلعه أو أناقشه مع أي إنسان.
عايشت ضعفي مع نفسي طوال الليالي السابقة والحالية.
كما ذكرت لك قبل قليل، كنت أحمل صليبي على ظهري مدة طويلة من الزمن دون أن تدري أنت أو تعرف والدتي أو أصدقائي أو أخواتي.
كنت أبدوا للجميع على أنني طبيعيًا بيد أنني كنت أغالب الألم والقهر، وأغلي كالمرجل في داخل نفسي.
وسايرت ضعفي في وحدتي الإجبارية. قلت له:
أنا كائن مصنوع من الخوف يا والدي.
الصدام كان عنيفًا داخل داخلي. لم تكن بالقرب مني، ولا أظن أنك قادر على فهم لواعجي وتناقضات شخصيتي.
بيننا مسافات متباعدة لا يمكن ردمها بسهولة.
أنا في حالة هروب دائم إلى الأمام، بالمناسبة أنا أيضًا لا أعرفك، تبدو هادئًا مرحًا ولكني لا أعرف ماذا وراء هذا الهدوء والصمت والفرح.
ـ عن ماذا تتكلم؟
ـ عنّا جميعًا. أنت شخصية مركبة وغريبة. تبقى صامتًا داخل نفسك ولم تشعرني يومًا من الأيام أن لديك مشكلة.
ـ كنت أراك تلعب الكرة بمنتهى المرح والفرح، لهذا كنت راضيًا عن نفسي وعنك.
ـ والبحر يبدو من البعيد هادئًا. هل هو هادئ؟
لماذا تنازل الإنسان عن الجمال والحرية والحب، رماهم عن نفسه، وبكامل إرادته منحهم لرمز وهمي غريب، ومفارق له.
أليس هذا مدعاة لطرح آلاف الأسئلة:
لماذ ألغى ذاته الجميلة، ووجوده المبدع في هذا الوجود، نزعها عن نفسه طوعًا، دون أي سبب، ووضعه في مكان ليس مكانه؟
هل هي رغبة في التسلط على نفسه، وإلغاء ذاته المبدعة القيمة.
المفارقات ما زالت باقية ومستمرة وستبقى، ما دام الوهم يحكمه ويقوده من أذنه إلى النهاية الغريبة.
لقد همش نفسه، نزع عنها الفضائل، ونسبها للغريب الوهم، ووضع كل النقائص والضعف على نفسه وحول ذاته الجميلة إلى غربة، غريب متجول في الفراغ.
هذه الحرب، بين روسيا والغرب كله لن تتوقف إلا إذا استنفذت مهامها بالكامل، أي تحويل الدول الأوروبية إلى أرض محروقة.
الرأسمال الأوروبي شريك في الحصول على لحسة من العسل.
قلتها وسأقولها أن هذه الحرب ليست من أجل الأرض، أنها الحرب من أجل الحرب، وقودها أوكرانيا وروسيا، لكن الغلة ستذهب إلى مصانع السلاح والنفط والغاز الأمريكي.
هل توقفت الحرب الأمريكية على سوريا اليمن ليبيا لبنان العراق أفغانستان، بالتأكيد لا، حولتهم إلى دول فاشلة وسهرانة عليهم.
لا تستطيع الولايات المتحدة أن توقف الحرب على الاطلاق، ستنتهي في السلام، كإسرائيل تمامًا، كلاهما بحاجة إلى الحرب مع إدعاءات كاذبة أنهما دول ديمقراطية من الخارج، بيد أنهما دول حرب، أو افتعال حرب.
مع بدء الحرب انتهت بروبوغندا الحرب على كورونا، بل نطق اللقلوق تبع المنظمة العالمية للصحة أن كورونا انتهت.
هل انتهت كورونا، هذا إذا كان لها بداية؟
الوعي أحد الأدوات المهمة في التغيير، والمؤسف، أنه يحمله نقيضه في ذاته
التشابه في الثورات العربية التي قامت.
القسم الأكبر من النشطاء كانوا وما زالوا من الشباب.
لا أيديولوجية لهم
لا وجود لأحزاب قديمة أو جديدة فيها.
مشاركة المرأة في الثورات واضح بقوة
الطابع السلمي للثورة، وأناقة القائمين عليها
ليس لها شعارات ما بعد وطنية كإسقاط إسرائيل أو الولايات المتحدة، مشكلتهم الأن مع أنظمة الفساد السياسي والأخلاقي والانحطاط الوطني.
الإسلام السياسي غائب كليًا في هذه الثورات، وهذا مدعاة فخر لنا. لإن هؤلاء إذا دخلوا أي معترك سياسي سيفسدوه، لأنهم فاسدون
أغلب الأحزاب التقليدية ميتة سريريًا لأنها عاجزة عن مواكبه العصر ولا تملك أية رؤية أو فكر استراتيجي أو مرحلي
لا مؤامرة فيها ولا تدخل خارجي
الثوار يقاتلون بصدورهم العارية ويتلقون الرصاص وسط صمت النظام الدولي والأقليمي القذر، وأولهم أردوغان، وخامئني.
لا برنامج سياسي لهم ولا طلبات محددة سوى محاربة الفساد وتغيير الواقع الاجتماعي السياسي القائم
تريد الثورات أن تكون جزء من الحلم الكبير، الحق في العدالة والحرية والديمقراطية.
الثورة أعادت للإنسان العادي كرامته ووجوده ومواطنته وحريته وأنه رقم كبير يجب أخذ وجوده بعين الاعتبار.
ليس لدى الأنظمة العربية المستهكلة والمريضة أو الميتة سريريًا سوى الرصاص والالتفاف على حركة الجتمع.
الثورات سترسي عالمًا عربيًا جديدًا، فالقهر والذل وامتهان الكرامة والمعاناة واحتقار الذات والحرمان من المستقبل وحدت الجميع.
إنها الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج
تساوى الموت بالحياة لمن خرج إلى الشارع، وليس لديه ما يخسره.
المشكلة هذه الأنظمة القائمة لا تريد أن تستوعب أنها عاجزة أو ميتة، ولا يريد من يدعمها أن يصدق هناك مرحلة جديدة في طريقها إلى الانبعاث.
عندما كنت طفلًا في العاشرة من العمر قالت لي والدتي حينها:
كن عاقلًا يا ولدي، ستحبك البنات.
وصفة سحرية أسدت بها أمي نصيحة لي لا تقدر بثمن.
سرت على خطواتها كما أرادت وخططت.
على ما يبدو كانت أمي عبقرية، وكان لها بعد نظر وغاية.
الوعي بحد ذاته صليب ثقيل، كلما ولجت في داخله أكثر كلما أصبح حمله أثقل.
الوعي، مازوشية، تمتع بلذة الألم وتعذيب للذات
البارحة شاهدت فيلماً, على القناة الثانية السويدية.
يحكي على عدة مستويات.
شاب أسمه إلياس, عيونه خضر, لون بشرته, أسمر فاتح, وسيم. في مركب للمهاجرين. يغرق المركب. البحر يلفظ الموتى ويرميهم على الش
عندما استيقظ إلياس من غفوته, وجد نفسه في جزيرة فيها سواح من البلدان الأوروبية. الجميع عراة. يرمي ثيابه ويمشي عاريًا بينهم, وكأنه واحد منهم.
الشرطة تبحث عن الناجين طوال مدة وجوده على أرض الجزيرة
يدخل إلى المطعم, البوفيه عامة, يأكل ويتصرف بشكل طبيعي, بيد أنه خائف, يهرب. يرتدي بعض الثياب المسروقة. هرب من نظرات الشرطة فوجد نفسه في بيت أحد السواح, يطلب منه فتح المرحاض. يمد يده في الوسخ وينتشل كيسًا, غلق السدادة. استخدمه أحد لاعبي السحر على خشبة المسرح. اللقطة الاكثر تعبيرًا, وضع رأس إلياس في بلوعة المرحاض الفارغة, ثم رويدا رويدا, دخل جسده كله. ثم أخرجه من الطرف الأخر في زي هندي. أراد أن يعمل في فرقة السحر, بيد أنهم لم يقبلوا, تركوه ورحلوا. أثناء ذلك أخذه رئيس الشرطة إلى مكان. واغتصبه. قال في نفسه:
معلش, الاغتصاب ليس مشكلة المهم أن اصل إلى باريس, حي ليدو, الشانزيليزيه.
أثناء هطول المطر الغزير حدث شبه طوفان, يدخل الماء إلى البيوت. أراد أن يساعد امرأة المانية, تبادلا الادوار. مضت به إلى الفراش. هي تريده رجلًا لفراشها, لقضاء العطلة والترفيه عن النفس وتبديد فائض الوقت الفارغ. وهو يريدها حتى يصل الى أوروبا, عبر الزواج منها. لم تقبل..
من أجل الهدف باع الرجل نفسه.
هرب من الجزيرة وبدأ رحلة الألم من مكان لأخر للوصول إلى الفردوس المنتظر.
ركب الشاحنات, الدراجات النارية الجرارات, القطارات. ولا شيء يثنيه عن هدفه السامي. الوصول إلى قلب باريس.
وعندما وصلها وقف ينظر حوله. اقترب منه رجل كبير في السن.:
ـ أريد الوصول إلى حي ليدو, الشانزيليزيه.
ـ انت هنا.
وقف ينظر حوله. مجرد أبنية وناس وسيارات مثل أي مكان. وحيدًا, جائعًا مهمشًا, لا يوجد من يقول له كلمة مرحبا.
رايح إلى الصيد, بيد أنه لا يملك أدوات الصيد ولا يعرف موسم الصيد, ولا نوع الطيور التي يحط رحالها بالقرب منه, ولا اتجاه الريح أو العاصفة, ولا يعرف كيف يستخدم المتوفر لديه.
لكنه رايح إلى الصيد.
وأخيرا لن يصيد أي شيء, لأنه لا يعرف كيف يفكر, ولا يعرف المكان الذي يحط رحاله.
لكنه ذاهب إلى الصيد.
ولهذا عم يأكل كل خازوق أقوى من الذي قبله. ولن يتعلم. لن يتعلم. لن يتعلم, لأن تفكيره آني, ومحدود. وقدري.
وربما يكون من أذكى الاذكياء.
لن يعطي, لأنه يفكر بمعزل عن الواقع. ولأنه محلق في اللامكان.
كنا منهمكين في تأسيس نادي لنا, نادي كرة القدم. جلبنا صورًا للاعبين العمالقة في ذلك الزمن من الجرائد, علي أبو جريشة وليف ياشين وبيليه وازوبيو وبوشكاش وبدأنا لصقهم على الحيطان الترابية لبيت عائلة أحد اللاعبين الصغار مثلي. قال:
لقد سقط جيشنا 95 طائرة ميراج.
كان ذلك في حرب العام 1967
والاذاعة تنشد, ماراشات عسكرية, وتقذف الحمم والحماس في أفئدتنا الطازجة. والأغاني تقول بذلك الصوت الحماسي:
ميراج طيارك هرب مهزوم من نسور العرب.
كنت نلصق الصور بفرح ونضحك ويغمرنا شعور عامر بالنصر. وسلموا والدي بارودة. وبدأ الكثير يحفرون الخنادق استعدادًا للمعركة. كنت أرى همة الرجال, يحفرون بالمعاول اليدوية, بينما العرق الغزير في ذلك الصيف الحار يتصبب من جباههم وصدورهم. في الحقيقة لم أكن أعرف أو أدرك سبب حفر الخنادق التي لم يتجاوز عمقها المتر في مدينة تبعد آلاف الكيلو مترات عن اسرائيل. لم يستمر الحفر الا بضعة ساعات.
رأيت وجه والدي متلبدًا. لم يتكلم, ولم يقل شيئًا. وضع الباردوة في السيارة ووضع لفحة بيضاء على رقبته وودعنا. قالت لنا والدتي بينما الدموع تنهمر من عينيها:
لقد ذهب والدكم إلى الجبهة. أنه سائق, وهناك سيحتاجون لكل شيء, السيارة واحدة من هذه الأشياء. تذكروا أن والدكم لديه شهادة عمومية.
في ذلك الزمن كان السائق سلطان, له وزن. والموظف الحكومي مهما كان شأنه يعتبر ابن الحكومة وله مكانته.
لم تمض بضعة ساعات حتى عاد والدي. والحزن يأكله كما كان لحظة ذهابه. قال:
ما أن ملأت السيارة بالبنزين, ومعي بقية الموظفين للذهاب إلى الجبهة حتى جاءت برقية من القيادة يقولون فيها ان تعود أدراجنا. لقد أنتهى كل شيء.
لم اسمع بالهزيمة, لم يقلها لي أي إنسان إلى وقت متأخر من طفولتي. سمعت بالنصر, وبقيت منتشيًا بذلك. أننا انتصرنا, وكسرنا العدو وهزمنا طائراته. ولصغر سني لم أربط الأحداث ببعضها. لم يكن في المحافظة بث تلفزيوني أو هاتف أو أية وسيلة أخرى للمعرفة. وكان أبي يحتكر الراديو الترانسيتور نوع شارب وكأنه حقيبة مطهر الأولاد, يحملها معه أينما ذهب. ولم أسمع في المدرسة او من الطلاب الأرمن ما حدث. وربما خاف والدي ان يحدثني عن المصيبة التي حلت بالعرب والمنطقة. أن يتلفظ لساني بكلام لا تحمد عقباه. الفاجعة سمعتها بعد زمن آخر, بعد أن دقت الهزيمة في اسفلنا, دخلت كخازوق منبل وخرجت من رروسنا, ووصل المهزوم إلى السلطة.
كنت أفضل لأعب بين زملائي وأصدقائي. أستطيع أن اسدد الكرة في المكان الذي أريد بقدمي اليسرى. كنت اعسرًا, وماهرًا جدًا في مراوغة الكرة ونقلها من مكان لمكان, لخفة جسمي ورشاقته. وكان الجميع يريدون ان أكون بينهم في فريقهم, وخاصة أولاد الباشات, الذين اشتروا أحدث الأحذية الرياضية والكنزات التي جلبت لهم خصيصًا من مدينة حلب. وكانوا يحبون النادي الأهلي, الفريق الأحمر/ الاتحاد/ في زمن عائلة الاسد. بينما أنا بقيت على حبي لنادي الحسكة الذي لم أره الا في العام 1979 في أذل فتراته.
كان مدير المدرسة اسمه شدهان عطفة, من الساحل, طويل القامة, فيه قليل من الانحناء في الأعلى, أزرق العينين, اشقر الشعر. كان بين الكلمة والأخرى يقول لنا:
ـ يا ابني أنا مدير المدرسة.
لم يكن عدد تلاميذ وطلاب المدرسة بما فيها الروضة والحضانة يتجاوزون الستين طالبًا. واغلب المعلمات لم يكملوا تعليمهم الاعدادي. أذكر المعلمة أزنيف وأختها انطونيت.
احدى المرات جهزت المدرسة شاحنة للذهاب في نزهة إلى تل حلف. حمل كل طالب زواته معه, بيض مسلوق, مرتديلة وخبز أو ما شابه ذلك من مآكولات. وكان فصل الربيع ضاحكًا كعادته في بلادنا. لم تكن تبعد تل حلف عن رأس العين سوى بضعة كيلو مترات, ربما أربعة.
ركبا الشاحنة, وركب المدير سيارة أحد اباء الطلبة مع زوجته وأولاده, والمعلمات في سيارة أخرى وسرنا على بركة الريح الهادئة.
افترشنا الطبيعة, عشبها الأخضر بجوار نهر الخابور وآثاره وأوابده التاريخية. كانت الطبيعة بكرًا في ذلك الزمن. وتل حلف عبارة عن تلة عارية, منبوشة من قبل الانكليز, فرغوا ما بداخلها
كان الجسر العسكري التركي لا يبعد عن الجسر السوري سوى مائتي متر. وكنا نخاف من همجية الجندي التركي ان يطلق الرصاص علينا كما كان متداولا. والذي كان محتملًا جدًا لتكراره المستمر.
جلسنا في الجهة الموازية لرأس العين وغفت التلة التاريخية في جورانا تغني وتضحك. وتشير إلى زمن مضى
كان من عادة المدرسة أن تأخذنا في مثل هذه النزهات من أجل التمتع بالطبيعة والشمس.
كان المدير قلقًا, خائف علينا. ويدور من مكان لآخر ليلقي علينا نظرته الأبوية والتأكد من أننا موجودين, وبخير. في ذلك اليوم شرب كثيرًا من الحليب الأبيض, بطة بيضة, برفقة زوجته والمعلمات. وربما أخذته النشوة, وحلق. ولكن بالاتجاه المعاكس. بان الغضب عليه كثيرًا. وضرب أكثر من طالب لأنهم لم يلتزموا الهدوء. وكنت أحدهم. وخاف أن يذهبوا إلى جوار النهر أو يسقطوا فيه. وفي الطرف الأخر كان هناك نبع صغير مثل جميع ينابيع الخابور يصبون فيه.
في نهاية النهار, لم تأت الشاحنة لتأخذنا. وحدث هرج ومرج. وشدهان عطفة الغاضب يضرب أخماس في اسداس. ولا يعرف ماذا يفعل. وبدأت الشمس تضم جناحيها استعدادًا للرحيل غير عابئة بالمدير وبنا. أمرنا أن نصطف الواحد بجانب بعض الآخر, ويد باليد. ومضينا نمشي إلى البيت قبل حلول الليل. وشدهان في السيارة برفقة زوجته وأبناءه الصغار يلف حولنا ويدور. ولم يكن في ذلك الوقت سرافيس او باصات ليغطوا المسافة. وتمر بعض السيارات الصغيرة ويقول البعض:
ـ حرام أن تتركوا هؤلاء الصغار يمشون هذه المسافة الطويلة.
الرواية هي المدخل الحقيقي لمعرفة جور الإنسان على الإنسان، والمقدار الكبير لتغييب الحقائق، وعمق الخراب الكامن في الحياة.
لا يشعر الإنسان بالغربة إلا في وسط المجتمع الامتثالي.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. قائمة فيفبرو.. هذه قائمة أفضل اللاعبين المحترفين لعام 2024
.. 8 قوى محلية وإقليمية تتصارع في سوريا.. أين تتمركز؟
.. الأسد يوجه رسالة لأميركا بشأن ما يحدث في سوريا.. وروسيا وإير
.. قراءة عسكرية.. حاتم الفلاحي: النظام السوري فشل في بناء موضع
.. مظاهرة في تل أبيب للمطالبة بوقف الحرب على غزة وإعادة المحتجز