الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من بعيد، من قريب

حسان الجودي
(Hassan Al Joudi)

2024 / 11 / 30
قضايا ثقافية


في صباح شتائي بارد من الماضي، أقف على تلة/ سطح بناء قيد الإنشاء/ تطل على مدينتي القديمة. الضباب يغطي أطراف المباني، يجعلها تبدو كأنها تطفو في بحر من الضوء الرمادي. أتذكر كيف كنت بالأمس أمشي في تلك الشوارع نفسها، أشعر بملمس الحجارة تحت قدمي، أسمع صدى خطواتي يتردد بين الجدران العتيقة. كنت هناك، جزءًا من المشهد، عنصراً في تلك اللوحة المتحركة. والآن من هذا المكان المرتفع، أصبحت مراقباً لنفسي، لتلك النسخة الأخرى مني التي ما زالت تتجول هناك في الأسفل.
***
غريب كيف تتغير الأشياء حين ننظر إليها من مسافة. كما لو أن هناك نسختين من كل شيء: نسخة نعيشها ونسخة نراقبها. في الأسفل، حيث كنت بالأمس، كان كل شيء مباشراً وحميمياً. بائعو الحميدية المبكرون ،الفرن الصغير ورائحة الخبز الطازج منه . صوت أجراس الكنيسة. كل هذه التفاصيل كانت تشكل عالمي، تملأ حواسي، تجعلني جزءًا من نسيج المكان.
لكن من هنا، من هذه التلة، يبدو كل شيء مختلفاً. أرى الآن أن الفرن الصغير مجرد نقطة ، رائحة الخبز وصوت الاجراس تتلاشى وهي تتبع مساراً متعرجاً يشبه نهراً خفياً يربط أجزاء المدينة. وأرى نفسي أيضاً /أتخيلها/ ريشة صغيرة تتحرك في هذا المشهد الكبير.
***
في الفيزياء، يتحدثون عن "المراقب المزدوج" - تلك الظاهرة الغريبة حيث يؤثر فعل المراقبة على الشيء المُراقَب. وأنا هنا، على هذه التلة، أشعر أنني أختبر شيئاً مشابهاً. فعندما أنظر إلى المدينة من هذا الارتفاع, أغير بطريقة ما معنى كل ما أراه. الشوارع التي مشيت فيها تصبح خطوطاً في لوحة أكبر، والناس الذين تحدثت معهم يصبحون نقاطاً متحركة في نمط معقد.
وأدرك فجأة أن هذه المسافة ليست مجرد أمتار تفصلني عن المدينة في الأسفل. إنها مسافة في الوعي نفسه، في طريقة فهمنا للعالم. كلما ابتعدنا، تغيرت طبيعة ما نراه. وكلما عدنا، حملنا معنا شيئاً من تلك الرؤية البعيدة. كما لو أن هناك رقصة مستمرة بين القرب والبعد، بين الانغماس والتأمل.
***
في المساء، حين أعود إلى شوارع المدينة، أحمل معي عيني المراقِبة. أمشي في الشوارع نفسها، لكنني أراها الآن بعينين مختلفتين. أرى نفسي جزءًا من نمط أكبر، قصة تتجاوز حدود تجربتي الشخصية. وأدرك أن الحقيقة ليست في القرب وحده، ولا في البعد وحده، بل في تلك الحركة المستمرة بينهما، في ذلك الرقص الأبدي بين المراقِب والمراقَب.
في النهاية، نحن جميعاً مراقبون ومراقَبون في آن واحد. نحمل في داخلنا تلك التلة العالية التي نصعد إليها من حين لآخر، ونحمل أيضاً تلك الشوارع الضيقة التي نمشي فيها كل يوم. وربما، في هذا التناقض بالذات، في هذه الحركة المستمرة بين الأعلى والأسفل، بين الداخل والخارج، تكمن حقيقة وجودنا كله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسل الجزيرة يرصد تجهيزات المقاومة الفلسطينية لعملية تسليم


.. هل تستطيع فصائل المقاومة إفشال مخططات الاحتلال في جنين؟




.. شاهد| تحرك مركبات من الصليب الأحمر قبيل بدء عملية تسليم المح


.. عائلات المحتجزات الإسرائيليات تتوجه لمنطقة رعيم استعدادا للق




.. ترمب يتفقد الأماكن المتضررة من الحرائق في لوس أنجلوس