الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإرادة الإلهية والحرية الإنسانية: تأملات في جدلية القضاء والقدر

حمدي سيد محمد محمود

2024 / 12 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لطالما كانت مسألة الحرية والجبر واحدة من أعقد الإشكاليات التي واجهتها الإنسانية عبر التاريخ، إذ تتشابك فيها أبعاد فلسفية ودينية ووجودية تُلامس جوهر الكينونة الإنسانية. إنها القضية التي تسائل أعماق النفس البشرية حول دورها في صياغة مصيرها، ومسؤوليتها عن اختياراتها، وحدود قدرتها في مواجهة القدر الذي يخطه الله لها. هذه الإشكالية ليست مجرد تساؤل نظري، بل تمتد جذورها إلى جوهر العلاقة بين الخالق والمخلوق، بين القوة الإلهية المطلقة وبين إرادة الإنسان المحدودة.

في التراث الإسلامي، تشكل قضية "هل الإنسان مسير أم مخير؟" محورًا رئيسيًا للنقاش الكلامي والفلسفي، حيث انبرى العلماء والمفكرون لمحاولة فك شيفرة هذا السؤال المعقد. فكيف يمكن للإنسان أن يكون مسؤولًا عن أفعاله، وفي ذات الوقت يخضع لقدرة إلهية مطلقة؟ وكيف يمكن التوفيق بين العدل الإلهي الذي يستلزم الحرية، وبين الإرادة الإلهية الشاملة التي لا يفلت منها شيء؟ هذه التساؤلات العميقة أثارت خلافًا حادًا بين المدارس الفكرية الكبرى في الإسلام: الجبرية، والمعتزلة، والأشاعرة، حيث قدّم كل تيار رؤيته الخاصة، مسلحًا بالأدلة العقلية والنقلية في محاولة لفهم هذه القضية الجوهرية.

قضية الحرية والجبر ليست مجرد جدل كلامي أو لغوي، بل لها امتدادات أخلاقية وفلسفية تتعلق بفهم الإنسان لمعنى وجوده، ومسؤوليته الأخلاقية، وموقفه أمام الخالق يوم الحساب. هل الإنسان حقًا يملك القدرة على صناعة مصيره، أم أن إرادته مجرد وهم في ظل سيادة القدر الإلهي؟ وما هي انعكاسات هذا النقاش على مفاهيم مثل الثواب والعقاب، العدل والظلم، الخير والشر؟

وفي خضم هذا النقاش، تبرز أهمية هذه القضية في سياقها الإسلامي كجزء من محاولة أوسع لفهم التوازن بين القدرة الإلهية المطلقة والعدل الإلهي المحكم، وبين التكليف الشرعي وحرية الإرادة البشرية. إنها قضية تمس العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتضع الإنسان أمام مرآة وجوده، حيث يتأمل دوره في هذا الكون الشاسع وحجم مسؤوليته عن أفعاله ومآله.

في هذه الدراسة، سنغوص في عمق هذه القضية من خلال استعراض رؤية التيارات الثلاثة الكبرى: الجبرية التي أعلت من شأن القدر وجعلت الإنسان مسلوب الإرادة، والمعتزلة التي أكدت على الحرية المطلقة كشرط أساسي للعدل الإلهي، والأشاعرة التي حاولت صياغة موقف وسطي يعترف بقدرة الله المطلقة مع الإقرار بمسؤولية الإنسان عن أفعاله. وسنعمل على تحليل هذه الرؤى في ضوء النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، مع تفكيك الأبعاد العقلية والأخلاقية لهذه الإشكالية.

إن البحث في هذه المسألة ليس فقط محاولة لفهم الماضي، بل هو دعوة للتأمل في دور الإنسان في صياغة حاضره ومستقبله، ودوره في هذا الكون الذي يشهد فيه على نفسه: هل هو مُسير بيد القدر، أم مُخير بإرادته؟ وهل هناك توازن أعمق بين هذين الحدين يتجاوز حدود الإدراك البشري؟

مسألة الحرية والجبر (القضاء والقدر): هل الإنسان مسير أم مخير؟

مسألة الحرية والجبر أو القضاء والقدر تعد واحدة من أعمق الإشكاليات الفكرية والفلسفية في التراث الإسلامي، حيث تتداخل فيها قضايا فلسفية، ولاهوتية، وعقلية، وشرعية. وهي تتعلق بالسؤال الأساسي حول مدى حرية الإنسان في اختياره لأفعاله، ودور الإرادة الإلهية في تحديد مسار هذه الأفعال.

الإطار العام للقضية

تتلخص الإشكالية في السؤال: هل الإنسان يمتلك الحرية الكاملة في اختياراته وأفعاله (مُخير)، أم أن كل ما يفعله مقدر عليه مسبقًا من الله (مُسير)؟ هذا السؤال أثار نقاشًا طويلًا بين المدارس الكلامية والفكرية الإسلامية، وأدى إلى انقسام واضح بين ثلاث رؤى رئيسية:

الجبرية: الإنسان مسير بالكامل، ولا إرادة له أمام القضاء والقدر الإلهي.
المعتزلة: الإنسان مخير تمامًا، ويمتلك حرية إرادته بعيدًا عن التدخل الإلهي المباشر.
الأشاعرة: الإنسان بين منزلة الجبر والاختيار، حيث تتدخل القدرة الإلهية ولكن الإنسان له كسب في أفعاله.

1. موقف الجبرية: الإنسان مُسير بالكامل
أبرز الأفكار:

الإنسان لا يمتلك حرية في أفعاله، وكل شيء يحدث بإرادة الله وقضائه المسبق.
الإنسان مجرد أداة أو آلة تنفذ مشيئة الله، كما وصف بعضهم الإنسان بـ"ريشة في مهب الريح".
ينطلق هذا الموقف من التأكيد على قدرة الله المطلقة وسيادته الكاملة، وأن نسبة أي قدرة للإنسان قد تناقض هذه السيادة.

الحجج والبراهين:

النصوص القرآنية التي تؤكد شمول علم الله وقدرته، مثل قوله تعالى: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" (التكوير: 29)، وقوله: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" (القمر: 49).
فلسفيًا، يرون أن نسب الحرية للإنسان يثير مشكلة تعدد الإرادات، مما قد يناقض توحيد الله في إرادته الكونية.

النقد:

يواجه موقف الجبرية انتقادات قوية، أبرزها أن نفي حرية الإرادة عن الإنسان ينسف فكرة المسؤولية الأخلاقية والمحاسبة الإلهية، إذ لا معنى للعقاب والثواب إذا كان الإنسان مجرد منفذ.

2. موقف المعتزلة: الإنسان مُخير بالكامل

أبرز الأفكار:

- المعتزلة تبنت مبدأ "العدل الإلهي"، وأكدت أن الله عادل لا يظلم أحدًا، وبالتالي لا يمكن أن يحاسب الإنسان على أفعال لم يكن له فيها اختيار.
- الإنسان مسؤول عن أفعاله بشكل كامل، فهو الذي يخلق أفعاله بإرادته وقدرته الذاتية.
- يرفضون مفهوم الجبر لأنه يتنافى مع العقل والعدالة الإلهية.

الحجج والبراهين:

- نصوص تؤكد المسؤولية الفردية، مثل قوله تعالى: "من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها" (فصلت: 46).
العقل: إذا كان الإنسان مجبرًا، فما معنى التكليف؟ وكيف يمكن التمييز بين الخير والشر؟
العدل الإلهي: المحاسبة تستلزم الحرية، وإلا فهي ظلم، والله منزه عن الظلم.

النقد:

يتهم المعتزلة بأنهم قللوا من قدرة الله المطلقة عندما منحوا الإنسان قدرة مستقلة على خلق أفعاله.
النصوص التي تؤكد أن الله هو الخالق لكل شيء، بما في ذلك أفعال العباد.

3. موقف الأشاعرة: موقف وسطي بين الجبر والاختيار

أبرز الأفكار:

- الإنسان "مُكسب" للأفعال، أي أنه يختار الفعل، لكن قدرة الله هي التي تخلق الفعل.
- هذه النظرية تعرف بـ"الكسب"، حيث يوجد تلازم بين اختيار الإنسان وقدرة الله.
- الإنسان ليس مجبرًا بالكامل ولا مخيرًا بالكامل، بل هو فاعل ضمن مشيئة الله.

الحجج والبراهين:

- التوفيق بين النصوص: قال تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" (الأنفال: 17)، دلالة على أن الفعل يتضمن إرادة إنسانية ومشيئة إلهية.
- العقل: موقف الكسب يوازن بين عدل الله وقدرته، حيث يجعل الإنسان مسؤولًا عن أفعاله دون انتقاص من سيادة الله.

النقد:

- الكسب فكرة غامضة يصعب فهمها أو شرحها بوضوح.
- تتهم الأشاعرة بأن موقفهم أقرب إلى الجبرية من حيث الواقع.

النقاش الفلسفي والأبعاد الأخلاقية

البُعد الفلسفي:

- الجبرية ترى أن الحرية الإنسانية قد تؤدي إلى محدودية الله.
- المعتزلة ترى أن إنكار الحرية يجعل الله ظالمًا.
- الأشاعرة تحاول الحفاظ على التوازن، لكنها تقدم تفسيرًا معقدًا.

البُعد الأخلاقي:

- الحرية تبرر العقاب والثواب.
- الجبرية تجعل الإنسان غير مسؤول، مما يفتح المجال لتبرير الظلم.

التوفيق بين الرؤى

يمكن القول إن القضية ليست حسمًا بين الجبر أو الاختيار، بل إن النصوص القرآنية تجمع بين البعدين:
- الإنسان مسؤول عن اختياراته: "كل نفس بما كسبت رهينة" (المدثر: 38).
- الله هو الخالق والمقدر لكل شيء: "الله خالق كل شيء" (الزمر: 62).

الرؤية التوفيقية: ترى أن الحرية والجبر ليسا متناقضين تمامًا، بل الإنسان مخير في حدود، ومسير في أخرى. وفي النهاية، تبقى القضية مفتوحة للتأمل الفكري، لأنها تمثل سؤالًا جوهريًا حول طبيعة الإنسان وعلاقته بالخالق.

بعد استعراضنا لمسألة الحرية والجبر بين الجدل الكلامي والفلسفي، وتأملنا في مواقف الجبرية والمعتزلة والأشاعرة، ندرك أن هذه القضية ليست مجرد جدل فكري يقتصر على عصور خلت، بل هي إشكالية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتتصل بعمق الإنسان ككائن واعٍ يبحث عن معنى وجوده، وحدود حريته، وعلاقته بربه. إنها مسألة تتردد أصداؤها في كل لحظة يتساءل فيها الإنسان: هل أنا صانع قدري، أم أنني أتحرك ضمن مشيئة خفية لا أملك لها دفعًا؟

لقد رأينا كيف قدمت الجبرية رؤيتها التي تعظم قدرة الله المطلقة إلى حد سلب الإنسان إرادته، بينما انتصرت المعتزلة لفكرة الحرية كشرط للعدل الإلهي، وجاءت الأشاعرة بمحاولة وسطيّة تمزج بين قدرة الله ومسؤولية الإنسان. ورغم أن كل مدرسة قد استندت إلى حجج قوية تستند إلى النصوص والعقل، فإن الحقيقة الكبرى تظل أعظم وأعمق من أن تُحصر في فهم بشري محدود.

إن الله تعالى، بعلمه وحكمته المطلقة، خلق الإنسان مكرمًا، وجعل له إرادةً وقدرةً ليكون مسؤولًا عن أفعاله، وفي الوقت نفسه، أخضع الكون كله لإرادته ومشيئته التي لا يخرج عنها شيء. هذا التوازن العجيب بين الجبر والاختيار هو سر من أسرار الوجود، لا يدركه العقل البشري إدراكًا كاملًا، لكنه يظهر جليًا في نصوص الوحي التي تجمع بين الأمر بالتكليف والمسؤولية، والتذكير بالشمولية الإلهية للقدر.

وفي النهاية، لا يمكن لهذه القضية أن تنفصل عن البعد الأخلاقي والروحي لحياة الإنسان. فالإيمان بالقضاء والقدر لا يعني الاستسلام السلبي أو العدمية، بل هو دعوة إلى التفاؤل والعمل، والإقرار بأن إرادة الإنسان جزء من مشيئة الله الشاملة. كما أن التأمل في هذه القضية يعيد الإنسان إلى حالة من التواضع أمام عظمة الله وعدله، ويدفعه إلى العمل بإخلاص، إدراكًا بأن جهده لا يتعارض مع قضاء الله، بل هو وسيلة لتحقيق الغايات التي أرادها له.

إن مسألة الحرية والجبر ليست سؤالًا يمكن إغلاقه بإجابة حاسمة، بل هي رحلة مستمرة لفهم أعمق لمعاني القدر والإرادة. إنها دعوة مفتوحة للتأمل في عظمة الخالق وحكمة تدبيره، وفي مسؤولية الإنسان عن اختياراته ومصيره. وفي هذا التوازن العجيب، بين الأقدار المكتوبة والحرية الممنوحة، نجد المعنى الحقيقي للحياة: أن تسير على الطريق، مدركًا أن الاختيار حقك، والنتيجة بيد الله، وأن كليهما، في النهاية، نعمة تستحق الشكر واليقين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتهموه بالكذب.. نشطاء يقاطعون مؤتمرا صحفيا لوزير الخارجية ال


.. نشرة إيجاز – الخارجية القطرية: مفاوضات الدوحة بشأن الاتفاق و




.. الجيش السوداني يعيد انتشاره في مدينة ود مدني بعد استعادتها م


.. رحلة لزيارة سوداني في ود مدني لتهنئته بدخول الجيش




.. شاهد| استهداف إسرائيلي لمواطنين في حي الرمال بمدينة غزة