الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-لعبة الكراسي- رؤية سيسيو ثقافية للوضع العربي

فاطمة الشيدي

2007 / 1 / 8
المجتمع المدني


من منا لم يلعب لعبة الكراسي - عندما كنا صغارا - ؟ تلك اللعبة التي تقوم على فكرة الركض واللهاث والتهافت على مجموعة كراسي هي بالضرورة أقل من عدد الراكضين ، والكل يركض حتى يحصل على كرسي بأي طريقة حتى لو بدفع الآخرين ورميهم تحت الأقدام..
ولعل تلك البدايات كانت جارحة وعميقة في ذاكرة الفرد العربي ، بشكل حاد مكّنها من أن تصبح فيما بعد مدخلا تعليميا مهما لقانون الركض والاستيلاء والتهافت، ولفكرة الأنا الأهم على الخارطة الكونية لتتشكل الشخصية العربية في بعديها الفردي والجمعي ضمن " لعبة الكراسي" .
إن الشخصية العربية في أبعادها الفردية السيكلوجية ، والاجتماعية الثقافية متشكلة ضمن عدة مفاهيم ناقصة ولكنها مكرّسة في الأنا الأعمق بشكل حاد ومؤثّر، فالكرسي ( كأحد المفاهيم المطلقة والمتغيرة الأدوار بالنسبة للفرد والمجتمع) هو البؤرة الذي تشكلت وفقها منطقة الوعي الفردي والجمعي العربي المتغيرة الزوايا قربا وبعدا من دائرة الأنا ( الفرد / المجتمع).
وليس من المستساغ القول أن لعبة الكراسي هي لعبة فردية لأنه لايمكننا أن نفصل ذاتية الفرد العربي عن الذات المجتمع ، فالذات (الفرد) متلاشية تقريبا في بنائية الثقافة المجتمعية المهيمنة بشكل حاد ، والمسيطرة بشكل سياجي احتوائي لصالح التماهي الكلي بين المجموعات ، وطمر كل ملامح الخصوصية الفردية التي يفترضها أي تنظير اجتماعي أو ثقافي سوي ، لذا فقلما نجد التباين الذاتي القيمي في المجتمعات العربية بين الأفراد كعناصر مستقلة تكوّن عناصر جمعية صغيرة تكبر فيما بينها ( تآلفا أو تخالفا) حتى تكوّن مجتمعا فمجتمعات ، ولذلك أيضا فلا عجب أن يتم استخدام الفرد العربي كحالة مقايسة عامة صالحة ومتناسبة مع الجميع ، فيصبح الفرد عينة محققة لكل المجتمع.
وكما لايمكننا فصل الفردي عن الجمعي في فكرة الهيمنة العليا للمجتمع وتماهي الجزء في الكل ، لايمكننا فصل الثقافي عن الاجتماعي ، وبصورة نظرية فإن عملية التبادل والتأثير بين الثقافي والاجتماعي تفترض قوة الأول المستندة على الوعي والعمق ، وبذلك تكون فكرة التعاطي مع الكامن والدخيل من القيم الفردية والجماعية الثقافية والاجتماعية والمادية، تأتي من الأعلى (الثقافي) للمجتمع فالفرد.
ولكن ليس هذا هو الحال في الوضع الثقافي العربي الذي ينطلق من المجتمعي ( الأقل في الفكر التنظيري ) للثقافي ، لأن المجتمع يشكل حالة كلية متلاحمة بسماتها المتماسكة والمتشابهة وبذلك يتصيّر الفرد ( المثقف) فردا في دائرة المجتمع المتوحدة في هيكلها وملامحها وصفاتها المتشابهة .
فلايمكن اعتبار الحال الثقافي مفصلا مستقلا أو محركا مغيرا أو حتى داعما لحركة التغيير الاجتماعي ،فالمثقف ما إلا رقم في المجتمع تنطبق عليه خصائص المجتمع وصفاته ( رضا أو جبرا، بوعي أو عن عدمه) ، ولايستطيع الخروج عليه ليكون مؤثرا ، ومن هنا فإن الثقافي يضمحل في الاجتماعي ويتبناه الثاني ويحركه وفق خصائصه الثابتة والمتغيرة .
وبهذا وبعد إخراج كل الإحترازات من دائرة منطقة الفعل ، فإن "لعبة الكراسي" هي عملية تنطلق من تشكيل اجتماعي كلي إجلالي لثقافة الهيمنة وتبجيل السلطة ، والسعي للمنصب وانتزاعه إن لزم الأمر ، كما تنطلق منها آليات تعامل الفرد(والذي يشمل المثقف بقوة كفرد من البنية الاجتماعية)مع ثقافة الكرسي، وماتفترضه من تشكل شخصوي لهذا المنصب قائمة على التعالي والقوة والتعامل الفوقي والرؤية العلوية للأشياء والكائنات، والتي تقتضي حالات الترقية والعلو لمن يدخل في حيز ما من مساحات الحيز الأوسع للكرسي ، وحالات النفي والتهميش ، والإقصاء والتحجيم لمن هم خارج هذا الحيز ، أو قد يكون أعلى منه - خارج هالة الكرسي- ، وبهذا قد يؤثر سلبا على فترة مكوثه عليه .
لذا فإن حالة العلائقية القائمة بين الكرسي والجالس عليه تتمدد بشكل يتجاوز الوضع الاجتماعي كحالة خاطئة في الأوضاع الاجتماعية العربية المريضة بهيمنة الأنا من ناحية ، وتعالي حالة الصغار والخضوعية من ناحية أخرى كحالة موازية وخالقة في نفس الوقت للحالة الأولى ، ومدعمّة لها بحكم الكثرة المفترضة كجمهور، لتصل للوضع الثقافي فتصبح الكراسي صفاتا وألقابا وأوسمة ، ويصبح كرسي رئيس التحرير أو حتى كرسي المحرر الثقافي( والذي قد لاتكون له علاقة مباشرة بالكتابة ، وإن كان يمتلك أداتها في بعض الأحيان) يصبح هذا الكرسي معيار حكم ، ومساحة للتقديم والتأخير في الحالة الثقافية المتعثرة في أوطاننا العربية ، ويصبح الكرسي معيارا للثقافة يقدم صاحبه للعالم من خلاله.
إن المجتمعات الوظيفية الواعية تفترض حالتان من التعامل مع الكراسي :
الأول : وظيفية الكرسي القائمة على مقابل مادي تجاه شغله له ، و التي تعني بالضرورة خدميته ، بمعنى أن صاحبه (أي كان هذا الكرسي) في موضع الخدمة لكل من له حاجة عنده .
الثاني : منصبية الكرسي وليس من يشغله ، بمعنى أنه مكان شاغر للجلوس عليه لفترة من الزمن ، لا يلصق بأحد ، ولا يلصق به أحد ، فهو وظيفي الحال لكل من يشغله ، بل هذا لا يتعدى فترة جلوسه اليومي لمن يشغله ، وحين يقوم من عليه يكون خارج المسؤولية أو السلطة المتاحة له ، فالكائن يغادر وظيفته إلى ذاته ومجتمعه .
ولكن هذا بعيد عن أوطاننا العربية المريضة ، فلعبة الكراسي هي في الأصل حالة ذهنية ، وذاكرة مخدوشة بحواف مجتمع تتصاعد إفرازاته في أدمغة غير قادرة على تنقية ذاتها منه ، وإن كانت تدعى ذلك ، فنحن إن تجاوزنا الكراسي الحقيقة التي يكون المقابل المادي غالبا معيارها في المؤسسات الثقافية والاجتماعية، فكيف نبرر فكرة الكراسي التي نخترعها اختراعا في كل عمل ثقافي خاص ، لنؤطر أنفسنا ونحدد لوضعياتنا مساحات صالحة لتحجيم الذات والآخر ، ولعل ابتداع كراسي ومناصب وأشكال في المساحات الرقمية والضوئية الأثيرية الافتراضية ، و التي كانت الحلم للتملص من حواف الأشكال والكراسي يبرر عجز هذا الكائن وإشكالاته .
إن فكرة الكراسي ببساطة هي فكرة التشكل السائلي للكائن العربي المؤمن بالأشكال والأحجام ، فكل كائن لديه مجموعة من الأطر والأشكال صالحة لصب الذات والآخر في مساحاتها ، ليحظى بفكرة مطاولة الذات بالآخر الذي يصبح بالضرورة أقل حجما ، وقد تكون فكرة تماهي الذات خارج الشكل وهو " فوبيا" النقص التي يحاول أن يتغلب عليها من خلال التشبث بالكرسي، أو فوبيا الآخر الأعظم الذي يحققها بتلميع كراسي الآخرين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفوض الأونروا: إسرائيل رفضت دخولي لغزة للمرة الثانية خلال أس


.. أخبار الساعة | غضب واحتجاجات في تونس بسبب تدفق المهاجرين على




.. الوضع الا?نساني في رفح.. مخاوف متجددة ولا آمل في الحل


.. غزة.. ماذا بعد؟| القادة العسكريون يراكمون الضغوط على نتنياهو




.. احتجاجات متنافسة في الجامعات الأميركية..طلاب مؤيدون لفلسطين