الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التدين الاسطوري قبل الاسلام

مهدي النجار

2007 / 1 / 13
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من المعلوم إن ضمور الحياة الاقتصادية في الجزيرة العربية قبل الإسلام وبدائية أطرها الاجتماعية شكل دعامة مادية هشة لكل الفعاليات الفكرية أو الذهنية،بمعنى لم تتأسس أطر قوية لاحتضانها ورعايتها،وحالت الصحراء دون استقرار العرب إلا في مناطق ضيقة قرب الواحات والمراكز التجارية على طرق المواصلات وبعض المناطق الزراعية في الجنوب الغربي،فأصبحت الحياة الاقتصادية متاخره،بدائية،ضعيفة،غير منتجه،فلم تستطع أن تفكك مجتمع البداوة الذي تسوده الزعامة المشيخية القائمة على ارتباطات النسب والدم القبلية،فضلا عن شحة المياه والموارد الاقتصادية التي جعلت الأقوام العربية السالفة تتصف بطابع التنقل والبحث الدائم عن الماء والكلا،كذلك استمرار الخصام والحروب فيما بين القبائل للحصول على هذه المواد النادرة عن طريق السلب والنهب والعدوانية،هذه العدوانية التي توصف بها جميع المجتمعات البدائية حيث تجعل حدود البشرية حدود القبيلة ولا ترى في البشر خارجه إلا غرباء يستحقون الغزو والنهب والاغتصاب ولم تتح حياة التنقل المتواصل والحروب والغزوات المستمرة الطويلة من فرص إرساء ابسط قواعد التنظيمات السياسية والاجتماعية الموحدة فظل نظام المشيخة الرئاسي (القبيلة)هو النظام السائد ودستورهم العرف القبلي.
إلا إننا نلاحظ حدوث تطورات بطيئة لذلك المجتمع المتماسك،المغلق،الراكد بسبب اختراقه من قبل المجتمعات المهاجرة (من الشمال والجنوب ومن أديان وثقافات مختلفة) وتمركزها على الطرق التجارية التي تخترق الحجاز وفي بعض الواحات الخصبة ، وظهرت مهن جديدة مثل الزراعة والحرف المتعلقة بالتجارة،أدى ذلك التطور إلى تفكك المشاعية القبلية وانحلالها وباتت تفقد عموميتها لتظهر محلها مقتنيات وممتلكات فردية،بمعنى أن الأطر القبلية في مكة وبلاد الحجاز بصورة عامة أصبحت عاجزة في أخريات القرنين الخامس والسادس الميلاديين،عن استيعاب الوضع التجاري الجديد الذي اصبح لاحقاً يتفاقم نموه بمعدلات مدهشة نظراً للموقع الاستراتيجي لبلاد مكة التي احتلت الطريق التجاري الغربي الذي أوصل اليمن بمصر وسوريا.
فنشأت طبقة أرستقراطية قبلية(كما ذهب عبد العزيز الدوري) متنفذه تُشغل أموالها في الزراعة والرأسمال النقدي (التجاري والربوي) وبرزت قريش قوية في تلك الطبقة وزعيمة لكل القبائل العربية بسبب سعة أموالها وتكدسها وسعة نفوذها الروحي وأشرافها على الوظائف الدينية وهيمنتها السياسية والعسكرية.
إن القول بان الإنسان البدائي في أي مكان وزمان هو كائن جاهل رازح تحت وطأة حاجاته وغرائزه كما يحلو للبعض تصويره هو قول فيه تبسيط،كما لم يكن الإنسان البدائي هو ذلك الذي تغلب العاطفة على وعيه غارقاً في الإبهام والغموض والمشاركة السديمية،فحين نتموضع في الظروف والأزمنة العربية التي وصفناها آنفا بأطرها المادية الركيكة ومستويات تحضرها الهشة،يصح،كما يقول خليل احمد خليل،من ناحية التوحيد الديني القائم على النبوة أن نطلق على عصر ما قبل الإسلام عصر الجاهلية،ولكن هذه التسمية لا تصح من الناحية الثقافية لأننا نلمس آنذاك ثقافة مدفوعة بعامل الفضول المعرفي أو اللذة المعرفية وليست بمثابة كلام طائش وباطل،سنعثر على آلهة وكائنات خارقة،كما في كل أساطير العالم،وهي تلعب أدوار الوسطاء بين القوى العليا والإنسانية السفلي،وليس خافيا بان الأسطورة لم تعد بالمعنى الأنثروبولوجي الحديث للكلمة شيئاً سلبياً أو ممجوجاً،الأسطورة جزء مكون من مكونات الوعي البشري ومن رحمها ولد الوعي العقلاني، الأسطورة تعطي الإنسان،وهذا أمر بالغ الأهمية(كما أشار كلود ليفي شتراوس)تعطيه الوهم بأنه يستطيع أن يفهم العالم وانه يفهمه فعلا،لهذا لا ينبغي الاستهانة بالقدماء إلى جدود تسفيه أفكارهم ،فهم أيضا كانوا مهمومين بمسالة معنى الوجود البشري وما هي الغاية منه في نهاية المطاف.
لكن إمكانيات عصرهم وظروفهم التاريخية جعلتهم لا يتجاوزون اكثر من الوعي الأسطوري ،وأيضا وطبقا لشتراوس فان الأساطير منذ وضعت معا في حالة نظام بواسطة بشر وفلاسفة حكماء وبدائيين لا يوجدون في كل مكان،ولكن فقط في بعض المجتمعات ذات الطبيعة الخاصة(شتراوس/الفكر البري).
نعود ثانية إلى معطيات التاريخ المحسوس،إلى ذاك الفضاء السحيق في القدم ،فضاء الشحة الاقتصادية وظروف الصحراء القاسية،سنتأكد من انه كان لأولئك الأوائل أدب ولغة في غاية التطور،لديهم معارف واسعة عن الأنساب وبعض مفاهيم التاريخ ورصد مجرى الأفلاك والفراسة والطبابة…سنعثر على مدن بالغة الازدهار خاصة في اليمن ،والاهم من كل ذلك سنجد لديهم ـ شانهم شان كل شعوب الأرض ـ تديناً بدائياً وأسطوريا،نوعا من التعبد لقوى الطبيعة،فكما يرى توينبي فانه كان دين الإنسان خلال99% من تاريخ البشر يتمثل في عبادته لقوى الطبيعة غير البشرية،الحيوانات،الشمس،الاشجار،الحجارة،التراب،الماء،الرياح،المطر،العواصف…الخ.
كان مفهوم الشرك عند العرب آنذاك هو الاعتراف بوجود الله ولكنه كان موضع تقديس غير مباشر،عن طريق الأصنام،رب عام بدون تخصيص،رب الأرباب،اله الآلهة،فوق آلهة القبائل والشعوب بدليل إن الكعبة كانت بيت الله،وبعد ظهور الإسلام انصهر ما يقارب ثلثمائة وستين تيارا دينيا(صنما وصورة موضوعة بالكعبة)في تيار ديني توحيدي ،أي صهر عبادات هذه الآلهة وتحويلها إلى عبادة اله واحد،ويذهب بعض الباحثين إلى إن آلهة العرب الشماليين تصنف في مجموعات ثلاث هي: المجموعة الأولى/هبل (أول صنم وضع في مكة،وهو اكبر أصنامها ،صنعوه من العقيق الأحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى،فأدركته قريش وجعلت له يداً من ذهب،وكانت لهبل خزانات للقربان، وكان قربانه مائة بعير). المجموعة الثانية/اللات والعزى ومناه (أما اللات فتعني الآلهة أو أم الآلهة تسمو بها:زيد اللات،ومناه تعني اله القدر والموت،والعزى مؤنث الأعز ،ترمز إلى كوكب الحسن) ثم المجموعة الثالثة/ اساف ونائلة و ود،وسواع،ويفوت،ويعوق،ونسر،أما العرب الجنوبيين فالهتهم القمر (اطقا،هو بس،ذو سماوي).
إن هذا التدين الأسطوري هو نوع من مستويات الوعي الذي كانت تتحكم به المشروطيات التاريخية(الاقتصادية والاجتماعية) لذاك المجتمع البشري ويخضع لها،ويمكن تشخيص سمتين بارزتين تقاسمتا تدين العصر قبل الإسلامي،الأولى:السمة الحسية التجسيمية،إذ أن وعي الجماعات القبلية لم يكن في مستوى من التطور يسمح له بان يرتفع إلى درجة الاستيعاب التجريدي للظواهر الكونية،أي لتصور المعاني والأفكار تصوراً مجرداً عن علاقتها الانطولوجية بالواقع المادي المحسوس، إن هذه السمة،كما يذكر حسين مروة: تكاد تكون غالبة على الأساطير التي انحدرت إلينا من المجتمعات القبلية المشاعية في العصر الجاهلي (النزعات المادية في الفلسفة العربية). والسمه الثانية هي سمه تجريدية متعالية وجدت إرهاصاتها الأولى في التصورات الغامضة لمعنى (الله) عند جماعة الحنفاء.
إن لهذه السمة التجريدية الجديدة التي أصبحت تتجدد شيئاً فشيئاً في الميثولوجيا الدينية ارتباطها الواقعي مع تطور الأطر الاجتماعية ـ الاقتصادية من مستوى اقتصاد طبيعي/مشاعي،إلى مستوى اقتصاد نقدي،فقد أوجد هذا التطور حاجة المجتمع التاريخية الى مثل هذا التوجه الملحوظ في الوعي الديني نحو إطار تجريدي،ولكن ضمن سياق من التواصل والتفاعل التاريخي والتراثي الحضاري،فقد اشر طيب تيزيني مسالة التفاعل اللغوي واللاهوتي بين السومريين والساميين العرب الشرقيين(الاكاديين) والغربيين الذين يمثل العرب الجزيريون بُعداً وامتداداً تاريخيا لهم: ففي النصوص الاكادية عرف الإله (مارتو) بمثابة اله البادية السورية،كما دعي كذلك،الإله(مارنو) أي (رحمان)، وعلى هذا الأساس كان وجوده وانتشاره في اليمن تحت اسم (الرحمان الرحيم) يمثل ظاهرة هذا التواصل والتفاعل بين الاكاديين والسوريين واليمنيين، وجدير بالنظر والاهتمام إن اسم هذا الإله غالباً ما كان يرد مسبوقاً بإشارتين لاهوتيتين هما (أل،أل) أي( الإله)، أما هذا الأخير فقد انقلب فيما بعد على سبيل الإدغام وقد يكون اسم اللات منحدراً من ذلك التصنيف اللاهوتي (واللغوي) خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار إن هذه الآلهة تبرز في الذهنية الأسطورية (الوثنية) الجزيرية بمثابة أحد عنصري الفعل الاخصابي الكوني،الذي ينتج العملية التكوينية عبر ولادة العزى، كل ذلك تضامن مع هذا التدين الأسطوري (بنوعيه المجسم والمجرد) نوع من الطقوس والشعائر الدينية وارتبطت بها وكانت الشعيرة الدينية التعبير الشفهي والإشاري ـ الحركي عن الأسطورة،بمعنى إن الشعيرة الدينية هي الوسيلة الوحيدة للدخول في تماس مع المقدس أو مع التقديس،حيث يصبح الدعاء مثلا من صلب الأساطير البشرية مرتكزه الأساس الإيمان بقوة الكلام في حالة العجز عن الفعل.
ــــــــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سائقة تفقد السيطرة على شاحنة وتتدلى من جسر بعد اصطدام سيارة


.. خطة إسرائيل بشأن -ممر نتساريم- تكشف عن مشروع لإعادة تشكيل غز




.. واشنطن: بدء تسليم المساعدات الإنسانية انطلاقاً من الرصيف الب


.. مراسل الجزيرة: استشهاد فلسطينيين اثنين بقصف إسرائيلي استهدف




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش إرهاق وإجهاد الجنود وعودة حماس إ