الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإمبراطورية الرومانية و القمح المصري

أشرف حسن منصور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية

2007 / 1 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات




مقدمة:

إذا اطلعنا على ما كتب عن تاريخ حوض البحر المتوسط في عصر الرومان وجدنا معظمه يركز على التاريخ السياسي و العسكري، وأغلبه وصف للصفقات السياسية و الصراعات بين القادة الرومان وممالك شرق المتوسط من مقدونيين و سلوقيين و بطالمة، ووصف للعمليات العسكرية الدائرة فيه وانتصارات الرومان المستمرة وحروبهم الأهلية وتغير نظمهم السياسية. و الخلاصة أن هذه الكتابات ترسم صورة للرومان باعتبارهم اللاعب الأساسي، ثم الوحيد بعد ذلك، في حوض البحر المتوسط منذ القرن الثاني قبل الميلاد. لكن أهم ورقة كان يلعب بها هذا اللاعب الروماني كانت هي القمح المصري.

تحاول هذه الدراسة تتبع دور القمح المصري في السياسة الرومانية مركزة على أواخر العصر الجمهوري و أوائل عصر الإمبراطورية، ورصد كيفية استخدام الرومان له في صراعاتهم مع بعضهم البعض و مع غيرهم من القوى الأخرى في عصر الجمهورية، ودوره المركزي في اقتصاد الإمبراطورية. هذا التتبع لدور القمح المصري في العصر الروماني هو محاولة للخروج عن الإطار التقليدي الذي وضعت فيه مصر في كتابات ذلك العصر، باعتبارها مملكة بطلمية في البداية وباعتبارها ولاية رومانية بعد ذلك. وفي الحالتين تسيطر على مصر قوة أجنبية سواء الأسرة البطلمية المقدونية أولا أو القادة الرومان ثانيا. ليست مصر في هذه الكتابات سوى إقليم يدير شؤونه قوة أجنبية، و بذلك يأتي التأريخ لهذا العصر باعتباره تاريخ العلاقات السياسية بين البطالمة و الرومان، وصراع القادة الرومان فيما بينهم للاستيلاء على مصر، في حين أن الهدف الأساسي لكل هذه الصراعات هو السيطرة على القمح المصري.

كانت مصر "مخزن غلال الإمبراطورية"، فلنجعل من أنفسنا أمناء هذا المخزن لنعرف ماذا كان يفعل الرومان بما يأخذونه منه.

إن تتبع دور القمح المصري في العصر الروماني إنما يرد الاعتبار للفلاح المصري بأن يرسم صورة لذلك العصر من وجهة نظره. إذا تخيلت أنك فلاح مصري منتج للقمح في العصر الروماني، وإذا رأيت قمحك هذا يخرج من بين يديك و من مصر كلها لتكون له مصائر أخرى في جميع أنحاء حوض البحر المتوسط، فسوف يهمك أن تتابعه و تعرف دوره الاقتصادي و السياسي خارج حدود مصر.

ازدياد الطلب الروماني على القمح المصري منذ القرن الثاني ق.م:

ظهر أول احتياج للقمح المصري من قبل الرومان قبيل نهاية حروب هانيبال (200-194 ق.م). أدت هذه الحروب التي غزا فيها القائد القرطاجي هانيبال شبه جزيرة إيطاليا إلى تخريب مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، لا في إيطاليا وحسب بل في كل المناطق التي دارت فيها الحرب: أسبانيا وصقلية وشمال أفريقيا (لويس 26) . لكن الطلب على القمح المصري لم يتضخم إلا بعد أن دخل الرومان في حروب عديدة مع القوى الأخرى في حوض البحر المتوسط خلال القرن الثاني قبل الميلاد. فقد انشغل الرومان في حروب مع مقدونيا (171-168/149-146 ق.م) وقرطاجة (149-146 ق.م) وحرب يوجورثا في شمال أفريقيا (111-105 ق.م) و حروب العبيد (198/196/185/135-132 ق.م). ومع اتساع رقعة العمليات العسكرية تدمرت الكثير من الأراضي الزراعية في مختلف أنحاء حوض البحر المتوسط. وبعد هذه الحروب لم يبق إقليم لم تتعرض زراعته للتخريب إلا مصر، إذ حافظت طوال هذه السنين على إنتاجية عالية و ثابتة.

كما كانت نتيجة كثرة الحروب وطول أمدها أن ازداد حجم الجيوش وازداد تجنيد الفلاحين الرومان، ولم يستطع هؤلاء الفلاحون العودة إلى أراضيهم مع زيادة الحاجة إلى جيوش قائمة وجاهزة باستمرار. فبدأ الرومان في استيراد القمح المصري بصورة منتظمة من أواخر القرن الثاني ق.م، و كانوا يأخذونه بأسعار زهيدة من البطالمة إذ كانت روما في ذلك الوقت الحامية الرسمية للأسرة البطلمية والضامنة لاستمرارها في الحكم.

وبالإضافة إلى ذلك أدت حروب هانيبال و الحروب التي تلتها إلى أن وضعت الدولة الرومانية يدها على الكثير من الأراضي في جنوب إيطاليا كانت ملكا للمجتمعات التي تحالفت مع هانيبال، وكانت هذه الأراضي ملكا عاما للشعب الروماني Ager Publicus Populi Romani. إلا أنها كانت في حاجة إلى استصلاح، ولم يكن أحد قادرا على استصلاحها إلا الطبقة الأرستقراطية التي تملك الإمكانات اللازمة، وبالتالي وضعت هذه الطبقة يدها على الأرض بصفتها مستأجرة أولا، وبمرور الزمن اعتبرتها ملكا لها (نصحي، ص 12-20) . وهذا ما أدى إلى وقوع صدام بين الأرستقراطية والعامة.

ففي خلال القرن الثاني ازدادت أعداد طبقة العامة في روما وجوارها، وكانت مؤلفة من جنود سابقين تم تسريحهم ومزارعين هجروا أراضيهم للبحث عن مصدر للرزق في روما. ومع ازدياد استخدام العبيد في الزراعة الإيطالية زادت البطالة بين العامة؛ وهنا حدث الصدام. ففي 133 ق.م طالب نقيب العامة تيبريوس جراكوس بإعادة توزيع الأراضي العامة على فقراء الرومان، إلا أن هذه الأرض كانت في حوزة الأرستقراطية ولم ترد التنازل عنها، وعندئذ اندلعت الاضطرابات العنيفة التي انتهت باغتيال جراكوس وبدأ عصر الثورة الذي شهد صراعات بين الرومان وحروبا أهلية انتهت بتقويض النظام الجمهوري وتأسيس الإمبراطورية. وقد بدأت في أواخر عصر الجمهورية عملية تنحية الأرستقراطية عن قيادتها للدولة على أيدي عدد من القادة العسكريين أمثال ماريوس وصلا وقيصر وأوكتافيوس أغسطس (نصحي 18-29). وتتمثل أهمية القمح المصري بالنسبة للسياسة الداخلية الرومانية في هذه الفترة وما صاحبها من تغيرات في البناء السياسي للدولة في أن الرومان كي يحلوا مشكلة العامة ويخففوا من حدة صراعها مع الأرستقراطية اتبعوا سياسة توزيع كميات كبيرة من القمح بسعر زهيد وبصورة منتظمة. ومع ازدياد أعداد طبقة العامة لم تكف مصادر القمح القائمة في توفير الكميات المطلوبة، ومن ثم اتجهت أنظار الرومان نحو مصر. لقد كان الرومان ينفقون على ديمقراطيتهم بالقمح المصري.

و لعب القمح المصري دورا مركزيا في شراء الأرستقراطية سكوت العامة عن المطالبة بالمزيد من الأراضي، وبالتالي أطال في حياة النظام الجمهوري الذي كانت تمسك فيه الأرستقراطية بزمام الدولة لقرن كامل. وعلى الجانب الآخر تمكن عدد من القادة الرومان من الوصول إلى مناصب سياسية رفيعة في الدولة بنجاحهم في كسب ولاء العامة بشراء أصواتهم بالقمح المجاني، وبذلك ازدادت أعداد المغامرين والقادة العسكريين وتحدوا السيناتو الذي تسيطر عليه الأرستقراطية حتى أنهم هددوا مدينة روما نفسها، إذ نجح ماريوس وصلا وقيصر في فرض إراداتهم على الأرستقراطية بل وفرض إصلاحاتهم الدستورية لأكثر من مرة.


مخزن غلال الإمبراطورية:

لكن ما الذي جعل مصر مخزنا لغلال الإمبراطورية من البداية؟ كي تكون إنتاجية الأرض الزراعية عالية ومنتظمة يجب أن يكون هناك استقرار للفلاح على الأرض، ونظرا لأن الفلاح المصري مستقر لآلاف السنين كانت إنتاجية مصر من القمح عالية وثابتة، و هذا ما جعلها مطمعا للرومان في البداية، ومخزنا لغلال الإمبراطورية بعد ذلك. أما مناطق زراعة القمح الأخرى في حوض البحر المتوسط فلم تكن تتمتع بالإنتاجية المنتظمة والعالية، ذلك لأن أغلبها يعتمد على الأمطار، و إنتاجية زراعة الأمطار دائما ما تكون ضعيفة بالمقارنة بالزراعة على مياه نهر النيل، كذلك تكون زراعة الأمطار عرضة للتقلبات المناخية، ويمكن ألا تنتج زراعات القمح شيئا يذكر في حالة الأجواء السيئة؛ كما تتأثر خصوبة تلك الأراضي بالتقلبات الجوية، في حين تتجدد خصوبة الأرض المصرية سنويا بما يأتي به الفيضان من طمي جديد. أما الأنهار الأخرى في حوض البحر المتوسط فأغلبها قصير و مياهه متواضعة وبعضها يجف في فترات معينة من السنة.

ومن ناحية أخرى اعتمدت أراض كثيرة في جنوب إيطاليا وصقلية وأسبانيا على عمالة العبيد؛ وزراعات القمح المعتمدة على العبيد لا يمكن أن تكون منتظمة وعالية، إذ كان العبيد في ثورات دائمة كما أن الاحتفاظ بـهم ومنعهم من الهروب يتطلب قوة عسكرية كبيرة. وبعد أن استتب الأمن الروماني في حوض البحر المتوسط في العقود الأخيرة قبل الميلاد لم يعد هناك مصدر للعبيد الذين كان أغلبهم أسرى حروب (Kautsky) ، ونقصت أعدادهم كثيرا مما أدى إلى ضعف إنتاجية القمح في النصف الغربي من الإمبراطورية، وبالتالي زاد احتياج الرومان للقمح المصري، إذ لم تكن الزراعة المصرية معتمدة على العبيد بل على الفلاحين.

و في حين شهد حوض البحر المتوسط تغيرات حادة في توزيع سكانه في القرنين الأخيرين قبل الميلاد من جراء كثرة الهجرات والمجاعات والحروب المستمرة وعدم الاستقرار السياسي، ظلت مصر محتفظة بسكان مستقرين، وهذا ما ساعد على ثبات إنتاجية مصر العالية من القمح، في حين شهدت مناطق زراعته الأخرى تغيرات حادة. لقد كان الفلاح المصري المستقر في أرضه من أهم دعائم الإمبراطورية الرومانية.

كما كانت زراعة القمح والحبوب الأخرى مكلفة للغاية في أنحاء حوض البحر المتوسط، ولم يكن القمح سلعة مربحة نظرا لصعوبة زراعته وإهلاكه للتربة واحتياجه لأيد عاملة كثيرة، وبالتالي كان إنتاج القمح في هذه المناطق لا يزيد كثيرا عن سد احتياجات السكان المحليين (Rostovtzeff, p. 89). أما إنتاج مصر من القمح فمختلف، ذلك لأنه وفير ويفيض عن حاجة السكان بعشرات الأضعاف نظرا للإنتاجية العالية. وبالتالي لم يستطع الرومان جلب القمح بكميات كبيرة إلا من مصر.

وعلاوة على صعوبة زراعته هناك صعوبات أخرى في نقله لمسافات بعيدة، إذ يحتاج إلى شبكة مواصلات وطرق ممهدة إذا ما تم نقله لمسافة أكثر من 100 كيلومتر، كما أن سعره يتضاعف عندما يتم نقله لمسافة أكثر من 300 كيلومتر. ولم تكن مصر تعاني من هذه المشكلات؛ إذ كان النيل أول طريق سريع في التاريخ High Way وأطول من أي طريق بري أنشأه الرومان، إذ مكن الرومان من تجميع القمح من الحقول وشحنه في السفن حتى الإسكندرية ومنها إلى كافة أنحاء الإمبراطورية؛ فكانت السفن المحملة بالقمح تنطلق بسرعة نحو الشمال مع تيار مياه النيل، وبعد أن تفرغ حمولتها تصبح خفيفة فتعود إلى الجنوب مرة أخرى مستخدمة رياح الشمال. فبالإضافة إلى إنتاجية مصر العالية من القمح كان نقله منها سريعا بفضل النيل وميناء الإسكندرية.

القمح المصري في عصر الثورة الرومانية (133-43 ق.م):

ألمحنا في فقرة سابقة إلى الدور الذي لعبه القمح المصري في الصراع بين العامة والأرستقراطية ابتداء من سنة 133 ق.م. واتخذ هذا الصراع بعدا جديدا بتولي جايوس جراكوس شقيق تيبريوس نقابة العامة واقتراحه مشروع قانون يسمى قانون القمح، يقضي بأن تشتري الحكومة من الخارج كميات كبيرة من القمح وتودعها في مخازن مخصصة لذلك في ميناء أوستيا (ميناء روما على البحر المتوسط)، وتبيع منها لكل مواطن روماني نظير سعر ثابت على مدار العام، وقد كان سعرا زهيدا للغاية مما جعل القمح متاحا للفقراء (نصحي 107). وكانت مصر من أهم مصادر هذا القمح. معنى هذا أن ذلك القانون جعل الحكومة ملزمة بتوفير القمح بسعر زهيد، بعد أن كان إمداد روما بالقمح مهمة التجار الذين كان أغلبهم من الأرستقراطية؛ مما كان خطوة نحو تنحية الأرستقراطية عن قيادتها للدولة تمهيدا للتحول إلى النظام الإمبراطوري الذي أصبح في يد العسكريين. وبالفعل ففي أواخر عصر الجمهورية باشر القناصل الذين أتى معظمهم من الجيش إدارة شؤون القمح من أمثال ماريوس وصلا وبومبي وكراسوس وقيصر وأنطونيوس وأوكتافيوس.

ونظرا لأهمية مصر بالنسبة لإمدادات القمح الرومانية اتجهت أنظار القادة العسكريين ابتداء من كراسوس ومرورا ببومبي وقيصر وأنطونيوس إلى مصر وبدأوا في إدخال الأسرة البطلمية في حبائل السياسة الرومانية حتى انتهوا إلى إخضاع مصر نهائيا للحكم الروماني. وبذلك تداخلت مهمة إدارة القمح مع مهمة إخضاع مصر للسيطرة الرومانية، فالقادة الذين تولوا إدارة القمح هم أنفسهم أصحاب مشروع ضم مصر للدولة الرومانية ومنفذيه كذلك.

كما لعب القمح المصري دورا حاسما في الحرب الأهلية الرومانية في أواخر عصر الجمهورية. فقد تمكن بومبي باعتماده على مصر من حشد أسطول وجيش ضخم استطاع بهما الوقوف أمام قيصر في صراعهما الأخير (Caesar p. 78) . وكانت نهاية بومبي عندما تمكن قيصر من احتلال الإسكندرية وتأليب أنصار بومبي عليه واغتياله.

وفي عهد قيصر ازداد عدد ملاك الأراضي الذين خافوا من ثورات العامة المتكررة وأخذوا يبحثون عن أراض أخرى خارج إيطاليا فتوجهت أنظارهم نحو مصر، و كان أنطونيوس هو صاحب فكرة السيطرة على مصر مدفوعا بمصالح الملاك الرومان، إذ رأوا فيها متنفسا لهم وفرصة للاستحواز على المزيد من الأراضي دون أن تنقلب عليهم الطبقة العامة الرومانية (Syme, p.290) . ومنذ أواخر عهد قيصر عقد أنطونيوس صلات وثيقة مع البطالمة وخاصة كليوباترا، كما اتخذ من مصر قاعدة في صراعه مع أوكتافيوس، ذلك الصرع الذي انتهى بهزيمة أنطونيوس وكليوباترا في موقعة أكتيوم 31 ق.م.

القمح المصري في العصر الإمبراطوري:

وبعد انتصار أوكتافيوس أغسطس على أنطونيوس في معركة أكتيوم انتهى آخر منافس للنظام الإمبراطوري الروماني، وبذلك استطاع أغسطس إعادة بناء الدولة الرومانية جاعلا معظم مؤسساتها تلتف حول المنصب الجديد الذي ابتدعه وهو المواطن الأول Princepe ، أو الإمبراطور. لكن قبل أن يتمكن أغسطس من تحقيق ذلك واجهته مشكلة، وهو أنه وجد في حوزته جميع فرق أنطونيوس التي وعدها بالأمن فانضمت إليه في آخر مرحلة في الحرب بالإضافة إلى فرقه هو، مما كان يشكل في مجموعه 70 فرقة لم تكن الإمبراطورية في حاجة منها إلا لـ 27 فرقة فقط. وهذه الجيوش يمكن أن تسبب له القلاقل إذا لم يتم تسريحها على الفور، إذ يمكن أن تنضم بسهولة إلى أي مغامر عسكري آخر. وهكذا كان على أغسطس أن يسرح 43 فرقة مجموع جنودها 172 ألف. وتمكن من تسريحهم بالفعل بشراء أراض لهم في جنوب إيطاليا وصقلية وأسبانيا بفضل الذهب الذي استولى عليه من مصر (Syme, p.304). لقد كان الرومان يحلون مشاكلهم العسكرية أيضا بالموارد المصرية، لا مجرد مشاكلهم الاقتصادية. هذا بالإضافة إلى أن أغسطس كافأ أنصاره من الأرستقراطية ورجال الأعمال والتجار بأن منحهم أراض في مصر، وكانت هذه المكافأة هي ما كانوا ينتظرونه لعشرات السنين (Syme,p.380) ، وبذلك استطاع أغسطس كسب ولاء مجلس الشيوخ وتسكينه وشراء القوة التي كانت تدعم آخر بقايا النظام الجمهوري، مما وضع نهاية للحرب الأهلية الرومانية.
عندما نقرأ في كتب التاريخ أن أغسطس هو صانع السلام الروماني Pax Romana والذي ضمن لحوض البحر المتوسط أمنا رومانيا لقرن من الزمان فيجب أن نتذكر دور الموارد المصرية في شراء هذا الأمن الروماني وفي تدعيم السلام الروماني. لقد قام السلام الروماني على هبات من الأراضي الزراعية المصرية وإمدادات هائلة من القمح المصري، وعلى الكميات الضخمة من ذهب البطالمة الذي أتى في الأساس من مقابر الفراعنة.

نظر الرومان إلى مصر كإقليم منتج للقمح ويدر دخلا ثابتا لهم، ولذلك كان أول أباطرة الرومان أوكتافيوس أغسطس هو الذي يحكم مصر بنفسه موليا عليها محاسبه الخاص. وظلت مصر طوال العصر الإمبراطوري ولاية إمبراطورية تخضع مباشرة للإمبراطور تمييزا لها عن الولايات القنصلية الأخرى التي كانت تخضع لإشراف مجلس الشيوخ. وكان هدف أغسطس من أن تظل مصر ولاية تخضع مباشرة للإمبراطور أن يمنع أي سياسي روماني في المستقبل من أن يستغل الإمكانيات المصرية في القيام بتمرد أو انقلاب من خارج إيطاليا على النظام مثلما فعل بومبي وأنطونيوس من قبل (CAH, p. 74) . ومعنى هذا أن مصر كانت قادرة بطبيعتها كإقليم غني ذو موقع استراتيجي على أن تكون ندا للإمبراطورية. ولم تكن هذه الندية عائدة إلى مجرد الإمكانات المادية والموقع الاستراتيجي، بل لأن فقدان مصر كان يكلف استعادة الإمبراطورية لها الكثير. فهي منعزلة في الركن الجنوبي الشرقي من حوض البحر المتوسط والمواصلات البرية إليها صعبة، إذ تحيط بها الصحاري من الشرق والغرب.

ومنذ عهد أغسطس كانت مصر تمد مدينة روما بثلثي احتياجاتها من القمح، ونستطيع تخيل حجم الإنتاج المصري من القمح عندما نعرف أن ما كان الرومان يأخذونه كضريبة عينية كان يغذي مدينة روما ومدينة الإسكندرية وحاميتها والجيش الروماني المنتشر في أنحاء مصر والهيكل الإداري الضخم الذي يدير شؤون البلاد، إذ كان لمصر أكبر جهاز إداري روماني في الإمبراطورية كلها. كذلك استطاع أغسطس أن يأخذ من مصر ما مقداره مؤونة أربعة أشهر لمدينة روما ولجيشه أثناء حربه مع سكستوس بومبيوس إبن بومبي الأكبر، وبذلك استطاع تعويض إنتاج المناطق التي انضمت لقوات بومبيوس. كذلك استخدم أغسطس موارد مصر لتمويل حملات عسكرية على الساحل الغربي للجزيرة العربية (الحجاز) للسيطرة على طريق التجارة مع الهند والحبشة (Chapot, p.244) ، وحملات أخرى على مناطق الأنباط في شرق الأردن كجزء من استراتيجية الرومان في إيجاد مناطق عازلة مفرغة من أي قوة تهدد حدودهم.

عندما حعل أغسطس مصر تحت الإشراف الإمبراطوري كان نظره بعيدا في ذلك، لأن مصر أثبتت أنها الورقة الرابحة والقاعدة التي استطاع عدد من الأباطرة الرومان بعد ذلك الاعتماد عليها في الوصول إلى العرش الإمبراطوري. ويبدو أن أغسطس أراد من مصر بخضوعها مباشرة للإمبراطور أن تكون سندا للمنصب الإمبراطوري في المستقبل وقاعدة يمكن الاعتماد عليها إذا واجه الأباطرة حربا أهلية أخرى أو مغامرين متمردين من الولايات الأخرى. وقد كان أغسطس نفسه معتمدا على مصر كقاعدة داعمة للمنصب الإمبراطوري، في حين كانت إيطاليا دائما تحت إشراف مجلس الشيوخ، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها إذا ما حدث صراع بين الإمبراطور ومجلس الشيوخ. وبالفعل كانت مصر عاملا حاسما في الصراع بين الفلافيين والكلوديين (68-70 م.) ، فقد تمكن فسباسيان في صراعه مع آخر أباطرة الأسرة الفلافية (جالبا وأوتو وفيتيليوس) من قطع إمداد القمح المصري عن الإمبراطورية والاعتماد على مصر في تجهيز جيش وأسطول تمكن به من هزيمة الفلافيين والوصول إلى العرش الإمبراطوري (Salmon, p.207) .

كما تمكن الرومان بفضل استيراد القمح المصري في القرن الأول الميلادي من تخصيص جزء كبير من زراعاتهم للكروم والمحاصيل التجارية الأخرى مما أنعش صناعات النبيذ والزيوت، وهذا ما أدى إلى تحسن أوضاع حلفاء روما الإيطاليين ومكنهم من المطالبة بحقوق المواطنة الرومانية الكاملة (Morley, p.88) . وأدى الانتعاش الاقتصادي الناتج عن التخصص في المحاصيل التجاريةإلى ازدياد الطلب على الذهب باعتباره وسيطا للتبادل، ولم يجد الرومان إلا ذهب البطالمة ومقابر الفراعنة للبحث عن ذهب جديد .
وظل الرومان في عصر الإمبراطورية يأخذون كميات ثابتة من القمح المصري كل سنة، وهي كمية محسوبة على أساس إنتاجية عالية للأرض، وبالتالي فعندما كانت مصر تواجه نقصا في إنتاجية المحصول كان ذلك على حساب الفلاحين، إذ نقص ما كان متوافرا لديهم للاستهلاك المحلي، بل إن تلك الكمية الثابتة أثرت على ما كان يدخره الفلاح المصري كبذور (Salmon, p. 93-94) . وكان الاستغلال الروماني للفلاح المصري أشد من استغلال البطالمة، وذلك نظرا لأن البطالمة كانوا مستقرين في مصر بينما كان الرومان يسحبون إنتاجية الأرض المصرية إلى الخارج، وهذا ما يفسر لنا كثرة ثورات المصريين ضد الحكم الروماني.

وفي حين أعطت الإمبراطورية درجة كبيرة من الاستقلال والحكم الذاتي لمدن وأقاليم عديدة في حوض البحر المتوسط، أنكرت على مصر أي درجة من الاستقلال، بل وضعت مجموعة من التوجيهات الخاصة للحاكم الروماني لمصر عرفت بمقننة الأيديوس لوجوس التي كانت قانونا صارما سيطر به الرومان على البناء الاجتماعي المصري وفرضوا على المصريين نظاما صارما من الشعائر الدينية. وفي القرن الثالث الميلادي بدأت ثورات المصريين تأخذ الطابع الديني مستخدمة الاستقلال عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وسيلة لتوكيد الخصوصية المصرية وبديلا عن الحكم الذاتي المدني. فعندما لم يستطع المصريون تحقيق درجة من الاستقلال المدني والحكم الذاتي في ظل الإمبراطورية مثلما تحقق للأقاليم الأخرى، حاولوا تحقيق ذلك على مستوى العقيدة والتنظيم الكنسي. وبذلك نشأت الكنيسة القبطية المصرية كمحاولة للاستقلال عن روما. لقد كانت حركة تأسيس الكنيسة القبطية المصرية أول حركة اعتراض على الكنيسة الكاثوليكية في تاريخ المسيحية، وسبقت الحركة البروتستانتية الأوروبية بـ 12 قرنا.

وليست هذه هي نهاية القصة، ففي دراستنا القادمة سوف تكون لنا وقفة مماثلة مع منتَج آخر للفلاح المصري وإمبراطورية أخرى: "الإمبراطورية البريطانية والقطن المصري".


المراجع


Caesar, The Civil War, Translated by John Carter (New York: Oxford University Press, 1998)
Cambridge Ancient History (CAH), Volume X: The Augustan Empire 43B.C-A.D69. (New York: Cambridge University Press :1996)
Cary, M., A History of Rome (London: Macmillan,1938)
Chapot, Victor. The Roman World (London: Routledge, 1998)
Kautsky, Karl. Foundations of Christianity (www.marxists.org/kautsky/works/christianity.html)
Morley, Neville. Metropolis and Hinetrland. The City of Rome and the Italian Economy 200BC-AD200 (London: Cambridge University Press, 1996)
Rostovtzeff, M,. Rome, translated by Elias Bickerman (New York: Oxford University Press,1960)
Salmon, Edward, A History of the Roman World 30BC to AD138 (London: Routledge,1995)
Syme, Ronald, The Roman Revolution (New York: Oxford University Press, 1960)
روستوفتزف، م.: تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي، الجزء الأول. ترجمة ومراجعة زكي علي ومحمد سليم سالم. مكتبة النهضة المصرية (د.ت)
لويس، نفتالي: مصر الرومانية. ترجمة فوزي مكاوي. الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 1994.
نصحي، إبراهيم: تاريخ الرومان، الجزء الثاني: عصر الثورة 133-43 ق.م. مكتبة الأنجلو المصرية 1998.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جلال عمارة يختبر نارين بيوتي في تحدي الثقة ???? سوشي ولا مصا


.. شرطي إسرائيلي يتعرض لعملية طعن في القدس على يد تركي قُتل إثر




.. بلافتة تحمل اسم الطفلة هند.. شاهد كيف اخترق طلاب مبنى بجامعة


.. تعرّف إلى قصة مضيفة الطيران التي أصبحت رئيسة الخطوط الجوية ا




.. أسترازنيكا.. سبب للجلطات الدموية