الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
فلسفة الشوارع المصريّة : فلسفة مواقف ، وتفكر إنسانيّ.
عزالدين محمد ابوبكر
2025 / 3 / 24الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع

فلسفة الشوارع المصريّة ؛ هي بكل بساطة طريقة تفكير شعبيّة ، ليس لها مرجعيّة نصيّة ، لكنها حاضرة وموجودة بقوة في الحياة اليوميّة ؛ وهي حكمة تمتاز بـ العفويّة ، والسخريّة ، والعمليّة ، لأنها نابعة من التجربة الحياتيّة للبسطاء ، من الناس ؛ وهذه الفلسفة ليست مجرد نظريات أكاديميّة ، ولا يمكن حصرها في إطار تلك النظريّات ؛ لأنها طريقة تعامل ذكية مع المواقف الوجوديّة ، حيث تتدخل الفهلوة ، والسخريّة ، والقدرة على الحياة وسط عبثيّة الحياة ، وهذه الفلسفة هي فلسفة مكانها ، هو الإنسان (لأنها منهُ وإليه) ؛ ويمارسها الناس في الأسواق ، والمواصلات ، والمقاهي ، سواء بوعي أو بدون وعي ؛ وتعبر عنها العبارات المكتوبة على الميكروباصات ، والتكاتك ، وكذلك التعليقات العفويّة التي تُقال في اللحظاتِ الجديّة والهزليّة.
وفلسفة الشوارع المصرية ، هي فلسفة إنسانية مرجعيتها شفويّة ، وليست نصيّة ؛ وهي نوع من الأدب الـ"شفويّ" ، والأدب كما يعرفه الناس ، هو كل ما يصل إلى الإنسان بهيئة رسائل (من إنسان إلى آخر) ، أي أنه شيء ما؟ مكتوب ، أو مطبوع ينتقل من العين إلى الأعصاب ليفسره الدماغ ، إلاّ أن الأدب في هذه الأيام ، قد تغير مع تغير الزمن والأذواق ، حيث إنه يصل إلى الإنسان الفرد الموجود بأوجه متباينة ، من خلال قنوات متنوعة وأعضاء حسيّة مختلفة ؛ حيث يتذوق المرء الفن في عصرنا هذا صوتيًا ، أو بصريًا ، أو نصيًا ، لأن النص إن كان له مقصد أو رسالة فهو فن ؛ ومن هذه النقطة يتبين أن الفلسفة فن للحياة.
وبما أن الفلسفة فن للحياة ، إذن لقراءة الفلسفة متعة ؛ بحكم أنها نتاج فكر وعمل ، وأدب ؛ والقول بـ أن نصًا ما؟ هو نص أدبي ، يعني أنه يقدم لقارئه المتعة ، سواء كان ذلك عن طريق الصياغة أو المعنى أو الدلالة ؛ حيث يمكن تعريف مصادر المتعة ، في الخطاب الأدبي بوصفها مواد القدرة الاتصالية ، وتقدم الكلمات الأدبيّة سواء كانت مكتوبة أو محكيّة ، متعة للقارئ موفرة له فرصة استخدام كامل نطاق قدرته ، في القيام بـ العمليّة التذوقيّة التأويليّة للكلمات والعبارات الأدبيّة ، و وظيفة العلوم الإنسانيّة هي دراسة وتفسير هذه الكلمات والعبارات ؛ حيث يمكن تعريف العلوم الإنسانية بأنها تلك الفروع المكرّسة في الأساس لدراسة النصوص والتراث المحكي ، وكما تركز العلوم الطبيعيّة على ظواهر الطبيعة ، تركز العلوم الاجتماعيّة على سلوك الكائنات الواعيّة ، وترتبط الإنسانيّات باهتمامها المشترك ، بالموضوعات الاتصاليّة أو النصوص ، وفي العلوم الإنسانيّة نجد أن الكائنات البشريّة حيوانات منتجة للنصوص ، وتلك الفروع المسماة «إنسانيّة» تلتزم أساساً بتحليل ، وتأويل ، وتقييم ، وعندما توجد نصوص ، توجد فرص للدراسة البشريّة ، ومن ما سبق يتبين لنا أن كلمات ومقولات ، فلسفة الشوارع المصريّة ؛ يمكن دراستها سيميائياً ، وأنثروبولوجيًا ، وفلسفياً ، وسوسيولوجياً ... لأن بها معارف إنسانيّة.
ومثلما يجب على كل فيلسوف أن يثير قضايا الفكر والوجود لحسابه الخاص ، وكأن الفلسفة تظهر للوجود أول مرة على يدّيه ؛ يجب على فيلسوف الشارع المصريّ أن يقوم بـ ذلك ، عن طريق إعادة استخدام وتداول مقولات سابقيه من الأفراد ، ولا حيّاة للفلسفة إن لم يحاول الإنسان أن يفلسف حياته ، ويحيا فلسفته في وجوده الأصيل ؛ ولا قيام للتفكير الفلسفيّ الحقيقيّ إن لم نجعل نقطة انطلاقنا هي الإنسان نفسه ، بوصفه ذلك الموجود الذي لا يكاد يكف عن وضع نفسه موضع التساؤل ، والإنسان لا يستطيع أن يستغني عن الفلسفة ، هذا ما قالة الفيلسوف كارل ياسبرز ؛ بسبب أنه يجدها (أي: الفلسفة) في كل مكان وزمان ، وبسبب أنها تتخذ لنفسها شكلًا عامّا ، في الأمثال التقليديّة ، وفي صيغ الحِكم الشائعة ، وفي النظريّات العلميّة والسياسيّة ، وبصورة خاصة في الأساطير منذ فجر التاريخ (لأن الأسطورة نتاج من نتائج تفكير الإنسان) ، ويختم ياسبرز قوله هذا بـ جملة "لا مـفـرَّ لـلإنـسـان مـن الـفـلـسـفـة" ، لأن عمليّة التفكير المنظمة أو الرؤية الخاصة للوجود ، هي فلسفة وكل فلسفة تضع الإنسان محوراً لها ؛ هي فلسفة إنسانيّة.
ومن أهم أفكار فلسفة الشوارع المصريّة:
• العبثيّة والقدر : حيث يرى فيلسوف الشارع المصريّ أن الحياة ليست عادلة ، لكنها مستمرة (ماشية) ، وهذا لكي لا يغرق في بحر الحزن والعدميّة ، ويستخدم فيلسوفنا هذا السخريّة والتهكم ، كـ وسيلة أو أداة للتكيف ، وسبق وقلت أن فلسفة الشوارع المصريّة ، هي فلسفة بدون كتب أي ليس لها مرجع أو كتاب ؛ لأن مرجعها هو الإنسان ، وكتابها هو حياة ذلك الإنسان ، ولهذه الفلسفة عبارات/مقولات يقولها الفيلسوف ، من أجل أن يتكيف مع الواقع والوجود ، ومن أمثلة هذه العبارات الأقوال التاليّة : «الدنيا مدرسة ... بس المصاريف غاليه!» ، «اتوكلنا على المولى ، ورمينا الحموله» ، «طول ما احنا بنكبرها ... ربنا بيخلينا ما نعبرها».
• الفهلوة والنجاة : وهنا نجد شعاراً عاماً يؤمن به كل الأفراد ألا وهو " امشي جنب الحيط ، يحتار عدوّك فيك ، وعمره ما يفكر يئزيك" ؛ حيث يشير هذا الشعار او المثل إلى أن الفرد الذي لا يثير انتباه أعدائه في حياته ، يصبح موجوداً بدون ضرر يصيبه ، لكن في هذا المثل إشكال ؛ وهو أن الفرد الذي لا يثير انتباه أعدائه لن يصل إلى هدفه ، ولن يعرف شكل وجوده الأصيل ، بسبب خوفه من من تيقظ عدوه له ، ونعرف من هنا أن الفهلوة ، ليست فقط ذكاء ، بل "وسيلة للبقاء في عالم عبثي" ، والفهلوة هي مزيج بين الحذر والمغامره ، بين القانون ، والالتفاف عليه ، ومن التعبيرات التي تشير إلى الفهلوة والنجاة : «اللي تغلب بيه ، العب بيه» ، «الرزق يحب الخفيه ... وساعات الدلع والحنية» ، «متبصليش يا عبيط ، جايبها بالتقسيط».
• السخريّة من السلطة والتقاليد : حيث يكون الفرد ، مثل الفيلسوف سقراط يسخر من المتحذلقين الذين يدّعون المعرفة ، ليس بسبب معرفته الكبيرة ، لأن أغلب العاملين بفلسفة الشوارع لا يجيدون القراءة ، ولم يأخذوا القدر الكافي من التعليم ، بل بسبب تخلف المتحذلقين عن الواقع وجهلهم بالوجود ، وفرص الإنسان ، ومن مقولات السخريّة : «العقل زينة ... بس إحنا شكلنا بنحطه في الدرج!» ، «اللي يعرف مصلحته ، مش شرط يكون فاهم!» ، وهكذا يظهر لنا طيف سقراط في فلسفة الشوارع المصريّة ، لأنها عمليّة ومرنّه ، وليست بحثاً عن "الحقيقة المطلقة" ، بل هي فن النجاة ، والحياة ، وسط العبث ؛ باستخدام الذكاء ، والسخريّة ، والفهلوة ، وفلسفة الشوارع المصريّة ، هي فلسفة شعبيه تحيا بين المقاومة والانكسار ، وشعارها منهاضة العبثية "إحنا عارفين إن الدنيا خرابه ... بس هنعيشها بطريقتنا!" ، إنها فلسفة الشارع ؛ فلسفة ليس لها كتاب ، وليس لها أكاديميّة ؛ لأنها فلسفة إنسانية ، لكن لديها فلاسفة مَن هم؟ إنهم البروليتاريين المصريين!
يتبع...
مصادر تم استخدامها في بناء المقال :
- صـ ٢٠ ، ١٣٠ ، ١٣١ ، السيمياء والتأويل ، تأليف روبرت شولز ، ترجمة سعيد الغانمي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، الطبعة الأولى–١٩٩٤ ، بيروت.
- صـ ٥١٥٢ ، فلسفة الحياة : دراسة الفكر والوجود ، تأليف أنس عبده شكشك ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى–٢٠٠٩ ، الأردن.
- صـ ١٥١٦ ، مدخل إلى الفلسفة ، تأليف كارل يسپرز ، ترجمة جورج صدقني ، الناشر مكتبة أطلس ، طبعة أولى–.... ، دمشق.
- بعض الكتابات المدونة على زجاج ميكروباصات المانشية والهانوڤيل ، وكلمات من رجال الشارع.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. لقاء ترامب نتانياهو عن غزة، ومعالم الشرق الأوسط الجديد

.. أسطورة بأسلوب حديث، ووندرمان أبسولوت الحديثة • فرانس 24 / FR

.. ترامب يتوعد مجموعة بريكس برسوم جديدة.. ما رد روسيا والصين؟ |

.. عضو الكنيست رام بن براك: كل يوم إضافي في غزة يؤدي إلى تآكل ا

.. ترمب: لا أعتقد أن هناك عراقيل أمام وقف إطلاق النار بين حماس
