الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوعي المثقف: مرض ودواء في قبو دوستويفسكي

الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي

(Echahby Ahmed)

2025 / 3 / 24
قضايا ثقافية


يقول فيودور دوستوفيسكي في رواية "في قبوي" : " أقسم لكم سادتي بأغلظ الإيمان ، بأن الافراط بإمتلاك الوعي ما هو إلا علة ، علة مرضيه حقيقيه وتامة ، إني مقتنع اقتناعا راسخا ، بكون اتساع مدارك الوعي ، وكل وعي مهما كان ، ما هو إلا مرض ..."

فيودور دوستويفسكي، في روايته "في قبوي"، يقدم فكرة صادمة وعميقة في آنٍ معًا حين يصف الوعي البشري بأنه مرض، ليس مجرد حالة عابرة أو اضطراب طفيف، بل مرض حقيقي وكامل الأوصاف. هذا التصور ليس مجرد تعبير أدبي بليغ، بل هو دعوة للتأمل في طبيعة الإنسان ذاته، في تلك القوة التي تميزه عن غيره من الكائنات، والتي في الوقت ذاته قد تكون مصدر تعاسته الأكبر. عندما يضع دوستويفسكي هذا الطرح على لسان بطل روايته، الرجل الذي يعيش في قبو ذهني ووجودي، فإنه يفتح أمامنا بابًا لاستكشاف واحدة من أعقد الإشكاليات الفلسفية والنفسية: هل الوعي المفرط نعمة ترفع الإنسان إلى آفاق التفكير العميق والإبداع، أم لعنة تسحقه تحت وطأة الأسئلة التي لا تنتهي والقلق الذي لا يهدأ؟ وهل يمكن أن يكون هذا الوعي، الذي نعتبره جوهر الإنسانية، في حقيقته سلاحًا ذا حدين يقطع صاحبه قبل أن يقطع غيره؟

الوعي هو تلك الشرارة التي أضاءت عقل الإنسان، جعلته قادرًا على التفكير في ذاته، في العالم، في الماضي والمستقبل. إنه ما يمنحه القدرة على اختيار مصيره، أو على الأقل الشعور بأن له يدًا في تشكيله. لكن هذا الامتياز يأتي بثمن باهظ. ففي اللحظة التي يدرك فيها الإنسان وجوده، يدرك أيضًا حدود هذا الوجود: ضعفه أمام الطبيعة، فناء جسده، وأحيانًا عبثية سعيه وراء معنى قد لا يكون موجودًا أصلًا. الإنسان قليل الوعي، ذلك الذي يعيش يومه دون أن يثقله التفكير في الأسئلة الكبرى، قد يبدو أكثر سلامًا داخليًا، أكثر انسجامًا مع إيقاع الحياة الطبيعي. إنه لا يتوقف ليسأل: لماذا أنا هنا؟ إلى أين أذهب؟ ما الذي يجعل كل هذا جديرًا بالعناء؟ في المقابل، الإنسان ذو الوعي الحاد يجد نفسه في مواجهة دائمة مع هذه الأسئلة، محاصرًا في متاهة من التأملات التي قد لا تقوده إلى مخرج، بل إلى مزيد من الضياع. دوستويفسكي، من خلال هذا المنظور، لا ينفي قيمة الوعي، لكنه يحذر من خطورته حين يصبح مفرطًا، حين يتحول إلى هوس بالفهم والإدراك دون أن يترافق مع قدرة على الفعل أو التغيير.

هذا التصور يتجاوز حدود الأدب ليتقاطع مع الفلسفة الوجودية التي ازدهرت في القرن العشرين. جان بول سارتر، على سبيل المثال، تحدث عن الحرية المطلقة للإنسان، تلك الحرية التي تجعله مسؤولًا عن كل اختيار يتخذه، وعن كل معنى يصنعه في حياته. لكن هذه الحرية، التي تبدو في ظاهرها هبة عظيمة، تتحول إلى عبء ثقيل عندما يدرك الإنسان أنه وحيد في مواجهة هذا العالم، دون خريطة واضحة أو إجابات جاهزة. الوعي هنا يصبح مرادفًا للقلق، لأنه يكشف للإنسان مساحات الفراغ التي تحيط بوجوده، ويجبره على أن ينظر إلى هاوية لا قرار لها. نيتشه، من جهة أخرى، يقدم زاوية مختلفة قليلًا ولكنها مكملة. ففي رؤيته، الحقيقة العارية قد تكون مدمرة إلى درجة أن الإنسان بحاجة إلى الأوهام، إلى الفن والخيال، كي يتمكن من تحمل ثقل الحياة. الوعي المفرط عند نيتشه قد يكون كالشمس التي تحرق العينين بدلاً من أن تضيء الطريق، مما يجعل الإنسان في حاجة إلى أن يغمض عينيه أحيانًا ليستعيد توازنه.

من منظور نفسي، يمكننا أن نجد صدى لهذه الفكرة في أعمال سيغموند فرويد، الذي رأى أن الإنسان يعيش في صراع دائم بين وعيه ولاوعيه، بين رغباته العميقة وقيود الواقع الاجتماعي. الشخص الذي يمتلك وعيًا كاملاً بهذا الصراع قد يجد نفسه مشلولًا، غير قادر على اتخاذ قرارات حاسمة لأنه يرى كل الاحتمالات الممكنة، بما فيها تلك السلبية والمدمرة. ليس من المستغرب إذن أن نجد ارتباطًا وثيقًا بين الوعي المفرط وبين حالات مثل الاكتئاب والقلق. الأشخاص الذين يتمتعون بحساسية عالية تجاه ذواتهم وتجاه العالم من حولهم غالبًا ما يجدون صعوبة في التكيف مع بساطة الحياة اليومية، لأن عقولهم لا تتوقف عن الحفر في أعماق الأشياء، عن البحث عن المعاني حتى حين لا تكون هناك معانٍ واضحة. هذا النوع من الوعي قد يجعل الإنسان يشعر بأنه غريب في عالم لا يشاركه نفس العمق أو نفس القلق.

ورغم كل هذه السوداوية التي قد يحملها طرح دوستويفسكي، فإن هناك وجهًا آخر للوعي لا يمكن تجاهله. فهو، على الرغم من كونه مرضًا، قد يكون أيضًا الدواء الوحيد الذي يملكه الإنسان في مواجهة العبثية والمجهول. الوعي هو ما يسمح للإنسان بأن يبدع، أن يخلق الفن والأدب والفلسفة، أن يقاوم الفراغ بأدوات من صنعه. بل إن القدرة على السخرية من الواقع، تلك السخرية التي نجدها في كتابات دوستويفسكي نفسه، هي نتاج وعي عميق يرفض الاستسلام لليأس. الوعي قد يجلب الألم، لكنه أيضًا يمنح الإنسان أدوات لفهم هذا الألم، لتحويله إلى شيء ذي معنى، أو على الأقل للتعايش معه. إنه كالنار التي تحرق وتدفئ في آنٍ معًا، حسب كيفية استخدامها.

ربما تكمن المشكلة الحقيقية ليست في الوعي نفسه، بل في كيفية التعامل معه. الإفراط في الوعي دون توازن قد يقود إلى الانهيار، لكن الوعي المعتدل، الذي يترافق مع قدر من القبول أو حتى اللامبالاة الواعية، قد يكون مفتاحًا للنجاة. الإنسان بحاجة إلى أن يدرك واقعه، لكنه بحاجة أيضًا إلى أن يترك مساحة للحياة كي تتدفق دون أن يحاصرها بالتفكير المستمر. مثلما يحتاج الجسد إلى الراحة بعد المرض كي يستعيد قوته، فإن العقل بحاجة إلى لحظات من اللاوعي، من البساطة، كي يتمكن من تحمل ثقل الوجود. وكما أن المرض قد يقتل في لحظة ضعف، لكنه أيضًا قد يمنح مناعة في لحظة تعافٍ، فإن الوعي قد يكون عبئًا ثقيلًا، لكنه أيضًا ما يجعل الإنسان قادرًا على تجاوز آلامه، على أن يكون أكثر إنسانية في مواجهة عالم لا يرحم.

في النهاية، يتركنا دوستويفسكي مع هذا السؤال المعلق: هل الوعي مرض لا شفاء منه، أم أنه الجرح الذي ينزف والدواء الذي يشفي في الوقت ذاته؟ ربما تكون الإجابة في أن نتقبل هذا التناقض، أن نعيش مع الوعي كما نعيش مع أنفسنا، بحذر وحب، بقلق وأمل، في قبو العقل الذي لا مفر منه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تسحب مئات الجنود من سوريا | الأخبار


.. رويدة شاهين تصدم هشام حداد وتقلده بطريقة ساخرة جداً




.. أميركا تمنح أوروبا دورا أكبر في تسوية أزمة أوكرانيا.. لماذا


.. فوق السلطة 437 - حمار الجيزة قضية رأي عام والمحرقة متواصلة ب




.. تأملات - تأملات في سورة الكهف ووقفة مع مذاهب العرب في التسمي