الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
جوديث بتلر وتفكيك وهم الهوية: الجندر بين الأداء والسلطة
حمدي سيد محمد محمود
2025 / 3 / 25الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع

د.حمدي سيد محمد محمود
تعد الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر (Judith Butler) واحدة من أكثر المفكرين تأثيرًا في الفكر النسوي المعاصر ونظرية الجندر، حيث أسهمت بشكل جذري في تفكيك التصورات التقليدية عن الهوية الجنسية والجندرية، مقدمةً رؤية فلسفية تشتبك مع الميراث الثقافي الغربي، وتعيد تشكيل فهمنا للذات والسلطة والمجتمع. فمن خلال كتابها الشهير "مشاكل الجندر: النسوية وتقويض الهوية" (Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity) الصادر عام 1990، أحدثت انقلابًا فكريًا في مفهوم الجندر، حيث رفضت النظر إليه باعتباره خاصية ثابتة بيولوجيًا أو حتى ثقافيًا، بل طرحته كأداء متكرر ومؤسس اجتماعيًا، ما قادها إلى بلورة مفهومها الشهير عن الجندر بوصفه أداءً (Performativity).
الجندر بوصفه بناءً اجتماعياً وأداءً ثقافيًا
انطلقت بتلر من نقدها العميق للنظرية النسوية التقليدية التي افترضت وجود هوية أنثوية متماسكة ومستقرة، مؤكدةً أن مثل هذه الهوية ليست إلا نتاجًا لسرديات ثقافية مهيمنة. وفقًا لها، فإن الجندر ليس جوهرًا متأصلًا في الفرد، بل هو سلسلة من الأفعال المتكررة والتأديات (Performances) التي تخلق وهم الثبات والاستمرارية. من خلال هذه الفكرة، قلبت بتلر التصور القائم الذي يفترض أن الهوية الجنسية (ذكر أو أنثى) تحدد الجندر (رجولة أو أنوثة)، مؤكدةً أن العكس هو الصحيح: الأفعال والتقاليد الاجتماعية هي التي تصنع الجندر، وليس العوامل البيولوجية وحدها.
يتضح في هذا السياق تأثر بتلر العميق بالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، خصوصًا في تحليله للسلطة والمعرفة. فقد استلهمت منه فكرة أن الهويات لا تتشكل بمعزل عن علاقات القوة، بل هي نتاج خطاب سلطوي يعمل على تحديد المقبول والمرفوض داخل المجتمع. من هنا، لم تكتفِ بتلر بتفكيك مفهوم الجندر، بل وسّعت نظريتها لتشمل الأطر السياسية والثقافية التي تنتج هذه الفروقات وتعيد إنتاجها، ما جعلها تقف في مواجهة ثنائية الذكر/الأنثى، مؤكدةً أن هذه الثنائية ليست سوى أداة اجتماعية لضبط الأجساد وضمان الامتثال للنظم الأبوية.
إسهاماتها في الفكر السياسي والنظري النقدي
لم تكن أفكار بتلر حول الجندر منفصلة عن مشروعها السياسي الواسع، بل شكلت جزءًا أساسيًا من رؤيتها الناقدة للسلطة والقمع والاستبعاد الاجتماعي. ففي أعمالها اللاحقة، مثل "أجساد ذات أهمية: على حدود الجندر والجنسانية" (Bodies That Matter: On the Discursive-limit-s of “Sex”)، قامت بتوسيع مفهومها عن "الأداء الجندري" ليشمل كيف يتم إنتاج الأجساد في الخطاب السياسي، مشيرةً إلى أن النظام الاجتماعي لا يكتفي بتحديد الجندر، بل يقرر أيضًا من له الحق في الاعتراف به ككائن بشري كامل الحقوق.
في هذا السياق، اشتبكت بتلر مع سياسات الهوية، مؤكدةً أن تبني هويات جندرية صلبة قد يعزز القمع بدلًا من مقاومته. فقد رفضت فكرة أن هناك "نموذجًا أنثويًا" يجب أن تدافع عنه الحركة النسوية، مشددةً على ضرورة تبني سياسات مرنة وغير معيارية تستوعب التنوع بدلاً من إعادة إنتاج الحدود الاجتماعية القديمة. هذا النقد لسياسات الهوية انعكس أيضًا في أعمالها السياسية الأكثر مباشرة، مثل "الحياة القابلة للحزن" (Precarious Life) و*"تأطير الحرب: متى تكون الحياة قابلة للحزن؟"* (Frames of War: When Is Life Grievable?)، حيث حللت كيف تُستخدم التصنيفات الجندرية والجنسية والسياسية في تحديد من يُعتبر إنسانًا كاملًا ومن يُعامل باعتباره "حياة قابلة للإقصاء".
أثرها في الحركات النسوية والسياسات الجندرية
كان لأفكار بتلر تأثير هائل على الحركات النسوية والكويرية، حيث ألهمت الناشطين لإعادة التفكير في معنى الهوية والتحرر. فقد ساهم نقدها لفكرة "المرأة كهوية موحدة" في توسيع النقاش داخل الحركة النسوية، مما أدى إلى صعود النسوية التقاطعية (Intersectional Feminism) التي تراعي التداخل بين الجندر والعرق والطبقة والجنسانية في تشكيل تجارب القمع. كما أن أعمالها كانت حجر الأساس في ظهور الدراسات الكويرية (Queer Studies)، حيث قدمت رؤية أكثر سيولة وغير معيارية للهويات الجنسية، ما فتح المجال أمام تحدي المعايير الاجتماعية التقليدية حول الذكورة والأنوثة.
إلى جانب ذلك، كان لبتلر حضور قوي في النضالات السياسية، فقد عُرفت بدفاعها عن حقوق المثليين والمتحولين جنسيًا، وانتقادها لسياسات الولايات المتحدة الخارجية، خصوصًا في قضايا الشرق الأوسط، حيث كانت من الأصوات التي أدانت الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. كما عارضت التدخلات العسكرية الأمريكية، واعتبرت أن الحرب تعيد إنتاج أنماط قمعية مشابهة لتلك التي تفرضها الأبوية على الأفراد والمجتمعات.
تفكيك التفكيك – نقد أطروحات جوديث بتلر
لا شك أن جوديث بتلر قد أحدثت ثورة فكرية في دراسة الجندر والهوية، وساهمت في زعزعة التصورات التقليدية حول الذكورة والأنوثة، إلا أن مقاربتها لا تخلو من إشكاليات جوهرية تستدعي النقد العميق، خصوصًا فيما يتعلق بحقوق المثليين والمتحولين جنسيًا. فرغم أنها سعت إلى تفكيك القوالب الجندرية، إلا أن أطروحتها حول الجندر كأداء اجتماعي محض تطرح تساؤلات حول مدى واقعيتها وإمكانية تطبيقها في سياقات اجتماعية وقانونية مختلفة.
أولاً، إن تبني رؤية بتلر قد يؤدي إلى إلغاء مفهوم الهوية نفسه، مما قد يقوّض الجهود القانونية والسياسية التي تستند إلى الاعتراف بالهويات الجندرية والجنسانية كجزء من حقوق الإنسان. فبينما تسعى الحركات المدافعة عن حقوق المثليين والمتحولين جنسيًا إلى تحقيق الاعتراف القانوني بوجودهم وبحقهم في الحماية، تقدم بتلر خطابًا يذوب فيه مفهوم الهوية إلى درجة تضعف إمكانية بناء نضال حقوقي واضح المعالم. فإذا كان الجندر مجرد أداء اجتماعي متغير، فما الأساس الذي يمكن أن تستند إليه الحركات المدافعة عن هذه الفئات للمطالبة بحقوقها؟
ثانيًا، يواجه تصور بتلر حول الجندر بوصفه "أداءً" خطر الانفصال عن الواقع المادي للأجساد. فرغم نقدها للتمييز البيولوجي الصارم بين الذكر والأنثى، فإن تجاهلها للتكوين البيولوجي قد يؤدي إلى طمس الفروق الطبيعية التي تلعب دورًا في فهم الصحة، والتكوين الجسدي، وحتى الأدوار الاجتماعية. ففي حين أن هذه الفروق لا تبرر التمييز، إلا أن إلغاؤها تمامًا قد يخلق فجوة بين الخطاب الأكاديمي والنقاشات السياسية والاجتماعية على أرض الواقع.
ثالثًا، تُثير مقاربة بتلر إشكاليات فلسفية وأخلاقية فيما يتعلق بالحدود بين الحرية الفردية والمعايير الاجتماعية. فبينما تدعو إلى تفكيك جميع الأطر الجندرية، قد يؤدي ذلك إلى خلق حالة من السيولة الأخلاقية التي تجعل أي نقد لأي ممارسة اجتماعية أو ثقافية يُصنف على الفور كتعبير عن "قمع" أو "رفض للآخر". وهنا، يبرز التساؤل: هل يمكن لمجتمع أن يستمر دون أي حدود أخلاقية أو معيارية تُنظم العلاقات بين أفراده؟
في النهاية، يمكن القول إن رؤية بتلر، رغم عمقها النظري وتأثيرها الواسع، تظل جزءًا من خطاب نقدي غير قادر على تقديم بديل مستقر يمكن تطبيقه عمليًا في السياقات الحقوقية والاجتماعية. إن تفكيك الهويات قد يكون مفيدًا لفهم طبيعة السلطة وآليات القمع، لكنه في الوقت ذاته قد يقوض الأسس التي تستند إليها الحركات الحقوقية في نضالها من أجل تحقيق العدالة والمساواة. وبينما يبقى نقد النظام الأبوي والتمييز الجندري أمرًا ضروريًا، فإن القفز إلى إلغاء الهويات بشكل كامل قد يكون خطوة تفضي إلى الفوضى بدلًا من التحرر الحقيقي.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. عراقجي في الصين ومحادثات إيرانية - أميركية السبت ...ما فرص ا

.. فرق الإطفاء تسابق الزمن لإخماد حرائق الغابات في نيوجيرسي الت

.. محمود عباس يسب حماس بلفظ لاذع بسبب الرهائن.. ما الرد المتوقع

.. كابوس الانهيار يهدد بريطانيا.. فهل تسقط عن عرشها كقوة عظمى؟

.. خلافات داخل الحكومة الإسرائيلية حول توسيع العملية العسكرية ف
