الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقالات وجودية: نظريّة المراحل عند كيركجور

عزالدين محمد ابوبكر

2025 / 3 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نظريّة المراحل عند كيركجور ؛ هي واحدة من أهم أفكاره الفلسفيّة ، حيث قد طرح فيها رؤيته عن الإنسان ، التي ترى أن الإنسان يمر بثلاث مراحل من الوجود ، في رحلته نحو تحقيق ذاته والاقتراب من الحقيقة ؛ وهذه المراحل هي المرحلة الجماليّة ، المرحلة الأخلاقيّة ، والمرحلة الدينيّة ، وكل مرحلة تمثل نمط مختلف لفهم الحياة ومعناها ، ولكل مرحلة تناقضاتها الديالكتيكيّة الخاصة ، مما يجعل الانتقال من مرحلة إلى أخرى بمثابة قفزة وجوديّة.

ويرى كيركجور أن الوجود ليس ثابتًا ، بل هو رحلة وجوديّة تتطور من خلال ثلاثة مراحل أساسيّة ، و أول هذه المراحل ؛ المرحلة الجماليّة ، حيث يكون الإنسان في هذه المرحلة يعيش حياة قائمة على اللذة والمتعة والهروب من الألم ، والإنسان هكذا لا يهتم بالمعنى العميق للحياة ، بل يبحث عن "الإشباع اللّحظيّ" ؛ لكن في هذه المرحلة مشكلة ، ألا وهي أن المتعة واللذة دائماً ما يكونا مؤقتين ؛ أيّ ليسا دائمين ، وهذا يؤدي إلى الملل ، الذي يؤدي بدوره إلى الفراغ الداخليّ ، مما يجعل الإنسان يقع في الأزمة الوجوديّة (سبق ووقعت فيها ؛ والجو هناك مظلم بالمناسبة) ، وفي المرحلة الجماليّة ، يكون الإنسان مركزًا على اللحظة الراهنة واللذة الشخصيّة ، لكنه يهتم بـ التجارب الحسيّة هنا دون الالتزام بـ مبادئ ثابتة أو قيم دائمة ، حيث يرى الفرد المّار بـ المرحلة الجماليّة ، أن الحياة يمكن اعتبارها نوعًا من "اللعب" ، حيث أن الفرد المّار بالمرحلة دائماً ما يكون باحثاً عن الإثارة والمتعة (دون جوان)* ، لكنه في ذات الوقت يُعاني من فراغ داخليّ ، ونقص في العمق عند مواجهة الأسئلة الوجوديّة الكبرى ، ومن الناحية الفينومينولوجية نجد أن هذه المرحلة تُبرز ، كيف يمكن للتجارب الحسيّة أن تُشكّل الإدراك الأوليّ للواقع ، لكنها تُركّز على الظواهر السطحيّة دون التعمق في جوهر الوجود.

وبعدما ينتهي الفرد المهتم بالحقيقة والوجود ، من المرور على المرحلة الجماليّة ، نجده داخلاً على المرحلة الأخلاقيّة ؛ ويكون الفرد في هذه المرحلة مهتمًا على عكس المرحلة السابقة ، بالاعتراف بقيمة المبادئ والأخلاق ، حيث يبدأ بتحمل المسؤولية واتخاذ القرارات التي تنبع من معايير موضوعية وأخلاقيّة ، و يكون الالتزام بالواجب والأخلاق قاعدة أساسية في حياته ، ويُدرك أن السعادة الفرديّة لا تُستمد من اللذة اللحظيّة فقط ، بل من تحقيق معنى أعمق ومسؤولية تجاه الذات ، ومن الناحية الفينومينولوجية ؛ يمكن فهم هذه المرحلة على أنها تحول من إدراك أكثر تعمقّا يرتبط بالضمير والواجب ، حيث يُعيد الفرد تشكيل تجربته الذاتيّة بناءًا على معايير أخلاقيّة تتجاوز الإشباع اللّحظيّ ، من أجل جعل فهم الفرد أكثر عمقًا بالوجود ، وسبب هذا وعلته ؛ هو أن الحياة تحتاج إلى معنى أعمق ، فيبدأ في تبنيه لأفكار وقيم أخلاقيّة ، والتزامات أكثر ارتباطاً بالمسؤولية ، ويرى الفرد نفسه ككائن ”أخلاقيّ“ ، يحاول أن يكون "إنسانًا جيدًا" ، لكن هذه المرحلة مثلها مثل السابقة ، حيث أن مشكلة هذه المرحلة هي أن الإنسان لا يستطيع تحقيق الكمال الأخلاقيّ ؛ لأن الأخلاقيّ ممل في الفلسفة ، مثلما هو كذلك في الحياة ، ومن هنا يبدأ في الدخول في أزمة وجوديّة جديدة.

ومن هذه الأزمة الوجوديّة ، نجد الفرد خارجًا من الأخلاقيّ إلى الدينيّ ، و المرحلة الدينيّة تُعتبر ذروة رحلة الذات عند كيركجور ، حيث يعني انطلاق الفرد إلى هذه المرحلة ، الوصول إلى مستوى من العلاقة مع المطلق أو الإلهيّ ، حيث في هذه المرحلة ، يتطلب التطور وجود "قفزة إيمانيّة" تتجاوز العقل والمنطق ، حيث يُصبح الإيمان الشخصيّ والتجربة الدينيّة بمثابة أساس للحياة والمعنى ، ومن وجهة نظر فينومينولوجيّة ؛ تُظهر هذه المرحلة كيف أن التجربة الدينيّة تتضمن طابعًا فرديًا وعميقًا ، ويكون اختزالها في هيئة نظام منطقيّ أو قيميّ موحد ثابت صعباً ، فالإيمان هنا يُعد تجربة جوهريّة ، تُغير من طبيعة إدراك الفرد للواقع وتفتح أمامه أبوابًا للتجارب الذاتيّة غير محددة بـ قوالب مسبقة.

وبخصوص عمليّة الإنتقال بين المراحل ؛ نجد أن عمليّة الإنتقال من مرحلة إلى أخرى لا تُعتبر خطوة آليّة أو صيرورة خطيّة ؛ حيث يعتقد كيركجور أن الإنتقال من مرحلة إلى أخرى يحدث عبر ”أزمة وجوديّة “ ؛ حيث يُدرك الإنسان فجأة عدم كفايّة المرحلة التي يعيشها ، ويشعر بالحاجة إلى تجاوزها ، مثل عمليّة الإنتقال من المرحلة الجماليّة إلى الأخلاقيّة ، ويحدث هذا عندما يشعر الإنسان بالملل ، و يُدرك أن الحياة التي تعتمد على المتعة فقط ، لا تمنحه معنى حقيقيًا ، والانتقال من المرحلة الأخلاقيّة إلى الدينيّة ، يحدث عندما يُدرك الإنسان أنه حتى الأخلاق لا تكفي ، لأن العقل وحده لا يستطيع مواجهة التحديات العميقة مثل الخطيئة ، والمعاناة ، وهنا يشعر الإنسان بـ الحاجة إلى الإيمان ، ومن ما سبق يتبين أن كل انتقال في نظر كيركجور هو قفزة وجوديّة ، وليس مجرد تطور منطقيّ أو طبيعيّ.

ويرى كيركجور أن هذه المراحل ، هي طرق مختلفة لمواجهة الحياة والمعنى ، وليست مجرد تصنيفات نظريّة ، وبالتالي فإن الشخص الذي يحيا في المرحلة الجماليّة ، يرى العالم كـ مساحة للمتعة والهروب من الواقع أو الألم ، وبالمثل فإن الشخص الذي في المرحلة الأخلاقيّة يرى العالم كـ مساحة الواجب ، والمسؤولية ، والتضحية ، والشخص الذي في المرحلة الدينيّة يرى العالم كـ مساحة للإيمان والعلاقة مع الله ، حيث يصبح كل شيء مرتبطًا بالمطلق ، وكل شخص يعيش تجربته الخاصَّة داخل هذه المراحل ، وقد يكون هناك أشخاص يعانون من التنقل بين مرحلتين دون حسم موقفهم الوجوديّ ، مما يُسبب لهم قلقًا داخليًا عميقًا ، ويرى كيركجور أن المرحلة الدينيّة هي الذروة ، لكنها ليست للجميع ؛ حيث أن هذه المرحلة هي المرحلة الأكثر أصالة وعميقًا ، لأنها تتطلب قفزة إيمانيّة كبيرة ، مما يجعل الفرد يتخلى عن الأمان الذي يوفره العقل والأخلاق ، وقد تحدث كيركجور عن هذه المرحلة مع مثال النبي إبراهيم وقصة التضحية بـ إسحق ، لكن في مقال اليوم لن أتحدث عنها ، وسوف أذكرها في المقال القادم.

وقد وضع كيركجور ، هذه النظرية ليس لأنه كان مهتمًا ببناء نظريّة فلسفيّة مجردة ، بل كان يسعى إلى مساعدة الأفراد على مواجهة أعمق أسئلتهم الوجوديّة ، وهذه النظرية ليست ذات مسار حتميّ ، بل هي دعوة مفتوحة للتفكر بعمق ، في كيف يعيش الإنسان حياته ويفهم وجوده ويستكشفه ، لكن يجب على كل فرد أن يفكر في الوجود بطريقته الخاصة ، وفي الختام ، لقد كانت نظرية المراحل عند كيركجور ؛ هي حجر الأساس للفلسفة الوجوديّة "الحديثة" ، حيث أنها ركزت على التجربة الفرديّة ، والحريّة ، والقلق ، والمسؤولية ، كما أنها كانت ردًا على الفلسفة الهيجليّة ، التي حاولت تقديم نظام عقلانيّ وشامل للوجود ، بينما رأى كيركجور أن الحياة ليست مجرد نظام منطقيّ ، بل تجربة شخصيّة تتطلب قفزات وجوديّة.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فاطمة حسونة.. ترحل في غزة وتحضر في مهرجان -كان- • فرانس 24


.. -محارب عظيم ورجل قوي جدًا-.. ترامب يمتدح الشيخ محمد بن زايد




.. هل يعيد ترامب دول الخليج إلى قلب مفاوضات النووي الإيراني؟


.. ما مغزى إعلان استخدام منظومة -حيتس- الإسرائيلية لاعتراض الصا




.. مراسل الجزيرة يرصد الأوضاع المأساوية بأحد المخيمات في دير ال