الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
مقالات وجودية: فلسفة الشوارع المصرية ، الجزء الثاني
عزالدين محمد ابوبكر
2025 / 4 / 5الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع

”فلسفة الشوارع المصرية “ ، من لم يثير فضوله هذا العنوان؟ ؛ خصوصاً ونحن نربط الفلسفة بـ بلد (وهي مصر الحبيبة) ومكان (وهو الشارع المصريّ) ، ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن هذه الفلسفة هي فلسفة بدون كتب ، ويبدو أننا نتحدث عن ظاهرة اجتماعية قبل أن تكون فكرية ، لأن فلسفة الشوارع المصرية ليست مجرد حكمة كـ حكمة اليونان ، بل هي حياة وطريقة تفكير قد لا يعرف صاحبها أنها فلسفة!
حيث أن مستخدم فلسفة الشوارع المصرية هو فرد تربى و نشاء ، في بيئة مكيافيليّة (ليست كل النماذج متشابهة) ؛ حيث نجده تربى على مبادئ مثل "مفيش صاحب بيتصاحب" ، "كله بيقول يا نفسيّ" ، وقد نشأت هذه الأفكار ، بسبب وعي الفرد بـ الخيبة الإجتماعيّة ومحاولة معاملة الواقع على ما هو عليّه ، لكن من وسط هذه الخيبة نجد القيم الأخلاقيّة موجودة ، ومتواجدة مع السخريّة في صف واحد أمام الواقع ، وخير مثال على هذا نجده على أحد التكاتك المصرية وهو "القناعة كنز لا يفنى ، بس محدش عايزه!" ، ومن هذا المثال نستشف وجود عمليّة توازن بين الطموح والواقعيّة ، وللأسف دائماً ما تكون نتيجة اصطدام الحلم والطموح بـ جدار الواقع المرير ، خطيرة ؛ حيث يفقد الفرد ما تبقى من معنى وجوده ، ويكون مثل الموجود في ذاته ، إلى أن يأتي من يفيقه من الحزن ، ويخدره من ألم الواقع العبثي.
لكن فلسفة الشوارع المصرية ليست مجرد كلمات ، بل هي رؤية للعالم تتجلى في الحيّاة اليوميّة ، لأنها فلسفة تحاول جعل الإنسان يضحك وسط الأزمات ، وينجو بـ الفهلوة ، ويتأقلم مع الفوضى دون السقوط في اليأس ، ومع أن أهل فلسفة الشوارع المصرية لا يعترفون بكونهم فلاسفة ، إلا أنهم يمتلكون من الحكمة ما يكفي ليجعلهم يتفوقون على أكبر المفكرين الأكاديميين! ، لكن حكمة الشارع لا تستطيع الكتب أن تحتويها ، أو تترجمها من لغة إلى أخرى ؛ لأنها أثناء النقل سوف تفقد معناها أو جمالها ، إن لم يكن لها فائدة أمام من تذوق فلسفة الغرب ، و فلسفة الشوارع المصرية هي فلسفة مقبولة في الشارع ، مرفوضة في الأكاديميات ، لما تحتويه من كلمات وأساليب ؛ قد يراها من يتبع لواء الفكر الغربي على أنها أساليب وكلمات لا تستحق الحديث عنها ، لكن فلسفة الشوارع ليست مجرد كلمات بل هي تراث أصيل ، قد يضيع مع الزمن إن لم نتحدث عنه.
لكن يظل هناك سؤال هام وهو ، هل يوجد ما يحتوي هذه الفلسفة؟ ؛ الإجابة بكل تأكيد هي نعم ، حيث يوجد مكان يحتوي هذه الفلسفة وهو الإنسان أولاً ، ثم المكان أو المساحة الوجوديّة مثل "الخرابة" ، حيث لا تمثل "الخرابة" مجرد مكان مهجور أو مساحة مدمرة ، بل هي رمز إجتماعي وثقافي ، وهي مكان فوق الرقابة ؛ حيث تتشكل "عوالم بديلة" تعكس القهر الإجتماعي ، والتمرد الوجوديّ ، والسخريّة من السلطة والواقع (بدون علمهم طبعاً)* ، وتكون الممنوعات جزء من ثقافة الهروب التي تسود الجو العام للخرابة ، ويمكننا أن نقول أن الخرابة هي "مساحة الهامش" أو "نقطة ومن أول السطر" ؛ حيث تختفي القوانين الرسميّة ، ويبدأ الناس في "خلق قوانينهم الخاصة" ، والمعروف عن الخرابة في المخيال الشعبي المصري ، هو أنها مكان للتجمعات السرية ، لكنها أحياناً ما تكون "ملجأ فلسفيّ" لفقراء المدينة وشبابها العاطلين ، حيث يجلسون ويفكرون ويعبرون عن الفوضى الخلاقة ، ويتحدثون عنها (سواء بـ الإيجاب أو السلب) بشكل غير منظم (ظاهريًا) ، غير مؤدلج ، بل بعفوية ، وتكون الأغنية الشعبية هي غذاء الروح ومغسلها من هموم الدنيا ، وتكون الجدران المهجورة هي اللوحات غير الممهورة التي تحمل كلمات مثل "في الخرابة بنفكر أحسن من الجامعة" (بسبب مجانية النقاش) ، وصورًا لأيقونات ثورية ، سواء في ساحة الفكر والعلم مثل زويل ومحفوظ ، أو السياسية مثل إرنستو تشي جيفارا الذي لم يعد مجرد ثائر كوبي ، بل أصبح "مفهومًا واسعاً يرمز لأي شخص متمرد على الواقع ، سواء كان ثائرًا حقيقيًا أو حتى مجرد شخص يرفض الامتثال للقواعد ، و كالعادة نجد للسخريّة مكان ، حيث يُقال للشاب الذي يعترض على الظلم بطريقة ساخرة : "إيه يا جيفارا ، ناوي تقلب الدنيا؟" ، أو الموظف الحكومي الذي يترك وظيفته ليبدأ مشروعًا خاصًا ، نجد اصدقاؤه يطلقون عليه مازحين : "جيفارا بتاعنا اهوو".
وليست "الخرابة" لوحدها هي ملجأ فيلسوف الشارع ، بل يوجد ملجأ آخر وهو المقهى ... حيث فيلسوف الشارع هو نسخة معاكسة من فيلسوف الجامعة ، لأن فيلسوف الشارع لا يجلس في المكتبات أو الجامعات ، بل يجلس في المقهى أو على "القهوة" ، حيث يراقب الحياة وأحوال العايشين فيها ، ويناقش الأصدقاء ويتأمل مصيره بين كوب شاي ولفافة تبغ ، ويمكننا اعتبار فيلسوف الشارع إمتدادًا لسقراط ، لكنه يستخدم لغة أكثر بساطة وميزتها هي الفهلوة.
وتكون العبارات المتداولة على لسان رواد المقاهي تعكس حكمتهم الوجوديّة الساخرة ، والعبارة التالية تشهد على ذلك "إحنا بنفكر في حياتنا...والحياة مشغولة بحاجة تانية خالص" ، ومثل الوجوديين الأوروبيين ، نجد فيلسوف المقهى يُعاني من العبثية واللاجدوى ، لكنه يعالجها بـ السخريّة والقهقهة بدلاً من الاكتئاب ، ويكون النقاش على المقهى حول الحظ والمصير ، والنجاح والفشل ، ومع نجمة القعدة على القهوة "السياسة" ، لكن هناك شعار هام وهو "مش كل من على القهوة بيشرب شاي" (أي : ليس مدنيًا) ، وفي المقهى يمارس رواده تمردًا وجوديًا ساخرًا ، لأنهم يعلمون أن الواقع صعب ، لكنهم يرفضون الاستسلام له ، وهناك جملة تلخص فلسفة المقهى المصري ، وهي "الدنيا بتمشي...واحنا قاعدين بنتفرّج!" ومما سبق يتبين أن المقاهي المصرية ، هي مختبر فلسفي حيّ ، حيث يُعاد إنتاج الفلسفة الوجودية لكن بروح مصرية ساخرة وعملية ، لأن المقهى مساحة تفكير جماعي وفردي في نفس اللحظة ، لكن بدون تنظير أو تنظيم ، لأنها مجرد "قعدة على القهوة" لكنها مليئة بالحكمة و العبثية والضحك الذي يخفف من ثقل وهم الحياة ... وتذكر أن الحياة مجرد وهم جميل...
يتبع ...
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فاطمة حسونة.. ترحل في غزة وتحضر في مهرجان -كان- • فرانس 24

.. -محارب عظيم ورجل قوي جدًا-.. ترامب يمتدح الشيخ محمد بن زايد

.. هل يعيد ترامب دول الخليج إلى قلب مفاوضات النووي الإيراني؟

.. ما مغزى إعلان استخدام منظومة -حيتس- الإسرائيلية لاعتراض الصا

.. مراسل الجزيرة يرصد الأوضاع المأساوية بأحد المخيمات في دير ال
