الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
عمليات التجميل في مجتمعنا الكردي: بين وهم الجمال وضياع القيم – قراءة سوسيولوجية
عبدالباقي عبدالجبار الحيدري
2025 / 5 / 9الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع

تشهد المجتمعات الكردية، كما سائر المجتمعات المعاصرة، تصاعدًا ملحوظًا في الإقبال على عمليات التجميل، سواء في المدن الكبرى كأربيل والسليمانية، أو في المناطق الأقل تحضّرًا. هذا التحول ليس مجرد "موضة" عابرة، بل يمثل تحوّلًا اجتماعيًا وثقافيًا عميقًا، يستدعي دراسة سوسيولوجية لفهم الدوافع، والآثار، والتغيرات التي طرأت على بنية القيم والمعايير الجمالية، وصولًا إلى علاقات الزواج والانتماء والهوية.
أولًا: الجمال كسلطة اجتماعية
في علم الاجتماع، يُنظر إلى الجمال ليس فقط كصفة طبيعية، بل كأداة هيمنة ناعمة. الجمال في المجتمع الحديث لم يعد مجرد ميزة فردية، بل تحوّل إلى معيار اجتماعي مفروض، ووسيلة للقبول والنجاح والاندماج. وقد أسهمت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في إعادة إنتاج "نموذج جمال معياري" يُعيد تشكيل تطلعات الأفراد، لا سيما النساء، ويفرض عليهن صورة موحدة للأنثى الجميلة، بملامح محددة ومعروفة مسبقًا.
ثانيًا: المجتمع الاستهلاكي وصناعة الجمال
من منظور نظريات الحداثة المتأخرة، فإن انتشار عمليات التجميل هو أحد تمظهرات "المجتمع الاستهلاكي"، حيث يُعاد إنتاج الهوية الفردية من خلال المظهر، ويتم تسليع الجسد البشري. في كردستان، لم تسلم المرأة من هذا الضغط، بل أصبحت فاعلة في دائرة الاستهلاك الجمالي، مدفوعة برغبة القبول الاجتماعي وتحقيق "رأس المال الجمالي" الذي يُمكنها من النفوذ المهني أو الاجتماعي.
وتكمن الإشكالية في أن هذه الرغبة كثيرًا ما تتولد نتيجة "نقص اجتماعي مُنتج"، حيث تُشعر الفتاة منذ المراهقة بأنها غير جميلة بما يكفي، وعليها التغيير لتلائم ذوق المجتمع الذكوري أو التجاري.
ثالثًا: التفكك القيمي وتشويه مفهوم الذات
أدت هيمنة الجمال الصناعي إلى ما يمكن تسميته بـ"تشوّه القيم الجمالية"، حيث لم يعد يُنظر إلى الجمال على أنه انعكاس للروح أو الأخلاق أو الانسجام الطبيعي، بل اختُزل في مواصفات فنية، تُحقق بالبوتوكس، والفيلر، وجراحة الأنف. هذا التحوّل يُحدث أزمة في الهوية الذاتية، ويعمّق مشاعر النقص، ويقود إلى سلسلة من العمليات التي لا تنتهي، بحثًا عن رضا وهمي.
من ناحية اجتماعية، فإن هذا النزوح نحو الجمال الاصطناعي يعكس ضعفًا في البنية القيمية داخل المجتمع، ويؤشر على تراجع المعايير الأخلاقية، وتحلل العلاقات القائمة على الصدق والتلقائية.
رابعًا: العزوف عن الزواج – عرض أم نتيجة؟
من الظواهر اللافتة في إقليم كردستان في السنوات الأخيرة، تزايد عزوف الشباب عن الزواج، وهو ما لا يمكن فصله عن أزمة الثقة الناتجة عن انتشار الجمال المصطنع. كثير من الشباب يعبّرون عن خشيتهم من الارتباط بزوجة مجهولة الهوية الشكلية، إذ تختلط الحقيقة بالزيف، ويضيع الأساس العاطفي للزواج. ومن جانب آخر، ترى بعض الفتيات في الزواج تقييدًا لحريتهن الجمالية والاجتماعية، فيؤخرن الارتباط لأجل الاستمتاع بمرحلة "الظهور المثالي".
خامسًا: دور الإعلام والسلطة الرمزية للجمال
الإعلام يلعب دورًا محوريًا في بناء "الذوق الجمالي العام"، وقد ساهمت القنوات الفضائية والمنصات الرقمية في ترسيخ نموذج معياري للجمال، حتى أصبحت الفتاة الكردية تقيس ذاتها وفق هذا النموذج، وتعتبر جسدها مشروعًا دائمًا للتحسين والتعديل. وهنا نلاحظ ما يسميه بيير بورديو بـ"العنف الرمزي"، حيث تُفرض المعايير الجمالية قسرًا، دون وعي، ويخضع لها الأفراد طواعية، رغم ضررها النفسي والمادي.
سادسًا: الحاجة إلى وعي نقدي ومناعة اجتماعية
إن مسؤولية مواجهة هذا التحدي لا تقع على عاتق الفرد وحده، بل هي مسؤولية جماعية: تبدأ من المؤسسات التربوية، وتمرّ بالإعلام، وتنتهي عند صناع السياسات الصحية والاجتماعية. هناك حاجة لبناء وعي نقدي يُعيد الاعتبار للجمال الطبيعي، ويُشجع على تقبّل الذات، ويُحارب ثقافة "العيب الجمالي" التي تتسلل في كلمات الناس ونظراتهم.
كذلك ينبغي على مراكز التجميل أن تخضع لضوابط مهنية وأخلاقية، لا أن تكون مشاريع مفتوحة لتغيير ملامح المراهقين والمراهقات، دون وعي كافٍ أو رقابة.
في ضوء التحليل السوسيولوجي، يمكن القول إن ظاهرة عمليات التجميل في كردستان لا تعكس فقط تطورًا طبيًا أو موضة عابرة، بل تمثل تحوّلًا ثقافيًا خطيرًا يمسّ جوهر الإنسان، وهويته، وعلاقته بجسده ومجتمعه. إن مواجهة هذا التحدي يتطلب إعادة بناء مفاهيم الجمال والقيمة، وتعزيز ثقافة تقبّل الذات، واحترام التنوع الشكلي، بعيدًا عن قوالب التسليع والتماثل.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الرئيس السوري يحسم موقفه من حضور القمة العربية في العراق | #

.. ترمب: سيتعين علينا اتخاذ قرار بشأن العقوبات على سوريا والرئي

.. أردوغان يرحب بإعلان -الكردستاني- حل نفسه ونبذ السلاح

.. الرئاسة السورية: وزير الخارجية أسعد الشيباني سيمثل سوريا في

.. الرئاسة السورية تحسم الجدل: الشرع لن يحضر القمة العربية في ب
