الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة التدوين

سعيد أراق

2007 / 1 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مصطلح التدوين يكتسي -في الوعي الجمعي العربي- دلالة تاريخية وحضارية مرتبطة باللحظة التي أقبل فيها العرب والمسلمون على تدوين التراث الشعري والأدبي ومتعلقاته الدينية والمعرفية والعلمية المختلفة. ومن المعلوم أن عملية التدوين كانت تؤسس –إجرائيا ومعرفيًا وحضاريًا- لمرحلة حاسمة, انتقل فيها الفكر العربي من مستوى الثقافة الشفوية إلى مستوى الثقافة الكتابية أو المكتوبة, أي انتقل من الثقافة المحدودة أداتيًا بالانتشار الضيق المهدَّد بالمحو والنسيان, إلى الثقافة المنذورة عبر فعل الكتابة إلى البقاء والدوام والاستدامة والتداول والتوارث اللامشروط بالزمن. والحديث اليوم عن التدوين يستعيد فعل الكتابة, لكن من منطلق الممارسة الشبقية التي تحل في العوالم الافتراضية, بمداها العنكبوتي المنفتح على قراء مفترضين وافتراضيين, لكنهم قراء بدون ملامح, ومتلقين بدون وجوه: إنهم مجرد صدى لأصوات حاضرة/غائبة. ومن هذه الزاوية, يصبح فعل التدوين -الذي يحيل دلاليًا على الكتابة المنذورة نصيًا للبقاء والحضور السافر في المشهد- مشروطًا بمقتضيات الإقامة الشبحية في المدارات الافتراضية الآسرة, بما تنطوي عليه هذه الإقامة الأثيرية من مخاطر الحضر والحجب أو التوقف الإرادي أو الاحتجاب. التدوين/المدونات إقامة في المعابر الرقمية, وحلول في العابر الافتراضي. التدوين/المدونات ليس تجليًا مكتملا وليس انبجاسًا مفعمًا كليًا بالوهج وطافحًا بالشروق, لأن التموقع الافتراضي ليس سوى غمرة شبحية نتوسدها من أجل إعلان حلولنا الهادر في الغياب المجلل رقميًا بلحظات العبور, الذي تنتفي فيه آثار الخطو أو مواطئ الأقدام.

المدونة صوت يكسر طوق الاحتباس, والمدونة كذلك ارتهان للقواعد الجديدة التي تتحكم في تدبير صيغِ الحلولِ في المشهد, والتي تُدَبِّرُ أيضًا أشكال الحضور في الرقعة العنكبوتية المشتهاة. حين تتوسد مدونتك كما يتوسد الآخرون أحلامهم المريئة أو كوابيسهم البغيضة, قد تتاح لك فرصة التنعم بلذة الاكتمالات الجميلة, فتشعر أنك موجود وممتلئ –كما ينبغي لك أن تكون- بمشاعر الطفوح والاكتمال, فينتابك الرضا عن نفسك وتشعر أخيرًا أنك موجود. قد تكون مدونتك مقرونةً بهويتك الحقيقية أو محتجبةً خلف اسمك المستعار, وقد تكون مدونتك مندرجةً في هذا التوجه أو ذاك, لكنها في كل الأحوال تظل هي موقعك الضيق أو الفسيح الذي تمارس من خلاله لعبة المخاتلة الجدية أو الهزلية للحياة. وخلف ما يتراءى في الواجهات والصفحات الرئيسية للمدونات, توجد عين الرقيب التي لا تهجع أبدًا ولا تنام. ألم يؤكد "نوربرت واينر" Norbert Weiner مؤسس علم السبرنتيقا la cybernetique أن الهدف من وسائل الاتصال هو "الرقابة والضبط"؟. فهل التدوين هروب وانفلات من عين الرقيب, أم هو البحث عن مساحة وجود واقعة -بقوة التدبيرات الرقابية- ضمن الحيز الذي يمنحك الحرية الموهومة؟ أي تلك الحرية التي تعود بك مكبلا مثل جريدة نخيل إلى حيث تمارس الرقابة أكثر أشكال فعاليتها ونجاعتها مكرًا وشراسة؟.

إن المدونة ليست منبرًا بالمعنى التقليدي, لأن المنبر يحيل على سلطة مادية أو رمزية ذات بعد استقطابي معلن, أما المدونة فتستمد غاية وجودها من هواجس الاستيهامات الذاتية ذات النزعة التواصلية والإنسانية. المدونة تنطوي على قدر معين من النرجسية والتمركز حول الذات l égocentrisme, لأنها لا تدعي أنها سلطة, و لا تقدم نفسها بديلا معلنًا عن سلطة مفترضة. التدوين يمارس فعله بالاستناد إلى سياق يستقوي بالتدبيرات الافتراضية من أجل التأثير في مجرى الحياة الواقعية والفيزيقية. وفي صلب العمل التدويني توجد الكتابة من حيث هي ممارسة تواكب تحولات الذات في بحثها عن موقع أو في تلمسها لفرصة إطلالة خافتة أو مدوية على الناس. مع المدونات تختار الذات لنفسها حيز وجودها الرمزي, وسياق تفاعلاتها مع الآخرين والأخريات. ومع المدونات أيضا يتأسس الوجود الشَّبَكِيِ أو العنكبوتي للذات, وقد يتحول هذا الوجود ضمن حيز الشبكة الافتراضية للمدونات, إلى بديل صوري وشكلي عن الوجود الحقيقي في بعده العلائقي والاجتماعي والإنساني العيني والمباشر. كثير من الوقت وكثير من الجهد يبذله المدونون من أجل تحويل مدوناتهم إلى مساحة ود أو حيز التقاء مع أولئك الذين لا يكفون عن الارتحال والعبور في وهاد ونجاد العوالم الافتراضية العنكبوتية. وتتحدث بعض الإحصائيات كما هو الأمر في البوابة الافتراضية Technorati عن وجود أكثر من 15 مليون مدونة في العالم. لكن الكثير منها لا تتعدى مدة بقائه أكثر من أربعة أشهر. ويتحدث مقال منشور بتاريخ 03/01/2006 في موقع LE MONDE.FR عن أن واحدًا من كل عشرة فرنسيين يملك مدونته الخاصة. وما بين 10000 و 15000 مدونة ترى النور يوميا. كما أن المدونات التي يستضيفها موقع Skyblog تجاوز عددها 3,5 مليون عند متم نهار الخميس 29 ديسمبر2005. وهذه المدونات تحتوي على 170 مليون مقال, و260 مليون تعليق. وبذلك تؤكد Skyblog موقعها الريادي على المستوى الأوربي في ما يخص نشر المدونات.

فإليكم جميعا أيها المدونون...يا ثلة المرتحلين في النهار أو السارين في الأسحار...إليكم أقدم تحياتي مثل وميضٍ يطاول كُرَبَ الانطفاء...عِمْتُمْ مساءً ومهما تشَعَّبَتْ بكم سُبُلُ الحياة أو المدونات وأَيْنَمَا كنتم وحَيْثُمَا حَلَلْتُمْ, لكم مني ألف تحية وسلام...وإلى اللقاء...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والتلويح بالسلاح النووي التكتيكي


.. الاتحاد الأوروبي: أعضاء الجنائية الدولية ملزمون بتنفيذ قرارا




.. إيران تودّع رئيسي ومرافقيه وسط خطى متسارعة لملء الفراغ السيا


.. خريجة من جامعة هارفارد تواجه نانسي بيلوسي بحفل في سان فرانسي




.. لماذا حمّل مسؤولون إيرانيون مسؤولية حادث المروحية للولايات ا