الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتمرد القادم من الصحراء

حمزة الحسن

2007 / 2 / 7
المجتمع المدني


قدم من الصحراء السعودية، من قلب الصحراء، كما يقول أنسي الحاج، نبت ضد الطبيعة. في الصحراء فجأة، وفيما الجميع لا يترقبون هناك أحدا. نبت كالشوكة، كالفاجعة. وحيث مشى في الصحراء صارت كل حبة رمل بطلة. وصار في الصحراء شجرة عظيمة.

إنه المفكر والكاتب عبد الله القصيمي القادم من الصحراء، والعائد إليها سرا بعد عمر أكثر من ثمانين سنة ليموت ميتة مجهولة، بعد نفي وتشرد ومطاردة في كل مكان ذهب إليه، حتى انه طرد من لبنان في الستينات يوم كان لبنان ملجأ للهاربين من الأنظمة، وكازينو للمغامرين، وعصابات المال والأحزاب، ووكرا للطائفية، ومرتعا للراقصات والمخابرات الدولية والعربية.

لبنان هذا ضاقت مساحته بهذا الصوت البدوي القادم من الصحراء، فقررت سلطاته في ذلك الوقت طرد القصيمي منه، لكن لبنان الآخر، لبنان أدونيس ويوسف الخال وانسي الحاج وغيرهم هم الذين حموا حفنة قيم ثقافية وأخلاقية وسياسية من الهدر والابتذال وجنون الانتقام، رغم طرد القصيمي إلى القاهرة. ولعل الموقف الخالد للراحل كمال جنبلاط الذي كان يومها وزيرا للداخلية هو احد المواقف التي تشهد على شجاعة المثقف والمفكر جنبلاط وانتصار رجل الحرية على رجل البوليس. في الوقت الذي كانت شرطة الوزير جنبلاط تبحث عن القصيمي، كان جنبلاط المفكر والشاعر والمتصوف يجلس مع المفكر عبد الله القصيمي ويحاوره كشريك في الحرية وفي الكتابة وفي المصير.ويومها أطلق أدونيس نداءً شهيرا دعا فيه الكتاب والشعراء والمفكرين لكي يكونوا دروعا بشرية من اجل عبد الله القصيمي، سواء الذين يتفقون معه أو الذين لا يتفقون، لأن الحرية نفسها في خطر، ولأن عبد الله القصيمي هو اختبار لجدارة الكتاب وامتحان لكل الذين يسعون من اجل الحرية....وكتب يومها انسي الحاج محتجا بقوة قائلا :
"لم يفعل القصيمي شيئا. أفكاره موضوعة في كتب، والكتب يجاوب عليها بكتب. معاملة الكاتب بالتدابير البوليسية تصرف جبان".

هذا في منتصف الستينات حيث كانت لا تزال حفنة قيم أدبية وثقافية وسياسية باقية، ولا يعرف ، وربما يعرف انسي الحاج اليوم، أن هذه التدابير البوليسية التي كان يخجل منها رجال الشرطة العرب يوم ذاك، صارت في التقاليد الجديدة مفخرة، ومرجلة، وعقيدة الذين لا عقيدة ولا شرف ولا كرامة لهم. لكن من هو عبد الله القصيمي ؟ من هو هذا الرجل الذي ملأ الصحراء العربية، حتى في شققها الإسمنتية، وعماراتها الحجرية التي هي تحوير للخيمة، وعاد إلى بلده خلسة كما يعود لص في أعوامه الأخيرة ليموت كما تموت نباتات الصحراء بصمت وسكوت في براري الفجيعة والنفط والقواعد العسكرية ؟

يذكر كتاب "لئلا يعود هارون الرشيد" الصادر عن دار الجمل، في مبادرة جريئة، أن القصيمي هو أول رجل دين وهابي نزع ثوبه الديني بعد ممارسة طويلة في الوهابية، ثم أعلن طلاقه منها مما عرض نفسه إلى لعنة النظام ورجال الدين منذ عام 46 حتى وفاته سنة 95. ومنذ الخمسينات وحتى نهاية السبعينات ألف القصيمي كتبه العديدة والضخمة ذات البعد الساخط على العالم، والتي استحق عنها حكم الإعدام الصادر بحقه غيابيا حتى وفاته الغامضة...

أهم هذه الكتب :
1 العالم ليس عقلا ـ 1964
2 أيها العقل، من رآك ؟ 64
3 عاشق لعار التاريخ ـ 65
4 كبرياء التاريخ في مأزق ـ 66
5 هذا الكون ما ضميره ؟ ـ 66
6 صحراء بلا أبعاد
7 فرعون يكتب سفر الخروج
8 العرب ظاهرة صوتية
9 أيها العار المجد لك
وكتب عديدة أخري.

في مقدمة الحوار الذي أجراه معه الشاعر والمفكر أدونيس في مجلة "لسان الحال ـ سنة 65" وتحت عنوان... الخرافة، الغباء، الطغيان، كتب أدونيس:
"لا تستطيع أن تمسك به ـ بالقصيمي ـ فهو صراخ يقول كل شيء ولا يقول شيئا. يخاطب الجميع ولا يخاطب أحدا. انه الوجه والقفا: ثائر ومتلائم، ملتزم وغير ملتزم، بريء وفتاك. وأنت عاجز عن وصفه. فهو بركان يتفجر، والحمم كلمات تحرق، لكن فيما تزرع العشب. فهو تيار جامح مهيب من المد والجزر، من الانقراض والانبعاث، مسكون بشحنة الاحتجاج، متناقض ومنطقي، معتم وصاف: كأنه الرمل وقطرة المطر.هكذا تتقاطع في صوته أصداء كثيرة : من هيراقليطس، وحتى العبثية مرورا بنيتشة وماركس. لكنه يبقى غريبا أصيل النبرة والبعد، حتى ليصعب أن يوصف العربي الذي لا يقرؤه بأنه مثقف أو بأنه يحيا على هذه الأرض.

يتابع أدونيس :
"عبد الله القصيمي في الفكر العربي حدث ومجيء : حدث لأن صوت هذا البدوي الآتي من تحت سماء المدينة ومكة، صوت هائل فريد. ومجيء لأن في هذا الصوت غضب الرؤيا والنبوءة..."

وفي هذه المقابلة يسأله أدونيس عن تهمة الهدم، فيرد عليه القصيمي:
ـ أن ما يقوله بعضهم من أنني هدام ، فإنني أقول لهؤلاء : عندما تتهمونني بالهدم، وتقولون لي قف لا تهدم، فأنتم حينئذ تشبهون من يطلبون من الذين يقتلون الحشرات وجراثيم المرض ومنظفي المدينة، أن توقفوا عن أعمالكم، لأنها أعمال هدمية، أنا هدام، نعم، هدام. أهدم الخرافة، والغباء، والطغيان، والقبح، وتاريخ الألم. وأعني بكلمة اهدم هنا احتج أصيح.

وعن هذا البدوي المار العابر في السماء العربية كنجمة تومض في عراء مفتوح،
قال انسي الحاج :
"اقرءوا القصيمي. لا تقرءوا الآن إلا القصيمي. يا ما حلمنا أن نكتب بهذه الشجاعة !
يا ما هربنا من قول ما يقول ! يا ما روضنا أنفسنا على النفاق، وتكيفنا، وحطمنا في أنفسنا الحقيقة، لكي نتقي شر جزء مما لم يحاول القصيمي أن يتقي شر قوله. يهجم على الكلمة هجوم البائع الدنيا، وتقتحمك كلماته التي لا تتوقف اقتحام
الحريق ضد كل شيء".

وحياة وموت هذا المفكر الذي قيل عنه اكثر من مرة لو أن الأجيال العربية درست القصيمي في المدارس لدخلنا عصر الحداثة، هي حياة وموت كل الأصوات المغردة خارج السرب أو المؤسسة... والمؤسسة العربية وزعانفها عرفت بعد طول خبرة كيف تحمي نفسها من هذا المتمرد وأمثاله وكل سلالات العصيان إما بالإغتيال المادي، تصفية الجسد، أو بالإغتيال الرمزي أي تصفية الصوت، أو بالتشنيع الأخلاقي، وهذا الأخير ـ حسب المفكر ميشيل فوكو ـ هو شكل قديم من أشكال الاغتيال الاجتماعي القذر الذي يقوم لا على إخفاء الجسد ولا إخفاء الصوت، بل على التلويث والوصم، لكي يدخل في نسيج البشاعة العام.

مات عبد الله القصيمي ودفن سرا في الصحراء....
سرا جاء بدون توقع..
وسرا عاد بدون توقع..
وترك لنا الدهشة والانتظار...
انتظار أن يعود لنا يوما دون توقع من حافة هذه الصحراء، ومن قلب السراب،
حيث لا نتوقع ظهور أحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة اعتقال الشرطة الأمريكية طلابا مؤيدين للفلسطينيين في جام


.. مراسل الجزيرة يرصد معاناة النازحين مع ارتفاع درجات الحرارة ف




.. اعتقال مرشحة رئاسية في أميركا لمشاركتها في تظاهرة مؤيدة لغزة


.. بالحبر الجديد | نتنياهو يخشى مذكرة اعتقال بحقه من المحكمة ال




.. فعالية للترفيه عن الأطفال النازحين في رفح