الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاشوراء بين معينين

حسني أبو المعالي

2007 / 2 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في ستينيات القرن الماضي كان قد تناهى إلى سمعي، وأنا مازلت صبيا، خبر مفاده بأن القنصلية البريطانية في كربلاء توزع الأكفان للمتطوعين في مواكب التطبير بشكل مجاني في ليلة العاشر من محرم، والتطبير، هو تقليد سنوي يمارس في إطار ذكرى مقتل الإمام الحسين، ويتمثل بضرب الرؤوس والأجساد بالآلات الحادة كالسيوف والسكاكين إلى أن تسيل الدماء وذلك حبا بالإمام الحسين، حسب ظنهم وتكفيرا لذنب اقترفه الأجداد الذين خذلوا الإمام
في حربه ضد الباطل، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما علاقة القنصلية البريطانية بالإمام الحسين عليه السلام ؟ وبصيغة أخرى ما مدى عمق تعاطف الغرب مع المسلمين بشكل عام وبالشيعة بشكل خاص؟ لم يتسن لمداركي يومئذ أن تطرح تساؤلات كهذه أو أن تجيب عليها، ولكن الجواب تبلور وتجسد بمرور الزمن عبر اجترار مجتمعاتنا قيم التخلف على حساب قيم التحضر وتشبثها بالظلام بدلا من النور وتكريسها للوضاعة بعيدا عن الرفعة والسمو، وهذا ما كانت تريده الإدارة البريطانية من أجل أن تبعد المجتمعات الإسلامية عن مواكبة التطور الحضاري الذي تعيشه معظم الدول المتقدمة.
إن هذا الموروث الغريب في مظهره وفي محتواه لم يتبنه سوى فئة ضالة من المسلمين، أو بالأحرى فئة لم تستوعب ماهية الإسلام فبالغت في حب الإمام الحسين بطريقة مشوهه، لا يقبلها العقل ولا المنطق، لأن الاحتفاء بهذه الطريقة الدموية لا يمثل سوى مظهر من مظاهر التخلف والاستسلام، وهو ما يتنافى مع ما جاء به الإمام من أفكار ثورية نبيلة فقد كان الحسين ع ثائرا وصامدا وليس مهزوما، لهذا لابد أن يجد المسلمون صيغا جديدة -للاحتفاء بعاشوراء- تليق بمقام الحسين عليه السلام ، وبدائل تنسجم مع عظمة شخصية البطل المدافع عن الحق والإنسان بعيدا عن المازوخية وجلد الذات.
يبدو إن طقوس عاشوراء في مظهرها الدرامي والدامي لها تأريخ طويل يمتد إلى مئات السنين ولم يجرؤ أحد على الوقوف عندها إلا أحد أحفاد الحسين وهو زيد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي صرخ معترضا عليها حيث قال:
" المفرط في حبنا كالمفرط في بغضنا" ومن منطلق هذه العبارة الحكيمة التي قطعت الشك باليقين بأن أهل البيت لم يقبلوا هذه الطقوس ولن يتقبلوا الشعائر المبالغ فيها، لهذا فإن الاحتفاء فخرا وبطريقة حضارية من أجل الحسين، عليه السلام، في ذكرى استشهاده خير من الحزن عليه بطريقة بشعة، فالبكاء والحزن يلغيان عنه صفة الشجاعة، ويجعلاننا نتعامل مع الحدث التاريخي بالعاطفة بعيدا عن العقل، فالحسين عليه السلام لم يكن متخاذلا، و لم يقف يوما ذليلا أمام قوى الظلم في العهد الأموي وإنما كان مقداما ونبيلا وثائرا ما يجعلنا نفخر بمواقفه كمسلمين ونعتز بها ونعلي من شأنها بما ينسجم ومقام الإمام الحسين العظيم، لا أن نعتبره مسكينا يثير فينا الشفقة كما صورته - على مدى مئات السنين- ومازالت تصوره المواكب الحسينية في العراق وبعض البلدان التي يوجد فيها الحضور الشيعي.
لا أحد ينكر الوضع المأساوي الذي ارتبط باستشهاد الإمام الحسين وبعض من أفراد عائلته وأصحابه لكنه ضحى بنفسه من أجل مبادئ وقيم إنسانية أخلاقية سامية بعد معركة باسلة أبلى فيها بلاءا حسنا وأثبت شجاعة نادرة يستحق معها خلودا إنسانيا نادرا، ولابد إذن أن نرقى بالاحتفاء بذكراه إلى مستوى تلك المبادئ، بالكلمة المعبرة شعرا وخطابة وباللون لوحة وبالدراما مسرحية.
في سابقة فريدة ورائعة احتفلت وزارة الثقافة العراقية العام الماضي بذكرى يوم الطف بطريقة مختلفة ولكنها عظيمة وذلك من خلال إقامة معرض تشكيلي شارك فيه أكثر من ثلاثين فنانا تشكيليا عراقيا واستلهموا من ذلك الحدث البطولي أجمل المعاني الإنسانية في الإيثار والتضحية والدفاع عن الحق وترجموها ألوانا وأشكالا فنية في لوحاتهم عبر أساليب مختلفة ومن أجل تكريس هذه البادرة لتصبح ظاهرة على الصعيد الوطني لابد من مناشدة بقية الوزارات بأن تحذو حذو وزارة الثقافة ليس فقط على صعيد المعارض الفنية واللوحات وإنما تجتهد أكثر لتأخذ بعدا أوسع على العطاء في ممارسة النشاطات الفنية والفعاليات الثقافية لتشمل المسرح والشعر والخطابة وحتى الموسيقى في إطارها الروحاني الجميل، من أجل أن تكون بدائل موضوعية عن الممارسات – الدموية – التي تقشعر لها الأبدان وتشمئز منها النفوس، كالتطبير والزنجيل واللطمية.. الخ من مشاهد الدماء والسيوف و الأکفان التی تعودنا على حب الدماء أكثر مما تدفعنا إلى حب الإمام، فالتعود على الدم لا يجلب لنا سوى المزيد من الدماء وكيف لا ونحن نفتح أعیننا علی المشاهد الدموية سنویا منذ طفولتنا، ولهذا فإن تلك الأساليب إذ تبعدنا عن مفهوم الحب الحقيقي الذي يتجسد عبر الأساليب الحضارية والتعامل الإنساني الجميل مع الناس تكاد تنسينا أن الدين هو المعاملة.
لابد من الإشارة بأن ليس كل ما يقام من شعائر في الذكرى السنوية لعاشوراء ينضوي تحت مشاهد العنف والدماء فهناك فعاليات ووسائل متعددة ومختلفة اکثر إنسانيه وأجمل أسلوبا واقرب ذوقا للقبول تلك التي يتظاهر فيها الطلبة و كذلك سدنة الروضة الحسينية و العباسية في موكب جميل ورائع، وهم يحملون الشموع في مشهد يبعث على الخشوع ويكرس القيم الجمالية التي نحن بأمس الحاجة إليها فالله جميل ويحب الجمال.
وفي رأيي إن ما كان يحصل وما يزال من مشاهد دموية في ذكرى "الطف" هو خطأ شائع، وقد يكون الخطأ الشائع في اللغة مقبولا ولكن الأخطاء الاجتماعية تكون غير مقبولة عندما تمتد جذورها في السلوك الإنساني وتصبح عادة تضر بالعبادة، عند ذاك يدق ناقوس الخطر الاجتماعي ويكون السكوت عنها جريمة في حق تلك الشعوب فالحسين كان نموذجا فريدا لمدرسة رائعة في الحق وكان داعية إلى الله ومصلحا على طريقة الأنبياء، وعندما وضع أمام خيارين بين الموت والحياة اختار الموت الكريم على الحياة الذليلة وخرج بوجه من يريد له الذل صارخا:
"والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل وأن العيش مع الظالمين برما"
أتساءل : أنبكي رجلا يتمتع بتلك الصفات وبرصيده تلك الأفكار والمواقف ؟ أعتقد بأننا يجب أن نبكي أنفسنا في ظل تمزقنا وخلافاتنا ونبكي حالنا ووضعنا المتردي ونحن نقاتل بعضنا البعض كعراقيين ومسلمين نبكي بؤسنا وبؤس بعض قادتنا من المسلمين الذين تخاذلوا وتمسكوا بالهزيمة بدل الانتصار، قادة لا يفكرون سوى بمصالحهم وهم يحرضون شعوبهم على حرب أهلية بين الأخوة عندما يفقدون امتيازاتهم السلطوية بدل محاولاتهم لمحاصرة الأزمة وامتصاصها بالطرق السلمية ، إن مثل هذه التقاليد والعادات في إطار تلك المشاهد المروعة حقا، مع احترامي لمشاعر العامة من الناس، إنما تكرس نوعا من الجهل والتخلف اللذین لا علاقة لهما بالإسلام، والغريب أيضا أن نجد معظم علماء الدين المسلمين لا رأي لهم في كل ما يجري في عاشوراء سلبا أو إيجابا، وكأن الموضوع لا يعنيهم ولا يمت لهم بصلة؛ ولهذا أهيب بكل الشرفاء والمخلصين من العراقيين الذين يهمهم أمر الوطن والإسلام بأن يحثوا أحباب الحسين ويرشدوهم عبر جميع وسائل الإعلام إلى بديل أفضل يرقى إلى مستوى حب الإمام الحسين و ينسجم ومقامه ويتناسب وحجم التضحية الكبيرة التي قدمها مع أصحابه الميامين في سبيل الإسلام والمسلمين من جهة وبما يتلاءم مع الألفية الثالثة التي ندخلها من بابها الواسع ونحن في زمن الانفتاح على العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية


.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟




.. محاضر في الشؤؤون المسيحية: لا أحد يملك حصرية الفكرة


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الأقباط فرحتهم بعيد القيامة في الغربي




.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ