الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سرُ الرائحة

سُلاف رشيد

2007 / 2 / 13
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


إلى روح الشهيد والدي
كان اليوم هو يوم الجمعة، وهو يوم إجازتي من عمل بليد أبدأه صباح كل يوم ، حيث أذهب إلى دائرة عملي والتي لا تتجاوز خطوطها الأرقام الإحصائية، أبدءُ من يوم الاثنين وحتى الخميس ، يوما بعد يوم ، أدور في متاهات العمل ، وليس هناك من شيء آخر يحيط بعملي ، سوى هذه البلادة وهذا الروتين، لهذا حاولت أن أ ُقنعَ نفسي أن يوم إجازتي يوم الجمعة، هو يوم غير عادي، يختلف عن أيام حياتي الأخرى ، أنهضُ في الصباح أعد الفطور لأخوتي وأمي، وأرتب كل شيء على مائدة الفطور، ثم أحاول أن أجعلهم ينهضون جميعا، إلا أخي الصغير، فقد تعودَ أن ينامَ إلى ساعةٍ متأخرة من النهار. وإذ يتجمعون حول مائدة الطعام، والتي تحتل نصف مساحة غرفة الطعام ،أكون قد هيأت لهم بعجالة أغان لفيروز تصدح عبر جهاز التسجيل. عندما رفعت والدتي قطعة من الجينة اليوم والتي أرسلوها لنا من قريتنا في الشمال ، وقبل أن تقربها من فمها، نزلت بلوريتين من الدمع من عينيها ، احتضنت والدتي لأنني أعرف كم كان أبي يحب هذه الجبنة ، ولكن أين هو الآن؟ هل يا ترى يتنفس مثلنا ويجلس على مائدة الفطور ويتناول فطوره.؟ أين أنت الآن يا أبي؟ هكذا سرحت مع أفكاري وأنا احتضن جسد والدتي ، لقد راودتني هذه الهواجس ، لأننا اعتدنا أن ينهض والدي صباحا، ويعد لنا طعام الفطور، ثم يحدثنا عن هذه الجينة البيضاء التي كان يرسلها لنا يوم كان قريبا من قريتنا في الشمال. حاولت أن أجعل والدتي لا تغرق أكثر في حزنها، وتستذكر معنا والدي الذي فارقنا منذ ستة أعوام ، يوم ذهب إلى عمله صباحا ولم يعدْ ، رغم محاولاتنا الكثيرة في البحث عنه، في كل السجون والمعتقلات ، لكننا لم نتوصل إلى أية نتيجة، كانت والدتي كل يوم جمعة هكذا، رغم إنني كنت اصنع هالة من الفرح في بيتنا، واخفف عن الجميع أحزانهم بفقدان أبي ، وبما إنني البنت الوحيدة لديه، فقد كنت الأكثر حزنا عليه منهم جميعا، إلا أنني كنتُ أدفنُ هذا الحزن بين خلجات روحي، لقد كان يحسسني أمامهم ، بحبه الكبير لي ،وبفقداني له أحسست إنني فقدت كل حياتي، إلا أن حرصي على والدتي وأخوتي يجعلني أتجاوز كل غابة الحزن هذه، وافتعل الفرح من ضجيج الحزن المتشابك في روحي. لهذا اقترحت على أخي الكبير، أن نقوم اليوم ( بحملة عمل شعبي ) كي نهتم بحديقة بيتنا الخلفية فالوقت بداية الربيع، وعلينا أن نهتم بنظارتها، ونعيد إلى أشجارها وورودها ما افتقدته من جمال طيلة فصل الشتاء، ولكن أخي الكبير قال لي، بأنه استأجر فلاحاً كردياً ،كي يقلب لنا تربة ارض الحديقة، ويهتم بأشجارها ،لأن الفلاح العجوز ( أبو ثجيل) قد هده التعب، مثل شجرة التين الهرمة، والتي تحتل الزاوية اليسرى من حديقتنا الخلفية، فما عادت تعطينا تيناً أصفرا ًحلواً يذوب بين شفاهنا، مثلما تعودنا عليها من قبل. لقد كان جيراننا يحسدوننا على حديقتنا الخلفية ، رغم إننا لم نستخدمها ولم نهتم بها كثيرا،ً لأننا في أيام الصيف نجلس فقط في حديقة بيتنا الأمامية، لهذا كان ينصب اهتمامنا بحديقة بيتنا الأمامية فقط، أما اليوم فقد كان لنا موعدا ً مع الفلاح الكردي ( كاكا سليمان هكذا اسمه الذي عرفته من أخي) لكي يهتم بحديقتنا ، لا أدري لماذا كان أبي يهتم بحديقة بيتنا الخلفية، فقد كنتُ أنهضُ معه أحياناً صباح كل يوم جمعة ، وعندما أكون منشغلة بإعداد الشاي، يتسلل هو خلسة ًعبر باب المطبخ المؤدي إلى الحديقة الخلفية، ويغيب هناك لأكثر من نصف ساعة ثم يعود ويواصل عمله معي في المطبخ لأعداد الفطور. كنت أرى هالة من الفرح تملا عينيه ، وهو يعدُ أطباق البيض والجينة لإخوتي، كان إحساسه أو هكذا بدا لي انه سعيد ُبما يقدمه لنا، وكعادته التي ورثتها عنه وهي أن يُسمعنا أغاني فيروز في الصباح. أتذكر يوم سألته لماذا أنت هكذا مولع بفيروز وأغانيها، احتضنني وكاد راسي بغوص في صدره ، وقال بصوته الحنون والذي ما أحببت صوتاً غيره ،( بابا اليسمع فيروز يظل يحب كل الناس) ، لهذا تراني أثناء إعدادي للفطور، أسمعُ أغاني فيروز، وعندما تحين الساعة الثامنة والنصف ، أرفع صوت جهاز التسجيل عاليا ، ليسمعوا معي صوت فيروز وأنا أدعوهم للنهوض .
عندما حانت الساعة العاشرة صباحاً، رنَّ جرسُ الباب ، فنهض أخي الكبير ، ليفتح الباب ، فهو على موعد مع ( كاكا سليمان ) ، ويبدو أن أخي دعاه لتناول الفطور ، إلا إنه رفض ذلك ، وهذا ما جعل أخي الكبير ، يطلب مني أن أعد له قدحا من الشاي ،كنت أنظر إليه عبر زجاج نافذة المطبخ ، أخرج ( كاكا سليمان ) كيس التبغ من حزامه ، وبدأ يلف سيكارة له ، ليس من الصعوبة لكل من ينظر إليه أن يكتشف إن عمره قد تجاوز الخمسين عاما .ذهبت إليه بقدح الشاي والسكر، ولا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء كي يكتشف إن هذا الرجل من القومية الكردية من خلال اللكنة الواضحة عند ما يتكلم اللغة العربية ، أدار أربع ملاعق من السكر في قدح الشاي وبدء يحتسيه ويدخن سيكارته، وعندما انتهى من الشاي ، شكرني وتمتم بكلمات لم أفهمها ، ربما كانت في اللغة الكردية ، وضعت القدح وعلبة السكر على ألأرضية الأسمنتية ، حمل مسحاته بيده وتوجهه إلى الجانب الأيسر حيث شجرة التين ، بصق بكفه ألأيسر وفركه بكفه الأيمن ، ثم غرز مسحاته في الأرض وضغط عليها بكامل جسده ، رفع كتلة التراب بمسحاته وقلبها بالحفرة التي أحدثتها المسحاة ، وهكذا أستمر من اليسار إلى اليمين ومن اليمن إلى اليسار ، ورغم قطرات العرق المتصبب من جبهته وصدغيه والتي كان يمسحها بالجزء المتدلي من كوفيته ، إلا أنه كان يتحدث دون لهاث وتعب ، ولم تمض ِ فترة طويلة حتى كاد يقارب منتصف الحديقة ، وعندما غرز مسحاته في الأرض وكان قريبا من الحافة اليسرى لمنتصف الحديقة ، توقف ولم يضغط على ( دواستها ) ، أنحنى على الأرض وأزاح التراب بيده ، اقتربنا منه أنا وأخي ، وبهدوء أخرج من التربة علبة حليب نيدو صغيرة وهي مغلفة بكيس من النايلون ، وأعطاها إلى أخي ، ثم قال له أنتظر هناك أخريات وبالفعل أخرج علبتين كانتا إلى جوار العلبة الأولى ، مزق أخي كيس النايلون وحاول رفع غطاء العلبة فلم يستطع ، أخرج ( كاكا سليمان ) سكينا صغيرا ً من جيب سرواله ، ثم تناول العلبة من أخي وبدأ يخلخل الغطاء في أكثر من نقطة إلى أن فتح العلبة ، مد أصابعه في داخلها وأخرج رزمة من الأوراق المطوية على بعضها وملفوفة بكيس من النايلون ، وقبل أن يفتحها تلقفتها من بين يديه بسرعة وخوف بدا واضحاً من حركة يدي ، إلا أن (كاكا سليمان ) ضحك وقال ( عمو لا تخاف أنا أعرف سر هاي الأوراق من ريحتهه ) ، حملت العلب الثلاث إلى غرفتي بعد إن أزحت النايلون عن العلبتين ألاخريتين ، جلست على الأرض بعد إن أقفلت باب غرفتي ، فرشت محتويات العلب على الأرض ، وبدأت أقرأ الأسماء ، كانت تسبق هذه الأسماء كلمة الرفيق ، الرفيق حازم .. الرفيق ساهر .. الرفيق ... لم أرى أسم أبي ...لهذا شعرت بأن كل هذه الأسماء هي أسم أبي، رفعتها بين يدي ، بللتها دموعي ، واستنشقت رائحتها التي لازالت عالقة في روحي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ا?ستاذ بجامعة سان فرانسيسكو: معظم المتظاهرين في الجامعات الا


.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR




.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي


.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه




.. الاعتداء على أحد المتظاهرين خلال فض اعتصام كاليفورنيا في أمر