الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 10

سهر العامري

2007 / 2 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قلت إنّ عرب الأهوار لا يتحققون من هوية القادم لهم ، وقد يمنحونه اسما غير اسمه الذي لا يعرفونه ، ولازلت أتذكر ذلك اليوم الذي نزل فينا معلم منفي ، طويل القامة ، أحمر الوجه ، أشقر الشعر، فما كان من أحد المتطلعين إليه إلا أن سأل الآخرين الواقفين الى جواره: من أين أتى هذا الرجل الأسترالي ؟ 

لقد عرفت الأهوار وقتها تفريخ الدجاج الأسترالي ، ولهذا فقد ظهر في بيوتها نوع من الديكة عالٍ في ارتفاعه ، أحمر غامق في لونه ، فما كان من هذا الرجل السائل إلا أن ربط بين هذا المعلم المنفي ، وبين
 الديك الأسترالي لوجه الشبه بينهما ، ومن ساعتها عُرف هذا المعلم باسمه الجديد الذي أطلق عليه ساعة وصوله وهو " الأسترالي "، والأسترالي هذا هو المعلم عبد اللّه فاضل السامرائي ، وزير الأوقاف في العراق فيما بعد.
هذا هو الهور إذاً، وهذا هو جاسم بن فارس رئيس عشيرة آل فرطوس يفتح ذراعيه لاحتضان الشيخ بدر الرميض حين وطأت أرض الهور حوافر خيول سنحاريب الإنجليز هذه المرة، إذ ( تشكلت في سوق الشيوخ قوة مؤلفة من 400 مقاتل من المشاة و200 مجند من خيالة المنتفك و100 مجند من قوات الاستطلاع و3 طائرات، وزورقين حربين لمطاردة بدر ورجاله) (1) 
فبعد كسر المقاومة العنيفة التي أبدتها عشيرة بني أسد عند فم الفرات الجنوبي " الجبايش " بقيادة سالم الخيون ، والتي انتهت بنفيه الى الهند ، صعدت القوات الانجليزية باتجاه مدينة الناصرية، وعبر نهر الفرات
 ( وعند فرعه الذي يربط كرمة حسن ـ العكيكة تصدت لها عشيرة حجام بقيادة الشيخ كاصد بن علي آل حمد تعاونه في هجومه على القوات الانجليزية بعض العشائر الموجودة في المنطقة ، ودارت بين الطرفين معارك ضارية) (2) ويبدو أن هذه المعارك الضارية على وجه الخصوص ، والمعارك التي دارت التي دارت رحاها من قبل ، والتي اشتركت فيها عشائر هور الحمّار ، هي التي أجبرت الجنرال الانجليزي " غورينغ " الذي يعد من أفضل القادة البريطانيين ، على التوقف في مدينة الناصرية بعد أن واجه أياما عصيبة عند تقدمه لاحتلالها في تموز 1915م ، وكان هو يريد الصعود منها شمالا ، وعبر نهر الغراف ، ليلتقي بالقوات البريطانية المتقدمة صوب بغداد عبر نهر دجلة ، والتي توقف زحفها بعد أن تكبدت خسائر فادحة بالأرواح في معارك الكوت ، وسبق معارك الأهوار هذه معركة الشعيبة التي اشترك فيها ثمانية عشر ألف مقاتل من القبائل العربية القاطنة في الأهوار ، وحين غاب النصر عنهم تراجع هؤلاء المقاتلون الى الهور ثانية حيث سقط عدد منهم بين شهيد وجريح. (3)

لقد كان من بين الشهداء هؤلاء النجل الأكبر للشيخ كاصد بن علي آل حمد المدعو " شيشخان "، يبد أن الانجليز لم يغفروا للشيخ كاصد مواقفه الوطنية في حروبهم معه في الشعيبة ، وفي معارك الفرات ، وآخرها احتلاله لمدينة سوق الشيوخ أبان ثورة العشرين ، وطرد الانجليز منها ، فدبروا له حادث اغتيال تمّ على يد أحد أقربائه نهاية عام 1925م .

بعد سقوط مدينة الناصرية على يد القوات البريطانية لم يبقَ أمامها غير الشيخ بدر الرميض ، كآخر رمز من رموز المقاومة ، متحصنا بالهور ، ورجال عشيرته ، ومن انضم له من العشائر الأخرى التي كسر الإنجليز مقاومتها بحرق قرىً كثيرة عن طريق نيران سفنهم الزاحفة فوق بطن الهور ، أو نيران طائراتهم المنصبة من سمائه.

لقد استعصى بدر على الانجليز ، وتوخوا كلّ وسيلة للقضاء عليه ، فقاموا بإحراق خيامه ، وصبوا نيران طائراتهم على ثروته العظيمة من الأغنام ، ثمّ أطلقوا الإشاعات ضده ، إذ لقبه الضابط السياسي البريطاني المقيم في مدينة الشطرة ، والمدعو: بيترام توماس ، بـ ( رجل الأهوار المسن ) (4)

لقد أخذت هذه الإشاعة طريقها الى الثوار، فردت عليه شاعرة من عرب عشيرة العمايرة تدعى " وضحة " ، وكانت واحدة من النساء اللواتي وقفن الى جانب الرجال يشددن من أزرهم بالأهازيج الحماسية " الهوسات " فتقول:

تكذب يلتقول إبدور بده .

زرقها منلمدينة وصبّحت حده .

يقلوب السمك يلنامت إبسده .

يشبه منكر لو شال إيده

لقد أخذت أنا هذه الهزوجة عن أمي ، وقد استوضحت المعنى منها ، وأنا مازلت طفلا ، فكلمة : إبدور ، تعني بدر الرميض ، والتصغير هنا للتحبيب ، وكلمة : بده ، تعني الشيخ العجوز الذي سقطت أسنانه ، وبذا يكون معنى الشطر : أنت تكذب أيها القائل حين تقول إنّ بدراً قد هرم وصار عجوزا .
أما كلمة: زرقها في الشطر الثاني فمعناها : رماها ، والهاء فيها تعود على العمود الأسطواني الصخري الذي لم تذكره الشاعرة ، والمرتكز في أرض الكوفة حتى الساعة ، والمدينة: هي المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية. وبذا يكون المعنى أنّ بدرا في قوته يشابه إمامه علي بن أبي طالب عليه السلام الذي رمى ذلك العمود من المدينة الى أن ارتكز على أرض الكوفة التي أصبحت عاصمته " حده " على ما يعتقد به عرب الأهوار .، ويكون معنى الشطر الثالث هو أنّ كنف بدر " إبسده " أكثر أمانا لضعاف القلوب " السمك " ساعة الخطر من مكمن حصين كالماء . وبدر، في قفل الأشطر الثلاث " الرباط " كما يقول عرب الأهوار ، هو الملك منكر 
ساعة الحساب ، 
وإذا صدقت إشاعة شيخوخة بدر برد الشاعرة وضحة عليها فإني لم أجد ، على كثرة الذين سألتهم ، من يصدق رواية جيفين التي نقلها في كتابه: العودة الى الأهوار، والتي تقول: ( وبعد مرور مدة من الزمن وعندما حلّ الميجر دينجبورن محل الميجر ديكسن انتهز بدر الفرصة واستسلم في الوقت المناسب بالقرب من هور الحمّار ، وقد كتب توماس واصفاً طريقة استسلام بدر : عند اقتراب بدر من الميجر دينجبورن انحنى أمامه رافعاً الغطاء " اليشماغ " من على رأسه ، على طريقة أبناء عشيرته وربطه بكلّ هدوء وببطء بالمقعد الذي كان يجلس عليه دينجبورن دلالة على خضوعه له ) (5) 

هذه الرواية ليس لها وجود عند عرب الأهوار، ولا يريد أحد منهم تصديقها ، فبدر عندهم لم يسلم نفسه للقوات البريطانية مطلقا ، رغم الحملات التي شنت عليه ، ورغم الذمم التي اشتروها وسخروها من أجل القضاء عليه . إن الذي سلم نفسه للجيش البريطاني الغازي هو حسن بن بدر الرميض ، وهو أكبر أبناء بدر سنا ، وقد قام حسن بربط نفسه الى أحد المدافع ، وطلب من القادة الإنجليز ترك أبيه ، وإنه يتعهد بتنفيذ ما يطلب منه ، وعلى هذه الشاكلة سوّي الأمر ما بين بدر وعشيرته ، وما بين القادة الإنجليز وجيشهم . هذه هي الرواية المتداولة بين عرب الأهوار، والتي سمعتها أنا على صغر ، وتأكدت منها على كبر.

قلت فيما مضى من الصفحات إنّ ثيسجر قد أعجب بالشيخ محسن بدر الرميض من خلال حادثة نقلها هو في كتابه: عرب الأهوار ، وسآتي أنا عليها لاحقا ، برهنت له مقدار احترام الشيخ محسن لرابطة الدم التي تشده الى أفراد عشيرته ،
 ومثلما التقى ثيسجر الشيخ محسن بدر الرميض ، فقد التقيته أنا على صغر ، وكانت المرة الأخيرة التي التقيته فيها هي حين عدته مع أبي في فندق " الزعماء الحديث " * من بغداد ، وكان هو وقتها يعالج من مرض سرطان الحنجرة ، لكنني رأيته حينها رابط الجأش ، قوي العزيمة ، لم يستولِ عليه خوف من مرض أخبره الطبيب عنه أن لا شفاء له منه ، كما قال هو ذلك لنا وقتها . 
ناداني قائلا : تقدم إليّ . سأريك لعبة حلوة ، كانت اللعبة دمية طفل يتحرك على عارضة ، ويؤدي ألعابا بهلوانية ، ثمّ أردف قائلا : أرأيت ما صنعوا ؟ 
بعدها دخل مع أبي في حديث لم ألقِ بأذني له ، فقد كنت مبهورا بالدمية التي تتحرك أمامي ، لكنّ أبي أخبرني بعد الخروج من الفندق مباشرة بأنّ الشيخ محسن كان شديد الأسف والتأثر لحادث الاغتيال 
الذي تعرض له الزعيم عبد الكريم قاسم ، والذي كان يرقد في أحد مستشفيات بغداد ساعتها ، حيث أصيب في يده حين أطلقت النار عليه، وكان يرى أنّ عبد الكريم قاسم قد يغادر هذه الدنيا ، كما سيغادرها هو دون أن يأخذ بثأره من الذين أساؤوا له. سألت أبي : من هم ؟ قال : يعني بهؤلاء الفلاحين.
وعلى أيّة حال كان الشيخ محسن بدر الرميض لازال شيخا رعويا أكثر منه إقطاعيا ، هكذا بدا لثيسجر على ما يظهر، وهو بعد ذلك تسنم منصب المشيخة عن أبيه رغم أنه ليس أكبر أخوانه سنا ، وذلك لمقدرة رآها فيه أبوه وعشيرته ، وقد أثبت هو مقدرته هذه طوال سني مشيخته من خلال توثيق علاقته بأفراد عشيرته ، وتوثيقها بالعشائر المجاورة الأخرى ، وعلى العرف السائد بين عرب الأهوار ، وهو العرف الذي درجت عليه القبيلة العربية ، كان الابن ، الذي يرى فيه أبوه: الشيخ أو الرئيس ، مؤهلات مسؤولية قيادة العشيرة، هو الذي يتسنم هذا المنصب بصرف النظر عن سني عمره مقارنة بعمر بقية إخوته ، وأهم هذه المؤهلات هي : جمال أخلاقه ، وبعد نظره ، وقوة شخصيته ، وصلابة موقفه ، بالإضافة الى سخائه وكرمه ، حتى لو كان ذلك على ضيق ما في يده ، فعرب الأهوار لا يعدون الثروة والغنى عاملا يرتقي من خلاله الإنسان منصب رئاسة العشيرة أبدا.

ويجدر بي أخيرا أن أنقل عن الدكتور شاكر مصطفى سليم قوله في هذا الخصوص ( إنّ كلاً من الاعتبار والنفوذ لا يقومان في الجبايش على أسس من المادة والثروة. فلا المال ولا أيّ صنف آخر من أصناف الثروة يستطيع أن يسبغ أيّ اعتبار على صاحبه. فالأغلبية العظمى من سكان القرية الذين يتمتعون بالاعتبار الأسمى ويملكون النفوذ الأوسع فيها هم فقراء معوزون.) (6) 
وإذا كان الفقر زينة لرجل الهور ، وثوبا يرتديه سنينا طوالا فإنّ الظلم والتخلف عضّا العظم منه ، فيمّم الوجه صوب المدن ، خلاصا من هذا الجاثم المريع ، ونجاة من بحر ذلّ لجيّ لا يريد أن يغرق فيه.
= = = = = = = = = = =
1- العودة الى الأهوار ص 61.
2- عن رسالة بعثها لي الشيخ كاظم ريسان آل كاصد من رفحاء في المملكة العربية السعودية.
3- راجع العودة الى الأهوار ص 58-59.
4- نفسه ص 61.
5- نفسه ص 61-62.
*- كان اسمه فندق الملوك الحديث في العهد الملكي ، ويقع في جانب الرصافة من بغداد ، وبالقرب من جسر الشهداء.

6- الجبايش / ج2/ ص458








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معدن اليورانيوم يتفوق على الجميع


.. حل مجلس الحرب.. لماذا قرر نتنياهو فض التوافق وما التداعيات؟




.. انحسار التصعيد نسبيّاً على الجبهة اللبنانية.. في انتظار هوكش


.. مع استمرار مناسك الحج.. أين تذهب الجمرات التي يرميها الحجاج؟




.. قراءة عسكرية.. ما مدى تأثير حل مجلس الحرب الإسرائيلي على الم