الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطبري :الاسطورة والتاريخ

مهدي النجار

2007 / 3 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ُيحدد التاريخ عادة بأنه جملة المحاولات(أو التجارب)المفرحة أو المقرحة التي تحصل للناس العائشين في المجتمع،يحدد كذلك بأنه:المحل الذي تنعكس فيه (أو تتحقق فيه) الفضائل أو النواقص المحددة في علم الأخلاق ،والتي يؤدي تراكمها إلى توليد المدينة الفاضلة/أو الضالة،فالتأريخ هو مسرح للتجارب البشرية.وقد انقسمت صناعة التاريخ (أو علم التاريخ) في الساحة العربية الإسلامية إلى قسمين:
التاريخ العقائدي أو الأدبي:كان مختصاً بكتب الرجال وكتب السير وكتب طبقات العلماء (بالمعنى الديني للكلمة) وكتب الملل والنحل.
التاريخ ألحدثي أو ألوقائعي:كان مختصاً برواية الوقائع والأحداث سنة بعد سنة، وقد تفرع إلى عدة فروع، كتاريخ المدن، وتاريخ المعارك، والسلالات المالكة، والتاريخ الكوني.اغلب هذا النوع من التاريخ يأخذ هيئة الحوليات التاريخية التي تحدد الأحداث المهمة التي تجري في كل عام وراء بعضها البعض،بحسب التسلسل الزمني المعروف للأحداث والسنوات.
يُعتبر الشيخ الطبري (أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري 838 ـ 923 ميلادية) واحداً من أعمدة كُتاب النوع الثاني،أي التاريخ ألحدثي أو ألوقائعي،ولا نبالغ إذا قلنا انه أهم وابرز من اشتغلوا في هذا المضمار ابتداء من القرون الوسطى وحتى يومنا هذا،فبحق يشكل كتابه "تاريخ الرسل والملوك" منظومة قائمة بذاتها،ولا نعرف للطبري في هذا المجال غير كتابه هذا المهم من ناحية الحجم كما من ناحية المضمون .سوف ندلي حوله بالملاحظات التالية :
أولا:إن العنوان الكامل لهذا الكتاب هو "تاريخ الرسل والملوك"، وفي بعض الطبعات "تاريخ الأمم والملوك".يتكون الكتاب من ثلاثة عشر جزءاً، وحسب علمنا كما جاء في "المنجد في اللغة" الصادر عن دار المشرق/بيروت.كانت طبعة كتاب "تاريخ الرسل والملوك" الأولى في ليدن (1876 ـ 1901 ) ونشرته عدة دور منها دار جيهان/طهران،ودار القلم/بيروت.وهما الدارين اللذان نعتمد طبعتهما دائماً.
ثانياً: يمكن القول إن"تاريخ الرسل والملوك" تاريخ كوني يسرد الأحداث والوقائع ابتداء من تكون البشرية وحتى نهاية 301 هجرية(915 ميلادية) وهي فترة خلافة المقتدر بالله(عمره 13 سنة) وفي الفترة نفسها قُتل سعيد الجنابي صاحب القرامطة بناحية البحرين وهاجر،وبهذا المعنى يشير الطبري نفسه إلى حدود كتابه: "وأنا ذاكر في كتابي هذا من ملوك كل زمان من ابتداء ربنا جل وجلاله خلق خلقه إلى حال قيامهم من انتهى إلينا خبره" ج1 ص4 .
ثالثاً:ينبغي أن نكون متسامحين مع الطبري (وغيره من أشياخنا المثقفين) وان نغض الطرف عن كل ما هو مضطرب وسطحي في تصوراتهم عن نشوء الخلق وعن الحياة والكون والإنسان ،وخاصة عن الزمان الذي يبدو أكثر اضطراباً وسطحية بحسب المعطيات المعرفية المعاصرة،نغض الطرف لان ما كان بإمكانهم أن يتجاوزوا إمكانيات عصرهم،فعلى سبيل المثال يحدد الطبري الزمان من ابتدائه إلى آخره بسبعة آلاف سنة،يقول: "خلق الله جميع خلقه إلى وقت فناء جميعهم سبعة آلاف سنة،خلا من الدنيا خمسة آلاف وستمائة سنة،والباقي أربعمائة سنة" هذا الكلام قيل قبل ألف سنة تقريباً،أي نحن الآن نعيش في الزمن الضائع حسب تصورات شيخنا الطبري، في حين تقول المعرفيات المعاصرة إن تدهور الدينصور وزواله يقدر قبل سبعة ملايين سنة خلت،وأرجعت قياسات الطبقات حاملة الاحافير عمر الحياة إلى ما قبل خمسمائة وسبعين مليون سنة (ينظر نشأة الحياة على كوكب الأرض/ويليام داي/دار الشؤون الثقافية .بغداد1989 ).
نقرا كذلك هذه النتف من التصورات الأسطورية حول المخلوق البشري الأول آدم عليه السلام:خلق آدم يوم الجمعة واهبط في الهند/كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض/كان آدم يعرف الشعر ويتكلم اللغة العربية/عمر آدم ألف سنة/حواء ولدت مائة وعشرين ولداً/عند خلق آدم اخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء وخلطها فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.(ج1 ص 60وما بعدها).وعن الشمس يتحدث الطبري بهذه اللغة الأسطورية العذبة،المطمئنة: "تغرب الشمس في السماء ثم ترتفع من سماء إلى سماء حتى تكون تحت العرش فتخر ساجدة فتسجد معها الملائكة الموكلون بها ثم تقول يا رب من أين تأمرني أن اطلع،أمن مغربي أم من مطلعي …فيأتيها جبرائيل بحلة ضوء من نور العرش على مقادير ساعات النهار في طوله في الصيف أو قصره في الشتاء فتلبس تلك الحلة كما يلبس أحدكم ثيابه ثم ينطلق بها في جو السماء حتى تطلع من مطلعها" ج1 ص43 .هل سيصدق الشيخ الطبري (ومعاصروه) إن الأرض تتحرك بسرعة(30 كم/ساعة) وهي التي تدور حول الشمس وليس العكس كما كانوا يعتقدون، وما هي إلا كوكب صغير جداً من كواكب الكون ومجراته التي لا تحصى،وهل سيصدق إن أقدام الإنسان وطأت سطح القمر؟!حقيقة الأمر إن البشر ليسوا هم الذين يخدعون أنفسهم بهذه التصورات الخاطئة إنما الواقع هو الذي يخدعهم،لان إمكانيات زمانهم المعرفية والتقنية هي التي تحدد إمكاناتهم التصورية.
من الملفت للنظر إن الشيخ الطبري لكي يُدعم تنضيده الأسطوري ذاك يؤوله(أو يُرجعه)إلى مرجعيات قدسية كالقول القرآني أو القول النبوي وبذا يكسب بهذا التدعيم قوة التصديق بما يقول من جهة والحظر على التبصر فيما يسرد أو التساؤل عما ينقل.
رابعاً:إن الطبري يبرع حقاً في الاستيلاء على أساطير الآخرين ورواياتهم بشكل حاذق ثم يصهرها بأسلوبه حتى تبدو كأنها من صنعته.مُدهش هذا الشيخ،كم ذاكرته قويه،عنده متعة بإيراد الاستشهاد والوقائع إلى ما لا نهاية،فيه هوس ذكر الخوارق والمعجزات والعجائب،مأخوذاً بهوس السرد دون اعتبار للعقل أو تقديم الحجج على ما يقوله،أي لا يعتمد اللغة العقلانية والمنطقية القائمة على الحجة والبرهان: "وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه على مما شرطت أنى راسمه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي مسندها . دون ما أدرك حجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه" ج1ص4.
إن التاريخ ألا سطوري، أو التاريخ الذي يستخدم مواد أسطورية ويستعيدها لغاية غير التي وضعت من أجلها في الأصل تلك المواد،يكاد يستحوذ بشكل واسع على جميع كتب التاريخ التقليدية في السياق العربي الإسلامي،وما ينفك كاتب التاريخ آنذاك بمن فيهم شيخنا الطبري أو حتى ابن خلدون (الأكثر عقلانية) ينسق الأساطير ويعيد تنسيقها بلا ملل كي يكتشف لها معنى أو يستجلي منه عبرة(بحسب اللغة الكلاسيكية) فالعبرة(هي بالضبط ذلك الدرس الذي ينبغي على الإنسان العاقل أن يستخلصه من سلوك البشر وأحداث التاريخ) حتى لو كانت هذه الأحداث (أو الشخصيات) لا تاريخية وغير منضبطة في المشروطية الاجتماعية.
إن الملاحظة التي يمكن تسجيلها من خلال قراءة وقائع وأحداث هذا الكتاب الضخم، كتاب "تاريخ الرسل والملوك "هي تناغم عنوانه مع محتوياته بشكل ساطع ومنحاز،انحيازه الكامل للسلطة الرسمية منذ نشوئها وتبلورها وتكامل أدوات هيمنتها،بمعنى آخر هو فعلاً تاريخ للسلطة في السياق الإسلامي ، تاريخ تبرير وتبجيل لإضفاء الحق على مشروعيتها التقليدية،السلطة بكل مكوناتها،بقصورها وجيوشها وبلاطاتها وجواريها وإمائها،مقابل هذا هو تاريخ طرد فاضح لتاريخ العامة(أو الشعب بلغتنا المعاصرة) هو غلو في طمس معالم حركاتهم وتطلعاتهم،وتشويه بأكبر قدر من الإثباتات المزورة ورميهم بأبشع النعوت وأكثرها تبخيساً:الغوغاء،الرعاع،الدهماء،السوداء،…بجانب ذلك نلاحظ الغياب التام لمعنى التسامح في لغة تاريخ الطبري ونمط تفكيره(وهذا ينسحب على اغلب كتب التاريخ التقليدية،فترة القرون الوسطى)بمعنى آخر لم يخطر ببال الطبري ما نسميه اليوم بحقوق الإنسان.
لا ريب،من اجل أن تصحح مسارات التاريخ كي يأخذ بنا إلى الأمام،أسوة بالعالم،وليس العكس يقذف بنا إلى الخلف،إلى الأزمنة السحيقة والتصورات البدائية،ينبغي الاشتغال على المواد الخام لمثل هذه المدونات الضخمة بعقلية تفحصية ونقدية،وتمتلك جرأة واليات فهم حديثة تستطيع بواسطتها تنقية تلك المدونات من شوائب لا حصر لها ولا عد ،والاهم من ذلك ينبغي أن ننقح تنقيحاً كلياً الفكرة التي كونها الناس عن التاريخ باعتباره ليس صناعة بشرية،عندما تصحح الفكرة عكس ذلك،باعتبار التاريخ من صناعة البشر وليس من صناعة أي شيء آخر،عندها يمكن أن تتحول كتابة التاريخ فعلاً من اجل العبرة والدرس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة ما بعد الحرب.. ترقب لإمكانية تطبيق دعوة نشر قوات دولية ف


.. الشحنة الأولى من المساعدات الإنسانية تصل إلى غزة عبر الميناء




.. مظاهرة في العاصمة الأردنية عمان دعما للمقاومة الفلسطينية في


.. إعلام إسرائيلي: الغارة الجوية على جنين استهدفت خلية كانت تعت




.. ”كاذبون“.. متظاهرة تقاطع الوفد الإسرائيلي بالعدل الدولية في