الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أماكن الذاكرة

زهير سوكاح

2007 / 3 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعد كتاب Les Lieux de mémoire (أماكن الذاكرة) الصادر سنة ١٩٩٤, للمؤرخ الفرنسي بيير نورا Nora Pierre من بين أهم المصادر التنظرية في حقل الدراسات التاريخية التي ظهرت في فرنسا حول مفهوم الذاكرة الجمعية. في هذا الكتاب المؤلف من سبعة أجزاء, يعتبر بيير نورا أنه لم يعد هنالك إمكانية لحضور الذاكرة الجمعية, قائلا: "كثر الحديث في عصرنا هذا حول الذاكرة الجمعية, وهذا مرده أصلا إلى غيابها المطلق, أي أنه لم يعد هنالك وجود لشيء يحمل هذا الاسم...".
من هذا المنطلق ركز نورا في دراساته حول ماهية الذاكرة الجمعية على ما أعتبره بالمقابل الحسي لها أي بما أسماه بـ: أماكن الذاكرة.
تشمل أماكن الذاكرة ـ حسب بيير نورا ـ أمكنة جغرافية وبنايات وتماثل وأعمال فنية, وأيضا شخصيات تاريخية وأيام تذكرية ونصوص فلسفية وعلمية وأنشطة رمزية, وغيرها...
وهكذا تعد باريس وقصر فرساي وبرج إيفل من أماكن الذاكرة في فرنسا. أيضا العلم الفرنسي, والرابع عشر من يوليوز وكتاب Discours de la méthodeللفيلسوف الفرنسي ديكارت كلها تندرج تحت مسمى أماكن الذاكرة الفرنسية .

يعتقد نورا أن بدايات تشكل وتبلور أماكن الذاكرة الفرنسية ترجع إلى عصر الجمهورية الفرنسية الثالثة, أي في القرن التاسع عشر ميلادي, في تلك الحقبة قامت الذاكرة الوطنية بتأسيس الهوية الجمعية الفرنسية, لكن هذه الذاكرة سرعان ما أن تبددت معالمها ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين, فحسب بيير نورا, فإن المجتمع العصري يشهد انتقالية ذات وثيرة متسارعة , بدأت فيها معظم أو إن لم نقل جل أشكال الارتباط بالماضي والمُؤسسة في آن واحد للهوية الجمعية في الاضمحلال التدريجي , مما يجعل أماكن الذاكرة ذلك البديل الحسي و"الاصطناعي" لذاكرة جمعية فرنسية لم تعد موجودة الآن...

في هذا الكتاب يتحدث بيير نورا عن ثلاثة شروط لإضفاء صبغة "الذاكرتية" على مفهوم مجرد أو شيء حسي معين, وبناء عليه فيمكننا الحديث أيضا عن ثلاثة أبعاد لأماكن الذاكرة: البعد المادي والبعد الوظيفي والبعد الرمزي.
البعد المادي لأماكن الذاكرة لا يجب أن يحيلنا إلى أن هذه الأماكن تقتصر على أشياء ملموسة (قابلة للمس), ذات طبيعة مادية فقط كاللوحات الفنية أو كتب وغير ذلك: أحداث تاريخية حاسمة أو دقائق صمت لإحياء ذكرى شخص ميت تتوفر أيضا على بعد مادي جلي لأنها ـ كما يعتقد نورا ـ عبارة عن "مقطع مادي" محدد من فترات ووحدات الزمن.
كل هذه "التموضوعات" تمتلك بعد وظيفي, بمعنى أنها تُحقق أو تمارس وظيفة محددة ومضبوطة ضمن المنظومة الاجتماعية: فكتب معروفة في فرنسا, مثل كتاب de France Histoire لـمؤلفه Ernest Lavisse , وُضعت في بادئ الأمر ـ قبل أن ترتقي إلى درجة مكان للذاكرة ـ لتحقيق هدف معين ومحدد, وهكذا فإن هذا الكتاب التعليمي يُعتمد كمرجع مدرسي أساسي ضمن حصص التاريخ في المدارس الفرنسية . وبالنسبة للمثال السابق, دقائق الصمت, فوظيفتها بالأساس هي: الاسترجاع أو الاستحضار الزمني المؤقت لذكرى أو ذكريات محددة.
وأخيرا وليس اخرا, يتحتم على هذه التموضوعات , لكي تصل إلى مرتبة أماكن الذاكرة, أن تكون أيضا ذات بعد رمزي, أي حاملة لمعنى رمزي معين, وهذا يظهر بشكل جلي مثلا حينما تنتقل ممارسات أو أفعال معينة إلى طقوس محاطة بهالة رمزية, فقط بعد هذا "الارتقاء الرمزي" تصبح هذه التموضوعات حاملة لنفس الطبيعة الحضارية التي تمتلكها أماكن الذاكرة في مجتمع ما.

هذا التعريف الواسع لمفهوم أماكن الذاكرة جعل العديد من النقاد يطرحون تساؤلات مشروعة حول كيفية فصل أماكن الذاكرة عن غيرها, والحقيقة أن تعريف بيير نورا يجعل على كل حال النظر إلى الظواهر الثقافية ـ الجمعية المرتبطة عن وعي أو عن غير وعي بالماضي المشترك وبالهوية القومية لمجتمع معين كأماكن للذاكرة أمرا مقبولا بل ممكنا...

تتجلى أهمية نظرية أماكن الذاكرة لبيير نورا في كونها مثال جيد للبعد التنظيري للكتابة التاريخية الذاكراتية والتي يتم فيها الربط بين التنظير التاريخي للذاكرة و بين التصورات الكلاسيكية للماضي المهيمنة على الكتابة التقليدية و النمطية للتاريخ.
ليس من الغرابة في شيء أن يجد هذا المشروع التنظري الجديد في حقل العلوم التاريخية المعاصرة مساندين له خارج حدود التنظير الفكري الفرنسي. وهكذا ظهرت مشروعات تنظيرية مماثلة في القارة الأوربية وأيضا في خارجها استلهمت معظمها النهج التنظيري لأماكن الذاكرة الفرنسية, مثل المشروع الألماني: Erinnerungsorte (2001) والذي لم يقتصر على النطاق الألماني فحسب, بل كان منفتحا في عمومه على الأفق الأوربي, أيضا ظهر مشروع تنظيري أخر في الولايات المتحدة والمعروف بـ:
Memory of sites, وغيرها من المشاريع التنظيرية حول الأماكن الذاكرة في بلدان ومناطق أخرى كإيطاليا وأوربا الشرقية ومنطقة الكيبيك, الجزء الناطق بالفرنسية في كندا.

المراجع:
(باللغة الألمانية)

1. Astrid Erll: Kollektives Gedächtnis und Erinnerungskulturen, Verlag Metzler, 2005

2. Birgit Neumann: Literatur, Erinnerung, Identität. In: Gedächtniskonzepte der Literaturwissenschaft. Walter de Gruyter, 2005.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نقل مصابين في صفوف الجيش الإسرائيلي لمستشفى في حيفا


.. الحرب تحول السودان إلى دولة غير صالحة للعيش مع نفاد مقومات ا




.. العربية ترصد انطلاق الطائرة السعودية الثانية للبنان لمساعدة


.. قتيل وعدد من الجرحى في حادث قطار بصعيد مصر




.. مع توسيع إسرائيل عمليتها البرية في لبنان.. هل يمتلك حزب الله