الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من المتناقضات في التارخ الإسلامي-9

ياسر يونس
(Yasser Younes)

2007 / 3 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مرة أخرى مع صلاح الدين الأيوبي. وبناء على طلب العديد من القراء أستكمل مقالتي السابقة، فالتناقض الذي يكتنف ما ورد عن هذه الشخصية بين ما ورد في كتب المؤرخين فضلاً عن تحويلها إلى ذلك الرمز الذي أشرنا إليه يستحق بالفعل المزيد من التوضيح وإلقاء الضوء.
وتدليلاً على ما سقته من أحداث في مقالتي السابقة أعرض النص التالي:

""وكان الذي حمل العاضد على تولية صلاح الدين ضعف صلاح الدين، فإنه ظن أنه إذا ولى صلاح الدين، وليس له عسكر ولا رجال، كان في ولايته مستضعفاً، يحكم عليه ولا يقدر على المخالفة فامتنع صلاح الدين وضعفت نفسه عن هذا المقام، فألزمه العاضد وأخذ كارهاً؛ إن الله ليعجب من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل. فلما حضر في القصر خلع عليه خلعة الوزارة: الجبة والعمامة وغيرهما، ولقب بالملك الناصر، وعاد إلى دار عمه أسد الدين شيركوه وأقام بها، ولم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه."" ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ).
فالرجل أظهر الدعة والضعف كي يولى الوزارة وكان له أهدافه الخاصة لا شك, وقد أظهر التمنع في البداية, لكي يؤكد للعاضد ما ظنه فيه من ضعف. والعاضد هذا هو الذي لقب صلاح الدين بالناصر, أي أنه لم ينل هذا اللقب إثر معاركه الشهيرة مع الصليبيين.

ومن الجدير بالذكر أن صلاح الدين تعامل مع مصر منذ توليه الوزارة وقبل أن يصير سلطاناً على أنها ملكية خاصة له ومن أمثلة ذلك الرواية التالية:

"" فلما قرب نجم الدين إلى الديار المصرية خرج ابنه السلطان صلاح الدين بجميع أمراء مصر إلى ملاقاته، وترجل صلاح الدين وجميع الأمراء ومشوا في ركابه؛ ثم قال له ابنه صلاح الدين: هذا الأمر لك يعني الوزارة وهي السلطنة الآن، وتدبير ملك مصر، ونحن بين يديك؛ فقال له نجم الدين: يا بني، ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت أهل له. وأبى نجم الدين عن قبول السلطنة، غير أنه حكمه ابنه صلاح الدين في الخزائن، فكان يطلق منها ما يختار من غير مراجعة صلاح الدين."" ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ).

ومن الأمور التي تبين براعة صلاح الدين في إظهار عكس ما يبطن أنه " لم يلتفت إليه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم " ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة )
وليس هناك أوضح من هذا النص لبيان طبيعة هذه الشخصية فصلاح الدين متسق مع نفسه دائماً حيث يبدأ بالدعة والسكون إلى أن يمكن لنفسه, وها هو يفعل ذلك أيضاً بعد وفاة نور الدين محمود صاحب الفضل عليه. فقد خلف نور الدين ولده الملك الصالح إسماعيل. وكان الصالح في دمشق حين أراد شمس الدين علي بن الداية الخروج عليه ولكن الصالح إسماعيل دخل حلب وقبض على بن الداية هذا وسجنه.
وبعد ذلك :
"" ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن ولده الملك الصالح صبي لا يستقل بالأمر، ولا ينهض بأعباء الملك، واختلفت الأحوال بالشام. وكاتب شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم صلاح الدين، فتجهز صلاح الدين من مصر في جيش كثيف، وترك بالقاهرة من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح؛ فدخلها بالتسليم "" ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ).

لقد بدأ صلاح الدين بقتال ابن نور الدين ولي نعمته متعللاً بأنه " صبي لا يستقل بالأمر " علماً بأن هذا الصبي أفسد انقلاب بن الداية وكسره وسجنه .
وصلاح الدين في حربه تلك :
" قصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها بالتسليم " ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة )
ثم دارت معارك بينه وبين عز الدين مسعود وبن عمه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود " فتلاقوا فقضى اله تعالى أنهم انكسروا بين يديه " ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ).
وعلى هذا المنوال سار صلاح الدين إلى أن استتبت له الأمور بالصلح تارة والحرب تارة أخرى.

ولابد من التذكير بأن صلاح الدين عقد هدنة ( اتفاقية سلام بالمصطلح الحديث) مع الصليبيين تنازل بمقتضاها عن عدة مدن إسلامية ووافق على أن تظل إحدى المدن، أي عسقلان، خراباً!!!.
وفيما يلي ما ذكره المؤرخ عن هذا:

"" وعقدت هدنة عامة في البحر والبر وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر. أولها أيلول الموافق لحادي وعشرين من شعبان........ وكانت الهدنة على أن يستقر بيد الفرنج يافا وعملها، وقيسارية وعملها، وأرسوف وعملها، وحيفا وعملها، وعكا وعملها، وأن تكون عسقلان خراباً، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته، واشترط الفرنج دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم، وأن يكون لد والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك."" ( المختصر في أخبار البشر ).
وهناك أيضاً محاولة صلح أخرى قام بها صلاح الدين يذكرها المؤرخ كما يلي:
"" لما رأى صلاح الدين أن الفرنج قد لزموا يافا ولم يفارقوها، وشرعوا في عمارتها. رحل من منزلته إلى النطرون ثالث عشر رمضان، وخيم به، فراسله ملك إنكلتار يطلب المهادنة، فكانت الرسل تتردد إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل، ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل، وتكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملك إنكلتار، مضافاً إلى مملكة كانت لها داخل البحر قد ورثتها من زوجها، وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه، فعرض العادل ذلك على صلاح الدين، فأجاب إليه، فلما ظهر الخبر اجتمع القسيسون، والأساقفة، والرهبان إلى أخت ملك إنكلتار وأنكروا عيها، فامتنعت من الإجابة، وقيل كان المانع منه غير ذلك، والله أعلم.""
( الكامل في التاريخ ).

وهنا أجدني أمام مقارنة لابد منها.

لقد تولي صلاح الدين الوزارة للخليفة العاضد الفاطمي وعين الرئيس الراحل السادات نائباًُ للرئيس عبد الناصر، وكان كلاهما مقرباً ممن ولاه المنصب وبعد ذلك قطع صلاح الدين الخطبة عن العاضد أثناء مرضه ونصب نفسه سلطاناً لمصر ومات العاضد بعيد ذلك لأنه كان مريضاً. أما الرئيس السادات فتولى الحكم فور موت الرئيس عبد الناصر بعد صراع مع المرض.

وكانت ولاية صلاح الدين سلطنة مصر إيذاناً بزوال الدولة الفاطمية وتأسيس الدولة الأيوبية، كما كان تولي الرئيس السادات رئاسة مصر إيذاناً بانتهاء الحقبة الناصرية ودخول مصر حقبة جديدة.
وفي العصرين كانت مصر في صراع عسكري محوره فلسطين وتحديداً القدس. ولجأ صلاح الدين والسادات في التخلص من معارضيهم ( أي الفاطميون والناصريون في المقام الأول) إلى إدخالهم السجون، وتكريس آلة الدعاية ضدهم وقد استخدم فيها صلاح الدين أئمة المساجد والشعراء والكتاب واستخدم فيها السادات أئمة المساجد والكتاب والصحفيين والإذاعة والتلفزيون , بحكم اختلاف العصر. وكلاهما عزل من لا يواليه من المناصب العليا والتي كان أهمها في عهد صلاح الدين القضاء، بسبب تغيير مذهب الدولة، وبالفعل أحل صلاح الدين القضاة السنة محل قضاة الفاطميين الشيعة، وأصبح الأزهر مؤسسة سنية بعد أن كان مؤسسة شيعية أنشأها الشيعة.
ثم تتصاعد الأمور ويدخل صلاح الدين عدة مواجهات عسكرية بجيش أعده نور الدين محمود بن زنكي قبل وفاته فيكسب جولات ويخسر جولات، ولكنه يستعيد بيت المقدس أما السادات فيدخل حرباً واحدة يحقق فيها أكبر إنجاز عسكري لمصر في مواجهة إسرائيل. ويستكمله بالتفاوض و التوصل إلى السلام.
وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس السادات لم يكن يحكم إلا مصر ولم يكن خليفة لجميع المسلمين، وكان هدفه هو استعادة الأرضي المصرية المحتلة آنذاك. ويسعى صلاح الدين إلى إبرام معاهدة سلام مع الصليبيين ولكن يختلف الطرفان في آخر لحظة لأن المعاهدة كانت تنص على تزوج الملك العادل أخي صلاح الدين من أخت ريتشارد " قلب الأسد " ، كتطبيع "زواجي" ولكن الصليبيين تراجعوا عنه بسبب معارضة القساوسة. بيد أن صلاح الدين نجح في عقد صلح ( معاهدة سلام ) الرملة التي أشرت إليها وفي كلتا الحالتين لم يذكر لنا المؤرخون أن أحد المشايخ قد اعترض عليها. أما السادات فينجح في إبرام اتفاقية السلام في كامب ديفيد، ويتجنب الدخول في حروب أخرى، إيماناً منه بأن قرار الحرب أخطر من أن يتخذ بدافع من العاطفة أو الحمية، وبأن هناك وسائل أرقى لتسوية النزاعات.
وعن معاهدة السلام تلك التي عقدها الرئيس السادات فحدث ولا حرج فاتهامات العمالة والتخوين صارت ملازمة لاسمه وفترة حكمه, كما أنه دفع حياته ثمناً لها. ولكن عندما يتعلق الأمر بمعاهدة بين صلاح الدين والصليبيين يتنازل بمقتضاها عن عدة مدن ويبقي إحدى المدن خراباً أو عن معاهدة تبدأ بزواج ملك عربي من ملكة صليبية ويرفضها الصليبيون لا صلاح الدين فلا تجد تعليقاً, بل تجد تعتيماً تاماً على الموضوع, قديماً وحديثاً, وترى إصراراً على جعل صلاح الدين رمزاً لعدم التفاوض وللتشدد في المواقف, في حين أن هذا الأمر ليس ميزة على الإطلاق, كما أن الرجل لم يكن كذلك.

ومازال يصر غالبيتنا على التقليل من شأن قيادة السادات لتلك الحرب متذرعين بأن الجيش الذي خاضها هو الجيش الذي جهزه الرئيس عبد الناصر قبل وفاته، ولكن تجدهم عندما يتحدثون عن صلاح الدين لا يقللون البتة من قيادته لحروبه بجيش أعده نور الدين زنكي قبل وفاته. علماً بأنه كان جيشاً مكوناً من جميع الأقطار المسلمة وليس من بلد واحد أو بلدين. لذا كانت لدى صلاح الدين خيارات أكثر.
إن عدداً لا يستهان به منا يصر على رمزية صلاحا الدين كبطل متشدد وعلى رمزية الرئيس السادات كعميل ومتهاون وذلك على الرغم من كل حقائق التاريخ, ولكنه التناقض الذي أحاول جاهداً إلقاء الضوء عليه علنا نعمل العقل وننحي العاطفة جانباً ونخرج من إسار الأفكار المسبقة فنكون بذلك قد قطعنا خطوة أولى على طريق التفكير العلمي السليم وتحكيم المنطق والانطلاق إلى المستقبل دون عقد تاريخية, ولا مخاوف أسطورية فنلحق بركب التقدم وتكون قد أحسنا صنعا ًللعالم ولأنفسنا أولاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون يعلن البدء ببناء ميناء مؤقت في غزة لإستقبال المساع


.. أم تعثر على جثة نجلها في مقبرة جماعية بمجمع ناصر | إذاعة بي




.. جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ


.. ما تأثير حراك طلاب الجامعات الأمريكية المناهض لحرب غزة؟ | بي




.. ريادة الأعمال مغامرة محسوبة | #جلستنا