الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين لا نفتقر إلى الحكمة

سعيد لحدو

2007 / 4 / 12
المجتمع المدني


بين الحكمة والتهور بون شاسع وكبير. لكن ما يفصل السلوك اللامنضبط والمتهور عن التصرف الحكيم والعاقل في لحظة حرجة هو مجرد خيط رفيع تكاد لا تلمحه العين ولكن نتائجه ستكون بلا شك مائلة بقوة.
يأتي هذا الكلام في سياق حادثة ديريك التي بدأت قبل أيام شجاراً بين مجموعة من الشباب السريان والأكراد وراح ضحيتها شاب كردي وبعض الجرحى مما هدد بتطورها إلى أسوأ من ذلك بكثير لولا أن الحكمة قالت كلمتها ورفعت صوتها ليعلو كل الأصوات.
هي لم تكن أكثر من حادثة بلا أية أبعاد قد تحصل في أي وقت وفي أي مكان وحتى بين أفراد العائلة الواحدة, لكنها كادت أن تخرجنا عن طورنا وتحولنا إلى مجموعة من المهتاجين المساقين بالغريزة والمستعدين للتحرك بأي اتجاه بردود فعل غير منضبطة بضوابط المصلحة والفائدة ولا مسترشدة بهدي نور العقل والمنطق.
إنني أسمح لنفسي هنا للتحدث ليس باسم السريان فقط ولكن أيضاً باسم الأخوة الأكراد, مستميحاً منهم العذر لتطاولي هذا على حق أساسي من ,حقوقهم أفرادٍ وجماعات. ولعل غايتي ستشفع لي في ذلك وهي الوئام والمحبة والتعايش الأخوي المشترك والسعي الدائم لتكريس هذه المبادئ نهجاً ثابتاً في حياتنا اليومية.
هي حادثة مؤسفة بكل المقاييس. حصل مثلها في الماضي وتحصل اليوم وستحصل في المستقبل طالما نحن بشر ونتعايش معاً, وما يؤسف له أكثر أن تخلف وراءها ضحايا بشرية, لا فرق من أي جانب كانوا. فنحن في الحقيقة جانب واحد وإن كان لنا أكثر من لون. جانب حزب الإنسان والمواطن المكافح ضد القهر والظلم واللاعدالة من أية جهة جاءت. ولذا يسوؤنا كثيراً ويعصر قلوبنا أسىً وألماً حين نجد أنفسنا في صفين متقابلين كنتيجة لحادثة من هذا النوع مهما كانت أسبابها. وألا نعمل كل من جانبه بدافع ضرورات الحكمة والمصلحة المشتركة أن نخفف من حرارة الموقف وأن نقلل ما أمكن من نتائجه السلبية.
لا شك أن سقوط ضحية وجرحى وعشرات المعتقلين ليس فقط مدعاة للأسف والحزن الشديد لعدم إمكان تلافي ذلك, ولكن للحسرة والألم العميق في النفوس والتي لن يزيلها أي كلام مواساة مهما بلغ من قوة البلاغة والتأثير. كما إن الروح التي أزهقت لن يكون بالإمكان إعادتها إلى الحياة بأية وسيلة كانت. ولكن تبقى الحكمة ,التي لا نفتقر إليها, هي الضامن الأكيد والرهان الوحيد للملمة الجراح وحصر النتائج السلبية لهكذا حادثة, ومحاولة تلافيها في المستقبل أو حصرها ما أمكن في حدودها الطبيعية تسهيلاً لمعالجتها بما يعيد الحق إلى نصابه. هذه الحكمة هي بالتأكيد ليست مفقودة لدى رجالات كبار بنفوسهم ورجاحة عقولهم من الطرفين. ولعل مسيرة التصالح التي جرت في 6 نيسان في ديريك وبعد أيام قليلة من الحادثة, بهمة هؤلاء الرجال خير دليل على ذلك. وهي الخطوة الأكثر حكمة وجرأة وشجاعة من الجميع. والاستقبال المتميز بروح السماحة والإخاء والمحبة من قبل الأخوة الأكراد, وأهل الفقيد تحديداً دليل سمو أخلاقي رفيع, وعظمة في النفوس لا تدانيها عظمة. مما أزال كل أثر سلبي لمشاهد الإثارة والهيجان والتي لا تعبر بأي حال أمام هذا المشهد الفريد سوى عن نزوة هياج مؤقتة وطفرة زائلة. لتعود الصورة الناصعة إلى الواجهة, صورة التحضر والترفع عن الصغائر وتجاوز الدونيات, لما هو أهم وأعظم, ولتحتل تلك الصورة موقعها المناسب في قلب مجتمع طالما تقاسمنا معاً أفراحه وأتراحه, همومه وخيراته, وتشاركنا في بناء عوامل رفعته وتساميه.
ماذا يمكننا قوله بعد والواقع أصدق من كل التعابير. ومسيرة التصالح بالأمس في ديريك أبلغ من كل الوقائع, وأصدق من كل المشاعر. فهي ليست مجرد مسيرة تصالح بين فريقين كان لهما لسبب ما أن يختلفا. وإنما هي في الحقيقة مسيرة وطن بأبنائه نحو إشراقة المستقبل. لقد علمتمونا أن ديريك بمسيرتها تلك لم تعد المدينة المنسية في أقصى شمال شرق سورية, وإنما هي الوطن بأكمله وقد تجسد بتلك المسيرة المثال والنموذج للتآخي والتعايش.
لسنا بحاجة بالتأكيد لحوادث مؤسفة من هذا النوع لكي نعبر عن أصالة الروح الوطنية السمحة التي طالما تميز بها أبناء هذا الوطن, أياً كان لون العمامة التي يرتدونها, قومية أو دينية أو سياسية. فهل لنا بالمزيد من أمثال هذه المسيرة في عموم أرجاء الوطن لنكرس تلك الوحدة الشاملة التي لا يزعزع لها تكاثر الألوان بنياناً.
فتحية لكل أولئك الرجال من كل الأطياف الذين لم يفتقروا للحكمة والشجاعة, فرسموا بذلك نهجاً للحياة والمستقبل لوطن لكل أبنائه. وأخص بالتحية آل الفقيد, فقيدنا جميعاً, وجميع الذين تضرروا بأي شكل كان. مترفعين بكل شهامة وإباء عن آلامهم وجراحهم التي هي آلامنا وجراحنا جميعاً, معتبرين تلك مجرد حادثة عابرة لا يمكن أن ننساها, ولكن ليس لإثارة الأحقاد وإنما لأخذ الدروس والعبر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي في الجمعية ا


.. موجز أخبار السابعة مساءً - الأونروا: غارات الاحتلال في لبنان




.. لبنانيون ولاجئون هجّرتهم الغارت الإسرائيلية يروون معاناتهم و


.. طلاب جامعة السوربون بفرنسا يتظاهرون من أجل غزة ولبنان




.. شاهد| دبلوماسيون يغادرون قاعة الأمم المتحدة بعد بدء خطاب نتن