الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلةٌ مع حكمةِ الأيزيديِّ

سامي العامري

2007 / 4 / 22
القضية الكردية


اليه أينما كان فوق التراب أم فوقهَ !
---------
البارحة صباحاً بينما كنتُ خارجاً من البيت إذا بثلاثة شُبّانٍ عراقيين ينتمون الى الطائفة الأيزيدية يخطرون من أمامي , أعرفهم منذ سنتين تقريباً , أحدهم يُدعى نادر صاحب محل للخدمات التقنية الحديثة { إنترنيت كافيه } في مدينة كولونيا
وبما أنَّ لديَّ مشاكلَ مع جهاز الكومبيوتر الذي عندي في البيت لذا كنتُ وما زلتُ أترَدَّدُ على محلِّهِ , إنهُ يمتلك خبرةً حَسَنةً في مجال تقنية الإنترنيت أحتاج اليها أحياناً ,
على أية حالٍ حينما كانوا سائرين من أمام بيتي كان الجوُّ مُلَبَّداً بغيومٍ تمتدُّ قريباً
! حتى يمكن مسكُها بل إنك تُحسُّ أنَّ الجو كان يمطر غيوماً لا مطراً هذهِ المَرَّة
ومن وسط هذه الحُلَّة الضبابية جاءني صوت أحدهم وهو نادر : أشكُّ أنكَ كاتبٌ او شاعرٌ . كان صوتهُ بين الجَد والمزاح وأضاف : يحصل في شيخان ما يحصل وانت لا مقالة لا شعر حتى ولا عبارة إستنكارٍ او إدانةٍ .
تأمَّلتُ في كلامهِ المُعاتِب سريعاً , أحسستُ فوراً بالذَنْب , الرجلُ على حقٍّ ولكني سألتُ نفسي : مَن انا ؟
اذا كانت القضية إظهارَ التضامن مع طيفٍ مُهمٍّ من أطياف الشعب العراقي الجميل ألا وهُمْ الأيزيديون فانا أعلنتُ ذلك – ولا فخر – منذ أن كنتُ يافعاً .
الآن وبعد ربع قرنٍ على تلك الذكرى المُعَبِّرة الحَيَّة مع رجلٍ عراقي أيزيديٍّ أشعرُ أنني كنتُ أتفهَّمُ وأتعاطف مع هذه الطائفة العريقة لستُ انا فقط بل لو سمحتُ لمشاعري بالتعبير عن نفسها صافيةً لقلتُ :
انا ومعي كلُّ نخيل العراق , ولماذا لا وانا من حيث المولد أنتمي الى الطائفة الشيعية وأعرف بعمقٍ ما معنى الإضطهاد الطائفي او الديني او العرقي وما هي الآلام والإحباطات التي يتركُها في النفس وقد عاش كثيرٌ مِنّا هذه الكارثةَ وبنِسَبٍ مُتفاوتةٍ أَمْلَتْها عقليةُ النظام ومزاجُهُ
رغم أني في البَدء وبسببٍ من حداثةِ سِني كنتُ أعتقد أنّ النظام البعثي يُعادي الشيعةَ والأكراد فَحَسْبُ ولكنَّ تجربةً تلوحُ بسيطةً مع عراقيٍّ أيزيديٍّ أضافتْ الى رؤيتي جوانبَ حيويةً وحثَّتْني بكيفيةٍ ما على فهم القوى التي تتجاذب عناصرَ المجتمع العراقي وتُشَكِّلُ بُنيتَهُ ودعائمَهُ , وفَهْمِ معنى مشاعر الإنتماء من نواحيه المُختلفة .
كان ذلك عام 1982 . والمكان قاطع العمارة – علي الغربي . وكنتُ في الثانية والعشرين والرجل الأيزيدي في حدود الثلاثين من العمر .
القضية كما ذكرتُ بدأتْ بسيطةً ثمَّ راحتْ تتفاعل .
بعد هروبي من الجيش لمدة ستة أشهر وضيقي الذي لا يُوصَف بالحروب وأربابِها وعودتي الى وحدتي ( نادماً ) التقيتُ بجنديٍّ مُلتَحٍ خارجَ قِسْمِ الإدارة العسكرية التي تُسَمّى ( الخلفي ) , كان جالساً ويضع في حضنهِ كائناً غريباً
عنهُ وعَمّا يُبَرِّر إنسانية الإنسان ألا وهو السلاح الرشّاش , رمز أبدية الموت والشقاوات لدى عصابة صدام ,
آهٍ كم أُعادي السلاح وقد رأيت عذابات ضحاياه .
وحَولَ لحيةِ الرجل الطويلة فقد كان الامر غير مألوفٍ بالنسبة لي بحُكم معرفتي بشدَّةِ التدقيقِ بشأن حلاقة الذقن من قِبَلِ الضُبّاط خصوصاً في فترات اللا حرب واللا سلم او ما يُشبهُ حربَ الإستنزاف التي كانت ساريةً وقتذاك .
بعد أنْ أنهيتُ إجراءات إلتحاقي ثانيةً وبعد باقاتٍ من الشتائم وعبارات الإزدراء
من العميد المجرم ( عَمَّدَهُ الله بنار جهنم ) !
دفعني فضولي للإقتراب من هذا الرجل المُلتحي , أجاب على تحيتي باسماً باشّاً
أحسستُ بالحَرَج , سألتُ بسذاجةٍ واستغرابٍ : جنديٌّ ومُلْتَحٍ !
أجاب ضاحكاً : بعدك ما شِفِتْ شي
ثُمّ قال : سمعتُ عبارات استقبال العميد لك , إجلسْ , فأزاح جانباً سلاحَهُ
الرشّاش عنهُ ولمّا جلستُ بدأَ قصتَهُ بطريقةٍ مؤثِّرةٍ مُحزنة , قال :
من الصعوبة جداً الهربُ والتخَفّي في بغداد على حدِّ علمي ولكنْ يبدو أنك كنتَ محظوظاً . أُنظرْ , انا من سِنْجار , المدينة التي ولِدْتُ فيها ,
لَكَم أعشقُها , إنها ليستْ روحي فقط وإنما جسدي وبساتيني أيضاً ومع أني كنتُ قادراً على البقاء فيها مُتخفِّياً مثلك ولكنَّ ما منعني هو خوفي على أخَوَيَّ وأُختي وجميعهم كانوا يدرسون في الجامعة , أخواي في جامعة الموصل وأختي في جامعة بغداد ولكنَّ حذري ذاك رغم ذلك لم ينفعني , فقد طُلِبَ من الجميع
الدخول في دورات ما يسمونهُ الجيش الشعبي حتى أختي !
وجَرتْ هناك من بين ما جَرَتْ – وهذا ما يؤلمني كذلك – حالات اغتصابٍ للطالبات اللّواتي امتَنَعْنَ .
قال هذه الجُملةَ بغضبٍ رغم أنه بدافعٍ من لطافتهِ وأريحيتهِ لم يُرِدْ أنْ يُضفي على لقائنا طابعَ حزنٍ او سوداوية , إنتقلَ بموضوعهِ بمهارةٍ الى نوعٍ من السخرية ,
قال : في هذا الزمن يُعتَرَفُ بعراقيتكَ وهُويَّتكَ فقط عندما يحتاجونك للموت
عدا ذلك فانت إمّا فارسي او أعجمي !
وبما أنَّ الحروب لا تنتهي في الداخل والخارج
لذا فنحنُ دائماً عراقيون أماجدُ وأُصلاء !!
الحكاية أنَّ أغلبَ شباب سِنجار الأيزيديين الذين طُلِبتْ مواليدُهم للإلتحاق بالجيش أي الحرب والموت رفضوا الإلتحاق مثلك ليس بسببِ ضعفٍ في الحسِّ الوطني وإنما بسبب انعدام الإيمان بهذه الحرب ولو كان على أبواب العراق عدوٌّ حقيقيٌّ يريد بالبلد شَرَّاً مثلاً فمَن تُرى يتَخَلَّف ؟ فهذا وطنهم ولكنَّ الذي نُقاتل اليومَ هو عدوٌّ وهميٌّ صَنَعَتْهُ مصالحُ الساسة , وأمّا من ناحيتي فقد صدرَتْ موافقةٌ من صدام على مَضَضٍ بأنْ نخدم نحن الشباب الأيزيديين لمدة نصف عامٍ على أنْ يكون هذا في الجانب الخدماتي لا غير مع مُراعاة خصوصية ديننا وتقاليدنا ومنها إطالة اللِّحى مثلاً , انا لستُ مُتديناً ولكني أَميلُ الى التراث وتراثنا غنيٌّ وثقافتنا هي بعمر ثقافة العراق
إنك لو دخلتَ واحداً من معابدنا على سبيل المثال ستُحسُّ فوراً بالرهبة ورائحة التأريخ وسِحْرِ المكان , ولكني أعرف أنَّ سياسة التبعيث والتعتيم المُتَعَمَّد على كلِّ ما لهُ صِلةٌ بالدين والموروث هُما أهَمُّ ما ارتكز عليه هذا الحُكم , وفترة الخدمة المحدودة في الجيش بالنسبة لنا والتي وعدونا بها لا أعتقد أنَّ صدام سيلتزم بها لأنهُ انتهازي وقد فعل أولاً مع الشيعة كـ ( تمرين ) ما هو أبشعُ من ذلك فبما أنَّ واحداً من أهدافِهِ هو الفتك بالشيعة الذين عَرَفوا معدنَهُ قبل تسَلُّمهِ الحكم وبما أنَّ التنكيل والتهجير لم يعودا كافيَين فقد فكَّر أنْ يُريحَ رأسَهُ منهم بطريقة أكثر عمليةً الا وهي فتح جبهةٍ مع عدوٍّ أوجدَهُ خيالُهُ المريض وها هو يزجُّ بشبابهم في أتون معركة عبثية لا يريدونها كشأن كلِّ العراقيين والإيرانيين كذلك ,
أقول : يزجُّ بهم , وأين ؟
على خطوط النار وفي الحجاب تحديداً !
وطبيعيٌّ أنَّ النظام لم يستثنِ شيعيَّاً او سُنيَّاً , مسيحيَّاً او مسلماً , كرديَّاً او عربياً او تركمانياً إلاَ وأرغمهُ على المشاركة مع الأسف .
ألا تلاحظ النفاق الإعلامي الذي يجعل قمةَ الشهادة والشرف والمجد والوطنية هي الموت في هذه الحرب فيما هُم وأبناءُ الرئيس يسرحون ويمرحون في بغداد حيث مجدهم الوحيد السُّكر والعربدة واغتصاب الفتيات ؟
انا لا أخاف منك حين أتكلّم هكذا فانا أعرف أعدائي وأعرف المنافق رغم أني لا أملك عدوَّاً ولا أريد ذلك ولكنْ من أسباب انفعالي الآن ما قالتْهُ لنا أُختي بأنهم
اغتصبوا في تلك الفترة ثلاث طالباتٍ كُنَّ مثل أُختي مُجِدّاتٍ ولم يتعاطَينَ السياسة او المقاومة او أي شيءٍ من هذا القبيل أمّا أُختي فقد ظلَّتْ
تتذمَّر أمام زميلاتها في الجامعة من سوء معاملة الحزب او الإتحاد الوطني لأخوَيها واليومَ لها حتى وصل أمرُها الى رئاسة الإتحاد لكنها استطاعت لاحقاً الخروج من سجنٍ خاصٍّ بإعلان ( التوبة ) فاجتمعنا في البيت ذات يومٍ فقرَّر الجميع تركَ كلِّ شيءٍ والمغامرة بعبور الحدود الى تركيا ففعلوا ذلك خلال أيام إلاَّ انا وطبعاً انا أكبرهم سنّاً فقد أخبرتهم بأننا نمتلك بُستاناً وأنا عندي محلٍّ للخياطة ولا أستطيع ترك هذه الأشياء ببساطة ثُمَّ إني لا أُحِبُّ السفر وأخاف الغربة , كما كان أبوانا .
لقد مضتْ على خروج أخوَيَّ وأُختي ثلاثة شهور ولا أعلم عنهم شيئاً لحَدِّ الآن وأحسُّ بين الحين والآخر بأنهُ كان خطأً مني أني لم أعبر الحدود معهم
ولكنْ هكذا انا في تَعَلُّقي بمدينتي وبلدي وهو كما ترى أشبه بالسِّحْر .
كنتُ حائراً في أمرِ هذا الرجل الرائع ,
كان إسمهُ قدري حسبما أتذكَّر , وطبيعي أنَّ صياغةَ الكثير من أفكاره لُغةً هي
الآن من عندي فالمسافة الزمنية بين اليوم وقبل ربع قرن بعيدةٌ ولكنَّ لي حافظةً قد تنسى الكلمات مئةً بالمئة ولكنها لا تنسى موقفاً كهذا أبداً ,
إنني أمام قصيدة كنتُ أكافح من أجل كتابتها , لا أدري , فقد هربتُ فيما بعد
مَرَّةً أُخرى هروباً شبهَ يائسٍ وتركتُ ذلك الرجل مع قلبهِ الواسع ولكنَّ مُتَخَلِّفاً مثل صدام حسين أنّى له أنْ يفهمَ هكذا ثروةٍ وغِنىً روحيٍّ وألمٍ كبيرٍ ومَن يستطيع أن يُنَبِّه بعضَ الغافلين الى أنَّ الأصالة هي الأصالة وأنَّ العراق باقٍ عزيزاً طالما أعتزَّ أبناؤُهُ ببعضهم البعض ؟

كولونيا
شباط 07
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحيفة لومانيتيه: -لا وجود للجمهورية الفرنسية دون المهاجرين-


.. السلطات الجزائرية تدرس إمكانية إشراك المجتمع المدني كمراقب م




.. جلسة مفتوحة في مجلس الأمن لمناقشة الوضع الإنساني في غزة وإيج


.. أحداث قيصري.. اعتقال المئات بتركيا وفرض إجراءات أمنية إثر اع




.. المغرب.. المجلس الأعلى لحقوق الإنسان يصدر تقريره لعام 2023