الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كَرْبْ ما بَعْدْ الصَدْمَة تداعيات ما بَعْدْ الحرب مصر ولبنان نموذجاً

خليل فاضل

2007 / 4 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تأثير الحروب وتوابعها على الإنسان العربي في حالتي مصر ولبنان يدعو إلى كثير من التأمل، فمصر منذ 52 وحتى73 كانت مسرحاً لحروب شتى مع إسرائيل، ناهيك عن العنف الإرهابي المسلح على أرضها مع الجماعات الإسلامية بعد ذلك، أما اللبنانيين على مختلف طوائفهم فلقد طحنتهم الحروب الإقليمية والطائفية طحناً، أنهكتهم وأرهقتهم تماماً على الرغم من صلابتهم الشديدة، وقدراتهم العالية على الامتصاص والانبثاق من الرماد كطائر الفينيق .
فوارق نفسية بين حربي 56 واليمن
حروب مصر امتدت على مدى أربعة عقود، من الأربعينات حتى السبعينات، شملت حروب 48 ، 56 ، 67 ، 73 في 48 دارت رحاها في فلسطين، وكان التأثير النفسي المتعلق بالصدمة أكبر وأخطر لتعلقه بالوعي الجمعي بالهزيمة والنكبة واحتلال فلسطين، وبالطبع نشوء دولة إسرائيل بكل اختلافها العرقي والثقافي والديني والتاريخي وتبعيتها الخالصة للولايات المتحدة الأمريكية، أما حرب 56 فلقد شملت تهديداً مباشراً للإنسان مصر، تحديداً في مدن القناة، لكن الصدمة امتصتها المقاومة الشعبية في بورسعيد، حينئذ كانت ثورة 23 يوليو في بدايتها، كان المدَّ الناصري في أوجه، مما غطىّ على أية معاناة نفسية أو بدنية من الممكن أن تكون قد تركتها الحرب، غير أن الإعلام المصري ما فتئ يعبئ الشعب للمواجهة مع عدوه، كانت نبرة الخطاب السياسي عالية تحمل عزة وكرامة، في هذا الإطار يجب ألاّ ننسى إرسال الجيش المصري إلى اليمن، وكسر عظامه في الجبال الوعرة هناك، مما أدى إلى صدمات وكروب متتالية لأسر كثيرة، كان أبناءها أفراداً للقوات المسلحة، ظهرت إما في صورة صمت مطبق وحزن شديد، بمعنى أنها قد أنكفأت على نفسها وأغلقت بابها واتشحت بالسواد، لقت صور شهدائها في صدر البيت وزارت رفاتهم في قبورهم، أو رد فعل عنيف في زمن صعب، خرج فيه بعض الناس إلى الشارع وأقاموا السرادقات لأبنائهم الشهداء، صرخوا في وجه عبد الناصر حينذاك مولولين ناعين ناحين باللائمة على النظام المصري، الذي حرق أبناءه ورمى بهم في أتون حرب خاسرة، في بلاد تقتل طعناً بالخنجر في الظهر وتلقي بالرجال من فوق قمم الجبال، أما في 67 فلقد كان للأمر شأن أخر؛ فكل الإيحاءات والاستعدادات والصيحات، أهّلت الشعب لاستقبال النصر، فما كان إلاّ أن دحر ونحر مئات الآلاف، وأسر الكثيرين منهم بل وقتلوا وهم أسرى في صحراء التيه، كان الأثر الصدمي الأكبر يتمثل أكثر في حالة الانكسار الشديدة، والذل العميق الذي نال النفس المصرية، والذي ظهر جلياً في صوت عبد الناصر في خطابه الشهير، بعد انتهاء الحرب في 6 ساعات واندفاع الجموع لإعادته (فكيف يمضي وهو المسئول عما حدث)، أما مدن القناة ـ بعد احتلال سيناء بكاملهاـ فلقد هُجر أهليها وعاشوا في المدارس ومساكن الإيواء، في مدن غير مدنهم، لم يراعوا اجتماعياً بالقدر الذي يحفظ كرامتهم، مما أدىّ إلى توابع وكروب ما بعد الصدمة أثرت كثيراً في نفوس أجيال مختلفة، تلتها حرب الاستنزاف بكل تشبثها لإعادة الكرامة وإثبات البطولة، في حين أن جراح المصريين لرؤيتهم جيشهم يندحر، يؤسر ويطارد في كل مكان، إلى فضح كل ذلك التهاون الفظيع، واحتمالات الخيانة القاسية التي أطلت بوجهها من خلال نوافذ كثيرة، أما في حرب الاستنزاف 68 ـ 70 فكانت إسرائيل بطائرات الفانتوم تحاول ضرب أهداف مصرية عسكرية في العمق، وكما هو شأنها دائماً كانت تضرب مدرسة في بحر البقر أو مصنعاً في أبي زعبل، تثير الرعب في نفوس الناس الذين اشتاقوا للثأر واسترداد الحق والأرض، وكان ما كان في 73 حيث عبر المصريون القناة وتقدموا، لكن مالبثوا أن ووجهوا بالثغرة، وبدخول الاسرائيلين من ناحية الدفرسوار وحتى السويس، دار هناك قتال ضاري، غير أن الأمر كله برمته كان على الحدود المصرية، لم يطل البنايات ولا البني التحتية ولا محطات الكهرباء. لم تكن الأسلحة متطورة، ومع ذلك كان المسرح السياسي الإقليمي غير مهيأ لتدمير فظيع وكان وجود الاتحاد السوفيتي وقتها موازياً وموازناً للولايات المتحدة، رادعاً لممارسة الهمجية والوحشية من قبل إسرائيل، تلك التي مارستها بامتياز وبكل الحقد والكراهية والعنصرية على لبنان، على مرّ السنوات سواء كان ذلك بحرب مفتوحة2006 أو باجتياح شامل 1982، أو من خلال عمليات قذرة عن طريق الاغتيالات والتفجيرات المستمرة، غير أن حروب إسرائيل على لبنان تصدياً للمقاومة الفلسطينية واللبنانية على مرّ السنوات كان متطوراً في عنفوانه وبشاعته، متسماً بالمجــــــــــازر التي يقتل فيها النســاء والأطفال علناً وبدم بارد، فمن قانـا 1 إلى قانـا 2 ،مروراً بكل الاختراقات والتوترات النفسية والبدنية الشديدة.

لبنان: «شدّة ما بعد الصدمة»
غير أن الحرب الأهلية اللبنانية 1975 – 1990 تركت آثاراً بدنية ونفسية مركبة، تدعو الى التأمل، ولعل أكثرها إثارة لنوازع النفس الإنسانية هي تلك الحرب الأخيرة في 2006 حيث كان حجم الدمار بشعاً بكل الأساليب .
حدود لبنان متاخمه لجيرانه، ومفتوحة للعالم براً وبحراً وجواً، وهو غير مصر، لا توجد به صحراء عازلة، وإنما قري مأهولة بالسكان، ومدن يعيشها أهلها متلاصقة ومتضامنة.
إذن فهي كروب ما بعد الصدمة، كروب ملوثة، سميكة الجلد عميقة القرار، تتطلب فترة حضانة ثم تبدأ علاماتها وآثارها في الظهور، ونظراً لطول مدة الحرب وكثافتها واستخدام أحداث أسلحة الدمار فيها، كانت الإصابات النفسية من جراء القصف والتدمير والتهجير، تشمل الهول والرعب والصدمة، فقدان البيت والأهل والخلانّ ؟، فقدان كل الأشياء المحببة، وأهم من كل ذلك فقدان صورة الوطن الجميل الكامل المتكامل، وتركه بقعاً إسمنتية وركاماً متطاولاً، بركاً من الدم زنابق مقتولة وأحباء تحت الأنقاض، الأشياء الصغيرة والكبيرة، الممتلكات والذكريات كلها تحت الرماد.كرب، شدّة ما بعد الصدمة ـ PTSD وهى اختصار Post Traumatic Stress Disorder ونراه هنا زملة أعراض Syndrome لا اضطراب بالمعنى الصحيح.
من يشفي الجروح النفسية الغائرة؟
الـ PTSD يعني حسب التشخيص العالمي للاضطرابات النفسية أعراضاً (A1) تكونت بعد التعرض لضغط صدمي شديد، نتيجة تجربة شخصية مباشرة، أو حدث له علاقة مباشرة أو تهديدية بالموت أو الإصابة الخطيرة، أو أي تهديد آخر لكيان الجسم أو مشاهدة حادثة أو حوادث تحمل في طياتها بذرة الموت، الإصابة، أو تهديد لجسد الإنسان أو للآخرين حوله، أو حتى العلم بأخبار حول موت مفاجئ أو عنيف مدمر، أو إصابة بالغة، أما عن ردود الفعل فتتمحور حول الخوف الشديد، اليأس، العجز والرعب (وفى حالة الأطفال ينتابهم سلوك متهيج ومشتت)،(A2) ـ أما عن الأعراض الناتجة من التعرض للصدمة الشديدة فهي إستعادة الإحساس وخوض التجربة الصدمية وكأنها تحدث مرة ومرات أخرى (B) في شكل توهمات، هلوسات، نوبات تذكر انشقاقية Flashback Episodes. مع تجنب دائم ومستمر لأي شيئ له علاقة بالصدمة مع (خدَر) وتنميل فى الاستجابات ككل، هذا بجانب أعراض دائمة لحالة (اليقظة الدائمة) D وتستمر تلك الأعراض لأكثر من شهر وتسبب اضطراباً إكلينكياً، مرضياً يعوق الحياة الاجتماعية والمهنية، كما يعوق أي منطقة أخرى ذات أهمية للمصدوم F. ، وينقسم إلى ثلاث درجات : الأولى الحادة وتستغرق أقل من ثلاث أشهر، والمزمنة التي تمتد لأكثر من ثلاثة أشهر أو أطول. أما تلك المتأخرة (تأتي بعد فترة حضانة حوالي 6 أشهر من التعرض للحدث، يكون الشخص طبيعياً خلال تلك الفترةوبعدئذ تبدأ الأعراض في الظهور في الشهر السابع).
من المؤسف أن حوالي ثلث الحالات في أماكن الحروب والكوارث بحسب ما هو متاح من إحصاءات ودراسات (في أماكن مثل البوسنة والهرسك، صربيا،العراق، لبنان، فلسطين، الصومال، فيتنام)، لا يتعافى حتى بعد مرور السنوات، بل أن أحدى الدراسات أوضحت أن حوالي 50% من أسرى الحرب العالمية الثانية، لم يتعافوا من تلك الصدمة طيلة حياتهم.
أما الأمر في لبنان فهو جدّ مرتبط بالشدّة، بالمدّة ، مما يوحى بكرب مزمن محفور في الذاكرة، قابع في الوجدان. ذلك الكرب ليس نادراً ولا قصير الأمد، وأيضاً لا يحمل خصائص تشخيصية محددة بمعنى أنه مرتبط بأعراض مرضية أخري ملاصقة له وداخلة فيه ‘Co-morbidity’ بمعنى ان (كرب ما بعد الصدمة PTSD) ليس اضطراباً خاصاً واحداً خالصاً كما يتصور البعض، سببته الحروب فحسب، فهو لا يخلو من الاكتئاب، حالات الحصر والتوتر، الإضطرابات السلوكية، إدمان المهدئات والمخدرات ومسكنات الألم والخمور، يحدث هذا أكثر في هؤلاء الذين كانوا على استعداد للإصابة ولديهم هشاشة وقابلية والعكس، صحيح أن كرب ما بعد الصدمة يفجر فيمن يبدون (عاديين، خاليين من الأعراض)، اضطرابات أهمها الاكتئاب الجسيم والخطير وإدمان المخدرات، وفي كثير من الأحيان يغطى الاكتئاب بأجنحته السوداء على كافة أعراض ما بعد الصدمة.
رصدت بعض الملاحظات عبر بعض المراكز المحدودة في الوطن العربي، تؤكد على أن المعذبين الناجين من صدمات وشدّات كوارث الحرب اللبنانية تحديداً، وبعض الحالات المرتبطة بالحرب.
إن المنظومة النفسية، والجهاز الذهني للإنسان اللبناني، قد غرقا وسُحقا وقهرا بالحدث العنيف، وبصدمة الحرب بكل أهوالها (الدماء – الفقدان – الموت – الأشلاء – الانهيار – الحرمان – التشريد – دوي القنابل - ارتطام الصوريخ - أصوات التهشم والتكسر - الخوف – الترقب – الرعب – الهلع – انتظار ما هو آت – أصوات الانفجارات – أزيز الرصاص – صراخ الأطفال – عويل النساء – انعدام الأمن والأمان – الإحساس بدنو الأجل - الخشية).... كل ذلك وما هو أكثر من ذلك أن استمرار الحرب لسنوات دون توقف، كما هو في الحال اللبنانية، وهو مختلف تماماً عن الحالة المصرية، التى من خصائصها أن حروبها خاطفة لا تستمر إلاّ أيام وأنها لا تؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية، إذن ترى ما الذي حدث داخل الأنا اللبنانية على مدى تلك العقود نتيجة العنف المزمن؟، تدور هنا ثلاثة أفكار: واحدة من الصدمة العنيفة والثانية من الجرح الغائر (البدني والنفسي، العميق والمتشظي)، والثالثة هي تلك الآثار والتوابع الممزقة للكيان البشري ككل. إن الغزو الذهني واختراق الأنا يتم بشكل مفاجئ، سريع ، خاطف، شديد لا يسمح في الكثير من الأحوال بالتقاط الأنفس للتكيف واستعادة التوازن ورباطة الجأش.
الصدمة كأثر ونتيجة للانفصال أو الفقدان تكون أكبر وأكثر، إذا ما جاءت من نفس الأهل أو العشيرة أو الوطن (كحالات الحرب الأهلية أو إرهاب الدولة بشرطتها وجهازها الأمني في حالات التعذيب)، هنا يكون الاكتئاب (أحياناًَ) صمام أمان وملاذ يمتص (الصدمة) بكل بشاعتها، لوعتها، رعبها لكن إذا لم يمتلك المصدوم إمكانية الوصول إلى ذلك (الوضع الاكتئابي) الذي يسمح له بإخراج المرارة والحسرة، فإن الصدمة هنا قد تلعب لعبتها القذرة في ساحة النفس دون رحمة ودون هوادة )، عندئذ فيبدأ فكر الانتقام والتشفي، ليحدث في الآخر (أياً كان) صدمة بالغة للغاية، وهكذا تدوّر الصدمة والكرب وتوابعها لتصبح كالنار لا تترك أخضراً أو يابس . هنا يصبح هاجس فقدان العزيز شاغلاً مرهقاً منهكاً.
وما بين الجلاد والضحية تدور دوائر العنف والقسوة، دوامة الشعور بالذنب، والإحساس بالعجز، ثم الاندفاع نحو ما يمكن أن (يفصل)، يحقق عتمة الوعي، في الحياة، في السياسة، العمل الحزبي، النشاط الاجتماعي الزائد أو التحوصل داخلياً، التقوقع والنوم في كهف وربما الإحساس بالأمان داخل درع السلحفاة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حملة ترامب تجمع تبرعات بأكثر من 76 مليون دولار في أبريل


.. القوات الروسية تعلن سيطرتها على قرية -أوتشيرتين- في منطقة دو




.. الاحتلال يهدم مسجد الدعوة ويجبر الغزيين على الصلاة في الخلاء


.. كتائب القسام تقصف تحشدات جيش الاحتلال داخل موقع كرم أبو سالم




.. وزير المالية الإسرائيلي: إبرام صفقة استسلام تنهي الحرب سيكو