الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات خاصة عن جسر مكسور الجناح

خالص عزمي

2007 / 4 / 23
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في نهاية عام 1946 باشرت شركة هولو البريطانية بانشاء جسر الصرافية الحديدي الذي يربط ما بين العطيفية بالقرب من جامع براثا في الكرخ ؛ والوزيرية في الرصافة ؛ و حينما كان والدي يأخذ الاسرة معه الى ( الجرداغ ) الذي ابتناه على ساحل دجلة في الكرخ ( بالقرب من مقهى البيروتي حاليا ) لقضاء عطلة نهاية الاسبوع كنت اشاهد كيف ان المهندسين والعمال يواصلون الليل والنهار من اجل انجازه في اقرب وقت ممكن ؛ ولكن وثبة الشعب الكبرى ضد معاهدة بورتسموث والمواجهات الدامية ما بين المتظاهرين وقوات الامن والتي ذهب ضحيتها عدد من خيرة شباب النضال البطولي ؛ عرقلت خطط التشييد لفترة طويلة ؛ حتى عاودت الهيئات العاملة فيه استكماله وجرى افتتاحه على عهد حكومة جميل المدفعي في نهاية عام 1952؛ حيث شاهد الجمهور ولاول مرة القطار العراقي الذي كان يزين جانبيه شعار ( س ح ح ع ) ــ سكك حديد الحكومة العراقية ــ ويرفع على هامته علم البلاد ؛ وهو يطوي فضآءات الجسرالسبعة ؛ مارا من على شرفته العالية عابرا نهر دجلة بمسافة 45 مترا من ضفته الشرقية حتى ضفته الغربية . لقد غطت الصحافة هذا الحدث الهام بتفاصيل وصور دقيقة ؛ لا يكاد القاريء يطلع عليها الا ويتصور نفسه أحد مشاهدي ذلك الافتتاح التأريخي .

حينما كان الجسر في طور الانشاء عام 1950 دخلت ومجموعة من الاصدقاء المقربين كلية الحقوق التي كانت تتوسط الزقاق الذي يربط شارع الاعظمية بشارع الوزيرية؛ مواجهة بذلك مقتربات الجسر.
لم يكن هذا القائم على قواعد صلبة ؛مجرد معبر قطار او سيارات او مارة وحسب ؛ بل كا ن شرفة منفتحة على فضاء بعيد تجري من تحته مياه دجلة الخير ؛ ومما زاده بهاءا ومتعة اتكاؤه على ارض عريضة تربط ما بين الشارعين ؛ حولتها امانة العاصمة الى حديقة يانعة سندسية تنام على حواشيها الوان من زهور المواسم المتعانقة مع الاوراد الطبيعية البرية التي كانت تستلقي على اكتاف غرين السواقي ؛ تحيطها برعايتها شجيرات الدفلى الزاهية بالوانها الجذابة .

ومع ان لكلية الحقوق ؛ حديقة واسعة تزين واجهتها ؛ الا ان اغلب الطالبات والطالب ؛ كانوا يفضلون حدائق الجسر للتمتع بفترات الاستراحة ما بين الدروس ؛ ولو استطاعت شجيرات وحشائش تلك الحدائق من التحدث ؛ لمنحتنا اسرارا رومانسية لعشق هامت به قلوب ؛ وغردت لمد اواصره عنادل الحب . وها انذا بعد كل تلك السنوات الغاربة ؛ استطيع ان استجلب صور أولئك الزملاء وهم يتخذون من شجر صفصاف تلك الفراديس ملاذا للمناجاة في احاديث كأنها قطع سكر(القند ) وهي تذوب على الشفاه . ويا طالما صاحبتها تغريدات غنائية من هنا وهناك كان اصحابها يبشرون بمطربين واعدين لو سنحت لهم الفرص بذلك ؛ او بقصائد شعرية في كل بيت منها انفاس ابن ابي ربيعة ؛ او شوقي ؛ او أمين نخلة ؛ او حافظ جميل ؛ او غيرهم من اوتار اللوعة و الهيام .
لم تكن تلك الهمسات الشعرية او الوصلات الغنائية العفوية هي ابرز ما اتذكر وحسب ؛ بل كا ن للنقاش السياسي ما بين الطلاب على اختلاف معتقداتهم او انتماءاتهم دوره البارز في تحديد مواقفهم من كل ما كان يحدث في العراق او البلاد العربية و تتداوله الاخبار ؛ ولم يكن ذلك النقاش اليومي مقتصرا على طلبة الحقوق ؛ بل كان يشارك فيه عدد من موفدي وزوار المعاهد والكليات الاخرى ؛ كالاداب ؛ ودار المعلمين العالية ؛ والطب ؛ والشريعة ؛ والصيدلة ومعهد الفنون الجميلة ؛ و الهندسة ؛ بل وحتى طلاب الثانويات في بعض الاحيان .ويا طالما شهدت مقهى الحقوق المجاورة للكلية والجسر ؛ قرارات حاسمة في دعم الحركة الوطنية . ومما لاانساه ايضا ؛ ان حدائق هذا الجسر ؛ كانت تزدحم ايام الامتحانات بعدد كبير من الزملاء الذين كانو يتخذون منها مواقع مريحة لمراجعة الكتب القانونية ؛ او للتداول فيما كان يتوقع البعض من اسئلة احتمالية هي ا قرب للخيال منها الى الحقيقة ..
لقد كان لكل من هذا وذاك رنينه العذب الذي مازال عالقا حتىالآن في مسمع الذكريات؛ ولعل شبكات حديد ذلك الجسر كاتم الاسرار تحتفظ هي الاخرى بارشيف واسع من حكايا تلك الايام ؛المدججة بالعزم والنضال ؛المتفتحة على حقول من زنابق الحب .

في الفترة (1950 ــ 1954 ) والتي جاورنا فيها هذاالجسر او كما كان يطلق عليه بعض الطلاب (الجد الحنون) ؛ مرت احداث سجلت صفحاتها كتب التاريخ المعاصر بكثير من التفاصيل ؛ ومن نماذجها انعكاسات ثورة 23 يوليو في مصر على ارهاصات قوى المعارضة المتمثلة ب ( الاحزاب والنقابات والجمعيات المهنية ؛ وتجمعات الطلاب ؛ وتحشدات الطبقة المثقفة الوطنية ) ؛ فعلى سبيل المثال ؛ كان لشرارة ازمة طلبة كلية الصيدلة ضد القانون التعسفي الذي اصدرته وزارة الصحة والذي اختصر عنوانه ب ( قانون اعادة الامتحانات ) الاثر المدوي في تفجير الاوضاع المتأزمة اصلا ؛ ففي 26 تشرين الاول 1952أضرب طلاب تلك الكلية ؛ فوقع عليهم اعتداء مسلح من قبل سلطات الحكومة ؛ وازاء ذلك هاجت جماهير الطلاب وتبعتها جموع مختلفة من ابناء الشعب ؛ مما ادى الى تفاقم الوضع فاصطدمت تلك الجماهير الهائجة بالشرطة في ملحمة بطولية ؛ سقط من جرائها العشرات مضرجين بدمائهم ؛ وتقول صحافة تلك الايام وهي تصور الانتفاضة بأن كلية الحقوق كان لها الحظ الاوفر من الاقتحام والتصدي والتضحيات .
لقد كانت حكومة رئيس اركان الجيش ( نور الدين محمود ) القمعية والتي التي استعملت ا لقسوة المتناهية في معالجة الامور ...؛عاجزة تماما عن ايقاف ذلك المد الجماهيري المتصاعد؛ بخاصة وان تلك الجماهير الغاضبة التحمت مع كل ما حشد ضدها السلطة من قوى الامن فهزمها المنتفضون شر هزيمة ؛ وكان ذلك التصدي البطولي ايذانا بفشل الحكومة الساحق في معالجة الاوضاع عن طريق استعمال القوة ؛ مما اضطرها على تقديم الاستقالة الفورية لكي تحل مكانها حكومة جميل المدفعي ؛ التي عملت جاهدة على تهدئة الاوضاع والغاء جميع الاجرآءات الاستثنائية التي اتخذت سابقا والتي كانت السبب المحرك لتلك الانتفاضة الشعبية العارمة .

اما النموذج الثاني الذي شهده جارنا الجسر في تلك الحقبة ؛ فهو الاحتفالات والمهرجانات في مختلف المناسبات ؛ ومن ابرزها ما غصت به الشوارع المحيطة لمناسبة العيد الاول لجلوس الملك فيصل الثاني على عرش العراق ؛ ففي في 2 مايس من عام 1953 بلغ الملك الثامنة عشرة من العمر ؛ فعقد اجتماع مشترك لمجلسي الاعيان والنواب ؛ ونودي به ملكا فأدى القسم الدستوري ؛ثم خرج من قاعة البرلمان لينطلق من باب المعظم نحو البلاط لقد اخترنا حدائق جسر الصرافية المطلة على شارع الاعظمية الرئيس مكانا نرقب منه ذلك الاحتفال التأريخي ؛ تظللنا منصة كبيرة كانت معدة للتصوير السينمائي والنقل الاذاعي ؛وما هي سويعات حتى اقتربت منا العربة الملكية التي تجرها الخيول العربية وقد جلس فيها الملك بملابسه العسكرية البيضاء والى جواره ولي العهد الامير عبد الاله ؛ وهي تتجه نحو البلاط الملكي المتواضع ( كان يقابل معهد الفنون الجميلة في الكسرة)؛ وهو لا يبعد عن الجسر الحديدي الا بضعة امتار . وفي مساء ذات اليوم تلألأت الاضاءة الملونة على جانبي الجسر ؛ بينما كانت السماعات تنقل الاغاني والاناشـــــــــيد المفرحة في تلك المناسبة الفريدة .

وتدور احداث نموذجنا الثالث في ربيع عام 1954 ؛ حيث ازبد دجلة وارعد وفاض بشكل لم يسبق له مثيل في العصر الحديث وتقدم بسيوله الجارفة حتى غمر مشارف الجهة الشرقية من بغداد ؛ وواصل زحفه الى ما خلف السدة ؛ فاضطر مجلس الوزراء لاتخاذ قرار عاجل ؛ باخلاء الرصافة وضواحيها ونقل السكان الى الكرخ وما جاورها على الفور ؛ ولكن وزير الداخلية يومذاك سعيد قزاز ؛ اخذ كامل المسؤولية على عاتقه ومنع اي اجراء سلبي بهذا الشأن ؛ وطالب وزارة المعارف بحشد طلاب الثانويات والكليات والمعاهد ؛ ونقلهم بالتعاون مع الجهاتالمختصة الى المناطق التي يحتمل غرقها ؛ وذلك لمساعدة الجيش في سد الثغرات ورفع مستوى السداد بواسطة اكياس التراب الى اعلا.
لقد كان للقطار الدور الاول في نقل المتطوعين مع اطنان من اكياس التراب عبر جسر الصرافية الىأقرب المناطق التي يصلها ؛ لتتولى بعدها الباصات وسيارات النقل العسكرية من مواصلة النقل حتى المواقع القريبة من ارتفاع مناسيب المياه . كان عملنا شاقا لم يسبق لنا ان مارسنا مثله طيلة مدة الدراسة الا ان شعورنا بتحمل بعض المسؤولية ومشاهدتنا لكثير من الزميلات وهن يحملن الاكياس و يقمـــــن بتسليمها الينا لوضعها على السداد قد شحذ فينا النخوة والهمة وخفف عنا كل ذلك الارهاق .
حينما اتممنا مهماتنا وعدنا الى بيوتنا ثم الى مقاعد الدراسة ؛ لاحظنا بأن صديقنا القطار ظل مواصلا رحلاته الجهادية من على ذلك الجسر العتيد لايام وأيام ؛ حتى زال الخطر تماما عن بغداد .

في الصرافية وما حولها ؛ مواقع وبيوتات بارزة ؛ تبدأ من محطة شرقي بغداد ؛ حيث الحصن التربوي الاول ( دار المعلمين العالية ) ؛ ثم كلية الهندسة ؛ فالثكنة العسكرية ؛ وموقع موسيقى الجيش ؛ ثم مطبعة الرابطة الشهيرة بادارة الشخصية التقدمية المعروفة عبد الفتاح ابراهيم ( هي دار الجمهورية ودار الحرية للطباعة فيما بعد ) ؛ فكلية الحقوق ؛ حيث تتناثر حولها بعض البيوتات المعروفة لآل المميز ؛ وآل عريم ؛ وآل الجوربجي والحاج محمود رامز ؛ والشاعر نعمان الكنعاني ؛ والحاج طه المعمار ؛ والدكتور اسماعيل ناجي...الخ وكان لزميلنا عبد الرزاق المسعودي ؛ بيت صغير انيق يجاور الجسر ؛ نلتقي فيه احيانا لنقضي سهرة الخميس من اول كل شهر ونحن نستمع الى تغريدات(مطربة الشرق ام كلثوم ) المنقولة على الهواء مباشرة من مسرح الازبكية ؛ ونستنشق في ذات الوقت عبير دجلة الذي ينقل لنا في ليالي الصيف الوانا من المقامات والبستات وهي تنطلق من حناجر بغدادية لا يطيب لاصحابها السهر االا بين احضان نهرهم الخالد . ومع ان الجسر الذي يمر عليه القطار لايبعد سوى خطوات عن ذلك البيت الكريم ؛ الا ان سحر الغناء وتجاوبنا مع كل نغمة في القرار والجواب ؛ كان يغطي تماما على اصوات اعجلات القطار وهي تطوي سكة الحديد الى محطة غربي بغداد .

في حزيران من عام 1954 ؛ صعدنا نحن الطلبة الذين آن لهم ان ينخرطوا في مسيرة الحياة العملية الى سطح كلية الحقوق ؛ لنلتقط مع الاساتذة الاجلاء والزميلات الفضليات ؛ صورة التخرج التذكارية ؛ كان المصور بارعا حقا ؛ وكانت اللقطة خلاصة واقعية جسدت كل ثانية قضيناها في رحاب تلك الكلية العريقة . وحينما اعاود النظر اليها اليوم أجدها تشير بود واحترام الى ذلك الجار الانيق ( جسر الصرافية ) الذي ترك في قلوبنا وحواسنا اجمل الذكريات .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون استهداف سفينتين في البحر الأحمر والمحيط الهن


.. لجنة مكافحة الإرهاب الروسية: انتهاء العملية التي شنت في جمهو




.. مشاهد توثق تبادل إطلاق النار بين الشرطة الروسية ومسلحين بكني


.. مراسل الجزيرة: طائرات الاحتلال تحلق على مسافة قريبة من سواحل




.. الحكومة اللبنانية تنظم جولة لوسائل الإعلام في مطار بيروت