الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية فرنسية

صبحي حديدي

2007 / 4 / 24
المجتمع المدني


في مناسبة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ولكن ليس بغرض التكهن حول نتائجها أو تحليل ظاهراتها أو التعليق على أيّ من مرشحاتها ومرشحيها، أجدني أستعيد الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران (1916 ـ 1996)، الذي حكم دورتَيْن متعاقبتين، 1981 ـ 1995، وكان أوّل رئيس إشتراكي في ما يسمّيه الفرنسيون "الجمهورية الخامسة". وأستعيده في حكاية، ثمّ في بعض التفاصيل التاريخية والسياسية التي تضيء خلفيات تلك الحكاية.
ففي أواخر آب (أغسطس) 1999، انفردت أسبوعية «لونوفيل أوبزرفاتور» بنشر فقرات من كتاب جديد، صاحبه لا يُصنّف عادة في خانة اليسار، يكشف النقاب عن «سرّ خطير» باح به ميتيران في يوم فريد لا يشبه كلّ الأيام. الكتاب كان بعنوان «تقرير جبرائيل»، ويجمع بين أدب الإعتراف وأدب المذكّرات وأدب التأمّل في الوجود والعدم؛ والكاتب كان جان دورميسون، اللغوي والروائي والمؤرّخ عضو «الأكاديمية الفرنسية» الكلاسيكية العريقة. وأمّا «السرّ الخطير» فهو الحكاية التالية:
في صباح 17/5/1995 توجّه دورميسون إلى قصر الإليزيه، تلبية لدعوة عاجلة ـ وغريبة ـ لتناول الإفطار على مائدة الرئيس الفرنسي. مصدر الغرابة لم يكن الدعوة في حدّ ذاتها، لأنّ دورميسون كان وما يزال مقرّباً من كبار ساسة فرنسا، بل توقيتها الفريد حقاً: كان ذلك اليوم هو آخر أيّام ميتيران في الإليزيه لأنه، بعد الإفطار مباشرة، سوف يستقبل رئيس فرنسا الجديد المنتخب جاك شيراك، لإجراء مراسم التسليم والتسلّم. ما الذي دفع ميتيران إلى دعوة دورميسون؟ لماذا دورميسون تحديداً، دون العشرات من كتّاب فرنسا اليساريين؟ ولماذا في هذا اليوم بالذات؟ مثل هذه الأسئلة دارت في خاطر المدعوّ قبل الإفطار، ودارت في خاطره بعد الإفطار، أي بعد البوح بالسرّ الخطير.
شرب الرجلان الشاي، وتناولا الخبز المدهون بالزبدة، ومربّى الفاكهة، والعسل، وعصير البرتقال والكبّاد، والبيض المقلي. ثم تجاذبا أطراف الحديث حول هذه أو تلك من القضايا (مرض الرئيس، رجالات فرنسا، والدة ميتيران المتديّنة، طفولته، علاقاته مع أدباء فرنسا)، إلى أن عرّج دورميسون على قضية انكشاف صداقة ميتيران مع رينيه بوسكيه، قائد الشرطة الفرنسية أثناء الإحتلال النازي، والتي أثيرت في الأعوام الأخيرة من حكم ميتيران وقيل إنها «الحقبة السوداء» التي تسبق التحاقه بصفوف المقاومة الفرنسية. عندها، يروي دورميسون، أصغى الرئيس دون أن تلوح عليه مظاهر الإنزعاج، ثم حدّق في ضيفه وقال: «أنت هنا ترى التأثير الجبّار والهدّام الذي يمارسه اللوبي اليهودي في فرنسا».
هذا هو السرّ، وهنا انتهت الحكاية! دورميسون عاد إلى بيته مضطرب الروح والعقل، وكتم «السرّ» لأنه خشي أن تكون أذناه أخطأتا في سماع ما سمعتاه، أو لأنه خشي أن لا يصدّقه أحد إذا باح بما سمع، وظلت هذه حاله إلى أن قرّر كشف النقاب عن الحكاية في تقريره... أمام جبرائيل! وبالطبع، هبّ على الفور مَن ينفي عن ميتيران تهمة العداء للسامية، مثل رئيس الوزراء آنذاك ليونيل جوسبان، ووزير الثقافة الأسبق جاك لانغ، مازارين بينجو (إبنة ميتيران غير الشرعية)؛ وتوفّر، في المقابل، رجل مثل جان دانييل، رئيس تحرير «لونوفيل أوبزرفاتور»، أكّد ـ وهو اليهودي ـ أنّ ميتيران اشتكى مراراً من وجود «لوبي صهيوني» في فرنسا.
وأمّا في الخلفيات، فإنّ جوانب شخصية ميتيران المركبة المعقدة المتضاربة لا تبطل أيّ بُعد سرّي في الحكاية فحسب، بل تسبغ عليها مصداقية تلقائية أيضاً. لقد تفتّح وعيه في أحضان خطّ لا وطني مثّله فيشي وتيار التعاون مع الإحتلال النازي، ثم التحق بصفوف المقاومة، وقادته تربيته الريفية إلى حساسية طوباوية ـ دينية حول معنى العدل الاجتماعي، قبل أن ينخرط في السياسة معارضاً ومشاركاً. قاد جبهة اليسار دون أن يكون يسارياً تماماً في أي يوم، وأنجز أخطر عملية تفخيخ وتفكيك للحزب الشيوعي الفرنسي (الذي كان قوّة اقتراعية لا يجرؤ أحد على الاستهانة بها)، وشقّ صفوف اليمين التقليدي حين لعب على تناقضات الوسط وساعد على الترقية الدستورية لحزب جان ماري لوبين اليميني العنصري، ووحّد شراذم الإشتراكين الفرنسيين. ولم يكن بغير دلالة خاصة أن ملصق حملته الانتخابية لرئاسة 1981 حمل صورته (وهو اليساري، العلماني، الواعد بالمستقبل) وقد بدت وراءه في الخلفية البعيدة كنيسة كاثوليكية عتيقة!
وفي السياسة الخارجية كان ميتيران رجل الحلف الأطلسي، والهوامش الاستقلالية التي صاغها الجنرال دوغول بأناة وقوّة، تحوّلت على يديه إلى كاريكاتور وانتهت بالاستسلام أمام محور جورج بوش ـ مارغريت تاتشر في حرب الخليج الثانية. ولقد أجبره التاريخ على ابتلاع قناعاته الراسخة حول مفهومه الشهير عن «جزائر فرنسية، وستبقى فرنسية»، وكان أسلوبه السياسي الميّز هو الذي جعله لا يكفّ عن إبداء الإنحياز للدولة العبرية والتاريخ اليهودي؛ كما جعله الوحيد الذي تحدّث عن دولة فلسطينية مستقلة وهو على منبر الكنيست، أمام مناحيم بيغن وصقور الليكود؛ وجعله أوّل رئيس لقوّة دولية عظمى يستقبل ياسر عرفات.
شخصية كهذه، كيف يمكن أن تحظى برضا تامّ من اللوبي اليهودي؟ وكيف لا يشكو الرجل من ذلك اللوبي مرّة واحدة على الأقلّ، في آخر يوم من حياته السياسية، وفي تقرير افتراضي... أمام جبرائيل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الوضع الا?نساني في رفح.. مخاوف متجددة ولا آمل في الحل


.. غزة.. ماذا بعد؟| القادة العسكريون يراكمون الضغوط على نتنياهو




.. احتجاجات متنافسة في الجامعات الأميركية..طلاب مؤيدون لفلسطين


.. السودان.. طوابير من النازحين في انتظار المساعدات بولاية القض




.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون في تل أبيب للمطالبة بعقد صفقة تبا