الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في العلاقة بالتراث و الموروث و التاريخ

جمال الدين بن عبد الجليل

2007 / 5 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ينبغي الإقرار بدءا أنّ البحث و التساؤل و الإشكال في قضايا و مواضيع التاريخ تتّسم غالبا بالحساسيّة و تكون مشحونة بانفعالات يصعب تجنّبها كلّيا و التخلّص منها، لأنّها متأتّية من بُنى ذهنية و ارتباطات نفسيّة مسبقة و علاقات مازالت راهنة في الحاضر تمارس تأثيرها. و هذا يصدق على الكثير من الوقائع و الأحداث و الرؤى و التصوّرات التاريخية على اختلاف السياقات و الأنساق الثقافية التي جاءت فيها، فتاريخ السياسة الاستعمارية لليابان في الصين مثلا مازال يمثّل موضوعا خلافيّا في السياسة داخل و ما بين البلدين، و كذلك السياسة الاستعمارية الفرنسية في القرنين التاسع عشر و العشرين و خاصة في الجزائر مازالت تشكّل عقدة تصبغ ليس فقط الخطاب السياسي بالتوتّر العالي عند التعرّض لها بل نجد لها تداعيات في الكثير من الأعمال الأدبية و الفنّية و بوضوح أكثر في أشكال الخطاب الإعلامي على اختلاف مرجعياته... و الأمثلة على حساسية العلاقة و الموقف الراهن عند التعاطي مع مواضيع تُعتبر تاريخيةً يمكن التقاطها و الحصول عليها في كلّ الثقافات عموما، و لا تنفرد بذلك ثقافة دون أخرى مع الاختلاف و التباين في تمظهراتها و درجة و مستوى امتداد تأثيرها.
و السياق الثقافي العربي الإسلامي له خصوصية في المظاهر التي تعبّر عن العلاقة بمواضيع تاريخية سواء كانت هذه المواضيع وقائع و أحداث أو أفكار و تصوّرات. فالتاريخ هنا في وقائعه و تمظهراته يخرج عن كونه نسق إحداثيّ داخل فضاء أو بُعْد الزّمن تُدْرك داخله حيثيّات الأحداث و الوقائع و كذلك المعاني و التصوّرات و الأفكار و النظريّات، و يصير مخترقا لأبعاد الزّمن غير خاضع لقيودها يكاد يلتحم مع الأزل فيقدّم الماضي على أنّه حاضر و مرشّح لأن يكون مستقبلا. فنجد عند الاتفاق أو الاختلاف في حالة التعاطي مع حدث أو موقف فكريّ قد مرّت عليه عدّة قرون بل و أكثر من ألف سنة، نجد أنّ العيون قد احمرّت و الأصوات قد تعالت و أحيانا ليست بالنادرة أنّ الأيادي قد ترتفع و تتشابك. فالتاريخ هنا لم يعد مجرّد وقائع تجاوزها الزمن بل صار ميتاتاريخا لا يخضع لإحداثيات الزمن في تغيّراتها و تجاوزاتها و قطيعاتها، يمارس هيمنة واضحة في أشكال الوعي و الإدراك و على الأمزجة و الميولات. فالإدراك أنّ هناك تغيّر و تجاوز و تحقيق قطيعة أي مسافة فاصلة في العلاقة مع الموضوع المتناول، كلّها عوامل تساهم في تشكيل الوعي التاريخي الذي يخرج بالتاريخ من مجال المقدّس الميتاتاريخي إلى مجال الدنيوي المتغيّر، عالم الكون و الفساد (بالمعنى الفلسفي) الذي تحكمه سببيّة و قوانين و سنن تفسّر ظواهره و تحوّلاته.
فالتاريخ سواء كان أحداثا ووقائع أو أفكارا و تصوّرات، إذا ما التبس مع المقدّس و تداخل معه فإنّه يتحوّل إلى سلطة مرجعية تمارس على المعرفة و الأخلاق و تقرير السلوك تأثيرا مباشرا بالترهيب و الترغيب، ترهيبا تصاحبه فوبيا فقدان الأصالة و اندثار الوجود و ترغيبا توفّره سلاسة الاختزال التبسيطي و حالة الكسل الذهني المتمعّشة على حساب الإرث و الموروث مما تركه السلف الصالح و الطالح من خيرات و شرور على حدّ السواء.
فما قدّمه السابقون من نتاج عقولهم و تأمّلاتهم و نظرهم ضمن ظروفهم التاريخية في مجال الأدب شعرا و نثرا وفي مجال الدين و الشريعة مازال مستحكما في العقول و النفوس و الرّقاب ، تتحدّد وفقه المقاييس و المعايير و تنضبط به المواقف و تتقرّر القرارات. فالكثير من الشخصيّات التاريخية رغم اندثارها البيولوجي مازالت تمارس سلطة واسعة لا يملكها و لا ينافسها فيها الكثير من الأحياء في وقتنا الحاضر، فمنذ ألف سنة و تزيد مازال المتنبي وأقرانه يعرّفون لنا سقف و نسق ما يمكن أن يكون شعرا أو لا، وأئمّة المذاهب الفقهية الأربعة مازالوا يحدّدون لنا و يميّزون ما يجوز ممّا لا يجوز، مازال مالك بموطّإه والغزالي بإحيائه وابن تيميّة بفتاويه يقرّرون ما يكون كيف ينبغي أن يكون و يتدخّلون في صغائر الأمور و عظائمها في حياتنا الخاصّة و العامّة و القائمة تطول.
في هذا المقام تداعى إلى ذهني أنّ المتاحف التاريخية قليلة جدّا في البلدان العربية بالمقارنة مع بلدان أخرى ندّعي دوما كعرب التفوّق عليها فيما لدينا من إرث تاريخي على وجه الخصوص، و أعتقد أنّ أحد الأسباب في ذلك هو أنّنا في سياقنا العربي لا نحتاج في الحقيقة إلى المتاحف التاريخية لأنّ التاريخ مازال جزءا من حاضرنا يعيش معنا و يمكن أن يتراءى لنا يوميا من خلال الكثير من التصريحات و الخُطب و مما يُكتب و يُقرأ و ما نتمسّك به على أنّه من القيم و الضوابط السلوكيّة تحدّد حتّى تفاصيل الملبس و المأكل و المشرب كيف ينبغي أن تكون.
و يبقى التساؤل مطروحا كيف و متى تعمّ و تزدهر ثقافة المتاحف في البلدان العربية؟


ملاحظة: في مدينة فيينا فقط يوجد أكثر من مائة متحف و معرض موزّعة في جميع أحياء المدينة و تتناول شتّى المواضيع و الأغراض








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟